منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل صلواته وأكمل تحياته على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الأئمة الطيبين الطاهرين سيما الإمام المبين وغياث المضطر المستكين عجل الله تعالى فرجه الشريف ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

أما بعد فهذا هو الجزء السابع من كتابنا (منتهى الدراية في توضيح الكفاية) وفقنا لإعداده للطبع ، وهو يتبع الأجزاء المتقدمة في النهج والترتيب. وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

٣
٤

فصل

في الاستصحاب (١) وفي حجيّته إثباتاً ونفياً أقوال للأصحاب (٢).

______________________________________________________

(الاستصحاب)

(١) وهو في اللغة بمعنى الملازمة ، قال في المجمع : «واستصحب الشيء لازمه ، واستصحبت الكتاب وغيره حملته صحبتي ، ومن هذا القبيل استصحاب الحال إذا تمسكت بما كان ثابتاً ، كأنك جعلت تلك الحال مصاحبة غير مفارقة» ومنه استصحاب أجزاء ما لا يؤكل في الصلاة ، واستصحاب الخاتم الّذي عليه لفظ الجلالة في بعض المواضع ، ونحوهما. وفي الاصطلاح عرّف بوجوه سيأتي التعرض لبعضها.

ثم انه لما فرغ المصنف (قده) من مباحث الأصول الثلاثة التي لا يلاحظ فيها الحالة السابقة من أصالة البراءة والتخيير والاشتغال شرع في الاستصحاب الّذي يكون الملحوظ فيه الحالة السابقة. وتظهر مرتبة هذا الأصل العملي في الأصول العملية بكونه أول مرجع للفقيه في مقام الاستنباط بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل اجتهادي يكشف عن الواقع ، ولأجله لا تصل النوبة إلى الأصول الثلاثة المتقدمة حتى في ظرف الموافقة عند اجتماع أركان الاستصحاب في المسألة.

وسيأتي في خاتمة هذا الفصل وجه تقدمه عليها ، وان استفيد ذلك إجمالاً مما تقدم في أول بحث البراءة عند ضبط مجاري الأصول ، هذا.

(٢) قال في أوثق الوسائل : «قيل تبلغ الأقوال في المسألة نيفاً وخمسين»

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

واقتصر الشيخ كصاحب الفصول (قدهما) على نقل أحد عشر قولاً ، واختار الفصول التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع وعدّه القول الثاني عشر في المسألة. ولا بأس بالإشارة إلى الأقوال التي تعرض لها الشيخ (قده).

الأول : الحجية مطلقاً ، قال في الأوثق : عزاه الشهيد الثاني إلى أكثر المحققين» الثاني : عدم الحجية مطلقاً ، قال في الأوثق : «ذهب إليه السيدان وصاحبا المدارك والمعالم».

الثالث : التفصيل بين الوجوديّ والعدمي ، نسب ذلك إلى بعض العامة.

الرابع : التفصيل بين الأمور الخارجية والحكم الشرعي بالاعتبار في الثاني دون الأول ، قال في الأوثق : «حكاه المحقق الخوانساري عن بعضهم ، وقد أنكر المصنف عند التعرض لأدلة الأقوال وجود قائل بهذا التفصيل».

الخامس : التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي وغيره بالاعتبار في الثاني دون الأول إلّا في عدم النسخ ، قال في الأوثق : «اختاره الأخباريون».

السادس : التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره ، فلا يعتبر في غير الجزئي ، حكى الشيخ عن السيد الصدر استظهاره من كلام المحقق الخوانساري. لكن الشيخ في مقام بيان أدلة الأقوال قال : «على تقدير وجود القائل به» وفي الأوثق : «المستفاد منها ـ أي من حاشية المحقق الخوانساري ـ هو التفصيل بين الأمور الخارجية وغيرها سواء أكان حكماً جزئياً أم كلياً».

السابع : التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعيّة وما يترتب عليها من التكليف بالاعتبار في الثاني دون الأول. حكاه الشيخ عن الفاضل التوني ، وسيأتي بيانه عند تعرض المصنف للأحكام الوضعيّة.

الثامن : التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره ، بعدم الاعتبار في الأول ، حكي عن الغزالي. ولكن تأمل الشيخ عند بيان الأدلة في صحة النسبة.

التاسع : التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع ، استظهره الشيخ من كلام

٦

ولا يخفى أن عباراتهم (١) في تعريفه وإن كانت شتّى ،

______________________________________________________

المحقق في المعارج واختاره كصاحب الفصول في الجملة.

العاشر : هذا التفصيل مع اختصاص الشك بوجود الغاية لا الرافع.

وقد تعرض شيخنا الأعظم لأكثر هذه الأقوال مع أدلتها ، ولكن المصنف لأجل تحرير الأصول أعرض عن التعرض لها واقتصر على الاستدلال على مختاره أعني حجية الاستصحاب مطلقاً وتفاصيل أربعة :

أولها : التفصيل في الحكم الشرعي بين كونه مستنداً إلى حجة شرعية من الكتاب والسنة وبين كونه مستنداً إلى حكم العقل.

ثانيها : التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع ، وهو خيرة جمع من المحققين منهم شيخنا الأعظم.

ثالثها : التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي.

رابعها : التفصيل بين الأحكام الكلية والموضوعات الخارجية ، أشار إليه في طي البحث عن اعتبار وحدة القضيتين موضوعاً ومحمولاً ، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.

(١) أشار المصنف (قده) قبل الخوض في أدلة اعتبار الاستصحاب إلى أمور ثلاثة أولها تعريفه ، ثانيها إثبات كونه مسألة أصولية ، ثالثها اعتبار وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة موضوعاً ومحمولاً. وقوله : «ولا يخفى أن عباراتهم» إشارة إلى أول هذه الأمور ، وحاصله : أن الاستصحاب عرف في كلمات القوم بتعاريف مختلفة :

منها : ما عن الشيخ البهائي (قده) في الزبدة من «أنه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمان الأول» بل نسب هذا التعريف إلى القوم.

ومنها : ما عن الفاضل التوني في الوافية من «أنه التمسك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت أو غير تلك الحال».

ومنها : ما في القوانين من «أنه كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق».

٧

إلا أنها (١) تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد ، وهو «الحكم

______________________________________________________

ومنها : ما في الفصول من «أنه إبقاء ما علم ثبوته في الزمان السابق فيما يحتمل البقاء فيه من الزمن اللاحق».

ومنها : ما في كشف الغطاء من «أنه الحكم باستمرار ما كان إلى أن يعلم زواله» ومنها : غير ذلك.

وحيث ان شيئاً من هذه التعاريف غير سليم من الخلل عدل شيخنا الأعظم (قده) إلى تحديده بقوله : «وعند الأصوليين عرف بتعاريف أسدها وأخصرها إبقاء ما كان ، والمراد بالإبقاء الحكم بالبقاء ، ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعليته للحكم ، فعلّة الإبقاء أنه كان».

ولمّا لم يكن هذا التعريف كسائر التعاريف المتقدمة صحيحاً بنظر المصنف لوجوه من الخلل ذكرها في حاشية الرسائل كما تقف عليها في التعليقة عدل عنه إلى تعريفين آخرين اختار الأول في الحاشية والثاني في المتن ، فلاحظ ما ذكرناه في التعليقة من الإشكالات التي أوجبت عدوله عن تعريف الاستصحاب بإبقاء ما كان (*).

(١) أي : أن التعاريف الواردة في كتب القوم تشير ... ، وغرضه أن اختلاف القوم في تعريف الاستصحاب بتكثير القيود وغير ذلك لم ينشأ عن الاختلاف في حقيقته ومفهومه ، بل حقيقته واحدة ، والغرض من التعريف الإشارة إلى ذلك المفهوم الفارد ، غاية الأمر أن الجهات المشيرة إليه مختلفة ، فكل واحد من تلك التعريفات يشير إلى ذلك المفهوم الوحدانيّ بالجهة المأخوذة في ذلك التعريف.

__________________

(*) فمنها : عدم صحة أخذ كلمة «إبقاء» في التعريف ، لوجهين أحدهما : عدم صدق معناه لا حقيقة ولا مجازاً ، أما عدم صدق معناه الحقيقي في المقام فلأن الاستصحاب إبقاء ظاهري لحكم أو لموضوع ذي حكم ولو لم يكن موجوداً واقعاً. وأما عدم انطباق معناه المجازي فلفرض تعدد معانيه المجازية وعدم قرينة على تعيين واحد منها بالخصوص ، والتعريف لا بد أن يكون بالمبيّن لا بالمجمل. أما تعدد المعاني

٨

ببقاء حكم (١) أو موضوع ذي حكم (٢) شك في بقائه (٣)».

______________________________________________________

(١) هذا في الشبهة الحكمية ، وقوله : «أو موضوع» إشارة إلى جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، ومقتضى التعبد الاستصحابي في الجميع جعل الحكم المماثل للحكم المشكوك فيه أو لحكم الموضوع المشكوك فيه.

(٢) سواء أكان الحكم تكليفياً بناءً على جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية ، أو وضعياً. وأما اعتبار كون المستصحب حكماً أو موضوعاً ذا حكم فلأن الاستصحاب من الأصول العملية التي هي وظائف شرعية للشاك في مقام العمل ، فإذا لم يكن المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً له فلا معنى للتعبد ببقائه.

(٣) أي : شك في بقاء الحكم المتيقن أو موضوعه.

__________________

المجازية فلاحتمال إرادة حكم الشارع بالبقاء ان كان معتبراً من باب الأخبار ، أو إرادة التزام العقلاء بالبقاء عملاً ، أو إرادة الظن بالبقاء بناءً على اعتباره من باب الظن. وحيث انه لا معيِّن لواحد من المعاني المجازية لتردد الإبقاء بين احتمالات ثلاثة ، فلا وجه لتعريف الاستصحاب بالإبقاء المفروض كونه مجملاً.

ثانيهما : أن الإبقاء بمعنى الحكم بالبقاء لا يلائم جميع المباني في الاستصحاب ، إذ بناءً على أخذه من الأخبار يصح تعريفه بالحكم بالبقاء ، وأما بناءً على حجيته من باب الظن فهو ظن خاص بالبقاء ، كما أنه بناءً على أخذه من بناء العقلاء فهو التزام العقلاء به في مقام العمل بلا حكم منهم.

ومنها : أن تعريفه بـ «إبقاء ما كان» فاقد لما يتقوم الاستصحاب به من اليقين السابق والشك اللاحق ، والاعتماد على شاهد الحال أو على الإشعار غير سديد ، لاقتضاء التعريف التصريح بهما ، لما تسالموا عليه من لزوم كون المعرِّف أجلى من المعرف.

ولو بُني على كفاية الإشعار للزم كون كلمة «ما كان» مستدركة ، للاستغناء عنها بلفظ الإبقاء المشعر بكون أصل الحدوث مفروغاً عنه. مع أن الشيخ (قده) أضاف كلمة «ما كان» ومن المعلوم أن عدم كفاية الإشعار يقتضي التصريح بركني الاستصحاب لا الإشارة إلى أحدهما وترك الآخر رأساً.

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومنها : أن تعليل الأخذ بالحالة السابقة في ظرف الشك بالكينونة السابقة غير وجيه ، لعدم التعويل في التعبد الاستصحابي على مجرد الكون السابق ، ضرورة أن حكم الشارع بالبقاء انما هو لحكمة موجبة لجعله ، فان تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد لا تختص بالأحكام الواقعية ، فالأحكام الظاهرية أيضا تنبعث عن ملاكات تقتضي جعلها ، فالداعي للحكم بالبقاء مصلحة تقتضيه لا مجرد اليقين بثبوت الشيء في زمان. بل وكذا الحال لو كان الدليل عليه بناء العقلاء ، إذ الموجب لهذا البناء كما يظهر من كلمات أكثرهم هو غلبة البقاء الموجبة للظن به ، لا مجرد الثبوت السابق.

وبعد هذه المناقشات قال المصنف : «ان الأولى أن يعرف الاستصحاب بأنه إلزام الشارع ببقاء ما لم يقم على بقائه دليل» (١).

ويمكن دفع بعض هذه المناقشات عن تعريف الشيخ الأعظم (قده) كما أن شيخنا المحقق العراقي (قده) تصدى لدفع بعضها. أما إشكال عدم جامعية التعريف للمباني المتشتتة فبأن «حقيقة الاستصحاب هو الحكم بالبقاء سواء أكان بإنشاء الشارع أم بإدراك العقل ، لاندراج الكل في عنوان الحكم.

وأما إشكال عدم وفاء الحد بما هو ركن المحدود أعني اليقين والشك ، فبأن الحكم بالبقاء لما كان لأجل الكينونة السابقة لا لشيء آخر ـ وهو يتوقف على الشك في البقاء ، إذ لا معنى للأخذ بالحالة السابقة تعبداً أو ظناً ما لم يشك فيه ـ يدل على ركني الاستصحاب أعني اليقين السابق والشك اللاحق» (٢).

لكنك خبير بما في كليهما ، إذ في الأول أنه لا جامع بين حكم الشارع الّذي هو من مقولة الفعل وبين إدراك العقل الّذي هو من مقولة الانفعال أو الكيف النفسانيّ ، لتباين المقولات وعدم جامع بينها.

وعليه فإطلاق الحكم عليها لا يكون إلّا بالاشتراك اللفظي الّذي لا سبيل لأخذه

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٧١

(٢) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٢.

١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في الحدود.

وفي الثاني : أن العمل باليقين السابق تعبداً وان لم يعقل لو لا عروض الشك ، إلّا أن هذا المقدار لا يدل على موضوعيته في الأصول العملية ، لوضوح أن الأمر كذلك في جميع الأمارات والطرق غير العلمية ، فانه لو لا الجهل بالواقع لا معنى للتعبد بخبر العدل والبينة ونحوهما ، مع أنه لم يؤخذ الشك فيها موضوعاً بل أخذ فيها مورداً كما تقرر في محله. وعليه فالتصريح بالشك في التعريف أولى من إهماله اتكالاً على الإشعار الّذي لا يكتفي به في الحدود.

هذا كله مضافاً إلى أن غرض الأصحاب تعريف الاستصحاب الّذي يعدّ من الأدلة ، ومقتضاه صلاحية المعرّف للاتصاف بالدليلية والحجية بحيث يصح حمل الحجة عليه بالحمل الشائع ، مع وضوح أن «إبقاء ما كان» بمعنى الحكم ببقائه مما لا يصح حمل الحجة عليه ، لتصريح الشيخ الأعظم (قده) في ردّ كلام السيد العلامة الطباطبائي القائل بأن «لا تنقض» دليل الاستصحاب ، وهو دليل الحكم الشرعي «بأن لا تنقض دليل الاستصحاب ، وليس هو دليلاً على شيء من الأحكام ، لكونه بنفسه حكماً كلياً مثل لا ضرر» ومن المعلوم أن هذا المعنى أجنبي عن دعوى الأصحاب لحجية الاستصحاب وعدِّهم له من الحجج. هذا ما يتعلق بتعريف الشيخ.

والظاهر أن هذا الإشكال يرد على كلا التعريفين اللذين ذكرهما المصنف في الحاشية والمتن ، ولكنه (قده) تخلص منه بجعل مفاد الحجة هنا الثبوت وإرجاع البحث إلى تحقق الصغرى كما هو الحال في حجية خبر الثقة ، فمعنى حجية الاستصحاب : ثبوت حكم الشارع ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم ، وإلّا فمع فرض تحققه لا مجال للنزاع في حجيته ، كما لا خلاف في حجية مفهوم الوصف واللقب ، إذ البحث فيهما صغروي ، فالقائل به انما يقول بانعقاد المفهوم وثبوته ،

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ولا حاجة إلى البحث عن حجيته ، لأن المفهوم كالمنطوق مما يعمه دليل اعتبار ظواهر الألفاظ ، فمعنى قولنا : «الاستصحاب حجة» ثبوت إلزام الشارع بالبقاء أو حكمه به ، ومعنى عدم حجيته عدم ثبوت هذا الجعل.

والظاهر صحة إطلاق الحجة على الاستصحاب وتوصيفه بها بإرادة المنجز والمعذّر منها كما هو حال غيره من الأصول العملية كقولنا : «البراءة حجة والاحتياط حجة» فان حمل الحجة عليهما بمعنى الوسطية في مقام الإثبات وإيصال الواقع عنواناً كما في خبر الثقة وان لم يكن صحيحاً لفقدهما جهة الكشف وإراءة الواقع ، إلّا أن المناط في أحدهما هو التسهيل بالترخيص في مخالفة الواقع أحياناً كما في البراءة ، وفي الآخر هو التضييق على المكلف وجعل الواقع المجهول على عهدته رعاية لأهمية ملاكه كما في إيجاب الاحتياط شرعاً في الموارد الثلاثة ، فانه حجة قاطعة لعذره الجهلي ، ولذا يصح الاحتجاج به من قبل المولى ، كما يصح الاحتجاج من العبد على المولى بإبداء العذر في مخالفة الإلزام الواقعي في غير موارد إيجاب الاحتياط اتكالاً على مثل حديث الرفع كما في الشبهة البدوية.

فكما يصح حمل الحجة على البراءة والاحتياط بالحمل الشائع فكذلك يصح حملها على الاستصحاب ، لعدم خروج مفاده عما يقتضيه الأصلان المتقدمان فان نتيجة استصحاب الحكم أو الموضوع ذي الحكم إما نفي التكليف ظاهراً وإما إثباته كذلك ، فيكون الاستصحاب وهو الإبقاء العملي حجة أي معذراً أو منجزاً عند الشارع.

وعلى هذا فما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) في المقام من «عدم صحة توصيف الاستصحاب بالحجية مطلقاً سواء أكان الحكم بالبقاء بمعنى إبقاء المكلف عملاً أم بمعنى إلزام الشارع بالبقاء ، أما على الأول فلعدم كون الإبقاء العملي دليلاً على شيء ولا حجة عليه. وأما على الثاني فلأن الإلزام الشرعي بالبقاء مدلول الدليل لا أنه دليل على نفسه ، سواء أكانت الحجية بمعنى الوسطية في مقام الإثبات كما

١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في حجية خبر الثقة أم بمعنى المنجزية والمعذرية. أما بمعنى الوسطية فلأن إنشاء الحكم المماثل كوجوب صلاة الجمعة لا معنى لكونه حجة على نفسه ولا على غيره ، فإلزام الشارع بالبقاء لا يتصف بالحجية بهذا المعنى ، وانما يتصف به مثل خبر الثقة الموصل للواقع عنواناً. وأما بمعنى المنجزية والمعذرية فلأن الحكم الظاهري لا ينجز نفسه ولا غيره بل يتنجز بدليل آخر ، فلا بد أن يكون في المقام أمر آخر هو المنجّز والمعذر غير الاستصحاب الّذي عرف بالإلزام الشرعي ، والقابل للبحث عن حجية ذلك الموصل لهذا الإلزام أو المنجزله لا نفسه»«١»

لا يخلو من تأمل ، فانه وان لم يصح توصيفه بالحجية بمعنى الوسطية في مقام الإثبات إلّا أنه لا مانع من حمل الحجية بمعنى الاعذار والتنجيز عليه كما عرفت ، وتنجز الحكم الظاهري كالواقعي انما هو بوصول دليله الدال عليه إلى المكلف من دون حاجة إلى دليل آخر كما يتضح ذلك بملاحظة أدلة البراءة والاحتياط ، فانها بوصولها إلى المكلف تنجز ما يستفاد منها من الأحكام الظاهرية.

نعم يرد على تعريف الاستصحاب بما أفاده المصنف في الحاشية والمتن إشكال عدم جامعيته لشتات المباني في المسألة مع أنه (قده) ذكره أيضا في جملة ما أورده على تعريف الشيخ الأعظم (قده) وبيانه : أن إلزام الشارع بالبقاء تأسيساً أو إمضاءً لما عليه العقلاء ينافيه تصريحه في الحاشية بعدم صحته ، لعدم مساعدة كلماتهم عليه ، فلا يتم التعريف الا بناءً على أخذه من الأخبار ، وأما بناءً على كونه حكماً عقلياً ظنياً فلا.

مضافاً إلى : أنه يختص بالشبهات الحكمية ، ولذا أضاف إليه في المتن قوله : أو موضوع ذي حكم.

وإلى : أن بقاء الحكم كأصل حدوثه فعل الشارع ، والإلزام انما يتعلق بفعل المكلف الّذي هو الإبقاء والجري العملي المقابل للنقض كذلك ، فيتعين حذف

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ ـ ٢.

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كلمة «الإلزام» أو تبديل «البقاء» بالإبقاء ليتطابق التعريف مع المعرف ، بأن يقال : الاستصحاب هو الإبقاء العملي للمتيقن لحكم الشارع ببقائه ظاهراً موضوعاً كان أو حكماً.

وأما قياس المقام بباب المفاهيم بإرجاع النزاع إلى صغرى حجية الظواهر ففيه : أنه مع الفارق ، لأن إثبات المفهوم للوصف ونحوه مساوق لحجيته ، لاندراجه في كبرى حجية الظاهر ، حيث ان اللفظ بدلالته الالتزامية يدل على المفهوم ويكون ظاهراً فيه. وهذا بخلاف المقام ، إذ لو تم دليل الاعتبار كان مفاده الإلزام الشرعي أو الحكم بالبقاء ، وهو بنفسه حكم شرعي كنجاسة الماء المتغير الزائل تغيره بنفسه ، لعدم كون استصحابها إثباتاً للحجة كما هو واضح.

فالمتحصل : أن تعريف الاستصحاب بما في الرسائل والمتن والحاشية بل وغيرها من كلمات المتأخرين لا يخلو من شيء ، ولو تم ما ادعاه المصنف من كون التعاريف لفظية لا يقصد بها تمييز المعرّف بكنهه وذاته فالأمر سهل.

وحيث إنه ظهر معناه إجمالاً فاعلم : أنه لمّا كان للاستصحاب قواعد مشابهة له ـ وهي قاعدة اليقين والمقتضي والمانع والاستصحاب القهقرائي ـ كان المناسب التعرض لها ولو بنحو الإيجاز ، وسيأتي الكلام حول القاعدة الأولى في مفاد بعض الأخبار المستدل به على الاستصحاب ، كما سيأتي التعرض لقاعدة الاقتضاء والمنع بعد الفراغ من دلالة أولى صحاح زرارة على الاستصحاب.

ولا بأس بالإشارة هنا إلى القاعدة الثالثة وهي التي تسمى بالاستصحاب القهقرائي تارة وبأصالة الثبات في اللغة أخرى وبأصالة عدم النقل ثالثة ، وهو من الأصول العقلائية ، وذلك عبارة عن شيء متيقن في الزمان المتأخر ومشكوك في الزمان المتقدم كالعلم يكون لفظ «البينة» مثلاً فعلاً حقيقة في شهادة رجلين عادلين والشك في كونها كذلك سابقاً ، وكلفظ «القلة» فانه يعلم بكونه فعلاً حقيقة فيما دون الكرّ ، ويشك في كونه كذلك في الزمان السابق. وهذا عكس الاستصحاب المصطلح ، حيث إنه يكون زمان المتيقن فيه متقدماً وزمان المشكوك

١٤

إما (١) من جهة بناء العقلاء

______________________________________________________

(١) غرض المصنف (قده) إثبات أن ما ذكره من تعريف الاستصحاب جامع لما يعتبر في التعريف ، وذلك لأنه يعتبر في تحديد ما يكون من الحجج الشرعية أمور :

الأول : التئام التعريف مع دليل الاعتبار.

الثاني : اشتمال التعريف على ما يكون دخيلاً في حقيقة المعرف ـ بالفتح ـ ومقوِّماً له ، إذ بدونه لا يكون التعريف وجهاً وشارحاً للمعرّف كما هو ظاهر.

الثالث : كون التعريف جامعاً للمباني والأقوال المختلفة حتى يكون مورد النفي والإثبات واحداً ، وإلّا كان النزاع فيه لفظياً كما سيتضح.

وما أفاده (قده) بقوله : «اما من جهة ...» بيان للأمر الأول ، وحاصله :

__________________

متأخراً ، فهو أجنبي عن الاستصحاب وان كان مشتملاً على اليقين والشك ، لكنه ليس من الشك في البقاء ، بل من الشك في الحدوث ، فأدلة الاستصحاب لا تشمله.

ولو سلم ذلك فانصراف أدلته عنه كافٍ في عدم شمولها له ، فاعتباره انما هو ببناء العقلاء ، لغلبة بقاء المعاني اللغوية والعرفية وعدم تغيرها بمرور الأزمنة ، وعدم الردع في أمثال هذا البناء كافٍ في الإمضاء.

وقد ظهر من أجنبية أدلة الاستصحاب عن هذا الأصل العقلائي أمور :

الأول : أن الاستصحاب القهقرائي أصل لفظي وليس أصلاً عملياً ، ويكون من قبيل أصالتي العموم والإطلاق وأصل عدم الاشتراك.

الثاني : حجيته في اللوازم والملزومات.

الثالث : أنه لا وجه لدعوى معارضته باستصحاب عدم هذا المعنى سابقاً حتى يسقط بها الاستصحاب القهقرائي عن الاعتبار ، وذلك لما مرّ من أنه أصل عقلائي حاكم على الاستصحاب المصطلح ، ولا يجري الأصل مع دليل حتى يعارضه. كما لا وجه لدعوى دلالة أخبار الاستصحاب على عدم اعتباره ، لما عرفت من أجنبية الاستصحاب القهقرائي عن مداليل تلك الأخبار.

١٥

على ذلك (١) في أحكامهم العرفية مطلقاً (٢) أو في الجملة (٣) تعبداً (٤) أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقاً ،

______________________________________________________

أن دليل اعتبار الاستصحاب ـ من بناء العقلاء على بقاء الحالة السابقة أو النص والإجماع الآتيين ، أو الإدراك العقلي الظني بالبقاء الحاصل من ملاحظة الحالة السابقة ـ منطبق على تعريف المتن ، لأن مفاد كل واحد منها هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه. وهذا بخلاف أكثر التعاريف ، لظهورها في استناد الإبقاء إلى خصوص الظن بالبقاء ، ومن المعلوم أن هذا لا يلتئم مع كون الاستصحاب أصلا عملياً مستنداً إلى الأخبار لا الظن ، هذا بيان الأمر الأول.

وأما الأمر الثاني فتوضيحه : أن اليقين السابق والشك اللاحق ركنان في الاستصحاب ، وقد لوحظ كل منهما في التعريف ، أما الشك في البقاء فللتصريح به ، وأما اليقين بالحدوث فلدلالة «بقاء حكم أو موضوع» عليه ، فالتعريف من هذه الجهة تام.

وأما الأمر الثالث فسيأتي.

(١) أي : على الحكم بالبقاء.

(٢) يعني : في جميع الموارد من الشك في المقتضي والرافع ، وكون المستصحب حكماً أو موضوعاً ، وكلياً أو جزئياً ، وغير ذلك من التفاصيل المتقدمة.

(٣) إشارة إلى اعتبار الاستصحاب ببناء العقلاء في بعض الموارد كالعمل به في الشك في الرافع أو رافعية الموجود خاصة.

(٤) يعني : ولو لم يحصل الظن الشخصي ولا النوعيّ ببقاء الحالة السابقة المتيقنة بأن كان بناؤهم رجاءً واحتياطاً. وعليه فكل من قوله : «تعبداً ، أو للظن به» قيد لبناء العقلاء ، يعني : أن بناءهم على إبقاء ما كان إما أن يكون للظن به وإما للتعبد ولو لم يحصل لهم ظن بالبقاء ، وعلى الثاني يندرج الاستصحاب في الأصول العملية ، وعلى الأول في الأمارات. وضميرا «ثبوته ، به» راجعان إلى الحكم المتيقن أو الموضوع ذي حكم.

١٦

وإما (١) من جهة دلالة النص أو دعوى الإجماع عليه كذلك (٢) حسبما يأتي الإشارة (٣) إلى ذلك مفصلاً.

ولا يخفى أن هذا المعنى (٤) هو القابل لأن يقع فيه النزاع

______________________________________________________

(١) معطوف على «إما من جهة» وسيأتي بيانهما عند التعرض للأدلة.

(٢) أي : على الحكم بالبقاء مطلقاً أو في الجملة.

(٣) الأولى تبديلها بـ «بيان» ونحوه ، إذ لا مناسبة بين الإشارة والتفصيل.

(٤) أي : الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم ، وهذا إشارة إلى الأمر الثالث مما يعتبر في التعريف ، وغرضه : أن المعنى الّذي يصح النزاع فيه بحيث يتحد مورد النفي والإثبات كما هو شأن غير الاستصحاب من المسائل الخلافية هو المعنى المذكور أعني كون الاستصحاب عبارة عن «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه» وتوضيح ما أفاده : أنه لا ريب في كون الاستصحاب من الأمور المبحوث عنها من زمان القدماء بل الأقدمين إلى عصرنا هذا ، فأثبته قوم ونفاه آخرون إما مطلقاً أو في الجملة كما عرفت في الإشارة إلى الأقوال ، ومن المعلوم أن اختلاف الأصحاب فيه معنوي ، لعدم استحقاق النزاع اللفظي للبحث والنّظر ، وفي المقام جهتان تقتضيان الالتزام بتعريف الاستصحاب بما في المتن ، دون غيره من التعاريف.

إحداهما : اقتضاء كون النزاع في أصل اعتبار الاستصحاب وعدمه معنوياً لتعريفه بما ذكر ، لتوارد النفي والإثبات حينئذ على مفهوم وحداني جامع للمباني المتشتتة في المسألة ، فالقائل بالاعتبار يدعي حجيته بالتحديد المذكور جامع للمباني ، المتشتتة في المسألة ، فالقائل بالاعتبار يدعى حجيته بالتحديد المذكور في المتن ، والنافي له ينكر نفس هذا المعنى ، وأن «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ...» غير ثابت ، لعدم الدليل عليه لا من الأخبار ولا العقل ولا سيرة العقلاء ، كما أن المفصِّل يقول بثبوت اعتباره في الشك في الرافع دون الشك في المقتضي ، والنزاع على هذا معنوي. بخلاف ما إذا عرّف الاستصحاب بأنه «التمسك بثبوت ما ثبت في وقت بعد ذلك الوقت» فانه عليه يكون نفس بناء العقلاء على الأخذ بما ثبت

١٧

والخلاف في نفيه وإثباته (١) مطلقاً (٢) أو في الجملة ، وفي (٣) وجه ثبوته [على أقوال] (٤) ، ضرورة أنه (٥) لو كان الاستصحاب

______________________________________________________

سابقاً ، ومن المعلوم صيرورة النزاع لفظياً حينئذ ، إذ المنكِر لهذه السيرة قد يقول باعتبار الاستصحاب لكونه حكماً لا نفس البناء العملي ، فلم يتوارد النفي والإثبات على أمر واحد حتى يكون النزاع معنوياً.

ثانيتهما : اقتضاء أدلة اعتبار الاستصحاب لتعريفه المتقدم ، وبيانه : أن القائلين بحجيته اختلفوا في الاستدلال عليها ، فمنهم من استدل عليها بالأخبار ، ومنهم من تمسك لها ببناء العقلاء ، ومنهم من تشبث بالعقل ، ومنهم من احتج عليها بالإجماع ، والمفهوم الجامع الّذي يمكن إثباته بكل واحد من هذه الأدلة هو كونه «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم» لصحة أن يقال : بثبوت الحكم بالبقاء بالنص أو بالعقل أو بسيرة العقلاء ، في قبال النافي المنكِر لدلالة النص وغيره عليه ، فيتحد مورد النفي والإثبات ، وهذا بخلاف تعريف الفاضل التوني الظاهر في كون الاستصحاب نفس البناء العقلائي بلا حكم في البين ، ومن المعلوم أن هذا البناء أجنبي عما إذا كان مفاد الأخبار الحكم بالبقاء ، فيصير النزاع حينئذ لفظياً.

(١) هذا الضمير وضميرا «فيه ، نفيه» راجعة إلى هذا المعنى.

(٢) هذا وما بعده إشارة إلى الأقوال في المسألة ، وقد تقدمت.

(٣) معطوف على «في نفيه» وهذا إشارة إلى الجهة الثانية المتقدمة بقولنا : ثانيتهما اقتضاء أدلة اعتبار الاستصحاب ... إلخ.

(٤) متعلق بـ «النزاع والخلاف».

(٥) الضمير للشأن ، وهذا تعليل لقوله : «هو القابل لأن يقع ...» يعني : أن الاستصحاب بناءً على كونه هو الحكم ببقاء حكم ... مجمع للأقوال المختلفة ، فنفس هذا الحكم بالبقاء ثابت عند بعض وغير ثابت عند آخر ، وهكذا.

وأما كونه مورداً لتقابل الأقوال من جهة الدليل فلما عرفته آنفاً من أنه إذا لم يكن الاستصحاب بمعنى «الحكم ببقاء حكم ...» لم تتقابل الأقوال فيه من ناحية دليل

١٨

هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به (١) الناشئ من العلم بثبوته لما (٢) تقابل فيه الأقوال ، ولما (٣) كان النفي والإثبات واردين على مورد واحد ، بل موردين (٤). وتعريفه (٥) بما ينطبق.

______________________________________________________

اعتباره ، إذ المثبِت للاستصحاب بمعنى الحكم بالبقاء غير المثبِت له بمعنى بناء العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة ، لمغايرة الحكم الشرعي بالبقاء لبناء العقلاء.

(١) أي : بالبقاء ، الناشئ هذا الظن من العلم بثبوت حكم أو موضوع ذي حكم.

(٢) جواب «لو كان» وضمير «بثبوته» راجع إلى «حكم أو موضوع ذي حكم».

(٣) معطوف على «لما تقابل» ومفسر له ، وقد تقدم بيانه.

(٤) مع أن النزاع في أمر يقتضي معلومية مورد النزاع ، وعليه فلا مناص من اختيار ما ذكره من التعريف دون سائر ما ذكروه.

(٥) أي : وتعريف الاستصحاب ، والمراد بالموصول في «بما ينطبق» تعريف الاستصحاب ، وغرضه من هذا الكلام الاعتذار عن بعض تعاريف الاستصحاب بعد إثبات كون تعريفه الصحيح الّذي يكون مجمعاً للأقوال المتشتتة هو ما تقدم بقوله : «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ... إلخ» فقوله : «وتعريفه بما ينطبق» إشارة إلى وهم ودفع ذكرهما في حاشية الرسائل أيضا في التعليق على تعريف الفاضل التوني للاستصحاب. أما الوهم فهو : أن تعريف الاستصحاب بأنه «التمسك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه» يوهم عدم كونه هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم ، بل الاستصحاب هو نفس البناء العملي على الحالة السابقة ، لظهور «التمسك بثبوته ...» في أن الاستصحاب نفس الاعتماد على ثبوته السابق في إبقائه عملاً ، مع عدم كون الاستصحاب نفس التمسك بثبوت ما ثبت ، بل ما به التمسك ، لأن الاستصحاب بناءً على حجيته من باب الظن ـ كما هو مبنى التعريف

١٩

على بعضها (١) وإن كان ربما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه (٢) ، إلّا أنه (٣) حيث لم يكن

______________________________________________________

المزبور ـ هو الظن بالبقاء أو الظن بالملازمة بين الثبوت والبقاء ، والمناسب له أن يقال : انه التمسك بما ثبت بمعنى إبقاء ما ثبت وعدم الانفكاك عنه عملاً.

وبعبارة أخرى : حيث ان المستصحِب ـ بالكسر ـ هو المكلف ففعله إبقاء ما ثبت تعويلاً على ثبوته في السابق ، وهذا الإبقاء هو الحكم بالبقاء الّذي أفاده الماتن ، وأما تعريفه بـ «التمسك بثبوت ما ثبت» فظاهر في جعل نفس الثبوت السابق حجة ودليلاً على ثبوته في اللاحق ، وهذا ليس هو الاستصحاب المصطلح ، فان كون الثبوت السابق أمارة على البقاء لا ربط له بفعل المكلف أعني إبقاء ما ثبت. هذا حاصل الوهم.

وأما الدفع فهو : أن منافاة تعريف الفاضل التوني لما في المتن من كونه «الحكم ببقاء حكم أو موضوع ...» مبنية على كون هذه التعريفات حقيقية أي مبيّنة لمطلب «ما» الحقيقية ، وأما بناءً على كونها تعريفات لفظية أي مبيّنة لمطلب «ما» الشارحة ـ كما هو كذلك ـ فلا يرد عليها إشكال أصلاً ، ضرورة كون مقصود الجميع الإشارة إلى ما هو المعلوم المرتكز عند الكل من الحكم بالبقاء ، وليست هذه التعاريف في مقام بيان حقيقة الاستصحاب حتى يكون اختلاف الحدود كاشفاً عن اختلاف ماهية المحدود.

(١) أي : بعض الأقوال دون جميعها ، لانطباق تعريف الفاضل التوني وغيره على استناد حجية الاستصحاب إلى الظن ، ومن المعلوم أن مثله أجنبي عن تعريفه بالحكم بالبقاء كما عرفت في تقريب الوهم.

(٢) أي : الوجه المذكور في التعريف من أنه نفس «التمسك بثبوت ما ثبت ... إلخ» أو «كون حكم أو وصف يقيني الحصول ...» لعدم كون الاستصحاب بناءً على هذين التعريفين هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم.

(٣) هذا إشارة إلى دفع التوهم ، وقد تقدم بقولنا : «وأما الدفع ...» وضمير

٢٠