منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على آلائه والصلاة والسلام على سيد أنبيائه وآله المعصومين حجج الله على عباده واللعن على أعدائهم إلى يوم لقائه.

أما بعد ، فهذا هو الجزء الخامس من كتابنا (منتهى الدراية في توضيح الكفاية) وقد أجريناه على منوال أجزائه الأربعة المتقدمة ، فالمتن ثم التوضيح معلما بالأرقام ، ثم التعليق بعلامة (*) ثم حواشي المصنف برمز (×) متوكلا عليه جل وعلا ، ومتوسلا بولي أمره صلى الله عليه وعجل فرجه الشريف وجعلنا فداه.

٣
٤

فصل

لا يخفى (١) عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على

______________________________________________________

(الكشف والحكومة)

(١) ينبغي قبل توضيح المتن بيان معنى الكشف والحكومة ، فنقول وبه نستعين : قد عرفت أن مقتضى مقدمات دليل الانسداد ـ بعد فرض تماميتها ـ هو حكم العقل بجواز العمل بالظن مطلقا ، وقد اختلفوا في أن حكمه هذا هل هو من باب الكشف ، يعني : أن العقل يكشف عن جعل الشارع الظن حجة حال الانسداد لا أنه ينشئ الحجية له؟ أم من باب الحكومة ، يعني : أن العقل ـ بملاحظة تلك المقدمات ـ يحكم بحجية الظن وينشئها له حال الانسداد كحكمه بحجية العلم حال الانفتاح وإنشائها له. وبتعبير آخر : أن العقل بعد ما لاحظ مقدمات الانسداد هل يستكشف منها عن جعل الشارع الظن حجة وان احتمل مخالفته للواقع ، فالشرع منشئ لحجيته والعقل كاشف عن هذا الإنشاء؟ أم أنه يحكم بوجوب متابعة الظن في مقام الامتثال من غير أن يرى للشرع دخلا في ذلك ، فالعقل يحكم بحجيته دون الشرع كحكمه بحجية العلم حال الانفتاح من غير دخل للشارع فيها.

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا عرفت معنى الكشف والحكومة ، فنقول : غرض المصنف من عقد هذا الفصل بيان أن نتيجة مقدمات الانسداد هل هي حجية الظن من باب الكشف أم حجيته من باب الحكومة؟ وبيان ما يترتب على الكشف من إهمال النتيجة أو تعينها ، وسيتضح معناهما. ولما كان الأمر الثاني مترتبا على بيان ما يقتضيه مقدمات الانسداد من الكشف أو الحكومة تعرض له أوّلا ، ثم تعرض لما يترتب على الكشف من الإهمال أو التعين ، فقال : «لا يخفى عدم مساعدة ... إلخ» وحاصله : أن مقدمات الانسداد لا تنتج حجية الظن كشفا يعني شرعا ، بل مقتضاها حجية الظن حكومة يعني بحكم العقل ، لأنه بعد إبطال المنجز العقلي ـ وهو الاحتياط الّذي يقتضيه العلم الإجمالي بالتكاليف ـ بأدلة نفي الحرج قد وصلت النوبة إلى المقدمة الخامسة ـ وهي قبح ترجيح المرجوح على الراجح ـ المقتضية لتعين الإطاعة الظنية عقلا ، ومع هذا الحكم العقلي المستقل في مقام الإطاعة لا حاجة إلى حكم الشارع بحجية الظن ، فتكون النتيجة حجية الظن في مقام الإطاعة بمعنى حكم العقل بعدم جواز مطالبة المولى بأزيد من الإطاعة الظنية ، وعدم جواز اقتصار المكلف على ما دونها من الإطاعة الشكية والوهمية ، هذا.

وقد تعرض لهذا البحث شيخنا الأعظم (قده) مفصلا ، فقال : «الأمر الثاني وهو أهم الأمور في هذا الباب أن نتيجة دليل الانسداد هل هي قضية مهملة من حيث أسباب الظن فلا يعم الحكم لجميع الأمارات الموجبة للظن إلّا بعد ثبوت معمم ... أو قضية كلية لا يحتاج في التعميم إلى شيء ... إلى أن قال : فهنا مقامات : الأول : في كون نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معينة ... إلخ».

٦

كون الظن طريقا منصوبا شرعا ، ضرورة أنه معها (١) لا يجب عقلا على الشارع أن ينصب طريقا ، لجواز اجتزائه بما استقل به (٢) العقل في هذا الحال (٣) (*)

______________________________________________________

وقد ظهر منه (قده) أنه جعل عنوان البحث مسألة إهمال النتيجة وتعيينها ، ولما كان ذلك مترتبا على الكشف والحكومة بدأ بهما ثم لما يترتب عليهما. وهذا بخلاف المصنف (قده) فانه بدأ الفصل ببيان أن نتيجة المقدمات حجية الظن حكومة لا كشفا ، ثم تكلم بناء على الكشف في إهمال النتيجة أو تعيينها ، ولا تفاوت في اختلاف المسلكين بعد وضوح المطلب.

(١) أي : مع هذه المقدمات ، وضمير «أنه» للشأن.

(٢) الضمير راجع إلى الموصول في «بما» المراد به حجية الظن عقلا.

(٣) أي : حال الانسداد ، وضمير «اجتزائه» راجع إلى الشارع.

__________________

(*) إيقاظ : ينبغي هنا بيان أمور :

الأول : أن الحكومة في المقام يراد بها تارة حجية الظن عقلا كحجيته شرعا بمعنى كون الظن معيارا لإحراز الحكم نفيا وإثباتا ، وامتثاله بعنوانه بحيث يصح قصد الوجه والتميز به ، ويسمى الإتيان بالحكم الواقعي المظنون بهذا الظن المعتبر عقلا كالمعتبر شرعا بالإطاعة الظنية التي هي المرتبة الثالثة من مراتب الإطاعة في قبال الامتثال العلمي التفصيليّ والإجمالي الاحتياطي. وأخرى التبعيض في الاحتياط ، وهو فيما إذا لم يمكن أو لم يجب الاحتياط التام في جميع أطراف العلم الإجمالي المنجز للأحكام من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، حيث ان العقل يحكم حينئذ ـ لأجل قبح ترجيح المرجوح على الراجح ـ بلزوم الاحتياط في خصوص المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، وتسميته

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالحكومة حينئذ مع كونه احتياطا ناقصا انما هي لأجل حكم العقل بجعل الاحتياط في دائرة المظنونات.

والفرق بينه وبين الإطاعة الظنية هو : أن الإتيان بالمظنونات على الأول يكون بالاحتمال ورجاء المطلوبية ، وعلى الثاني يكون بعناوينها الخاصة ، ويسمى الأول بالتبعيض في الاحتياط والثاني بالإطاعة الظنية ، فالأوّل لا يخرج عن الإطاعة الاحتياطية التي هي ثانية مراتب الإطاعة ، والثاني إطاعة تفصيلية ظنية وهي ثالثة مراتب الإطاعة.

الثاني : أن المراد بحجية الظن كشفا هو استكشاف العقل بمقدمات الانسداد جعل الشارع الظن حجة على التكاليف الواقعية إثباتا ونفيا ، والإتيان بالمظنون بهذا الظن يسمى بالإطاعة الظنية كالإتيان بالمظنون بالظن المعتبر شرعا بدليل خاص في حال انفتاح باب العلم والعلمي ، ولا فرق في الاعتبار بين هذين الظنين أصلا. نعم يسمى المعتبر بدليل الانسداد بالظن المطلق وغيره بالظن الخاصّ.

الثالث : أنه لا سبيل إلى إرادة حجية الظن عقلا من الحكومة بحيث يكون معيارا لإثبات التكاليف الواقعية ونفيها ، وذلك لأن الحكومة بهذا المعنى مبنية على أمور لم يثبت شيء منها.

أحدها : صلاحية العقل للحكم بالحجية ، وهي غير ثابتة ، حيث ان شأنه إدراك الحسن والقبح دون الحكم ، فانه وظيفة الشارع.

ثانيها : بطلان الاحتياط وسقوطه عن درجة الإطاعة رأسا ، بدعوى قيام الإجماع التعبدي على لزوم امتثال الأحكام بعناوينها ، وعدم جواز إطاعتها بالاحتياط

٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والرجاء كما حكي عن السيد الرضي وتقرير أخيه له قدس‌سرهما. لكنه غير ثابت أيضا ، بل خلافه ثابت ، لذهاب جماعة إلى كون الاحتياط نوعا من الإطاعة بل في عرض الإطاعة العلمية التفصيلية ، فلاحظ.

ثالثها : عدم نصب الشارع الأقدس طريقا إلى ثبوت كل تكليف بعنوانه وهو الظن ، لعدم كون غيره من الشك والوهم والأصول الجارية في كل واقعة بخصوصها وفتوى الغير والقرعة محرزا ، فان حكم العقل بحجية الظن بعد تسليمه في نفسه منوط بعدم النصب الشرعي المزبور. لكنه أيضا مخدوش ، إذ لا وجه لعدم النصب المذكور بعد وضوح بقاء التكاليف ، ولزوم امتثالها بعناوينها ، وعدم رضا الشارع بإطاعتها رجاء واحتمالا ، وعدم قدرة المكلف على إحرازها حتى يتمكن من امتثال كل تكليف بعنوانه ، لأن المفروض انسداد باب العلم والعلمي عليه ، فان هذه المقدمات تنتج قطعا حجية الظن شرعا ، إذ العقل بملاحظتها يستكشف عن جعل الشارع حجية الظن وطريقيته إلى الأحكام الواقعية ، وكونه مناطا لإثباتها ونفيها ، ومدارا لإطاعتها على النهج الّذي أراده وهو امتثالها بعناوينها الخاصة.

وعليه ، فما أفاده المصنف (قده) من : «أنه لا مجال لاستكشاف العقل نصب الشارع الظن طريقا إلى الامتثال التكاليف الواقعية ظنا ، ضرورة أنه مع استقلال العقل بذلك لا يجب على الشارع أن ينصب طريقا إليه ليكشف العقل عن ذلك» لا يخلو من الغموض ، إذ فيه : أن العقل لا صلاحية له للحكم بالحجية كما تقدم

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فالمراد باستقلاله بلزوم امتثال التكاليف ظنا هو التبعيض في الاحتياط ، والإتيان بالمظنونات من باب الاحتياط ، وهذا غير حجية الظن في امتثال التكاليف بعناوينها كما هو المطلوب بناء على ثبوت الإجماع على عدم بناء الشريعة المطهرة على الاحتياط وامتثال الأحكام بالاحتمال.

والحاصل : أن الحكومة التي تدور نتيجة مقدمات دليل الانسداد بينها وبين حجية الظن كشفا لا يمكن أن يراد بها الا التبعيض في الاحتياط ، ولا يراد بها حجية الظن عقلا بحيث يكون مدار الأحكام نفيا وإثباتا كحجيته شرعا.

الرابع : أن منشأ الاختلاف في كون نتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن حكومة أو كشفا هو الاختلاف في مدرك عدم وجوب الاحتياط. فان كان المستند فيه استلزامه للعسر والحرج ، أو اختلال النظام ، فنتيجة مقدمات الانسداد حينئذ حجية الظن حكومة أعني التبعيض في الاحتياط ، وذلك لأنه مقتضى بقاء التكاليف الواقعية ولزوم امتثالها ولو بدون إحراز عناوينها ، وعدم وجوب الإتيان بجميع الأطراف من المظنونات والمشكوكات والموهومات للعسر أو الاختلال.

وان كان المستند في عدم وجوب الاحتياط الإجماع التعبدي على ذلك وبناء الشرع على امتثال كل تكليف بعنوانه ، فنتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن كشفا إذ لا بد للشارع أن ينصب طريقا إلى الأحكام الواقعية ليتمكن المكلف من إحرازها به حتى يمتثلها بعناوينها. وحيث ان الإجماع مفقود ومجرد فرض ، ولم يثبت دخل إحراز عناوين الأحكام في امتثالها ، فلا محيص عن الالتزام بكون نتيجة مقدمات الانسداد هي التبعيض في الاحتياط المسمى بالحكومة. نعم لو ثبت

١٠

ولا مجال لاستكشاف (١) نصب الشارع

______________________________________________________

(١) إشارة إلى توهم ودفعه ، أما التوهم فمحصله : إثبات حجية الظن شرعا بقاعدة الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، وأن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ، إذ المفروض أن العقل قد حكم باعتبار الظن حال الانسداد ، فيستكشف من حكمه هذا ـ بهذه القاعدة ـ أن الشرع قد حكم باعتباره في هذا الحال أيضا ، فيكون حجة شرعا.

وبالجملة : فالإطاعة الظنية حال الانسداد كما أنها عقلية كذلك شرعية بقاعدة الملازمة.

__________________

الإجماع على عدم بناء الشريعة على امتثال الأحكام بالاحتياط والاحتمال كانت النتيجة حجية الظن شرعا ، إذ مع إرادة امتثالها بعناوينها مع انسداد باب العلم والعلمي إليها لا بد من نصب الشارع طريقا محرزا لها حتى يتمكن العبد من إطاعتها بعناوينها ، وإلا يلزم اما ارتفاع التكاليف ، واما عدم لزوم امتثالها مع بقائها ، واما امتثالها تفصيلا بالتشريع ، وبطلان الكل بديهي ، فيتعين جعل الشارع طريقا محرزا للأحكام ، وليس ذلك إلّا الظن.

فالمتحصل : أن الإجماع هنا ـ مضافا إلى كون المسألة من المسائل المستحدثة غير المعنونة في كلام القدماء حتى يعلم رأيهم ، وإلى عدم تحققه في نفسه ، لذهاب كثير إلى جواز العمل بالاحتياط حتى مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيليّ ـ لا يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، لقوة احتمال ذهاب القائلين باعتبار إحراز عناوين الأحكام في امتثالها إلى دخل قصد الوجه والتميز في الإطاعة ، وعلى هذا فمقدمات دليل الانسداد ـ على تقدير تماميتها ـ لا تنتج الا حجية الظن حكومة أعني التبعيض في الاحتياط.

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الدفع فهو : أن قاعدة الملازمة أجنبية عن المقام أعني الإطاعة الظنية التي هي من مراتب الإطاعة ، فلا تجري هذه القاعدة فيها حتى تكون الإطاعة موردا للحكم المولوي ، وذلك لأن القاعدة تجري في مورد قابل للحكم المولوي كالمقام أعني الإطاعة الظنية ، فانها غير قابل للحكم المولوي ، فلا تجري القاعدة فيها. وجه عدم قابليتها له : أن الحكم المولوي متقوم بشرطين مفقودين في المقام.

أحدهما : أن يكون متعلقه فعل العبد لا فعل المولى ، إذ الأحكام الشرعية لا تتعلق بفعل الشارع ، وانما تتعلق بأفعال العباد ، وفعل الشارع لا يتعلق به الا حكم العقل.

الثاني : أن يترتب على تعلقه بالفعل فائدة غير الفائدة التي تترتب على نفس الفعل عقلا أو تكوينا ، حيث ان الحكم الشرعي من الأفعال الاختيارية التي لا تصدر من العاقل فضلا عن الحكيم إلّا بداع عقلائي. وحيث ان هذين الشرطين مفقودان فيما نحن فيه ـ أعني الإطاعة الظنية ـ فلا يكون قابلا للحكم المولوي حتى تجري فيه قاعدة الملازمة لتثبت بها شرعية الإطاعة الظنية.

وجه عدم تحققهما فيه : أن الإطاعة الظنية تنحل إلى أمرين : أحدهما عدم وجوب الإطاعة العلمية ، لعدم التمكن منها ، ولازم عدم وجوبها قبح مؤاخذة الشارع على تركها.

١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيهما : عدم جواز الاكتفاء بما دون الإطاعة الظنية أعني الإطاعة الشكية والوهمية ، ولازم عدم جوازه حسن الإطاعة الظنية.

وشيء من هذين الأمرين لا يصلح لأن يتعلق به الحكم المولوي. أما الأول فلان المؤاخذة فعل الشارع ، وقد عرفت أن فعل الشارع لا يكون موردا لحكم نفس الشارع ، فلا يتعلق به حكمه ، وانما يتعلق به حكم العقل ، فالحاكم بقبح المؤاخذة هو العقل دون الشرع. وأما الثاني ، فلأنه وان كان في نفسه قابلا لحكم الشرع من جهة أن الموضوع فيه ـ أعني الإطاعة الظنية أو الإطاعة الشكية ـ والوهمية فعل العبد ، لكن حيث لا يترتب على تعلق حكم الشرع بهذا الموضوع فائدة لم يكن أيضا قابلا للحكم المولوي. توضيح ذلك : أن الاكتفاء بما دون الإطاعة الظنية يكون بنفسه منشأ لاستحقاق العقاب ، كما أن الإطاعة الظنية تكون بنفسها منشأ لاستحقاق الثواب ، فلا حاجة إلى أمر المولى بها ، ولا إلى نهيه عن الاكتفاء بما دونها ، لعدم ترتب فائدة على هذا الأمر أو النهي ، إذ لو كان الغرض منهما إيجاد الداعي في نفس العبد إلى العمل بالظن وترك الاكتفاء بما دونه فهو من قبيل طلب الحاصل المحال ، لفرض حصول هذا الغرض بحكم العقل بحسن الأول وقبح الثاني ، وان كانا بدون غرض فهو قبيح على العاقل فضلا عن الحكيم.

وبالجملة : فالمورد ـ أعني باب الإطاعة والمعصية الّذي منها الإطاعة الظنية فيما نحن فيه ـ غير قابل للحكم المولوي حتى تجري فيه قاعدة الملازمة لتثبت بها حجية الظن حال الانسداد شرعا أيضا ، إما لانتفاء الشرط الأول المعتبر فيه وهو كون موضوعه فعل العبد ، لما عرفت من أن الموضوع هنا هو المؤاخذة

١٣

من (١) حكم العقل لقاعدة [بقاعدة] الملازمة ، ضرورة (٢) أنها انما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي ، والمورد هاهنا (٣) غير قابل له ، فان (٤) الإطاعة الظنية التي يستقل العقل بكفايتها في حال الانسداد انما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها (٥) وعدم (٦)

______________________________________________________

وهي فعل الشارع ، فلا يتعلق بها حكم نفس الشارع ، واما لانتفاء الشرط الثاني وهو ترتب الفائدة على تعلقه غير أصل الفائدة التكوينية أو العقلية كما عرفت توضيحه.

ثم ان هذا التوهم ودفعه ذكرهما شيخنا الأعظم في تقرير الحكومة ، فقال : «وتوهم أنه يلزم على هذا انفكاك حكم العقل عن حكم الشرع مدفوع بما قررنا في محله من أن التلازم بين الحكمين انما هو مع قابلية المورد لهما أما لو كان قابلا لحكم العقل دون الشرع فلا كما في الإطاعة والمعصية ... إلخ».

(١) متعلق بـ «استكشاف» يعني : أنه لا مجال لأن يستكشف من حكم العقل نصب الشارع ، وقوله : «لقاعدة» متعلق بـ «استكشاف» وتعليل له.

(٢) تعليل لقوله : «لا مجال» فهو تقريب لدفع التوهم ، وقد عرفت توضيحه ، وضمير «أنها» راجع إلى قاعدة الملازمة.

(٣) أي : في باب الإطاعة والمعصية ، فلا يبقى مجال للملازمة حتى يستكشف منها حكم شرعي مولوي بوجوب الإطاعة الظنية كما عرفته.

(٤) تعليل لعدم قابلية المورد للحكم المولوي ، وقد عرفت توضيحه.

(٥) أي : من الإطاعة الظنية ، والمراد بالأزيد هو الإطاعة العلمية ، وهذا إشارة إلى الأمر الأول مما تنحل إليه الإطاعة الظنية.

(٦) هذا إشارة إلى الأمر الثاني مما تنحل إليه الإطاعة الظنية ، والمراد من

١٤

جواز اقتصار المكلف بدونها ، ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه (١) وهو واضح ، واقتصار (٢) المكلف بما دونها لما كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا (٣) أو [الا] فيما أصاب الظن (٤) كما (٥) أنها بنفسها موجبة

______________________________________________________

«بدونها» هو الإطاعة الشكية والوهمية.

(١) هذا هو الشرط الأول المعتبر في الحكم المولوي ، وقد تقدم بقولنا : «أحدهما : أن يكون متعلقه فعل العبد ... إلخ».

(٢) مبتدأ خبره «لما كان ... إلخ» وضمير «دونها» راجع إلى الإطاعة الظنية ، وهذا إشارة إلى بيان انتفاء الشرط الثاني مما يعتبر في الحكم المولوي هنا أي في الإطاعة الظنية ، فقوله : «بنفسه» إشارة إلى وجه عدم الفائدة في النهي المولوي عن الاكتفاء بما دون الإطاعة الظنية ، إذ الفائدة ـ وهي احداث الداعي المعبد إلى الترك ـ موجودة في ذاته من دون حاجة إلى نهي الشارع ، حيث ان العقل كاف في احداث الداعي إلى ترك ما دون الإطاعة الظنية ، فالنهي حينئذ يكون من تحصيل الحاصل.

(٣) يعني : سواء أصاب الظن وأخطأ ما دونه ـ أعني الشك والوهم ـ فالعقاب يكون على تفويت الواقع ، أم أخطأ الظن وأصاب ما دونه ، فالعقاب حينئذ يكون على التجري ، وقوله : «أو فيما أصاب الظن» يعني : أو يكون الاقتصار على ما دون الظن موجبا للعقاب في خصوص ما إذا أصاب الظن وأخطأ ما دونه ليكون العقاب على تفويت الواقع ، هذا بناء على كون النسخة «أو» وأما بناء على أنها «الا» فلم يظهر لها معنى صحيح ، فتأمل جيدا.

(٤) لتفويته الواقع عن اختيار بترك العمل بالظن المفروض كونه مصيبا.

(٥) عدل لقوله : «موجبا» وضميرا «أنها ، بنفسها» راجعان إلى الإطاعة الظنية.

١٥

للثواب أخطأ (١) أو أصاب (٢) من دون (٣) حاجة (٤) إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها ، كان (٥) حكم الشارع فيه مولويا بلا ملاك (٦) يوجبه كما لا يخفى ، ولا بأس به إرشاديا (٧) كما هو (٨) شأنه في حكمه بوجوب

______________________________________________________

(١) والثواب يترتب حينئذ على الانقياد.

(٢) والثواب حينئذ على الإطاعة الحقيقية.

(٣) متعلق بكل من «موجبا للعقاب» و «موجبة للثواب» وضميرا «بها ، مخالفتها» راجعان إلى الإطاعة الظنية.

(٤) يعني : أن الحكم المولوي يكون لغوا ، لعدم ترتب فائدة عليه كما عرفت.

(٥) هذا جزاء الشرط في قوله : «لما كان» وجملة الشرط والجزاء خبر «واقتصار» ، وضمير «فيه» راجع إلى عدم جواز اقتصار المكلف.

(٦) خبر «كان حكم» و «مولويا» حال من «حكم الشارع» و «يوجبه» صفة للملاك ، والضمير المستتر راجع إلى الملاك والبارز إلى حكم الشارع.

(٧) حال من الضمير في «به» الراجع إلى حكم الشارع ، يعني : لا بأس بحكم الشارع ـ في عدم جواز الاكتفاء بما دون الظن ـ إرشادا إلى حكم العقل به إذ الممتنع جعل الحكم المولوي لوجوب الإطاعة الظنية ، لا الحكم الإرشادي.

(٨) الضمير راجع إلى الإرشاد المستفاد من قوله : «إرشاديا» وضميرا «شأنه حكمه» راجعان إلى الشارع ، يعني : كما أن الإرشاد شأن الشارع في حكمه بوجوب الإطاعة ، قال شيخنا الأعظم بعد عبارته المتقدمة بقليل : «حتى أنه ـ أي الشارع ـ لو صرح بوجوب الإطاعة وتحريم المعصية كان الأمر والنهي للإرشاد لا للتكليف ، إذ لا يترتب على مخالفة هذا الأمر والنهي الا ما يترتب على ذات المأمور به والمنهي عنه أعني نفس الإطاعة والمعصية ... إلخ».

١٦

الإطاعة وحرمة المعصية ، وصحة نصبه (١) الطريق [نصب الطريق]

______________________________________________________

(١) هذا دفع لما يمكن أن يتوهم في المقام ، توضيح التوهم : أن عدم قابلية الإطاعة الظنية للحكم المولوي انما هو فيما إذا لوحظ الظن طريقا لإحراز الواقع بالظن ، ضرورة أنه لا فائدة حينئذ في هذا الحكم المولوي بعد حكم العقل بلزوم إحراز الحكم الواقعي بالظن ، دفعا للعقوبة المحتملة في صورة ترك العمل به. وأما إذا لوحظ الظن موضوعيا بحيث يترتب المثوبة على موافقته والعقوبة على مخالفته مع قطع النّظر عن الواقع كسائر الأحكام الظاهرية ، فلا وجه لمنع تعلق الحكم المولوي بالعمل بالظن واستكشاف حكمه من حكم العقل بقاعدة الملازمة.

فالمتحصل : أنه يمكن استكشاف حجية الظن شرعا بقاعدة الملازمة.

وأما الدفع فتوضيحه : أن نصب الطريق لا بملاك إحراز الواقع وان كان جائزا ، لكن لا يمكن استكشافه بقاعدة الملازمة ، وذلك لاعتبار وحدة الموضوع في الحكم الشرعي والعقلي في هذه القاعدة كالظلم ، حيث انه موضوع لحكم العقل ـ أعني القبح ـ وهو بنفسه موضوع أيضا لحكم الشرع أعني الحرمة. وهذا بخلاف المقام ، فان الظن الملحوظ طريقا صرفا لإحراز الواقع ـ وهو الموضوع للحجية العقلية ـ غير الظن الملحوظ طريقا شرعا ، إذ على التقدير الأول يكون الفعلي هو الحكم الواقعي ، وعلى الثاني يكون الفعلي هو الحكم الظاهري ، لامتناع فعلية حكمين واقعي وظاهري معا لموضوع واحد ، كما تقدم الكلام في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، فراجع.

وبالجملة : فلا مانع من تعلق الحكم المولوي بالظن ، لكن لا بنحو حكم العقل به ، بل بملاك آخر كالتسهيل على المكلف ، فان نصب طريق خاص لامتثال

١٧

وجعله في كل حال بملاك (١) يوجب نصبه ، وحكمة داعية إليه لا تنافي (٢) استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو (٣) حال الانسداد كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها مولويا ، لما عرفت (٤).

فانقدح بذلك (٥) عدم صحة تقرير المقدمات إلّا على نحو

______________________________________________________

الأحكام ربما يوجب ضيقا عليه ، فيرفعه الشارع بجعل الحجية لمطلق الظن بالحكم الشرعي.

(١) أي : لا بملاك حكم العقل به بل بملاك التسهيل مثلا ، وضمير «جعله» راجع إلى الشارع ، وقوله : «وحكمة» عطف تفسيري للملاك.

(٢) خبر قوله : «وصحة» ودفع للتوهم المزبور ، وقد عرفت توضيحه.

(٣) كالامتثال الظني ، والمراد بـ «بنحو آخر» هو الامتثال العلمي.

(٤) يعني : من عدم قابلية باب الإطاعة للحكم المولوي بقوله : «والمورد هاهنا غير قابل له ...» فهو تعليل لقوله : «من دون استكشاف» و «من دون» متعلق بـ «يحكم».

(٥) أي : باستقلال العقل بالإطاعة الظنية حال الانسداد ، وعدم استكشاف الحكم المولوي بها بقاعدة الملازمة ظهر : أن نتيجة المقدمات هي الحكومة دون الكشف ، وقد عرفت سابقا مبنى الكشف والحكومة. قال الشيخ الأعظم بعد تقرير الكشف والحكومة ما لفظه : «الحق في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثاني ، وأن التقرير على وجه الكشف فاسد ، أما أولا فلان المقدمات المذكورة لا تستلزم جعل الشارع للظن مطلقا أو بشرط حصوله من أسباب خاصة حجة ، لجواز

١٨

الحكومة دون الكشف. وعليها (١) [وعليه] فلا إهمال في النتيجة

______________________________________________________

أن لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذر العلم أصلا ... إلخ».

عدم الإهمال في النتيجة على الحكومة

(١) أي : وعلى الحكومة ، وبناء على كون النسخة «وعليه» فالضمير راجع إلى تقرير المقدمات على الحكومة. وكيف كان فهذا شروع فيما يترتب على الحكومة والكشف من إهمال النتيجة وعدمها ، وتوضيح ما أفاده في ذلك : أنه ـ بناء على الحكومة ـ لا إهمال في النتيجة أصلا لا سببا ولا موردا ولا مرتبة ، بل هي معينة ، لكنها من حيث الأسباب كلية ، ومن حيث الموارد والمرتبة جزئية ، إذ الإهمال في النتيجة يكون في صورة الشك والترديد في الحكم ، ولا يتصور الشك والترديد من الحاكم ـ وهو هنا العقل ـ في حكمه الفعلي ، لأنه إذا أحرز مناط حكمه بشيء حكم به ، وإلّا لم يحكم أصلا ، لا أنه يحكم مع الشك والترديد.

أما عدم الإهمال من حيث الأسباب ـ بمعنى كلية النتيجة وعدم اختصاص حجية الظن الانسدادي بحصوله من سبب دون سبب ـ فلأن المناط في حكم العقل بلزوم العمل بالظن هو أقربيته إلى الواقع من الشك والوهم ، وهذا المناط لا يختلف باختلاف أسباب الظن ، فالنتيجة كلية ـ وهي معينة ـ لا مهملة.

وأما عدم الإهمال بحسب الموارد ـ أي المسائل الفقهية ـ وكون النتيجة بحسبها جزئية معينة ، فلان المتيقن من حكم العقل بكفاية الإطاعة الظنية هو ما إذا لم يكن للشارع مزيد اهتمام به ، إذ لو كان كذلك ـ كما في النفوس والاعراض والأموال ـ لم يستقل العقل بكفاية الظن فيه ، بل حكم بوجوب الاحتياط فيه ، وحيث كان لحكم العقل بكفاية الإطاعة الظنية حال الانسداد قدر متيقن بحسب الموارد كانت نتيجة

١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مقدمات الانسداد جزئية معينة أيضا وليست مهملة.

وأما عدم الإهمال بحسب المرتبة ، فلان النتيجة هي حجية خصوص الظن الاطمئناني ان كان وافيا ، وإلّا فيتعدى عنه إلى غيره بمقدار الكفاية بحيث لا يلزم من الاحتياط في سائر الموارد ـ التي لم يقم ظن اطمئناني على الحكم الشرعي فيها ـ عسر أو حرج ، فان استلزم الاحتياط فيها عسرا أو حرجا لم يقتصر على الظن الاطمئناني ، بل يتعدى إلى غيره بمقدار ارتفاع الحرج.

وكيف كان فالنتيجة بحسب المرتبة أيضا معينة جزئية ، لا أنها مهملة ، هذا.

وقد أفاد شيخنا الأعظم نظير ما أفاده المصنف (قدهما) مع اختلاف في كيفية الاستنتاج بحسب الموارد ، فعال «وعلى الثاني : ـ أي تقرير الحكومة ـ يقال : ان العقل مستقل بعدم الفرق في باب الإطاعة والمعصية بين واجبات الفروع من أول الفقه إلى آخره ، ولا بين محرماتها كذلك ، فيبقى التعميم من جهتي الأسباب ومرتبة الظن .... إذ العقل لا يفرق في باب الإطاعة الظنية بين أسباب الظن ، بل هو من هذه الجهة نظير العلم لا يقصد منه الا الانكشاف. وأما من حيث مرتبة الانكشاف قوة وضعفا فلا تعميم في النتيجة ، إذ لا يلزم من بطلان كلية العمل بالأصول التي هي طرق شرعية الخروج عنها بالكلية ، بل يمكن الفرق في مواردها بين الظن القوي البالغ حد سكون النّفس في مقابلها ، فيؤخذ به ، وبين ما دونه فلا يؤخذ بها». وقد ظهر من صدر عبارته جعل النتيجة كلية بحسب الموارد مطلقا ، بخلاف المصنف حيث خصها بغير الموارد التي اهتم الشارع بها كالدماء والاعراض ، واحتاط في تلك الموارد ولم يعوِّل فيها على الظن.

٢٠