منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

ثم إنّه (١) لا إشكال في الإفتاء بما اختاره من الخبرين في عمل نفسه وعمل مقلِّديه (٢)

ولا وجه (٣) للإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية ،

______________________________________________________

المقبولة وغيرها من أخبار الباب. وسيأتي الكلام في الآثار المترتبة على القول بالتخيير.

آثار القول بالتخيير بين الخبرين المتعارضين

(١) الضمير للشأن. وهذا شروع في الآثار المترتبة على التخيير ، لكن هذه الآثار لا تختص بمختار المصنف «قده» من التخيير المطلق ، بل تجري بناء على مختار غيره ممن يرجع إلى أخبار التخيير بعد تقييدها بمرجحية موافقة الكتاب ومخالفة العامة. وعليه فهذه الآثار أحكام القول بالتخيير سواء قيل به مطلقا أم بعد فقد المرجح.

وكيف كان فالأثر الأوّل هو : أن مقتضى حجية أحد الخبرين تخييرا جواز الإفتاء بما يختاره منهما ، إذ المفروض حجية أحدهما تخييرا ، فإذا اختار أحدهما وأفتى به كان حجة عليه وعلى مقلِّديه ، كالرواية التي هي حجة عليه تعيينا ، لعدم معارض لها مع اجتماع شرائط حجيتها ، فإذا اختار الرواية الدالة على وجوب جلسة الاستراحة وأفتى بوجوبها كان حجة عليه وعلى مقلِّديه ، وليس له بعد ذلك أن يختار الرواية الأخرى الدالة على عدم وجوبها.

(٢) هذا إشارة إلى الأثر الأوّل المتقدم بقولنا : «ان مقتضى حجية أحد الخبرين ... إلخ»

(٣) هذا إشارة إلى الأثر الثاني ، وحاصله : أنّه لا وجه لجواز الإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية كالتخيير بين حرمة شرب التتن وإباحته فيما إذا دلّ أحد الخبرين على حرمته والآخر على إباحته ، وذلك لأنّ الغالب في كل واقعة وحدة حكمها الواقعي تعيينا وندرة حكمها تخييرا كالتخيير بين القصر والإتمام في مواطن التخيير. ومع تعيُّن الحكم الواقعي يكون الإفتاء بالتخيير على خلافه ، وهو افتراء على الشارع ، فالحكم بالتخيير في المسألة الفرعية لا مسوِّغ له.

وعليه فمورد التخيير هو حجية الخبرين ، لأنّ السؤال ناظر إلى ذلك ، حيث إنّ التحيُّر

٢٠١

لعدم (١) الدليل عليه (٢) فيها (*).

نعم (٣) له الإفتاء به في المسألة الأصولية (**)

______________________________________________________

في الحجية نشأ عن تعارضهما ، إذ لولاه لكان كلاهما حجة ، فالجواب بقولهم عليهم‌السلام : «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» يراد به الأخذ بأيِّهما حجة وتسليما لأمر الشارع ، ومن المعلوم أن التخيير في الحجية تخيير في المسألة الأصولية ، وليس تخييرا بين مضموني الخبرين حتى يكون تخييرا في المسألة الفقهيّة كي يفتي المجتهد في مثال شرب التتن بالتخيير بين الحرمة والإباحة.

(١) تعليل لقوله : «ولا وجه» وأمّا عدم الدليل فلأن ظاهر الأخبار ـ كما مرّ ـ هو التخيير في الحجية التي هي مسألة أصولية ، ولا دليل غيرها على التخيير.

(٢) أي : على التخيير في المسألة الفرعية.

(٣) استدراك على عدم جواز الإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعية ، وإشارة إلى الأثر الثالث للقول بالتخيير ، وتوضيحه : أنه يجوز للمجتهد أن يفتي بالتخيير في المسألة الأصولية وهي حجية أحد الخبرين تخييرا ، ضرورة أن المستفاد من أدلة التخيير هو التخيير في المسألة الأصولية ، فلا مانع من الإفتاء بذلك ، فيجوز حينئذ للمقلِّد ـ بعد أن قلّد مجتهده في هذه المسألة الأصولية ـ أن يختار غير ما اختاره المجتهد من الخبرين المتعارضين ، فإذا

__________________

(*) بل يكون التخيير في المسألة الفرعية في بعض الموارد موجبا لسقوط كلا الخبرين المتعارضين عن الاعتبار مطلقا حتى في المدلول الالتزامي وهو نفي الثالث ، كما إذا دلّ أحد الخبرين على وجوب شيء والآخر على حرمته ، فإنّ التخيير في المسألة الفقهية يوجب إباحة ذلك الشيء ، وهذه الإباحة منفيّة بمقتضى دلالة الخبرين التزاما على نفيها ، فالخبران المتعارضان سقطا عن الحجية في كل من الدلالة المطابقية والالتزامية ، وهو ينافي الأخذ بأحدهما من باب التسليم.

(**) لكن لا بد من تقييده بغير باب القضاء ورفع الخصومات ، كما إذا تنازعا في إرث الزوجة ذات الولد من الأرض ، أو في مقدار الحبوة ، أو في خروج منجزات المريض من الأصل أو الثلث ، أو نحو ذلك من الشبهات الحكمية ، مع فرض اختلاف الروايات فيها ، فإنّ الإفتاء بالتخيير في المسألة الأصولية لا يحسم الخصومة ولا يرفعها ، بل لا بد من الأخذ بإحدى الروايتين تعيينا والإفتاء بمضمونها.

٢٠٢

فلا بأس حينئذ (١) باختيار المقلِّد غير ما اختاره المفتي ، فيعمل (٢) بما يفهم منه (٣) بصريحه أو بظهوره (٤) الّذي لا شبهة فيه (٥).

______________________________________________________

اختار المجتهد الخبر الدالّ على إباحة شرب التتن مثلا جاز للمقلِّد أن يختار الخبر الدال على حرمته. نظير إجراء الاستصحاب في الموضوعات بعد أن قلّد مجتهده في حجيته فيها ، ولا دليل على لزوم متابعة المقلِّد للمجتهد فيما اختاره بعد فرض متابعته في نفس الحكم بالتخيير في المسألة الأصولية.

(١) أي : حين جواز الإفتاء بالتخيير في المسألة الأصولية ، و «غير» مفعول «باختيار» ولا فرق في الحكم الّذي دلّ عليه الخبران من الأحكام المبتلى بها للمجتهد كأحكام الصلاة والصوم ، ومن غيرها كالأحكام المختصة بالنساء.

(٢) هذه نتيجة حجية الخبر بإفتاء المفتي بها وجواز اختيار المقلِّد لها ، فإنّ حجية الخبر ـ أي الحكم بصدوره في حقه ـ كحجيته في حق نفس المفتي تقتضي اعتبار معنى ألفاظ الخبر إن كان نصّا أو ظاهرا بمثابة لا يعتد باحتمال خلافه عند أبناء المحاورة ، فلا يكون في فهم معنى الرواية تابعا للمجتهد مثلا ، بل هو كسائر أبناء المحاورة في فهم المعاني من الألفاظ.

(٣) الضمير راجع إلى «ما اختاره» أي : ما اختاره المقلِّد لا المفتي. والأولى إلحاق ضمير بالصِّلة ، بأن يقال : «فيعمل بما يفهمه منه» وصدر الصلة محذوف.

(٤) هذا الضمير وضمير «بصريحه» ـ المراد به النص ـ راجعان إلى «ما» الموصول المقصود به المعنى ، يعني : فيعمل المقلِّد بالمعنى الّذي يفهمه الصراحة أو الظهور من غير الخبر الّذي اختاره المفتي. والأولى تبديل «بصريحه» بـ «بصراحته» مصدرا كمعطوفه وهو «بظهوره» كما لا يخفى.

(٥) أي : في الظهور الّذي لا يحتاج إلى النّظر والتأمل. وهذا احتراز عن الظهور الّذي يحتاج إلى ذلك ، كما إذا لم يكن اللفظ الدال على الحكم ـ كالجملة الاسمية أو الفعلية الخبرية ـ صريحا أو ظاهرا معتدّا به في الحكم. وكذا اللفظ الدال على موضوع الحكم كالغناء والصعيد والآنية من ألفاظ الموضوعات المستنبطة ، فانه في استظهار معانيها لا بدّ من مراجعة المجتهد ، لعجزه عن إثبات الظهور بدون الرجوع إليه ، مع وضوح إناطة حجية

٢٠٣

وهل التخيير (١) بدوي أم استمراري؟ قضية الاستصحاب (٢) لو لم نقل بأنه (٣) قضية الإطلاقات

______________________________________________________

الكلام بظهوره في المعنى وعدم إجماله.

التخيير بين الخبرين بدوي أو استمراري

(١) هذا إشارة إلى الأثر الرابع من آثار التخيير ، وتوضيحه : أن التخيير مطلقا أو في خصوص المتكافئين ـ على الخلاف ـ هل هو بدويّ بمعنى أنه إذا اختار أحد الخبرين في زمان لم يكن له الأخذ بالآخر في زمانٍ آخر؟ أم استمراري ، فيجوز أن يختار أحدهما في زمانٍ والآخر في زمان آخر ، فيه وجوه :

أحدها : كونه بدويّا مطلقا ، وهو الظاهر من كلام الشيخ الأعظم الأنصاري كما سيأتي تفصيله.

ثانيها : كونه استمراريا كذلك ، كما هو ظاهر جماعة منهم المصنف «قدّس سره».

ثالثها : كونه بدويّا إلّا مع قصد الاستمرار ، فقصد الاستمرار دخيل في كون التخيير استمراريا.

رابعها : كونه استمراريا إلّا إذا قصد بدويّته.

(٢) استدلّ المصنف وغيره على كون التخيير استمراريا مطلقا بوجهين : أحدهما الاستصحاب ، والآخر إطلاقات أدلة التخيير. والوجه الأوّل مبنيّ على الإغماض عن الوجه الثاني. ومحصل تقريب الاستصحاب : أن التخيير الثابت في الزمان الأوّل يصير بعد الأخذ بأحد الخبرين مشكوكا فيه ، لاحتمال كون الأخذ بأحدهما رافعا للتخيير ، كغيره من موارد الشك في رافعيّة الموجود ، فيستصحب التخيير وجواز الأخذ بالخبر الآخر في الزمان الثاني والثالث وهكذا.

(٣) أي : بأن التخيير الاستمراري ، وهذا إشارة إلى الوجه الثاني وهو إطلاقات التخيير ، ومحصله : أنّ مقتضى إطلاق أدلة التخيير بحسب الزمان وعدم تقيده بزمان خاص هو استمرار التخيير ، وعدم اختصاصه بالزمان الأوّل ، فإنّ إطلاق دليل حجية أحد الخبرين تخييرا يقتضي استمرار حجيته كذلك.

٢٠٤

أيضا (١) كونه استمراريا. وتوهم (٢) «أن التحير كان محكوما بالتخيير ، ولا تحيُّر له بعد الاختيار (٣) ، فلا يكون الإطلاق ولا الاستصحاب مقتضيا للاستمرار ، لاختلاف (٤) الموضوع فيهما (٥)» فاسد (٦) ، فإنّ التحيُّر بمعنى

______________________________________________________

(١) يعني : كما أن التخيير مقتضى الاستصحاب. و «كونه» خبر «قضية» وضميره راجع إلى «التخيير» ، وبالجملة : فمقتضى الاستصحاب بل الإطلاقات كون التخيير استمراريا.

(٢) هذا إشارة إلى المناقشة في كل من الإطلاقات والاستصحاب ، والمناقش هو الشيخ الأعظم «قده» قال : «ولو حكم على طبق إحدى الأمارتين في واقعة فهل له الحكم على طبق الأخرى في واقعة أخرى؟ المحكيّ عن العلامة رحمه‌الله وغيره الجواز ، بل حكي نسبته إلى المحققين» إلى أن قال : «أقول : يشكل الجواز ، لعدم الدليل عليه ، لأنّ دليل التخيير إن كان الأخبار الدالة عليه ، فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيِّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيِّر بعد الالتزام بأحدهما ... والأصل عدم حجية الآخر بعد الالتزام بأحدهما كما تقرر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد إلى مثله».

ومحصل إشكال الشيخ يرجع إلى اختلاف الموضوع قبل الأخذ وبعده ، توضيحه : أنّ موضوع التخيير هو المتحيِّر الّذي يرتفع بالأخذ بأحد الخبرين ، ومن المعلوم إناطة الحكم مطلقا ـ تكليفيا كان أم وضعيا ـ بالموضوع إناطة المعلول بالعلة ، فمع انتفاء الموضوع ـ وهو التحيُّر ـ بسبب الأخذ بأحد الخبرين لا يبقى إطلاق ولا استصحاب حتى يصح الاستدلال بأحدهما على استمرار التخيير ، فلا دليل حينئذ على حجية الخبر الآخر مع كون الأصل عدم حجية مشكوك الحجية.

(٣) يعني : فلا يبقى موضوع للإطلاق والاستصحاب بعد اختيار أحد الخبرين.

(٤) تعليل لعدم اقتضاء الإطلاق والاستصحاب للاستمرار ، وقد مرّ آنفا توضيح التعليل بقولنا : «ومحصل إشكال الشيخ يرجع إلى اختلاف الموضوع قبل الأخذ وبعده ...».

(٥) أي : في الإطلاق والاستصحاب.

(٦) خبر «وتوهم» ودفع له ، وحاصله : بقاء موضوع التخيير حتى بعد الأخذ بأحد

٢٠٥

تعارض الخبرين باق على حاله ، وبمعنى آخر (١) لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير أصلا كما لا يخفى (*).

______________________________________________________

الخبرين ، فلا مانع من الحكم باستمرار التخيير تمسُّكا بالإطلاق أو الاستصحاب ، توضيحه : أنّ موضوع التخيير ـ وهو التحيُّر بمعنى تعارض الخبرين ـ باق على حاله حتى بعد الأخذ بأحد الخبرين ، لأنّ الأخذ بأحدهما لا يرفع التعارض والتنافي القائم بهما ، فلم يختلف موضوع التخيير قبل الأخذ بأحدهما وبعده حتى يتوجه المنع عن التمسك بإطلاقات التخيير أو استصحابه.

(١) يعني : وإن أريد بالتحيُّر معنى آخر كالتحير في الحكم الواقعي ، ففيه أوّلا : أنّه لم يُؤخذ موضوعا للتخيير في شيء من الأدلة. وثانيا : أنّه ـ بعد تسليمه ـ باق أيضا بعد الأخذ بأحد الخبرين ، ضرورة أنه لا يكون كاشفا قطعيا عن الحكم الواقعي حتى يرتفع به التحيُّر ، ويمتنع التشبث بالإطلاق أو الاستصحاب.

__________________

(*) أقول : الظاهر كون التخيير في المسألة الأصولية بدويا كما أفاده الشيخ ، لا استمراريا كما اختاره المصنف ، وذلك لأنّ تعلق الأمر بطبيعة ظاهر في مطلوبية صرف وجودها ، إذ المطلوب في الأمر بحسب الظاهر هو طرد العدم ونقضه بالوجود ، ومن المعلوم تحقق هذا المطلوب بصرف الوجود من الطبيعة ، ولذا يحصل به الامتثال ، ومطلوبية سائر وجودات الطبيعة محتاجة ثبوتا وإثباتا إلى مئونة زائدة ، حيث إن الأمر بالطبيعة سقط بالامتثال ، لانطباق الطبيعة المأمور بها على أوّل وجوداتها قهرا الموجب للامتثال عقلا.

وعليه فالأمر بالأخذ بأحد الخبرين تخييرا يسقط بمجرد الأخذ بأحدهما ، والتخيير الثاني والثالث وهكذا يحتاج إلى أوامر أخر غير الأمر الأوّل ، إذ المفروض سقوطه بالأخذ الأوّل. ولعل كلام الشيخ «قده» في وجه عدم استمرار التخيير يرجع إلى ما ذكرنا ، وإلّا فلا بد من التأمل والنّظر فيه.

والحاصل : أن بقاء موضوع التخيير ـ وهو من تعارض عنده الخبران ـ حتى بعد الأخذ بأحدهما لا يوجب استمرار التخيير ، بعد اقتضاء الأمر مطلوبية صرف الوجود من الطبيعة المأمور بها ، وهو صالح للمنع عن تحقق الإطلاق الموقوف على عدم ما يصلح للقرينية. وقد تقدم في مسألة الدوران بين المحذورين بعض الكلام حول بدوية التخيير واستمراريته ، فراجع (ج ٥ ، ص ٥٨٣).

٢٠٦

فصل (١)

هل على القول بالترجيح يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة

______________________________________________________

الاقتصار على المرجحات المنصوصة والتعدي عنها

(١) الغرض من عقد هذا الفصل التعرض لما هو محل الخلاف بين الأعلام من أنه بناء على القول بلزوم الترجيح وتقييد إطلاقات التخيير بأخبار المرجحات هل يقتصر في الترجيح على المرجحات المنصوصة ، وفي غيرها يرجع إلى إطلاقات التخيير؟ أم يتعدّى إلى كل مرجِّح وإن لم يكن من تلك المرجحات ، فتقيّد إطلاقات التخيير بكل مزية. نسب الأوّل إلى أصحابنا المحدثين وبعض الأصوليين ، والثاني إلى جمهور الأصوليين ومنهم شيخنا الأعظم وبعض أجلة تلامذته كالمحققين الميرزا الآشتياني والميرزا الرشتي ، وممّن اقتصر على الترجيح بالمرجحات المنصوصة من المحدثين صاحب الحدائق كما سيأتي.

ولا يخفى أنّه لا موضوع للبحث عن التعدي عن المرجحات المنصوصة بناء على إنكار أصل وجوب الترجيح كما هو مختار الماتن وغيره كالسيد الصدر ، فالتعرض لهذا البحث لأجل إثبات قصور أدلة الترجيح عن إفادة التعدي إلى كل مزية ، وأنه لو قيل بوجوب الترجيح فاللازم الاقتصار على المرجحات المنصوصة.

ثم إنّه يمكن إثبات التعدي بكلّ من الدليل الاجتهادي والأصل العملي إذا انتهى الأمر إليه ، لكن المقصود فعلا هو الاستدلال على التعدي بالدليل الاجتهادي الّذي اختاره الشيخ الأعظم «قده» ولذا استدلال عليه بوجوه ترجع إلى أخبار الترجيح.

٢٠٧

المنصوصة (١) أو يتعدى إلى غيرها؟ قيل بالتعدي (٢) ، لما (٣) في الترجيح

______________________________________________________

الأوّل : أصدقية الراوي في المقبولة وأوثقيته في المرفوعة ، بتقريب : أن في كل منهما جهتين : إحداهما : النفسيّة ، ثانيتهما : الكشف والإراءة وجعل مرجحيتهما من الجهة الأولى أو الثانية وإن كان محتملا ، ويكون الترجيح بهما بناء على الجهة الأولى تعبديّا محضا ، وبناء على الجهة الثانية ارتكازيا ، لكون الأصدقية والأوثقية موجبتين للأقربية إلى الواقع التي هي ملاك حجية الطرق غير العلمية.

لكن الظاهر بحسب الإطلاق هو جعل الترجيح بهما من الجهة الثانية ، فيكون المناط حينئذ في الترجيح كل ما يوجب القرب إلى الواقع وإن لم يكن من المرجحات المنصوصة كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى.

(١) المرجحات المنصوصة في أخبار العلاج هي الأصدقية والأورعية والأوثقية والأفقهية والأعدلية كما وردت في المقبولة والمرفوعة ، وكذا الترجيح بالشهرة وبموافقة الكتاب والسنة وبمخالفة العامة كما في المقبولة ، وبموافقة الاحتياط كما في المرفوعة. والمرجحات غير المنصوصة كثيرة ، منها أضبطية راوي أحد الخبرين من الآخر كما حكي عن الشيخ الترجيح بها ، ومنها قلة الوسائط وهي علوّ السند ، ومنها نقل أحد الخبرين بلفظ الإمام عليه‌السلام والآخر بالمعنى. ومنها كون لفظ أحد الخبرين فصيحا والآخر ركيكا بعيدا عن الاستعمال ، ومنها تأكد دلالة أحدهما بحرف التأكيد والقسم ونحوهما دون الآخر ، ومنها اعتضاد أحدهما بدليل دون الآخر ، ومنها غير ذلك.

(٢) القائل هو الشيخ الأعظم ، ونسبه إلى جمهور المجتهدين. وأما المحدثون فقد اقتصروا على المرجحات المنصوصة ، ولذا قال المحدث البحراني «قده» في مقدمات الحدائق : «أنّه قد ذكر علماء الأصول من الترجيحات في هذا المقام ما لا يرجع أكثرها إلى محصول ، والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات» (١).

(٣) تعليل للقول بالتعدي. وهذا إشارة إلى أوّل الوجوه التي استدلّ بها على التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها ، وقد أوضحناه بقولنا : «الأوّل : أصدقية الراوي في المقبولة وأوثقيته في المرفوعة ... إلخ» وقد تعرض الشيخ لهذا الوجه بقوله : «منها الترجيح

__________________

(١) الحدائق الناضرة ، ١ ـ ٩٠ ، المقدمة السادسة.

٢٠٨

بمثل (١) الأصدقية والأوثقية ونحوهما مما (٢) فيه

______________________________________________________

بالأصدقية في المقبولة وبالأوثقية في المرفوعة ، فإن اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّا لترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين من حيث إنه أقرب من غير مدخلية خصوصية سبب ، وليستا كالأعدلية والأفقهية تحتملان لاعتبار الأقربية الحاصلة من السبب الخاصّ ... إلخ» فالتعبير «بمثل الأصدقية ... إلخ» للإشارة إلى عدم خصوصية للأصدقية ، بل كل مزيّة فيها جهة كشف وإراءة تصلح للمرجحية ، لكونها موجبة للأقربية إلى الواقع ، والأقوائية مناط حجية الخبر وهو الكشف.

وبعبارة أخرى : المرجحات المذكورة في المقبولة والمرفوعة للراوي هي الأوثقية والأصدقية والأعدلية والأورعية والأفقهية. وليس التعدي من المرجحات المنصوصة إلى كل مزية مقرِّبة إلى الواقع مستندا إلى الأفقهية والأعدلية ، وذلك لأنه كما يحتمل موضوعية العدالة والفقاهة في حجية الخبر كذلك يحتمل موضوعية الأعدلية والأفقهية في مقام الترجيح ، فيكونان مرجِّحين تعبديين ، لا من حيث أقربية إخبار الأعدل إلى الواقع من إخبار العادل. وإنّما يستند التعدي إلى الترجيح بالأوثقية والأصدقية ، وذلك لأن ملكة الصدق والوثاقة في الأوثق والأصدق تكون أشد مما في الثقة والصادق ، وعليه يكون خبرهما أقرب إلى الواقع ، فيتعدى منهما إلى كل مزية توجب القرب إليه.

(١) لا توجد كلمة «بمثل ونحوهما» في عبارة شيخنا الأعظم ، فإنه «قده» اعتمد على وصفي الأصدقية والأوثقية في التعدي عن المرجحات المنصوصة ، وليس هناك وصف آخر حتى يعبر عنه بـ «مثل». ولعلّ المصنف ألحق الأفقهية بالأصدقية والأوثقية ، بأن يكون الترجيح بكثرة الفقاهة من جهة دخلها في نقل ألفاظ الرواية بالمعنى ، لجواز هذا النقل قطعا ، وحينئذ يكون أخذ الأفقهية لأجل دخلها في النقل بالمعنى ، لا لمجرد اطّلاعه على ما هو أجنبي عن مورد الرواية حتى تكون مرجحا تعبديا.

(٢) كلمة «من» في «مما» بيان لـ «ونحوهما» والمراد بـ «ما» الموصول المرجحات ، و «فيه» ظرف مستقر متعلق بأحد أفعال العموم مثل «يكون» ، وضميره راجع إلى الموصول ، وأصل العبارة هكذا : «ونحوهما من المرجحات التي يكون فيها الكشف» فسقط لفظ «الكشف أو الإحراز مثلا» عن العبارة ، يعني : أن في الأصدقية والأوثقية

٢٠٩

من (١) الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها (٢) موجبة للأقربية إلى الواقع (٣) (*).

______________________________________________________

ونحوهما من الأمور ـ التي فيها كشف وإراءة ـ دلالة على أن المناط في الترجيح بالمرجحات هو كونها موجبة للأقربية إلى الواقع.

(١) بيان لـ «ما» الموصول في «لما في الترجيح» وتقريب للاستدلال بالأصدقية والأوثقية ونحوهما ، وليس بيانا للموصول في «مما».

(٢) هذا الضمير وضمير «بها» راجعان إلى «الأصدقية والأوثقية ونحوهما».

(٣) المعبّر عنها في القوانين في قانون الترجيح بـ «ما هو أقرب إلى الحق النّفس الأمري ، لا ما هو أقرب بالصدور عن المعصوم عليه‌السلام ... إلخ» وقد نسب اعتبار الأقربية إلى الواقع نوعا إلى المشهور ، والمراد بالأقربية كون احتمال مخالفة الخبر الواجد لمرجح للواقع أقل من احتمال مخالفة الخبر الفاقد له للواقع ، هذا.

__________________

(*) بنى شيخنا الأعظم التعدي عن المرجحات المنصوصة على أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ ، فقال : «فلا بد للتعدي من المرجحات الخاصة المنصوصة من أحد أمرين ، إمّا أن يستنبط من النصوص ولو بمعونة الفتاوى وجوب العمل بكل مزية توجب أقربيّة ذيها إلى الواقع ، وإما أن يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاص بصورة التكافؤ من جميع الوجوه. والحق أن تدقيق النّظر في أخبار الترجيح يقتضي الالتزام الأول ، كما أن التأمل الصادق في أخبار التخيير يقتضي الالتزام الثاني ...» ثم أخذ في الوجوه الثلاثة ـ المذكورة في المتن ـ المستفادة من الأخبار.

لكن يمكن أن يقال : بمنع كلا الأمرين. أما استنباط وجوب العمل بكل مزية من أخبار الترجيح فموقوف على قرينة تدل على عدم خصوصية للمرجِّحات المنصوصة. وهذه القرينة إن كانت هي التلويحات الواردة فيها فسيأتي من المصنف مناقشتها. وأما قوله : «ولو بمعونة الفتاوى» فلا يخلو من مسامحة ، إذ ليست الشهرة الفتوائية جابرة لضعف دلالة أخبار الترجيح على فرض قصورها عن إثبات التعدي إلى كل مزية.

وأما اختصاص إطلاقات التخيير بالمتكافئين من جميع الوجوه فغير ظاهر ، لما عرفت في الفصل المتقدم من أن بعض تلك الأخبار صدر لبيان وظيفة المتحير الّذي جاءه الخبران

٢١٠

ولما (١) في التعليل «بأن المشهور مما لا ريب فيه»

______________________________________________________

(١) معطوف على «لما» في قوله : «لما في الترجيح» وإشارة إلى ثاني الوجوه التي استدل بها الشيخ على التعدي إلى المرجحات غير المنصوصة ، وهو تعليل الأخذ بالخبر المشهور في مقبولة ابن حنظلة بقوله عليه‌السلام : «فان المجمع عليه لا ريب فيه» بتقريب : أن تعليل الترجيح في الخبر المشهور بعدم الريب فيه ظاهر في نفي الريب عنه بقول مطلق ومن جميع الجهات. لكن هذا الظاهر غير مراد هنا قطعا ، لقرائن مسلّمة.

منها : عدم إفادة الشهرة الروائيّة للقطع بالصدور والدلالة والجهة ، بل المقتضي لحصول هذا القطع هو الشهرة الروائيّة والفتوائية معا ، والمفروض في المقبولة شهرة الرواية خاصة ، لقوله : «مشهوران مأثوران قد رواهما الثقات».

ومنها : أن السائل سأل عن حكم تعارض الخبرين ، ولو كان أحدهما قطعيا من جميع الجهات وكان الآخر موهونا كذلك لما كان مجال لفرض التعارض بينهما ، ولا للسؤال عن حكم الخبرين المشهورين ، فلا بد أن يكون الريب المنفي إضافيا لا حقيقيا ، إذ يتجه السؤال حينئذ عما هو أقرب إلى الواقع ، ويكون الريب فيه أقلّ من الآخر.

ومنها : أن الإمام عليه‌السلام بعد تعليل الأخذ بالمشهور بـ «أن المجمع عليه لا ريب فيه» استند إلى خبر التثليث ، وظاهره إدراج الخبر الشاذ ـ المقابل للمشهور ـ في الشبهة ، لا في بيِّن الغيّ والحرام البيِّن ، فإن المكلف مجبول على عدم الأخذ بما كان هذا شأنه. وعليه يصير الخبر المشهور مما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره ، لا قطعيا من جميع الجهات.

ومنها : أن الإمام عليه‌السلام حكم بترجيح أحد الحكمين بصفات الحاكم من الأصدقية ونحوها ، وتقديم خبر الأصدق إنّما هو من جهة أقربيته إلى الواقع ، فتقوّى أصالة الصدور في الخبر ، لكون راويه أصدق من راوي الخبر الآخر ، وبعد التكافؤ في الصفات رجح

__________________

المتعارضان ، بلا استفصال عن تكافئهما وتفاضلهما ، فاستظهار اختصاصها بالمتعادلين دعوى عهدتها على مدّعيها. بل لا وجه لحملها على المتكافئين من ناحية المرجحات المنصوصة خاصة أيضا كما التزم به المحقق الآشتياني (١) «قده» فان تقييد تلك الإطلاقات بدليل خارجي أمر واستظهار الاختصاص بصورة التكافؤ أمرٌ آخر.

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٤ ـ ٤٨

٢١١

من (١) استظهار أن العلة (٢) هو عدم الريب فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه ألف ريب (*).

ولما (٣) في التعليل بأنّ الرشد في خلافهم.

______________________________________________________

الإمام عليه‌السلام الخبر المشهور على غيره ، ومقتضى الترتيب تقديم خبر الأصدق ـ ولو لم يكن مشهورا ـ على الخبر المشهور الّذي رواه الصادق. ولو كان الخبر المشهور قطعيا من جميع الجهات لما صح جعل الأصدقية موجبة لأقربية الخبر المخالف للمشهور.

ولمّا تعذر الأخذ بظاهر التعليل في نفي الريب عن الخبر المشهور من جميع الجهات ـ بما تقدم من القرائن ـ فلا بد من الأخذ بما هو أقرب إلى المعنى الحقيقي ، وهو أن يكون الريب في أحدهما أقل من الآخر بعد اشتراكهما في أصل الريب ، وأنّ الريب المنفي في الخبر المشهور هو خصوص الريب الموجود في الخبر الشاذ. ومحصل التعليل حينئذ : أن المدار في حجية أحد الخبرين المتعارضين هو قلة احتمال المخالفة للواقع فيه ، وأقربية احتمال مطابقته له من احتمال مطابقة الآخر له ، فيتعدى حينئذ من الشهرة إلى كل مزية توجب أقربية ذيها إلى الواقع من الخبر الفاقد لتلك المزية.

(١) بيان لـ «ما» الموصول في قوله : «ولما في التعليل».

(٢) أي : العلة في ترجيح المشهور على الخبر الشاذ هو عدم الريب الإضافي دون الحقيقي ، فليس كل ريب منفيا عن الخبر المشهور ، بل المنفي عنه هو الريب الموجود في الشاذ. وضمير «فيه» في كلا الموضعين راجع إلى «المشهور».

(٣) معطوف على «لما في الترجيح» وإشارة إلى الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها على التعدّي ، وهو تعليلهم عليهم‌السلام في جملة من الروايات لتقديم الخبر المخالف للعامة بـ «أن الحق والرشد في خلافهم» ومحصل تقريب الاستدلال به : أنّ المراد بكون الرشد في خلافهم إمّا من جهة كون الحق في مخالفتهم دائما ، وإمّا من جهة كونه في

__________________

(*) كما عن الشيخ «قده» ولعل الداعي له إلى جعل الريب إضافيا حتى يصح التعدي منه إلى كل ما يكون كذلك هو : أن نفي الريب مطلقا صدورا ودلالة وجهة ممتنع هنا ، لعدم تعقل فرض الشهرة في الخبرين ، مع أنه مفروض في المقبولة والمرفوعة.

٢١٢

ولا يخفى (١) ما في الاستدلال بها. أما الأوّل (٢) فلأنّ [فإن (*)] جعل

______________________________________________________

مخالفتهم غالبا كما أشار إليه الشيخ «قده» بقوله : «فان هذه كلها قضايا غالبية لا دائمية». والأوّل باطل جزما كما هو واضح ، لموافقة جملة من أحكامهم للواقع ، ولذا لمّا كان هذا التعليل نظريا لا بديهيا بيّن عليه‌السلام وجهه في رواية الأرجاني المتقدمة في الفصل السابق من أن مبنى دينهم على مخالفة أمير المؤمنين «عليه أفضل صلوات المصلين» فيما يسألونه منه عليه‌السلام وجعل ضد له من عند أنفسهم ، ولذلك تكون مخالفتهم أمارة نوعية على الحق ، كما أن موافقتهم أمارة نوعية على الباطل.

وعليه فبعد بطلان الاحتمال الأوّل ، فالمتعيّن هو الثاني ، فمرجع التعليل حينئذ إلى : أن مخالفة العامة مرجحة ، لكونها أقرب إلى الواقع غالبا ، فكل شيء يوجب هذه الأقربية يكون مرجحا وإن كان غير مخالفة العامة.

(١) هذا شروع في ردّ الوجوه المذكورة التي استدل بها على التعدي عن المرجحات المنصوصة ، وضمير «بها» راجع إلى الوجوه المستفادة من العبارة.

(٢) أي : الوجه الأوّل الّذي تعرض له المصنف بقوله : «لما في الترجيح بمثل الأصدقية ... إلخ» ومحصل ما أفاده في ردِّه يرجع إلى أمرين ، أحدهما : أن الاستدلال المزبور على التعدي مبني على ظهور جعل الحجية أو المرجِّحية ـ لشيء فيه جهة كشف وإراءة ـ في كون تمام ملاك هذا الجعل هو حيثية الكشف والطريقية حتى يصح التعدي عنه إلى كل ما فيه هذه الحيثية. وهذا الظهور في حيِّز المنع ، لاحتمال دخل خصوصية ذلك

__________________

لكنه ليس كذلك ، إذ المراد بنفي الريب مطلقا نفيه من حيث الصدور ، لأنّه الأثر المترتب على الشهرة من حيث الرواية. وأمّا النفي بقول مطلق ـ ومن جميع الجهات الثلاث ـ فهو أثر شهرة الخبر رواية وفتوى ، وهذا غير الشهرة من حيث الرواية فقط ، فإنّ شهرة الخبرين حينئذ لا مانع منها. كما أنّه لا مانع من دعوى نفي الريب حقيقة من ناحية الصدور ، والتعدي إلى كل ما يوجب نفي الريب صدورا.

(*) كما في أكثر النسخ حتى النسخة المطبوعة على النسخة الأصلية المخطوطة. لكن الأولى أن يكون «فلأنّ» ـ كما في حاشية العلامة الرشتي «قده» ـ ولأن يكون مطابقا لقرينة في قوله : «أما الثاني فلتوقفه ، أما الثالث فلاحتمال».

٢١٣

خصوص شيء فيه (١) جهة الإراءة والطريقية حجة أو مرجحا لا دلالة فيه على أن الملاك فيه بتمامه (٢) جهة إراءته ، بل لا إشعار (٣) فيه كما لا يخفى ، لاحتمال (٤) (*) دخل خصوصيّته

______________________________________________________

الشيء في الجعل ، لا جهة الإراءة ، ولا دافع لهذا الاحتمال ، فاستناد التعدي إلى هذا الوجه غير صحيح ، وإلّا جاز التعدي إلى حجية كل ما يفيد الظن كالشهرة والأولوية ، وهو كما ترى.

وببيان آخر : لا ريب في أنّ جهة الإراءة والكشف محفوظة في أصدقية المخبر وأوثقيته ، لكن احتمال دخل صنف خاص من المرجح لا دافع له ، فكما أن جعل الحجية لخبر الثقة لا يوجب التعدّي إلى حجيّة كلِّ ما يوجب الظن أو الوثوق كالشهرة الفتوائية ، وليس ذلك إلّا لاحتمال خصوصية في خبر الثقة ، فكذا جعل المرجحية لخصوص الأصدقية لا يوجب التعدي إلى كل ما يوجب الأقربية إلى الواقع كالأضبطية وعلوِّ السند ، خصوصا بملاحظة أن الترجيح يكون بالصدق المخبري لا الخبري ، إذ لم يعلّق الحكم على كل ما هو أوصل إلى الواقع وأطبق عليه حتى يجيء احتمال التعدي إلى كل ما يوجب القرب إليه ، بل علِّق على كون أحد الراويين أصدق من الآخر ، لمداقّته بحسب اعتقاده في نقله ، وحينئذ لا وجه للتعدي إلى كل مزية تقرِّب إلى الواقع.

(١) أي : في الشيء ، وقوله : «فيه جهة» صفة لـ «شيء» وقوله : «لا دلالة» خبر «فان جعل».

(٢) أي : بتمام الملاك ، وضمير «فيه» في «لا دلالة فيه ، الملاك فيه ، لا إشعار فيه» راجع إلى «جعل» ، وضمير «إراءته» إلى «شيء».

(٣) إضراب على قوله : «لا دلالة» يعني : لا دلالة بل ولا إشعار ـ في جعل شيء مرجِّحا أو حجة ـ على كون ملاك الجعل هو كشفه وطريقيته حتى يتعدى إلى كل كاشف وطريق.

(٤) الظاهر أنّه علّة لعدم الإشعار ، يعني : أنّ احتمال دخل خصوصية المورد كالأصدقية وغيرها مانعٌ عن إشعار جعل المرجحية بكون تمام الملاك في جعلها هو الكشف.

__________________

(*) هذا التعليل لا يلائم عدم الإشعار بل يلائم الإشعار. نعم ذلك يناسب عدم الدلالة ، حيث إن

٢١٤

في مرجِّحيته (١) أو حجيته (٢). لا سيّما (٣) قد ذكر

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضميرا «خصوصيته ، حجيته» راجعة إلى «شيء».

(٢) لا يخفى أنّ عبارته من «جعل خصوص شيء فيه جهة الإراءة» إلى هنا كانت راجعة إلى الأمر الأوّل الّذي تقدم تفصيله بقولنا : «أحدهما ان الاستدلال المزبور ... إلخ».

(٣) هذا إشارة إلى الأمر الثاني الّذي أفاده في ردِّ الوجه الأوّل على التعدي ، وحاصله : أنه ـ بعد تسليم الظهور ـ لا بدّ من رفع اليد عنه ، لاحتفافه بما يمنعه عن الحجية.

توضيحه : أنّ الترجيح بالصفات الثلاث ـ وهي الأورعية والأفقهية والأعدلية المذكورة مع الأصدقية والأوثقية ـ تعبدي ، وليس لأجل الكشف والطريقية ، وذلك لاشتراك العدالة والأعدلية والورع والأورعية في عدم الداعي إلى تعمُّد الكذب ، وفي احتمال الخطاء والنسيان ، فالترجيح بالأعدلية والأورعية ليس لأجل الكشف بل للتعبد.

نعم لو أريد بالأورعية خصوص التورُّع في القول ـ خصوصا فيما يتعلق بنقل الرواية ـ كانت كالأصدقية في كونها مقرِّبة للخبر إلى الواقع ، لكن هذا الاحتمال يندفع بإطلاق «أورعهما» الظاهر في اعتبار الأورعية في جميع أفعاله وأقواله ، لا خصوص ما يتعلق بنقل الخبر ، ويكون مرجِّحيتها حينئذ متمحضة في التعبد.

وكذلك الأفقهية التي هي أشدية استنباط الحكم واستخراجه من الأدلّة ، فإنّها لا تلازم

__________________

قوة احتمال دخل خصوصية المورد تمنع الظهور العرفي ، ولا تمنع الإشعار. فالأولى تعليل عدم الإشعار بعدم تكفل الدليل إلّا لجعل الحكم على موضوعه. وأما ملاك الجعل فبيانه أجنبي عن الجعل وشأن الجاعل ، لأنّه خارج عن حيطة التشريع ، وبيانه إخبار عن أمر خارجي أجنبي عن التشريع.

وعليه فليس مدلول الخطاب إلّا إنشاء الحكم لموضوعه من دون دلالة له على ملاكه ولا إشعار به ، وفهم الملاك أحيانا بأفهامنا القاصرة لوجوه استحسانية يكون من العلة المستنبطة التي لا عبرة بها ، لخروجها عن المدلول العرفي للخطاب.

إلّا أن يقال : إنّ إنشاء الحكم لموضوعه غير مانع عن الإشعار الّذي هو أجنبي عن الظهور العرفي المعتبر عند أبناء المحاورة ، فإنكار الإشعار مكابرة ، فالأولى منع حجيته ، لا إنكار أصله الّذي وجوده كعدمه في عدم الاعتبار.

٢١٥

فيها (١) ما لا يحتمل الترجيح به إلّا تعبُّدا ، فافهم (٢).

______________________________________________________

الصدق ، إذ ربما يكون غير الأفقه أصدق منه في كلامه ، لموافقته للمشهور أو لمن هو أفقه من هذا الأفقه من الفقهاء الماضين ، فالترجيح بالأفقهية أيضا تعبد. ووحدة السياق تقتضي كون الترجيح بالأصدقية والأوثقية أيضا تعبديّا ، فلا يصلح أن يكون وجها للتعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها مما يوجب الأقربية إلى الواقع.

فإن قلت : هذا الإشكال الثاني غير وارد على كلام الشيخ ، لأنه «قده» قسّم الترجيح بصفات الراوي إلى قسمين ، فمنها ما يكون تعبديا كالأورعية ، ومنها ما يكون مقرِّبا إلى الواقع ، والتعدي عن المرجحات المنصوصة يستند إلى القسم الثاني لا الأوّل ، وعليه فلا وجه للإيراد عليه بأن بعض المرجحات متمحّض في التعبدية.

قلت : الظاهر ورود الإشكال على كلام الشيخ ، فإنّ المرجحات وإن كانت على قسمين ، والتعدي مستند إلى ما يكون مقرِّبا إلى الواقع ، إلّا أنّ المصنف «قده» يدّعي احتفاف مثل «الأصدقية» بالأورعية التي لا يحتمل فيها إلّا التعبد ، وهذا الاحتفاف يوجب إرادة الترجيح التعبدي في الأصدقية والأوثقية أيضا ، ويسقط ظهور الكلام في كون تمام مناط الترجيح بهما الأقربية إلى الواقع. ولا دافع لهذا الاحتمال ، إذ لا بد من استقرار الظهور في كون المناط هو الأقربية حتى يتعدى منهما إلى سائر المرجِّحات.

(١) أي : في المرجحات ، وضمير «به» راجع إلى «ما» الموصول المراد به المرجح. يعني : قد ذكر في المرجحات التي لا يحتمل الترجيح بها إلّا تعبُّدا ، وهذا صالح لأن يكون قرينة على إرادة الترجيح التعبدي في الأصدقية والأوثقية أيضا.

(٢) لعلّه إشارة إلى مخدوشية الرد الثاني المذكور بقوله : «لا سيما ... إلخ» ومحصله : أنّ دعوى كون الترجيح بالأورعية والأعدلية والأفقهية تعبديّا لا تخلو من منع ، لقوّة احتمال كون الترجيح بها بملاك الأقربية إلى الواقع ، ضرورة أن الأورع ـ لبذل غاية جهده في إحراز الواقع ـ يحصل له الوثوق والاطمئنان بصدق ما ينقله ومطابقته للواقع أكثر من الوثوق الحاصل للورع. وكذا الأفقه ، فإنّ أكثريّة تتبعه وممارسته ـ في مقدمات استنباط الحكم واستخراجه من الأدلّة ـ من تتبع الفقيه وممارسته توجب الاطمئنان الكامل بمطابقة رأيه للواقع. وكذا الأعدل ، فإنّ المرتبة العليا من مراتب العدالة توجب الفحص التام الموجب

٢١٦

وأما الثاني (١) فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما

______________________________________________________

لوثوق بالصدق لا يحصل ذلك الوثوق للعادل.

وبالجملة : فحمل الترجيح بهذه الصفات الثلاث على التعبد دون الكشف والطريقية ـ حتى يكون مانعا عن صحة التمسك بالأصدقية والأوثقية على التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة ـ يكون بلا موجب.

(١) أي : الوجه الثاني من وجوه التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة ، وهو الّذي تعرض له بقوله : «ولما في التعليل بأن المشهور مما لا ريب فيه ... إلخ» ، توضيح رده : أنّه يرد عليه أوّلا : أن الاستدلال المزبور لإثبات التعدِّي إلى المرجحات غير المنصوصة مبنيٌّ على إرادة الريب الإضافي من قوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بأن يراد بالريب المنفي في الخبر المشهور الريب الموجود في الخبر الشاذ حتى يصح الاستدلال به على مرجحية كل ما يوجب قلّة الريب في الرواية. مع أنّ الأمر ليس كذلك ، لأنّ الشهرة في الصدر الأوّل كانت بمعناها اللغوي وهو الظهور ، دون معناها المصطلح عند المتأخرين ، وذلك لأن اهتمام الرّواة بإكثار ضبط رواية في أصولهم وبذل الجهد في ذلك كان موجبا للوثوق والقطع العادي بصدور تلك الرواية ، بحيث صح نفي الريب بنحو الاستغراق العرفي عنها ، ويقال : «إنّها مما لا ريب فيه» وهذا يوجب التعدي إلى كل ما يوجد الوثوق بالصدور ، لا إلى كلّ ما يوجب الأقربية إلى الواقع كما هو المطلوب. فلو سلِّم التعدي إلى المرجحات غير المنصوصة كان مورده المرجح الصدوري ، وهو أجنبي عن المدعى.

وبعبارة أخرى : لا يدور الأمر في قوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بين نفي الريب حقيقة ـ أي بقول مطلق ـ وبين نفيه بالإضافة إلى خبر آخر فيه ريب أكثر حتى يكون تعذر إرادة المعنى الأوّل قرينة معيِّنة للثاني. والوجه في عدم الدوران : أن الغرض من الترجيح بالشهرة هو تقديم أحد الخبرين المتعارضين بالمرجِّح الصدوري ـ أي من ناحية سنده ـ على الخبر الآخر ، فمعنى قوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» أن الخبر المشهور لا ريب فيه من جهة صدوره فقط ، لكون الشهرة بمعناها اللغوي وهو الظهور ، فالخبر المشهور يصير مما لا ريب فيه من ناحية صدوره عن الإمام عليه‌السلام ،

٢١٧

لا ريب فيها ، مع (١) أنّ الشهرة في الصدر الأوّل بين الرّواة وأصحاب الأئمة

______________________________________________________

ولكن هذا الاشتهار لا يوجب قطعيّة دلالة الخبر وجهته حتى يصير الخبر مما لا ريب فيه بقول مطلق ومن جميع الجهات ، فإنّ القطع بالدلالة والجهة لا يحصل بمجرد شهرة الرواية ، بل لا بد من الشهرة العملية أيضا ، كما تقدم بيانه في الفصل السابق. والمفروض في المقبولة والمرفوعة شهرة الرواية خاصة بلا تكفل لحيثية الدلالة ، ويتجه حينئذ تعارض خبرين مشهورين كما ادعاه عمر بن حنظلة بقوله : «كلاهما مأثوران مشهوران». ومن المعلوم أنه لا منافاة بين القطع بصدور خبرين وبين تنافيهما مدلولا ، لكونهما ظاهرين ، ولم يقطع بصدورهما معا لبيان الحكم الواقعي ، فهما قطعيان سندا وظنيان دلالة وجهة.

والحاصل : أن المراد بالريب المنفي هو ما يتعلق بحيثية الصدور فقط ، ولا مانع من إرادة عدم الريب الحقيقي العرفي في الخبر المشهور بلحاظ القطع بصدوره ، ولا مجال للحمل على نفي الريب الإضافي حتى يتعدى به إلى كل مزية توجب الأقربية.

وثانيا : أن الشهرة في الصدر الأوّل لمّا كانت موجبة للقطع بالصدور كانت مميِّزة للحجة عن غيرها ، لا مرجحة لحجّة على مثلها ، فتخرج الشهرة عن المرجحية وتندرج في مميِّزات الحجة عن اللاحجة. وهذا خلاف المفروض وهو كون الشهرة من مرجحات الخبرين المتعارضين الواجدين لشرائط الحجية لو لا التعارض.

فصار المتحصّل أوّلا : أنّ إرادة الريب الإضافي خلاف الظاهر الّذي لا موجب لارتكابه ، خصوصا مع قرينية الشهرة على إرادة الحقيقي منه.

وثانيا : أن نفي الريب مطلقا يوجب التعدّي عن الشهرة إلى كل ما يوجب العلم أو الاطمئنان بالصدور ، لا الأقربية إلى الواقع كما هو المدّعى.

وثالثا : أنّ عدّ الشهرة بمعناها اللغوي من مرجحات الخبرين المتعارضين مسامحة ، بل لا بدّ أن يُعدّ من مميِّزات الحجة عن اللاحجة.

(١) هذا تمهيد لإثبات إمكان إرادة نفي الريب مطلقا ، لا الريب الإضافي الّذي هو مبنى الاستدلال على التعدي ، وحاصله : أن شرط الاستدلال عليه ـ وهو كون الريب المنفي في الخبر المشهور إضافيا ـ مفقود ، لأنّ الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيه مطلقا ـ

٢١٨

عليهم‌السلام موجبة لكون الرواية مما يطمأنّ بصدورها بحيث يصح أن يقال عرفا : «انها مما لا ريب فيها» (١) كما لا يخفى ، ولا بأس (٢) بالتعدي منه إلى مثله (٣) مما يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور ، لا إلى (٤) كل مزيّة ولو لم توجب إلّا أقربية ذي المزية إلى الواقع من المعارض (٥) الفاقد لها.

______________________________________________________

كما هو ظاهره ـ لما أفاده من «أن الشهرة في الصدور الأوّل بين الرواية ... إلخ» والمفروض أنّ الاستدلال به مبنيّ على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيه. وعليه فلا وجه للتمسك به على التعدي ، لكون شهرة الرواية حينئذ من مميزات الحجة عن اللاحجة.

(١) يعني : بنحو الاستغراق العرفي ، وضميرا «بصدورها ، أنّها» راجعان إلى الرواية ، وضمير «فيها» راجع إلى الروايات المستفادة من العبارة ، وتأنيثه باعتبار الروايات المرادة من الموصول في «ممّا».

(٢) هذا إشارة إلى : أنّ التعدّي من الشهرة الموجبة للاطمئنان بالصدور وإن كان صحيحا ، لكنه لا يجدي في إثبات المدعى وهو التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها مما يوجب أقربيّة مضمون أحد الخبرين إلى الواقع ، فجواز التعدّي عن الشهرة إلى غيرها مما يوجب أرجحية الصدور لا يثبت المدّعى ، وهو جواز التعدي إلى كل ما يوجب الأقربية إلى الواقع كما لا يخفى. وقد مرّ آنفا توضيحه بقولنا : «وهذا يوجب التعدي إلى كل ما يوجد الوثوق بالصدور ... إلخ».

(٣) هذا الضمير وضمير «منه» راجعان إلى «الشهرة» وكان الأولى تأنيث الضميرين ، إلّا أن يراد «الاشتهار» من الشهرة ، والأمر في التذكير والتأنيث بعد وضوح المطلب سهل.

(٤) معطوف على «إلى مثله» غرضه : أنّ التعدي الثابت غير مفيد ، والتعدّي المفيد غير ثابت ، لما مرّ من أن التعدي المفيد هو التعدي إلى ما يوجب الأقربية إلى الواقع ، وهو غير ثابت ، والتعدي الثابت هو التعدي إلى ما يوجب الاطمئنان بالصدور ، وذلك غير مفيد.

(٥) متعلق بـ «أقربية» وكذا «إلى الواقع» وضمير «لها» راجع إلى «المزية».

٢١٩

وأما الثالث (١) فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة ،

______________________________________________________

(١) أي : ثالث الوجوه التي استدل بها على التعدّي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها ، وهو ما أشار إليه المصنف بقوله : «ولما في التعليل بأن الرشد في خلافهم».

توضيح ردِّ المصنف له : أنه يحتمل في التعليل بكون الرشد في خلافهم عدة وجوه :

أحدها : أن تكون مخالفتهم معنى اسميّا ، بأن يقال : إن نفس المخالفة ـ لكونها إرغاما لأنفهم ـ مطلوبة مع الغضِّ عن غلبة إيصالها إلى الواقع ، فهو نظير الأمر الوارد بمخالفة اليهود والنصارى من مثل «انّ اليهود والنصارى لا يصبغون» في الدلالة على أن مخالفتهم أمر مرغوب فيه في نفسه. ومن المعلوم أنّه على هذا الوجه لا يصحّ الاستدلال المزبور ، لعدم لحاظ كشف المخالفة حينئذ عن مطابقة الخبر المخالف لهم للواقع ، بل في نفس مخالفتهم مصلحة أقوى من مصلحة الواقع ، فلو كان قولهم مطابقا للواقع كانت مصلحة مخالفتهم مقدّمة على مصلحة الواقع.

ثانيها : أنه بعد تسليم كون مخالفتهم أمارة غالبيّة على أن الحق في خلافهم كما في المرفوعة ـ وعدم دلالة التعليل على مطلوبيّة نفس مخالفتهم من جهة ظهور هذا التعبير في الطريقية لا النفسيّة ـ لا يصلح التعليل للاستدلال المزبور أيضا ، لأنّ هذه المخالفة توجب الاطمئنان بوجود خلل في الخبر الموافق لهم ، إمّا في صدوره ، وإمّا في جهته. ولا مانع من التعدِّي إلى مثل المخالفة من كل مزيّة توجب الاطمئنان بوجود خلل في الخبر الفاقد لتلك المزيّة ، لا إلى كلِّ مرجِّح ولو لم يوجب إلّا الأقربية إلى الواقع من الخبر المعارض له ، فتكون مخالفة العامة حينئذ كشهرة الرواية بين الرُّواة من مميِّزات الحجة عن اللاحجة ، لا من مرجِّحات إحدى الحجتين على الأخرى التي هي محل البحث.

ثالثها : أنّه بناء على كون التعليل «بأنّ الرُّشد في خلافهم» ناظرا إلى صدور الخبر الموافق للعامة تقيّة ، فمع الوثوق بصدور الخبرين معا يحصل الاطمئنان لا محالة بصدور الخبر الموافق تقيّة ، وبهذا الوثوق يخرج عن موضوع دليل الحجية ، فتكون مخالفة العامّة ـ على هذا الفرض ـ من مميِّزات الحجة عن اللاحجة ، فلا يصح الاستدلال بالتعليل المزبور على التعدّي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها ممّا يوجب الأقربية إلى الواقع ، لأنّ الكلام في ترجيح أحد الخبرين المتعارضين مترتب على اجتماع شرائط الحجية من

٢٢٠