منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

وبعضها (١) على جواز الإفتاء مفهوما ، مثل ما دلّ على المنع عن الفتوى بغير علم ، أو منطوقا (٢) ، مثل ما دلّ على إظهاره عليه‌السلام المحبّة لأن يرى

______________________________________________________

الجواز.

(١) معطوف على قوله : «بعضها» وهذا إشارة إلى الطائفة الثالثة ، وهي ما يدل بالمنطوق على النهي عن الإفتاء بغير علم ، ويدل بالمفهوم على جواز الإفتاء بالعلم ، ومن المعلوم أن جواز الإفتاء ملازم عرفا لجواز التقليد ، كمعتبرة أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه‌السلام : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة والعذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» (١).

وكخبر مفضّل ، قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرّجال ، أنهاك أن تدين الله بالباطل ، وتفتي الناس بغير علم» (٢).

وكخبر إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض» (٣).

ونحوها غيرها مما يتضمن معنى الشرط ، ومن المعلوم دلالة مفهوم الجملة الشرطية على جواز الإفتاء استنادا إلى الحجج الشرعية والأصول المأثورة عن النبي والأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

(٢) معطوف على قوله : «مفهوما» أي : ويدل منطوق بعض الأخبار على جواز الإفتاء ، حيث يدلّ بالملازمة على جواز التقليد أي : عمل العامي بفتوى الفقيه.

ولا يخفى أن تعبير المصنف (قده) بـ «مثل ما دل» للتنبيه على عدم انحصار هذه الطائفة الرابعة بما ورد في شأن أبان ـ كما سيأتي نقله ـ من إظهار محبّة الإمام المعصوم عليه‌السلام بتصدّي أمثال أبان لمقام الإفتاء ، بل ما دلّ على تقرير الإمام عليه‌السلام أصل الفتوى في الأحكام الشرعية على النهج الصحيح يكون دالّا بالمطابقة على جواز الإفتاء ، الملازم لجواز التقليد.

نعم لا ريب في أنّ إظهاره عليه‌السلام المحبة من إفتاء أبان بن تغلب أوضح دلالة على

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١ ، ص ٩

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٢ ، ص ١٠

(٣) المصدر ، الحديث : ٣٢ ، ص ١٦

٥٢١

في أصحابه من يفتي الناس بالحلال والحرام.

______________________________________________________

جواز الإفتاء ، لكن لا ينحصر الدال عليه بالمطابقة فيه كما عرفت ، ولذا صدّر المصنف كلامه هنا بقوله : «مثل ما دلّ» ولم يرد نحوه في الطوائف الثلاث المتقدمة.

وكيف كان فلا بأس بذكر بعض الأخبار. أمّا ما دلّ على مطلوبية الإفتاء فروايات : منها : ما في رجال النجاشي في ترجمة أبان بن تغلب : «وقال له أبو جعفر عليه‌السلام : اجلس في مسجد المدينة ، وأفت الناس ، فإنّي أحب أن يرى في شيعتي مثلك» (١).

ومنها : ما رواه معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «بلغني أنّك تقعد في الجامع ، فتفتي الناس؟ قلت : نعم ، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج ، إنّي أقعد في المسجد ، فيجيء الرّجل فيسألني عن الشيء ، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون ، ويجيء الرّجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم ، فأخبره بما جاء عنكم ، ويجيئني الرّجل لا أعرفه ولا أدري من هو ، فأقول : جاء عن فلان كذا ، وجاء عن فلان كذا ، فأدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال عليه‌السلام لي : اصنع كذا ، فإنّي كذا أصنع» (٢).

ولا يخفى ظهور الجملة الأخيرة في مطلوبية الإفتاء بمعالم الدين وبيان الأحكام الشرعية حتى لو كان متوقفا على ذكر آراء أئمة الضلال ، فإنّ المهم بنظر الإمام المعصوم عليه‌السلام بيان الأحكام الواقعية وإقامة الحجة على العباد لئلا يعتذروا عن مخالفة الواقع بعدم وصوله إليهم.

ومنها : ما رواه عبد السّلام بن صالح الهروي ، قال : «سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : رحم الله عبدا أحيا أمرنا ، فقلت : وكيف يحيي أمركم؟ قال عليه‌السلام : يتعلم علومنا ويعلمها الناس» الحديث (٣). ودلالته على المطلوب واضحة ، فان دعاءه عليه‌السلام لمن أحيا أمرهم دليل على مطلوبية التعليم المنطبق على بيان الأحكام الفرعية أيضا ، فيدل على وجوب القبول ، لئلا يلزم لغوية مطلوبية التعليم.

وأمّا ما دلّ على تقرير الأئمة المعصومين عليهم‌السلام للإفتاء بالأحكام الشرعية فكمرفوعة إبراهيم بن هاشم : «سألت امرأة أبا عبد الله عليه‌السلام فقالت : إنّي كنت أقعد

__________________

(١) رجال النجاشي ، ص ٧

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٣٦ ، ص ١٠٨

(٣) المصدر ، الحديث : ١١ ، ص ١٠٢

٥٢٢

لا يقال (١) : إنّ مجرّد إظهار الفتوى للغير لا يدلّ على جواز أخذه

______________________________________________________

من نفاسي عشرين يوما حتى أفتوني بثمانية عشر يوما ، فقال عليه‌السلام ولم أفتوك بثمانية عشر يوما؟ فقال رجل : للحديث الّذي روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأسماء بنت عميس حين نفست بمحمّد بن أبي بكر. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : انّ أسماء سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أتي بها ثمانية عشر يوما ، ولو سألته قبل ذلك لأمرها أن تغتسل وتفعل ما تفعله المستحاضة» (١).

وظاهره تقريره عليه‌السلام لأصل التقليد وأخذ الحكم من العارف به ، لكنه عليه‌السلام خطّأ فتوى ذلك الرّجل الّذي أفتى بالنفاس مدة ثمانية عشر يوما اعتمادا على قصة أسماء بنت عميس.

وكخبر علي بن أسباط : «قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته ، وليس في البلد الّذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك؟ فقال عليه‌السلام : ائت فقيه البلد فاستفته عن أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فان الحق فيه» (٢) لظهوره في استقرار سيرة الشيعة في عصر الحضور على الاستفتاء من فقهاء أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) وعملهم بما يفتونهم ، ولم يردع عليه‌السلام عن هذه السيرة ، وإنّما أرشد السائل إلى طريق معرفة الحكم عند تعذر الوصول إلى فقهاء الشيعة.

وقد تحصل مما ذكرناه في تقريب دلالة الطائفتين الثالثة والرابعة بالملازمة على جواز التقليد : أن جواز الإفتاء عن علم وحجة ـ الّذي هو مدلول مفهوم بعضها ومنطوق بعضها الآخر ـ يكون لغوا في حق السائل لو لم يجب العمل برأي المفتي تعبدا. وتقييد جواز التقليد بما إذا حصل العلم بالواقع من فتوى المجتهد حمل للمطلق على الفرد النادر مع عدم القرينة عليه.

وعليه فلو نوقش في حكم العقل بجواز التقليد فيما لم يحصل علم بالواقع كانت الدلالة الالتزامية في الأخبار المتقدمة كافية لإثبات وجوب قبول فتوى المفتي تعبدا.

(١) هذا إشكال على دلالة الطائفتين الأخيرتين على جواز التقليد ، وذلك بمنع الملازمة

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٣ من أبواب النفاس ، الحديث : ٧ ، ص ٦١٣

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٢٣ ، ص ٨٣

٥٢٣

واتّباعه (١).

فإنّه يقال (٢) : إنّ الملازمة العرفية بين جواز الإفتاء وجواز اتّباعه

______________________________________________________

العرفية بين جواز الإفتاء وأخذ الفتوى تعبدا ، لتوقف الاستدلال على تسليم الملازمة المزبورة ، وهي غير مسلّمة ، لاحتمال أن تكون هذه الأخبار نظير الآيات والأخبار الآمرة ببيان الحق وإظهاره ، حيث لا دلالة فيها على وجوب القبول تعبدا ، إذ المقصود فيها إظهار الحق كثيرا حتى يحصل العلم للمخاطبين بواسطة كثرة المظهرين للحق والواقع.

وهذا الإشكال نظير ما أفاده المصنف في آيتي النفر والسؤال من عدم دلالتهما على وجوب القبول تعبدا ، والقدر المتيقن هو حصول العلم من إخبار جماعة من النافرين ، لا وجوب التحذر من إنذار كل واحد من المتفقهين ، هذا.

(١) هذا الضمير وضمير «أخذه» راجعان إلى الفتوى ، فالأولى تأنيثهما.

(٢) هذا جواب الإشكال ، وحاصله : وضوح الفرق بين الفتوى وبين إظهار الحق ، حيث إنّ الحق يكون غالبا مما يمكن العلم به كالنّبوة والإمامة ، فإنّ كثرة عدد المظهرين توجب العلم بالواقع غالبا ، وهذا بخلاف الأحكام الفرعية التي هي مورد الفتوى ، لعدم حصول العلم به منها ، لكون الفتاوى ظنية غالبا ، فلو اعتبر في وجوب متابعة الفتاوى العلم بمطابقتها للواقع لزم لغويّة الأمر بالإفتاء وإظهار المحبّة بالنسبة إلى المفتي ، فلا بد أن تكون الفتوى حجة على العامي تعبدا لا لإيجابها العلم بالواقع (*).

__________________

(*) وبتقرير آخر أفاده المحقق الأصفهاني (قده) : «ان الإظهار والظهور كالإيجاد والوجود متّحدان بالذات مختلفان بالاعتبار ، فلا يعقل أن يكون له إطلاق لصورة عدم العلم ، لأن عدم الظهور لا ينفكّ عن عدم الإظهار. ومنه يعلم أنّه لا موقع لدلالة الاقتضاء على وجوب القبول تعبدا ، لأنّ الواجب ـ وهو الإظهار ـ لا يتحقق إلّا مع الظهور الّذي لا يبقى معه مجال للقبول تعبدا ، بخلاف إظهار الفتوى ، فانّه يلازم ظهور الفتوى المجامع مع عدم ظهور الواقع ، فيبقى مجال التعبد بالقبول. ومن الواضح أن الإفتاء بمفهومه لا يقتضي إلّا إظهار الفتوى ، لا الواقع ، ولم يتقيّد وجوبه بغاية مخصوصة ، وهي إظهار الواقع به حتى يكون بمنزلة إيجاب إظهار الواقع ...» (١)

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٢١٠.

٥٢٤

واضحة ، وهذا غير وجوب إظهار الحق والواقع (١) ، حيث (٢) لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبدا ، فافهم وتأمل (٣).

وهذه الأخبار (٤) على اختلاف مضامينها وتعدد أسانيدها لا يبعد

______________________________________________________

(١) في عدم وجوب القبول تعبدا ، بل يدور وجوب القبول مدار العلم بالواقع.

(٢) تعليل لعدم وجوب القبول تعبدا في مورد إظهار الحق كالإمامة ، يعني : لا ملازمة بين وجوب إظهار الحق وبين وجوب أخذه تعبدا ، لإمكان حصول العلم بسبب كثرة عدد المظهرين للحق والواقع ، وهذا بخلاف الفتوى ، فإنّها لا تفيد العلم بالواقع غالبا ، فلو أنيط وجوب قبولها بما إذا أوجبت القطع بالواقع لزم لغوية الأمر بالإفتاء ، لقلّة موارد إفادته للعلم ، وكثرة موارد إفادته للظن.

(٣) كي لا تتوهم أنّ مدلول الأخبار الدالة على اعتبار الفتوى هو مدلول آيتي النفر والسؤال ، حيث يكون ظاهرهما إرجاع الجاهل إلى العالم لتحصيل العلم بالواقع ، لا لقبول قوله تعبدا.

(٤) متبدأ ، خبره «لا يبعد» وغرضه من هذا الكلام ـ بعد الإشارة إلى طوائف أربع من الأخبار ـ دعوى تواتر الأخبار إجمالا على حجية فتوى المجتهد على الجاهل ، وهي وإن لم تكن متواترة لفظا لاختلاف ألفاظها ، ولا معنى ، لاختلاف مضامينها ، لكنّها متواترة إجمالا ، فهي روايات متعددة ، لتعدد أسانيدها وطرقها ، وأسناد جملة منها معتبرة ، وينطبق

__________________

وهذا البيان ناظر إلى الفرق الموضوعي بين إظهار الحق وإظهار الفتوى من جهة أنّ المتعلّق في الأوّل ظهور الحق ، وهذا يتوقف على حصول العلم بالواقع للمخاطب ، ولا إطلاق له لصورة عدم العلم به. وأن المتعلّق في الثاني مجرّد إظهار الفتوى ، وإظهارها لا ينفك عن ظهورها ، ولم يتوقّف وجوب القبول في أدلة اعتبار الفتوى على إفادة العلم بمطابقتها للواقع حتى تكون المسألتان من باب واحد.

ومنه يظهر عدم الحاجة إلى بيان الملازمة العرفية بين جواز الفتوى ووجوب القبول لئلا تلزم لغوية الإفتاء. لما عرفت من أن متعلّق الأمر نفس الفتوى ، فيجب قبولها مطلقا سواء حصل العلم بالواقع أم لم يحصل.

٥٢٥

دعوى القطع بصدور بعضها ، فيكون (١) دليلا قاطعا على جواز التقليد وإن لم يكن كل واحد منها بحجة (٢) ، فيكون (٣) مخصّصا لما دلّ على عدم جواز

______________________________________________________

عليها اصطلاح التواتر الإجمالي الّذي ادّعاه المصنف في بحث الخبر الواحد وقاعدة نفى الضرر. وحكم هذا النوع من التواتر الأخذ بما هو أخصها مضمونا من الجميع ، لدلالة الكل على ذلك الأخص ، ويمكن أن يكون هذا الأخص حجية فتوى الفقيه العادل.

(١) هذه نتيجة القطع إجمالا بصدور بعض الأخبار المتقدمة ، وثبوت أصل جواز التقليد.

(٢) أي : قطعية ، ولا منافاة بين عدم القطع بحجية واحد منها بالخصوص وبين القطع بحجية بعضها إجمالا ، لدلالة الكل على مضمون ذلك البعض.

(٣) هذه نتيجة القطع بدليلية بعض الأخبار على جواز التقليد ، وكون جواز التقليد قطعيا ، وهذا شروع في ردّ أدلّة عدم جواز التقليد ، وتقدم ذيل قول المصنف : «أن جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة ...» أن القائلين بحرمة التقليد طائفتان ، فقهاء حلب والمحدثون.

أمّا الطائفة الأولى فمنهم السيد أبو المكارم ابن زهرة ، حيث قال في الغنية : «فصل : لا يجوز للمستفتي تقليد المفتي ، لأنّ التقليد قبيح ، ولأنّ الطائفة مجمعة على أنّه لا يجوز العمل إلّا بعلم ، وليس لأحد أن يقول : قيام الدليل وهو إجماع الطائفة على وجوب رجوع العامي إلى المفتي والعمل بقوله مع جواز الخطأ عليه يؤمّنه من الإقدام على قبيح ، ويقتضي إسناد عمله إلى علم. لأنّا لا نسلّم إجماعها على العمل بقوله مع جواز الخطاء عليه ، وهو موضع الخلاف ، بل إنّما أمروا برجوع العامي إلى المفتي فقط ، فأمّا العلم بقوله تقليدا فلا. فإن قيل : فما الفائدة في رجوعه إليه إذا لم يجز له العمل بقوله؟ قلنا : الفائدة في ذلك أن يصير له بفتياه وفتيا غيره من علماء الإمامية سبيل إلى العلم بإجماعهم ، فيعمل بالحكم على يقين يتبين صحة ذلك ...» (١).

وأمّا الطائفة الثانية ، فمنهم المحدث الجليل صاحب الوسائل في مواضع من كلماته ، فمنها : قوله في باب عدم جواز تقليد غير المعصوم عليه‌السلام فيما يقول برأيه ـ بعد نقل رواية التفسير المشتملة على قوله عليه‌السلام : «فللعوام أن يقلدوه» ـ ما لفظه : «أقول :

__________________

(١) الجوامع الفقهية ، ص ٤٨٦

٥٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

التقليد المرخّص فيه هنا إنما هو قبول الرواية ، لا قبول الرّأي والاجتهاد والظن ، وهذا واضح ، وذلك لا خلاف فيه ...» (١).

ومنها : قوله بعد بيان جملة من الآيات الناهية عن متابعة ما وراء العلم : «يستفاد من هذه الآيات الشريفة جملة من المطالب التي تواترت بها الأحاديث ... ورابعها : عدم جواز التقليد مطلقا ، وليس له أيضا مخصّص صريح يعتدّ به ...» (٢).

وأمّا أدلتهم على حرمة التقليد فوجوه ثلاثة :

الأوّل : العمومات الناهية عن اتباع غير العلم كتابا وسنة. أمّا الكتاب فكقوله تعالى : «ولا تقف ما ليس لك به علم» وقوله تعالى : «وإنّما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون» وقوله تعالى : «وما لهم به من علم إن يتبعون إلّا الظن» وحيث إنّ فتوى الفقيه لا تفيد العلم بالحكم الواقعي فيحرم قبولها والعمل بها».

وأما السنة فكخبر هشام بن سالم ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما حق الله على خلقه؟ قال : أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عما لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى الله حقه» ونحوها غيرها مما يدل على حرمة متابعة غير العلم ، ويندرج في عمومه فتوى المجتهد.

الثاني : ما يدل على ذمّ التقليد من الكتاب والسنة. أمّا الكتاب فكقوله تعالى : «قالوا : إنّا وجدنا آباءنا على أمّة ، وإنّا على آثارهم مقتدون» وكقوله تعالى : «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون» إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذم التقليد.

وأمّا السنة فكخبر الحسن بن إسحاق عن الرضا عن آبائه «عليهم الصلاة والسّلام» قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من دان بغير سماع ألزمه الله البتة إلى الفناء» بتقريب : أنّ التقليد والتعبد برأي المجتهد تديّن بغير سماع من النبي أو الوصي ، ومصير هذا التدين إلى الفناء ، فلا بد من الاستدلال أو قراءة متن الرواية للعامي ، كما ادّعاه بعض المانعين.

الثالث : قياس المسائل الفرعية بالأصول الاعتقادية ، بتقريب : أنّ المسائل الاعتقادية

__________________

(١) الوسائل ، ١٨ ـ ٩٥

(٢) الفوائد الطوسية ، الفائدة : ٧٥ ، ص ٣٢٤

٥٢٧

اتّباع غير العلم (١) ، والذّمّ (٢) على التقليد من (٣) الآيات والروايات ، قال الله

______________________________________________________

مع غموضها ـ لاحتياجها إلى براهين فعلية ومن إبطال الدور والتسلسل وغيرهما مما يعجز عنه العامي غالبا ـ لم يشرّع فيها التقليد والأخذ بقول الغير ، فعدم تشريع التقليد في المسائل الفرعية التي لا تكون بذلك الغموض لا بد وأن يكون أولى ، فيثبت بالأولوية عدم جواز التقليد في الفروع.

هذه أدلة حرمة التقليد ، وستأتي المناقشة فيها.

(١) هذا إشارة إلى الدليل الأوّل ، كما أنّ قوله : «والذم» إشارة إلى الدليل الثاني ، وأجاب عنهما بوجه مشترك ، وخصّ الدليل الثاني بمناقشة أخرى.

أمّا الوجه المشترك فقد أشار إليه بقوله : «فيكون مخصّصا» وتوضيحه : أنّ فتوى الفقيه وإن لم تكن مفيدة للعلم بالحكم الواقعي ـ لكثرة آراء الفقهاء في مسألة واحدة ـ وغايته إفادتها للظن بالواقع ، إلّا أنّ أدلة جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم ـ من الفطرة والأخبار القطعية ـ مقدمة على هذه العمومات الناهية عن متابعة غير العلم ، وعلى الأدلّة الذامة على التقليد ، لكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، ومقتضى حمل العام على الخاصّ ـ الّذي هو من أوضح الجموع العرفية ـ تخصيص تلك العمومات بأدلة التقليد ، فالمتحصل حينئذ جواز التقليد بلا إشكال.

وأمّا الوجه المختص بالدليل الثاني فهو : أنّ الأدلّة الذّامة على التقليد ليس لها عموم ـ من أوّل الأمر ـ ليشمل التقليد في الفروع كي يلزم تخصيصها بأدلة جواز التقليد. والوجه في عدم عمومها له : أنّ المحتمل قويّا ـ بحيث يصادم الظهور الإطلاقي ـ ورودها في موارد خاصة وهي التقليد في الاعتقاديات كالنّبوّة ، أو تقليد الجاهل ، ولا ريب في صحة الذم في هذين الموردين ، وورود الذم فيهما ـ لو لم يكن قرينة صارفة لعموم ما دلّ على ذمّ التقليد إلى خصوص الموردين ـ فلا أقلّ من صلاحيته للقرينية ومنع الإطلاق.

(٢) معطوف على «عدم» أي : لما دلّ على الذم على التقليد.

(٣) بيان للموصول في «لما دل» واقتصر المصنف على ذكر آية واحدة لكل من المضمونين ، ولم يذكر الروايات ، وقد عرفتها.

٥٢٨

تبارك وتعالى : «ولا تقف ما ليس لك به علم» (١) وقوله تعالى : «قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون» (٢).

مع احتمال (٣) أنّ الذم إنّما كان على تقليدهم للجاهل ، أو في الأصول الاعتقادية التي لا بدّ فيها من اليقين (٤).

______________________________________________________

(١) هذه الآية من العمومات الناهية عن متابعة غير العلم سواء أكان في الأحكام الفرعية أم غيرها.

(٢) هذه الآية من العمومات الذامة على مطلق متابعة الغير سواء في الأحكام الفرعية وغيرها.

(٣) هذا هو الوجه المختص بالدليل الثاني ، ومقصود المصنف من إبداء هذا الاحتمال ـ المصادم للظهور ، لا مطلق الاحتمال ، وإلّا فهو موجود في كل ظاهر ـ دعوى خروج تقليد الجاهل للمجتهد عن أدلّة الذم على التقليد تخصصا ، ولا حاجة إلى الجواب الأوّل وهو تخصيص العموم. والوجه في هذا التخصيص : أنّ موضوع جواز التقليد هو رجوع الجاهل بالأحكام الفرعية إلى العالم بها ، ومن المعلوم أنّ الذّم على تقليد الجاهل للجاهل ـ أو الذم على رجوع الجاهل بالاعتقاديات إلى العالم بها ـ أجنبي عن المقام ، لتعدد الموضوع الموجب لتعدد الحكم.

والحاصل : أنّ التقليد الّذي يتوافق الشرع والعقل على مذموميته هو الاتباع والانقياد لكل أحد ، فإن الإنسان أشرف مقاما وأجل شأنا من أن يميل مع كل ريح تذهب به يمينا وشمالا ، فإنّ له عقلا يرشده إلى الخير والصلاح ، فالاتباع المطلق مذموم وقبيح عقلا وشرعا ، ولا كلام فيه.

ولكن التقليد المبحوث عنه في المقام خارج عن إطار هذا الانقياد المذموم ، وذلك لأنّه بمعنى رجوع الجاهل إلى العالم ، وهو مما استقرت عليه سيرة العقلاء في جميع أمورهم وشئونهم مرّ الدهور والأعوام ، استنادا إلى استقلال عقل كل واحد منهم ببداهته ، ومع هذه الجهة المرجحة لا يكون متابعة قول أهل الخبرة مذمومة بنظر العقل قطعا ، بل هي أمر ممدوح مستحسن ، وبهذا ظهر اختلاف التقليد المذموم والممدوح موضوعا.

(٤) ولا يقين بالواقع في المقام وهو التقليد في الفروع. أو كان الذّم عن التقليد لأجل

٥٢٩

وأمّا قياس (١) المسائل الفرعية على الأصول الاعتقادية في (٢) أنّه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها (٣) ، كذلك لا يجوز فيها (٤) بالطريق الأولى ، لسهولتها ، فباطل (٥) (*).

______________________________________________________

عدم اجتماع الشرائط الأخذ بعض العلماء الرّشوة ومتابعته الهوى ، وهو أجنبي أيضا عن المدّعى أعني رجوع الجاهل بالأحكام الفرعية إلى الفقيه العادل.

(١) هذا إشارة إلى الدليل الثالث على حرمة التقليد في الفروع ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «الثالث : قياس المسائل الفرعية ... إلخ».

(٢) متعلق بـ «قياس» وبيان له ، وضمير «أنه» للشأن.

(٣) هذا الضمير وضمير «فيها» المتقدم راجع إلى الأصول الاعتقادية. ووجه الغموض فيها بالنسبة إلى العامي هو عجزه غالبا عن التصديق بمواد الأقيسة ، وأنّها من البديهيات أو المشهورات أو غيرهما ، وعن الفرق بين البرهان والخطابة والجدل ، وغير ذلك مما يتوقف على البحث والنّظر.

(٤) أي : لا يجوز التقليد في المسائل الفرعية بالأولويّة القطعية ، لسهولة المسائل الفرعية بالنسبة إلى الاعتقاديات ، فإذا حرم التقليد في الاعتقاديات مع ما فيها من الغموض حرم التقليد في الفروع بالأولويّة ، لسهولتها.

(٥) جواب قوله : «وأما قياس» وردّ للدليل الثالث على حرمة التقليد في حق العامي. وأفاد في منع القياس وجهين ، أحدهما : أن العمل بالقياس باطل في الشريعة ، فلا يمكن جعله دليلا.

ثانيهما : أنّ القياس هنا مع الفارق ، لكون المسائل الاعتقادية التي يجب تحصيل العلم فيها معدودة ، وليست كثيرة حتى يصعب تحصيل اليقين فيها ، فالواجب معرفة الأصول الخمسة الاعتقادية ، دون كثير من خصوصياتها ، كما تقدم في أواخر مباحث الظن. وهذا بخلاف المسائل الفرعية ، فإنّها مما لا تحصى كثرة ، ولا يتيسّر الاجتهاد فعلا

__________________

(*) ليس المدّعى مجرد قياس الفرعيات على الأصول الاعتقادية حتى يمنع عنه بأنه قياس ، بل المدّعى أولوية حرمة التقليد في الفروع من حرمته في الأصول ، فلا بد من منع هذه الأولوية ، لا

٥٣٠

مع أنه (١) مع الفارق ، ضرورة (٢) أنّ الأصول الاعتقادية (٣) مسائل معدودة بخلافها ، فإنّها (٤) مما لا تعد ولا تحصى ،

______________________________________________________

في جميعها إلّا للأوحدي في كليّاتها وقواعدها ، مع عدم تمكن كل من له ملكة مطلقة من ردّ جميع الجزئيات إلى أصولها ، ولذا تراهم يترددون في كون بعض الفروع من جزئيات القاعدة الكذائية أو غيرها من القواعد الأخر كما هو واضح جدّاً.

(١) أي : أن القياس ، وهذا إشارة إلى الوجه الثاني لردّ القياس المتقدم بقولنا : «ثانيهما أن القياس هنا مع الفارق ... إلخ».

(٢) هذا بيان الفارق بين المسائل الاعتقادية والعملية.

(٣) التي يجب فيها تحصيل المعرفة بها ، لا مطلق المسائل الاعتقادية ، فإنّها كثيرة في نفسها ، وضميرا «بخلافها ، فانها» راجعان إلى المسائل الفرعية.

(٤) تعليل لقوله : «بخلافها» ووجه كثرة المسائل الفرعية واضح ، فان في الصلاة

__________________

الاقتصار على بطلان القياس.

فالأولى أن يقال : إن أريد بالتقليد الممنوع في أصول الدين التعبد برأي المجتهد فيها فهو في محله ، لكن لا مجال لمقايسة التقليد في الفروع عليه ، لفرض قيام الدليل على جواز التقليد ـ بمعنى التعبد ـ في الفروع ، وقيام الدليل على عدم كفايته في الأصول.

وأولوية الأصول من الفروع ممنوعة ، إذ المعتبر من الدليل في الأصول الاعتقادية ليس هو الدليل العقلي النظريّ الّذي يعتمد عليه الفلاسفة والمتكلمون كبرهان الصدّيقين كي يكون عامّة المكلفين قاصرين عن إقامته ، بل هو مطلق الدليل ولو على نحو الإجمال حتى مع العجز عن بسط مقدماته بالنحو المقرّر في علم الميزان ، ومثله ميسور لكل أحد حتى العجائز والصبيان. وهذا بخلاف الاجتهاد في الفروع ، فإنّه بذل الوسع في تحصيل الحجة على الحكم ، وهو عند أهله أشق من طول الجهاد.

وإن أريد بالتقليد الممنوع في أصول الدين اتّباع قول الغير فيما إذا اطمأنّ به وحصل الوثوق بقوله فأصل هذا المنع في غير محله ، لكفاية الاطمئنان بالمعارف الحقّة ولو لم يكن مستندا إلى الاستدلال المنتج للعلم القطعي به.

٥٣١

ولا يكاد يتيسّر (*) من الاجتهاد فيها فعلا طول (١) العمر إلّا للأوحدي في كلّياتها (٢) ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

وحدها أربعة آلاف مسألة كما قيل. وحديث زرارة في أحكام الحج وسؤاله عنها من الإمامين الهمامين عليهما‌السلام طوال أربعين عاما معروف. أضف إلى ذلك كثيرا من المسائل المستحدثة في هذه الأعصار والتي ستحدث بعد بتبع حدوث موضوعاتها ، وليست معنونة في النصوص ، وإنّما يكون استنباط أحكامها على ذمّة الفقهاء ، ومعه كيف يقاس حرمة التقليد في الفروع بحرمته في الأصول؟ مع أنّ الفقهاء لا يتمكنون من الإحاطة بجزئيات الأحكام الفرعية فضلا عن العامي الّذي لا حظّ له من العلم ، فكيف يتجه إلزامه بالبحث والنّظر حتى يعمل برأيه؟

(١) بالنصب ظرف لقوله : «يتيسر الاجتهاد فعلا» أي : أن الفقيه إذا صرف طول عمره في استنباط الأحكام الفرعية لما تمكن من الاجتهاد في جميع جزئيات المسائل ، بل غايته التوفيق لاستنباط كلياتها ، فمثل صاحب الجواهر وإن منحه الله موهبة عظمى وهي تأليف دورة كاملة من الفقه الشريف في مدة خمس وعشرين سنة ، إلّا أن كثيرا من جزئيات المسائل غير معنونة في ذلك الكتاب الشريف كما لا يخفى على المراجع إلى هذا الكنز العظيم من الجواهر.

(٢) هذا الضمير وضمير «فيها» راجعان إلى «المسائل الفرعيّة».

__________________

(*) لا تقتضي قاعدة نفي العسر والحرج رفع وجوب الاجتهاد عن العامي مطلقا ، بل تقتضي التبعيض في مراتبه. لكن لا تصل النوبة إليه بعد السيرة الممضاة بالأخبار المتقدمة.

٥٣٢

فصل (١)

إذا علم المقلّد اختلاف الأحياء في

______________________________________________________

تقليد الأعلم

(١) الغرض من عقد هذا الفصل البحث عن شرطية الأعلمية وعدمها في مرجع التقليد ، وموضوع هذه المسألة هو علم العامي باختلاف الفقهاء في العلم والفقاهة ، وفي الفتوى ، إذ لو كان الفقهاء متساوين في الفضيلة أو متوافقين في الفتوى ـ مع اختلافهم في الفقاهة ـ كان خارجا عن موضوع البحث.

فيعتبر في موضوع مسألة تقليد الأعلم أمران : أحدهما علم المقلّد باختلاف الفقهاء في الفضيلة ، والآخر : اختلافهم في الفتوى ، إذ مع التساوي في الفقاهة والاختلاف في الفتوى يتخير العامي ـ كما عن المشهور ـ في تقليد أيّهما شاء ، على إشكال فيه. ومع اتفاقهم في الفتوى لا أثر لوجوب تقليد الأعلم لو قيل به ، إذ تكون حينئذ فتاواهم المتوافقة كالروايات المتطابقة على حكم من الأحكام في كون الدليل هو الجامع بينها ، وفي عدم وجوب الاستناد إلى واحدة منها بالخصوص.

هذا موضوع البحث في المتن ، وللمسألة صور أخرى لم يتعرّض لها المصنف وهي كثيرة تتفرع على العلم الإجمالي باختلاف الفقهاء في الفضيلة والفتوى والشك في كل منهما ، وعلى العلم التفصيليّ باختلافهم في الفضيلة والشك في توافقهم في الفتوى ، وغير ذلك ، ولعلّنا نتعرّض لبيان أحكامها في التعليقة.

٥٣٣

الفتوى (١) مع اختلافهم في العلم والفقاهة (٢) ، فلا بد (٣) من الرجوع إلى

______________________________________________________

وكيف كان فالمصنف جعل البحث في هذه المسألة في مقامين : أحدهما في الجاهل العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو مقتضى الأدلة في مسألة تقليد الأعلم.

وثانيهما : في القادر على الاجتهاد في هذه المسألة ، وسيأتي.

(١) هذا إشارة إلى الأمر الأوّل مما يعتبر في وجوب تقليد الأعلم ، وقد تقدم بقولنا : «أحدهما علم المقلد باختلاف الفقهاء ...».

(٢) هذا إشارة إلى الأمر الثاني مما يعتبر في وجوب تقليد الأعلم ، وقد مر آنفا بقولنا : «والآخر اختلافهم في الفتوى ... إلخ».

(٣) هذا إشارة إلى المقام الأوّل ، وهو بيان وظيفة العامي الملتفت إلى اختلاف الفقهاء في الفضيلة والفتوى ، وحاصل ما أفاده فيه : أنّ اللازم على العامي العاجز عن استنباط حكم هذه المسألة هو متابعة ما يدركه عقله ، ولا يخلو الأمر من صورتين : إحداهما : أن يحتمل دخل خصوصية الأعلمية في مرجع التقليد ، وثانيتهما : أن يستقل عقله بعدم دخلها فيه ، ومساواة الفاضل للمفضول في حجية فتوى كل منهما.

ففي الأولى يتعيّن على العامي الرجوع في الأحكام الفرعية إلى خصوص الأعلم ، لكون المقام من صغريات التعيين والتخيير في الحجية ، ومن المقرّر في محلّه أن المرجع فيها قاعدة الاشتغال القاضية بلزوم الأخذ بما يقطع بحجيته ، وهو فتوى الأعلم ، للقطع بحجيته تعيينا أو تخييرا بينها وبين فتوى المفضول ، فيعلم بجواز تقليد الأعلم ، ويشك في اعتبار فتوى المفضول ، والأصل عدم اعتبارها ، لأنّ احتمال العقاب معها موجود ، ولا دافع له ، فلا يجوز عقلا العمل بها والاعتماد عليها بخلاف فتوى الأعلم ، فإنّ حجيتها القطعية تدفع الاحتمال المزبور ، للقطع بفراغ ذمته معها عما اشتغلت به من التكليف ، فيكون تقليد الأعلم كأصل التقليد عقليا وخارجا عما يتطرّق إليه التقليد شرعا كبعض خصوصياته مثل الإيمان والعدالة.

وفي الصورة الثانية ـ وهي استقلال عقل العامي بطريقيّة كلّ من فتوى الفاضل والمفضول إلى الواقع ـ لا يتعيّن الرجوع إلى الأعلم ، لتحقق مناط جواز التقليد ـ وهي الفقاهة في الدين ـ في كلتا الفتويين ، فيجوز له تقليد المفضول ابتداء أو بالاستناد إلى

٥٣٤

الأفضل إذا احتمل تعيّنه (١) ، للقطع بحجيته (٢) والشك في حجية

______________________________________________________

فتوى الأعلم إذا كانت فتواه في خصوص مسألة تقليد الأعلم عدم وجوبه. هذا ما أفاده المصنف «قده» بالنسبة إلى وظيفة العامي عند علمه باختلاف الفقهاء في الفتوى والفضيلة.

والمتحصّل من كلامه صور ثلاث ، قد حكم في واحدة منها ـ وهي احتمال دخل الأعلمية في جواز التقليد ـ بتعيّن الرجوع إلى الأعلم ، وفي اثنتين منها بجواز تقليد المفضول :

إحداهما : استقلال عقله بعدم اعتبار أعلمية الفقيه في التقليد ، فيرجع إلى أيّهما شاء.

ثانيتهما : احتمال دخل الأعلمية فيه ، فرجع إلى الأعلم ، ولكن كانت فتواه في المسألة عدم وجوب تقليد الأعلم ، فقلّده العامي في خصوص هذه المسألة ، ورجع في الأحكام الفرعية إلى المفضول.

وقد ورد حكم هذه الصور الثلاث في تقريرات شيخنا الأعظم «قده» فقال المقرّر في الموضع الأوّل من بحث تقليد الأعلم : «وقبل الخوض ينبغي رسم أمرين : أحدهما : أنّه لا يعقل الخلاف في رجوع العامي غير البالغ رتبة الاجتهاد في هذه الواقعة إلى الأعلم والأفضل ، بل لا بد أن يكون الخلاف في مقتضى الأدلة الشرعية. وتوضيحه : أنّ المقلد إمّا أن يكون ملتفتا إلى الخلاف في هذه الواقعة أولا ، وعلى الأوّل فإمّا أن يستقل عقله بالتساوي فلا كلام أيضا ، إذ لا يعقل تكليفه بخلاف علمه. وإمّا أن يكون متردّدا كغيرها من الوقائع المشكوك فيها ، فإذا حاول استعلام حال هذه الواقعة بالتقليد فلا يعقل لرجوعه إلى غير الأعلم على وجه التقليد وجه ، لأن استعلام حال هذه الواقعة من غير الأعلم لعلّه غير مفيد ، إذ لم يثبت جوازه بعد. وإن كان الاعتماد في الاستعلام المذكور هو قول غير الأعلم فهو دور. نعم المجتهد إنّما يجوز له الإفتاء بما ظنّه من الأدلة الشرعية جوازا أو منعا ... ، ولو بنى على الجواز يفتي به لو راجعه المقلّد».

(١) أي : إذا احتمل المقلّد تعيّن الرجوع إلى الأفضل. وهذا إشارة إلى الصورة الأولى من الصور الثلاث.

(٢) هذا الضمير وضمير «غيره» راجعان إلى «فتوى الأفضل» فالأولى تأنيثهما.

٥٣٥

غيره (١) ، ولا وجه لرجوعه (٢) إلى الغير في تقليده إلّا على نحو دائر (٣)

نعم (٤) لا بأس برجوعه إليه إذا استقلّ عقله (٥) بالتساوي وجواز الرجوع إليه أيضا (٦) ، أو جوّز (٧) له الأفضل بعد رجوعه إليه (٨). هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضية الأدلة في هذه المسألة (٩).

______________________________________________________

(١) قال المصنف في مسألة الدوران بين المحذورين : «ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيّنه».

(٢) أي : لرجوع المقلّد إلى غير الأفضل في تقليد غير الأفضل.

(٣) لتوقف جواز تقليد المفضول على حجية فتاواه ، وتوقف حجيّتها على حكم العقل بالتخيير بين فتويي الفاضل والمفضول ، وحكمه بالتخيير يتوقف على حجية فتوى المفضول ، إذ لا معنى للتخيير بين الحجة واللاحجة. وعليه فحجية فتوى المفضول تتوقف على التخيير بينهما ، والتخيير يتوقف على حجية آراء المفضول ، وهذا هو الدور المستحيل.

(٤) استدراك على قوله : «ولا وجه لرجوعه إلى الغير» وهذا إشارة إلى الصورة الثانية المتقدمة بقولنا : «وفي الصورة الثانية وهي استقلال عقل العامي ... إلخ».

(٥) هذا في قبال احتمال تعيّن تقليد الأعلم. وضميرا «برجوعه ، عقله» راجعان إلى المقلد ، وضمير «إليه» في الموضعين راجع إلى غير الأفضل.

(٦) أي : كجواز الرجوع إلى الأفضل ، والمراد بالجواز هو الأعم الصادق على الوجوب.

(٧) معطوف على «استقل» وهذا إشارة إلى الصورة الثالثة المتقدمة بقولنا : «ثانيتهما : احتمال دخل الأعلمية فيه فرجع إلى الأعلم ... إلخ» ، وحاصل هذه الصورة الثالثة : أنّ المقلد يرجع في خصوص مسألة تقليد الأعلم إلى الأفضل القائل بعدم اعتبار الأعلمية في مرجع التقليد ، وهي مسألة أصولية ، ويرجع في الفروع إلى المفضول.

(٨) أي : إلى الأفضل ، وضميرا «له ، رجوعه» راجعان إلى المقلّد.

(٩) أي : مسألة تقليد الأفضل. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

٥٣٦

وأمّا غيره (١) فقد اختلفوا في جواز تقديم المفضول وعدم جوازه ، ذهب بعضهم إلى الجواز (٢) ، والمعروف بين الأصحاب ـ على ما قيل (٣) ـ

______________________________________________________

(١) أي : غير المقلّد العاجز عن معرفة مقتضى الأدلة. وهذا شروع في المقام الثاني وهو ما يستفيده المجتهد القادر على استنباط حكم مسألة تقليد الأعلم ، وحاصل ما أفاده فيه : أنّ هذه المسألة ذات قولين :

أحدهما : عدم جواز تقليد المفضول وتعيّن تقليد الأفضل ، وهذا هو المشهور ، بل المدعى عليه الإجماع.

ثانيهما : جواز تقليد المفضول ، وعدم وجوب تقليد الأعلم تعيينا ، وهو خيرة جماعة منهم صاحبا القوانين والفصول. والمصنف «قده» اختار مذهب المشهور واستدل عليه بالأصل ، وسيأتي بيانه.

(٢) قال المحقق القمي بعد منع أقربية قول الأعلم ما لفظه : «فحينئذ فالقول بوجوب تقديم قول الأعلم للمقلّد على الإطلاق لا يتم. ودعوى الإجماع في أمثال هذه المسائل مع أنّها غير ظاهرة منهم وغير واضحة في نفسها يظهر بطلانها من استنادهم في دعواهم هذه إلى أنّه أقرب وآكد وأرجح».

وقال تلميذه المحقق الشيخ ومحمد حسين الأصفهاني في الفصول بعد المناقشة في أدلّة بعدم جواز تقليد الأعلم : «فالقول بالجواز إذن أوضح ، وإن كان المنع أحوط».

(٣) نسب جمع ـ منهم شيخنا الأعظم وصاحب الفصول «قدهما» ـ إلى الأصحاب القول بعدم جواز تقليد المفضول ، قال في الفصول : «وقد نسبه بعضهم إلى الأصحاب مدّعيا عليه الإجماع» وستأتي هذه النسبة في كلام الشيخ أيضا.

وقال مقرّر بحثه الشريف : «إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة ، فهل يتعيّن تقليد الأفضل؟ أو يتخيّر بينه وبين تقليد المفضول ، حدث لجماعة ممّن تأخّر عن الشهيد الثاني قول بالتخيير ، بعد اتّفاق من تقدّم عنه ظاهرا على تعيين الفاضل ... لكن الحق الّذي لا ينبغي الارتياب فيه هو الأوّل من لزوم تقديم الأفضل. لكن العنوان الّذي يتكلّم فيه الآن هو ما إذا علم اختلاف الفاضل والمفضول ...».

٥٣٧

عدمه (١). وهو الأقوى ، للأصل (٢) وعدم دليل على خلافه (٣).

______________________________________________________

(١) أي : عدم الجواز ، قال السيد المرتضى «قده» : «وإن كان بعضهم عنده أعلم من بعض وأورع أو أدين فقد اختلفوا ، فمنهم من جعله مخيّرا ، ومنهم من أوجب أن يستفتي المقدّم في العلم والدين ، وهو أولى ، لأنّ الثقة منها أقرب وأوكد ، والأصول بذلك كلّها شاهدة» (١).

وقال المحقق : «وإن كان أحدهم أرجح في العلم والعدالة وجب العمل بفتواه. وإن اتّفق اثنان أحدهما أعلم والآخر أكثر عدالة وورعا قدّم الأعلم ، لأنّ الفتوى تستفاد من العلم لا من الورع ، والقدر الّذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم فلا اعتبار برجحان ورع الآخر» (٢).

وقال صاحب العالم : «وإن كان بعضهم أرجح في العلم والعدالة من بعض تعيّن عليه تقليده ، وهو قول أصحابنا الذين وصل إلينا كلامهم. وحجتهم عليه : أنّ الثقة بقول الأعلم أقرب وأوكد» (٣).

(٢) يعني : أصالة عدم حجية قول المفضول عند معارضته لقول الفاضل ، لصيرورة قول المفضول مشكوك الحجية ، فيشمله عموم الأدلة الناهية عن متابعة ما وراء العلم ، ولكن قول الفاضل معلوم الحجية إمّا تعيين وإمّا تخييرا ، ومن المعلوم كفاية الشك في الحجية في عدم جواز ترتيب آثار الحجة عليه. وعن شيخنا الأعظم : «ان الظاهر من كل من تعرض للمسألة ووصل كلامه إلينا : أنّ الأصل مع المانعين. وتقريره : أنّه لا شك أنّ العمل بقول الغير ومطابقة العمل بقوله ـ وهو المعبّر عنه بالتقليد ـ عمل بما وراء العلم ... فيبقى متابعة المفضول في حرمة العمل بما وراء العلم».

(٣) أي : خلاف أصل التعيين ، إذ لو كان دليل على خلاف أصالة التعيين فإن كان مثل الإطلاق من الأدلة الاجتهادية فهو وارد على أصالة التعيين. وإن كان أصلا عمليا كأصالة التخيير أو استصحابه لزم ملاحظة النسبة بينهما ، وسيظهر عدم وجود معارض لأصالة التعيين التي عوّل عليها المصنف وغيره.

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ، ص ٨٠١

(٢) معارج الأصول ، ص ٢٠١

(٣) معالم الدين ، ص ٢٤١

٥٣٨

ولا إطلاق في أدلة التقليد (١)

______________________________________________________

(١) هذا بيان لقوله : «وعدم دليل على خلافه» وإشارة إلى ما استدلّ به على جواز تقليد المفضول من الوجوه التي لو تمّت لكانت حاكمة على أصالة عدم حجية فتوى المفضول ، والوجوه المشار إليها في المتن ثلاثة ، يكون مفاد الأوّلين منها عدم وجوب تقليد الأعلم بعنوان أوّلي ، ومفاد الثالث الاعتراف باقتضاء الأدلة الأوّلية لوجوب تقليد الأعلم ، لكن الدليل الثانوي يقتضي جواز تقليد المفضول. وسيأتي تقريب الكل «إن شاء الله تعالى».

أمّا الدليل الأوّل فهو : أنّ مقتضى إطلاق الأدلة اللفظية على جواز التقليد من الآيات والروايات هو حجية قول العالم مطلقا وإن كان مفضولا ، فيجوز تقليد غير الأعلم أيضا ، قال في الفصول : «والأصل مدفوع بعموم آيات المقام ورواياته ، فإنّ المستفاد منها عدم تعيين الأفضل ، فيتخيّر بين تقليده وتقليد المفضول».

وتقريب إطلاق الأدلة اللفظية هو : أنّ آيتي النفر والسؤال دلّتا على حجية إنذار الفقيه في الدين وقول العالم ، ولا ريب في إناطة الحجية بصدق عنواني الفقيه والعالم ، سواء أكان الفقهاء والعلماء متساوين في الفضيلة أم مختلفين فيها.

وكذا الروايات المتقدمة في الفصل السابق المتضمنة لحجية الفتوى عن علم ، وللإرجاع إلى الفقهاء ورواة الأحاديث بعنوان عام ، كقوله عليه‌السلام : «وأمّا من كان من الفقهاء ... فللعوام أن يقلّدوه» و «فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجتي عليكم» و «فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبّنا وكثير القدم في أمرنا» ونحوها.

وتقريب دلالتها : أنّها وإن كانت ظاهرة في الحجية التعيينيّة لا التخييرية التي هي مورد البحث ، فهي تدل على أنّ قول كل واحد من الفقهاء ورواة الأحاديث حجة تعيينا لا تخييرا بينه وبين غيره من أقوال الفقهاء ، إذ الحجية التخييرية كالوجوب التخييري منوطة بمئونة زائدة ثبوتا وإثباتا ، لكنها تصرف عن ظاهرها في صورة تعارض الفتويين إلى إرادة الحجية التخييرية ، وذلك لشيوع الاختلاف في الفتوى كشيوع التفاوت في العلم والفضيلة ، لندرة توافق جمع من المجتهدين في الفتوى وفي الفضيلة. ومع هذه الغلبة لم يقيّدوا عليهم‌السلام الرجوع إلى الفقيه بما إذا لم تكن فتواه مخالفة لفتوى غيره من الفقهاء ،

٥٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

كما لم يقيّدوا عليهم‌السلام الرجوع إلى الفقيه بما إذا تعذر الرجوع إلى الأفقه ، مع العلم العادي بعدم تساويهم في الفقاهة.

وعليه فهذه قرينة قطعية على إطلاق الأدلّة ، وكون فتوى المفضول كفتوى الفاضل في الحجية والاعتبار وإن كانتا متخالفتين.

والحاصل : أنّه ـ بعد الاعتراف بدلالة جملة من الأدلة اللفظية على حجية فتوى الفقيه على العامي ـ لا بدّ من الالتزام بدلالة إطلاقها على التخيير بين المتفقين في الفتوى والمختلفين فيها ، سواء كانوا متساوين في الفضيلة أم لا. ولا سبيل لحمل الإطلاقات المتقدمة على فرض توافقهم في الفضيلة والفتوى ، لندرة هذا الفرد وشيوع الاختلاف في العلم والرّأي ، فالحمل المزبور مساوق لإنكار أصل دلالة الأدلة اللّفظية على حجية الفتوى ، وهو خلاف الفرض ، هذا.

وقد أجاب المصنف عن الاستدلال بالإطلاق بوجهين :

أحدهما : أنّ هذه الأدلة اللفظية ليست في مقام تشريع جواز التقليد بحيث يكون جوازه من الأحكام الشرعية ، لقوّة احتمال كون السؤال عن أهل العلم لأجل صيرورتهم عالمين بسبب السؤال ، لا لأجل الأخذ بقول أهل العلم تعبدا كما هو المطلوب في المقام.

ثانيهما : أنّه ـ بعد تسليم دلالة الأدلة اللّفظية على تشريع التقليد وحجية قول الغير تعبدا ـ لا إطلاق فيها حتى تدلّ به على جواز تقليد المفضول ، وعدم اعتبار الأعلميّة في التقليد ، بل هي في مقام أصل التشريع من دون تكفّلها للخصوصيات ، ومع الإهمال لا مجال للاستدلال ، لعدم إطلاق أحوالي حتى يدلّ على جواز تقليد العالم في كل حال حتى حال معارضة فتوى الأفضل لفتواه.

فهذه الأدلة من جهة الإهمال تكون نظير قول الرّجل لولده : «إذا مرضت فراجع الطبيب» فإنّه قاصر عن بيان وظيفة الولد عند تعارض آراء الأطبّاء في تشخيص المرض وعلاجه. فلو فرض وجوب الرجوع إلى أحد الأطبّاء عند تضارب آرائهم كان متوقفا على وجود دليل آخر.

ثم إنّ هذين الوجهين قد نبّه عليهما شيخنا الأعظم بقوله : «وأمّا الإطلاقات المذكورة

٥٤٠