منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الامتنان مفقود ، لحصول التخيير تكوينا بين الفعل والترك ، فلا منة في جعل التخيير الحاصل من إجراء البراءة في كل من الوجوب والحرمة.

ثانيهما : أن مثل حديث الرفع انما يجري في مورد للتوسعة على المكلف بحيث لو لا جريانه فيه كان في ضيق الاحتياط المتمّم لقصور محركية الخطاب الواقعي ، ومع تعذر الاحتياط وامتناعه هنا لا يبقى موضوع للرفع.

أقول : أما حديث الامتنان فقد عرفت في إيرادات قاعدة الحل أن في جعل الترخيص الشرعي كمال المنة على العبد. ولا دليل على ترتب ثمرة عملية بالخصوص على جريان الأصل النافي للتكليف.

وأما إشكاله الثاني فيرد عليه ما أورده على شيخه الميرزا (قدهما) ضرورة أن مفاد حديث الرفع ليس جمعيا ، بل يجري مرّة في الوجوب المشكوك فيه ، وأخرى في الحرمة المحتملة ، وقد اعترف (قده) بعدم تبعية الرفع للوضع في كلامه المتقدم ، فكيف منع من جريان البراءة هنا؟ إذ عدم قدرة الشارع على وضع الاحتياط مرتين لا يستلزم عدم قدرته على رفعهما ، فهو نظير قدرته على أحد الضدين مع عجزه عن كليهما.

وأما الاستصحاب ، فقد التزم المصنف (قده) بجريانه في المقام ، وقد نبه عليه في حاشية على الكتاب في بحث الموافقة الالتزامية ، والظاهر أنه كذلك ، لتمامية أركانه. وقد يستشكل عليه تارة ثبوتا بما أفاده المحقق النائيني (قده) وأخرى إثباتا بما في رسائل شيخنا الأعظم ، وثالثة بعدم ترتب أثر عملي عليه.

أما الأوّل ، فحاصله : دعوى قصور المجعول في الاستصحاب ثبوتا عن شموله لكلا طرفي العلم نظرا إلى مضادة جعل إحرازين تعبديين في الطرفين

٥٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، لقيام الاستصحاب مقام القطع في الجهة الثالثة وهي الاعتقاد ، قال مقرر بحثه الشريف في ضمن كلامه : «وان شئت قلت : ان البناء على مؤدى الاستصحابين ينافي الموافقة الالتزامية فان التدين والتصديق بأن لله تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميا إما الوجوب أو الحرمة لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب والحرمة واقعا» (١).

وأما الثاني وهو إشكال مناقضة الصدر والذيل ، فقد تقدم توضيحه في بحث الموافقة الالتزامية ، فراجع.

وأما الثالث ، فتقريبه : أن التعبد الاستصحابي لا بد أن يكون بلحاظ الأثر الشرعي ، ومع حكم العقل بعدم الحرج في كل من الفعل والترك لا يبقى أثر عملي لنفي كل واحد من المحتملين بالأصل.

أقول : أما الإشكال الأول فتماميته موقوفة على كون مفاد دليل الاستصحاب جعل المحرز التعبدي كما هو الحال في التعبد بخبر الثقة بناء على تتميم الكشف ، إذ حينئذ لا يجتمع إحرازان تعبديان مع العلم بانقلاب الحالة السابقة في أحدهما ، وعلى هذا بنينا على عدم جريانه في الدوران بين المحذورين كما تقدم في بحث الموافقة الالتزامية. إلّا أنه ممنوع ، ضرورة أن مفاد قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» أو «لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» ليس البناء القلبي على بقاء المتيقن والموافقة الالتزامية له حتى يتوجه ما ذكر من منافاة الإبقاءين التعبديين للعلم بالخلاف ، بل مفاده البناء العملي على بقاء المتيقن ، وعدم الالتفات إلى الشك وإعدامه في وعاء التشريع ، ومن المعلوم أن التعبد ببقاء

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٣ ص ١٦٤

٥٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المتيقن بهذا المقدار في كل واحد من الطرفين لا ينافي العلم الوجداني بالانتقاض في أحدهما. وعليه فما ذكرناه في الجزء الرابع لا يخلو عن تأمل ، بل منع.

وأما الإشكال الثاني ، فقد تقدم الجواب عنه هناك ، وأنه ـ مضافا إلى عدم اشتمال بعض الأخبار على الذيل ـ مختص باليقين التفصيليّ بمقتضى الانصراف كما في تقرير بحث شيخنا المحقق العراقي (قده).

وأما الإشكال الثالث فقد تقدم الجواب عنه أيضا ، وأنه مع اقتضاء الاستصحاب لعدم فعلية كل من المحتملين لا تصل النوبة إلى حكم العقل بنفي الحرج في الفعل والترك ، فان حكمه في أمثال المقام تعليقي.

وقد تحصل : أنه لا مانع من جريان الاستصحاب فيما دار أمره بين الوجوب والحرمة. نعم يختص ذلك بالشبهات الموضوعية دون الحكمية ، وذلك لما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى من عدم جريان استصحاب عدم الجعل ، إذ لا شك في انتقاض عدم كل حكم بعد الشرع ولو بمثله.

هذا كله مع وحدة الواقعة ، وأما مع تعددها ، فيتفرع على القول بالتخيير عقلا أو شرعا أقوال ثلاثة : التخيير البدوي مطلقا والاستمراري كذلك ، والتفصيل بين ما لو بنى على استمرار ما اختاره ثم بدا له العدول فهو استمراري ، وبين القصد إلى العدول من أوّل الأمر فبدوي ، وقد وجّهه المصنف في حاشية الرسائل بأنه لو لم يكن بانيا على ما اختاره أوّلا ولم يبال بالعدول عنه لم يكن مباليا بمخالفة الواقع تدريجا ، فهو قاصد للمعصية في واقعتين ، والعقل لا يتفاوت عنده في حكمه بقبح المعصية بين الدفعي والتدريجي ، وهذا بخلاف ما لو بنى على ما اختاره ثم بدا له العدول ، فان المخالفة التدريجية وان تحققت ، إلّا أنه لا قبح

٥٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فيها لعدم القصد إليها. ثم رده بالنقض بجواز عدول المقلد مع بنائه عليه من أوّل الأمر. وبالحل بما إذا كان الخطاب منجزا ، ولا تنجز له في المقام.

فالعمدة النّظر في أدلة القولين الأوّل والثاني. ولم يتعرض المصنف في الكتاب لهذا البحث حتى يظهر نظره الشريف وان أمكن أن ينسب إليه التخيير الاستمراري من كلام له في حاشية الرسائل.

وأما شيخنا الأعظم (قده) ففصّل بين ما لو كان منشأ الدوران تعارض الخبرين فاختار فيه البدوي أخيرا بعد أن ذكر الاستمراري استنادا إلى إطلاق ما دل على التخيير ، ثم استشكل فيه بأن ظاهر موضوع الاخبار الدالة عليه هو المتحير ولا تحير مع الأخذ بأحدهما ، وبين ما لو كان المنشأ غير تعارض الخبرين فحكم بالاستمراري ، لأن الحاكم به هو العقل ولا إهمال في حكمه.

وأورد المصنف في بحث التعادل والترجيح من الكتاب وفي حاشيته على الرسائل هنا على كلامه الأوّل بأن موضوع أخبار التخيير هو من جاءه الخبران المتعارضان ، فان أريد بالمتحير هو هذا فلا شك في بقائه بعد الأخذ بأحدهما أيضا ، ومقتضاه الحكم بالتخيير الاستمراري. لبقاء التحير في الحكم الواقعي على حاله. وان أريد به فاقد الطريق فهو وان لم يصدق على من عمل بأحد الخبرين ، إلّا أنه لم يؤخذ بهذا العنوان موضوعا لقوله عليه‌السلام : «اذن فتخيّر» ونحوه.

وأورد على كلامه الثاني بأن معنى عدم إهمال حكم العقل هو : أنه إذا أحرز مناط حكمه حكم به وإذا لم يحرزه لم يحكم به ، لا أنه لا يتحير في بقاء ما هو ملاك حكمه ، فانه قد يحكم للعلم بموضوع حكمه ، كما أنه قد يحكم

٥٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

به من باب القدر المتيقن ، نظير حكمه بقبح الكذب الضار بالنفس المحترمة وعدم حكمه به عند عدم ترتب ضرر عليه ، وليس ذلك إلّا لأن حكم العقل انما هو من باب القدر المتيقن ، لاجتماع خصوصيات في موضوع ، ومع انتفاء بعضها يشك في بقاء ما هو المناط ، فينتفي حكمه قطعا ، وعليه فالعقل وان استقل بالتخيير في الواقعة الأولى ، إلّا أنه يمكن أن يتحير في بقاء الملاك ولا يحكم بشيء حينئذ وان لم يكن مجال للاستصحاب (١).

ويمكن الجواب عن الأول بأن موضوع أخبار التخيير وان كان «من جاءه الخبران» لكن الملحوظ لبّا هو المتحير ولو بمناسبة الحكم والموضوع ، إذ من المحتمل قويا أن تكون الأخبار مسوقة لبيان وظيفة المتحير في الحكم الواقعي لأجل تعارض الخبرين الموجب للحيرة في مقام العمل ، وغرض السائل علاج حيرته. ولو لم يكن هذا ظاهر الأخبار فلا أقل من صلاحيته للقرينية ، ومعه لا يبقى إطلاق في دليل التخيير بين الخبرين ، بل يصير الموضوع مجملا دائرا بين ما هو مقطوع البقاء وما هو معلوم الارتفاع ، فلا يجري استصحاب التخيير.

وعن الثاني بأن ما أورده على الشيخ الأعظم (قده) من عدم انحصار الحكم العقلي بما إذا كان موضوع حكمه معلوما بالتفصيل كما أفاده المصنف في مباحث الاستصحاب وان كان في غاية المتانة كما سنتعرض له في محله إن شاء الله تعالى لجواز حكمه بحسن شيء أو قبحه من جهة اشتماله على حيثيات وجهات لا يمكنه الإحاطة بما هو ملاك ذلك ، إلّا أنه يحكم بالحسن عند اجتماع الخصوصيات ومع فقد بعضها يشك في موضوع حكمه فلا حكم له قطعا حينئذ. لكن هذا

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٤١

٥٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الإشكال أجنبي عن مقصود شيخنا الأعظم ، لأنه مع التزامه (قده) بإناطة حكم العقل بما كان الملاك مبينا ومفصلا حكم هنا بالتخيير الاستمراري ، لدعوى أن موضوع حكم العقل بالتخيير في الواقعة الأولى باق مع تمام خصوصياته في الوقائع المتأخرة ، ولا زال العقل قاطعا بالتخيير ، إذ لو كان مناط حكمه قبح الترجيح بلا مرجح لم يفرق في ذلك بين الحدوث والبقاء ، وما أفاده المصنف من تطرق الإهمال في حكم العقل أيضا مبني على كون حكمه من باب القدر المتيقن الّذي عرفت أنه لا عين ولا أثر له في كلام الشيخ (قده).

واستدل للتخيير الاستمراري ـ مضافا إلى ما أفاده الشيخ الأعظم من حكم العقل بالاستمرار ـ بإطلاق أدلة التخيير بناء على تنقيح المناط ، وباستصحاب التخيير.

وكلاهما ممنوع. أما الأوّل فبما عرفت آنفا. وأما الثاني فبما أفاده الشيخ من عدم المجال له ، لعدم الإهمال في حكم العقل. كما لا مجال له ان كان لاستصحاب التخيير الظاهري ، لعدم إحراز بقاء الموضوع.

أقول : لا مجال لاستصحاب التخيير العقلي حتى مع الغض عما ذكره من عدم إحراز بقاء موضوعه ، وذلك لفقد شرط جريانه وهو كون المستصحب بنفسه حكما شرعيا أو موضوعا له ، والمفروض أنه حكم عقلي ليس مجرى للتعبد الاستصحابي ، فتعليل عدم الجريان بهذا أولى مما أفاده الشيخ.

واستدل للتخيير البدوي بقاعدة الاحتياط واستصحاب الحكم المختار واستلزام جواز العدول للمخالفة القطعية. ومنع شيخنا الأعظم (قده) الأوّل لعدم الموضوع وهو الشك ، إذ الحاكم بالتخيير هو العقل الّذي لا يتحير في حكمه.

٥٨٦

وقد عرفت أنه (١)

______________________________________________________

(١) الضمير للشأن ، يعني : قد عرفت في الأمر الخامس من مباحث القطع عدم وجوب الموافقة الالتزامية ، حيث قال : «هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا يقتضي موافقته التزاما أولا يقتضي ... الحق هو الثاني» وغرضه من هذا الكلام هنا بيان توهم وجود مانع عقلي عن جريان أصالة الحل في دوران الأمر بين المحذورين.

توضيح التوهم : أن العقل كما يستقل بوجوب إطاعة الشارع عملا كذلك يحكم بوجوب إطاعته التزاما بمعنى لزوم التدين والالتزام القلبي بأحكامه ،

__________________

والثاني بمحكوميته باستصحاب التخيير. لكنه لا يخلو من مسامحة ، إذ يعتبر في حكومة الأصل السببي على المسببي أن يكون التسبب شرعيا كما في المثال المعروف أعني غسل الثوب المتنجس بالماء المستصحب الطهارة ، ومن المعلوم أن ارتفاع الحكم المختار باستصحاب التخيير عقلي لا شرعي. وعليه فلا بد في المنع عن استصحاب الحكم المختار من التماس وجه آخر.

وأما المخالفة العملية القطعية فالظاهر ترتبها على التخيير الاستمراري ، لتولد علمين إجماليين آخرين أحدهما العلم الإجمالي بوجوب أحد الفعلين ، والآخر العلم الإجمالي بحرمة أحدهما ، وامتثال هذين العلمين مستحيل ، لأن الجمع بين الفعلين والتركين معا متعذر ، فيسقط العلمان عن التنجيز بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، إلّا أنهما باقيان بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، لإمكان مخالفة العلمين بالفعل في كل من الواقعتين أو الترك كذلك ، فيتعين الموافقة الاحتمالية بالفعل مرة والترك أخرى حذرا من القطع بالمخالفة. ومنه يظهر أن ما في بعض الحواشي من أنه لا عبرة بهذا العلم لأنه منتزع من العلوم الإجمالية لا يخلو من خفاء ، لوضوح الفرق بين الانتزاع والتولد.

٥٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ويحرم الالتزام بما يخالف الحكم الشرعي ، ومن المعلوم أن علم المكلف بعدم خلو الواقع عن أحد الحكمين الإلزاميين ينافي البناء على إباحة كل من الفعل والترك ظاهرا ، لاقتضاء هذه الإباحة الظاهرية جواز الالتزام بخلاف ما هو معلوم عنده من الحكم الواقعي الدائر بين الوجوب والحرمة ، وقد عرفت أن هذا مما يمنع عنه العقل ، فلا تجري أصالة الحل في المقام.

وقد أجاب المصنف (قده) عن هذا التوهم بوجهين : أحدهما : أن وجوب إطاعة أوامر الشارع ونواهيه عملا مما لا ريب في استقلال العقل به ، وأما وجوب موافقتهما التزاما بعقد القلب عليهما حتى يكون لكل حكم نحوان من الإطاعة ، فلا دليل عليه ، فتكون هذه الإطاعة الاعتقادية من آداب العبودية لا من وظائفها ، لأن العقل الحاكم بلزوم الامتثال العملي ـ لأجل تحصيل غرض المولى المترتب على بعثه وزجره حذرا عن عصيانه المستتبع لعقوبته ـ لا يحكم بلزوم الموافقة الالتزامية ، وعليه فلا دلالة من العقل على وجوبها. وأما النقل فليس فيه أيضا ما يقتضي ذلك بالطلب المولوي اللزومي ، إذ لو كان دليل في البين لكان اما نفس أدلة التكاليف مثل «أقيموا الصلاة» واما ما ورد من وجوب التصديق بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وشيء منهما لا يصلح لإثبات ذلك كما تقدم بيانه في الجزء الرابع من هذا الشرح.

مضافا إلى أنه لو دل دليل من الشرع على وجوب الموافقة الالتزامية لكان مانعا شرعيا عن شمول أصالة الحل للمقام لا عقليا كما هو مفروض الكلام ، كما يظهر من كلام شيخنا الأعظم أنه لو ثبت وجوب الالتزام شرعا لكان مانعا شرعيا حيث قال : «وليس حكما شرعيا ثابتا في الواقع حتى مع الجهل التفصيليّ».

الوجه الثاني : أنه ـ بناء على تسليم وجوب الموافقة الالتزامية ـ لا منافاة

٥٨٨

لا يجب (١) موافقة الأحكام التزاما ولو وجب (٢) (*) لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه (٣) ممكنا.

______________________________________________________

بينه وبين جريان أصالة الحل ، لإمكان الانقياد القلبي الإجمالي بأن يلتزم إجمالا بالحكم الواقعي على ما هو عليه وان لم يعلم بشخصه فعلا ، فالامتثال القلبي هنا نظير ما تقدم في خاتمة دليل الانسداد من عقد القلب على بعض الأمور الاعتقادية مع عدم العلم بتفاصيلها كخصوصيات البرزخ مثلا ، فهنا يتدين المكلف بما هو الواقع سواء أكان وجوبا أم حرمة.

فالمتحصل : أن وجوب موافقة الأحكام التزاما لا يمنع من جريان أصالة الحل في مسألة الدوران بين المحذورين.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الأول من الجواب عن توهم وجود المانع العقلي عن جريان أصالة الحل في دوران الأمر بين المحذورين ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «أحدهما أن وجوب إطاعة ... إلخ».

(٢) الأولى «وجبت» وهذا إشارة إلى الوجه الثاني من الجواب عن التوهم المذكور ، وقد تقدم توضيحه أيضا بقولنا : «الوجه الثاني ...» وقد تعرض شيخنا الأعظم لتوهم المانع العقلي وأجاب عنه بنحو هذا الوجه الثاني ، قال (قده) : «وأما دعوى وجوب الالتزام بحكم الله تعالى لعموم دليل وجوب الانقياد للشرع ففيها ... إلى أن قال : وان أريد وجوب الانقياد والتدين بحكم الله فهو تابع للحكم ، فان علم تفصيلا وجب التدين به كذلك ، وان علم إجمالا وجب التدين به على ما هو عليه في الواقع ، ولا ينافي ذلك التدين الحكم بإباحته ظاهرا ...».

(٣) أي : مع الشمول ، يعني : أن الالتزام بالحكم الواقعي على إجماله

__________________

(*) بل يمكن أن يقال : بعدم مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن شمول

٥٨٩

والالتزام التفصيليّ (١) بأحدهما

______________________________________________________

مع شمول دليل أصالة الحل للمورد ممكن ، وقد صرح به أيضا في الأمر الخامس من مباحث القطع عند بيان عدم الملازمة بين الموافقتين العملية والالتزامية ، قال : «ثم لا يذهب عليك أنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية وكان المكلف متمكنا منها يجب ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا ، ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضا ، لامتناعهما كما إذا علم إجمالا بوجوب شيء أو حرمته ، للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعا».

(١) إشارة إلى ما ربما يتوهم من عدم صحة الوجه الثاني ، توضيح التوهم : أنه ـ مع تسليم وجوب الموافقة الالتزامية ـ لا يكون الالتزامية بالواقع على ما هو عليه كافيا في امتثال هذا الحكم ـ أعني وجوب الموافقة الالتزامية ـ بل يجب الالتزام التفصيليّ بالوجوب فقط أو بالحرمة كذلك ، ضرورة أن متعلق لزوم الموافقة الالتزامية هو الحكم بعنوانه الخاصّ من الإيجاب أو التحريم ، وليس المطلوب نفس الواقع على ما هو عليه حتى تكفي الإشارة الإجمالية إليه ، ومن المعلوم استقلال العقل بلزوم إطاعة كل حكم بما يوجب القطع بفراغ الذّمّة عنه ، ومع تعذر ذلك تصل النوبة إلى الموافقة الاحتمالية ، وفي المقام حيث دار الأمر بين الوجوب والحرمة فقد تعذرت موافقته القطعية الالتزامية كتعذر موافقته القطعية العملية وتعيّنت موافقته الاحتمالية ، وهي الالتزام بخصوص

__________________

أصالة الحل للمقام بناء على ما التزموا به من عدم وصول الحكم الواقعي إلى مرتبة الفعلية وكون الظاهري فعليا ، إذ مع عدم التنافي بين نفس الحكمين لتعدد المرتبة لا منافاة بين الالتزامين أيضا ، وأما المعلوم بالتفصيل وهو الإلزام المردد بين الوجوب والحرمة فلا معنى لوجوب الالتزام به مع عدم فعلية نوعه المستلزم لعدم فعلية الجنس أيضا.

٥٩٠

لو لم يكن تشريعا محرما (١) لما نهض على وجوبه (٢) دليل قطعا.

______________________________________________________

الوجوب أو الحرمة لكونها ممكنة ، ولا تصل النوبة إلى الالتزام الإجمالي بالواقع حتى لا يكون منافيا للالتزام بالإباحة الظاهرية والبناء عليها.

وقد دفع المصنف هذا التوهم أيضا بوجهين : الأول : أن الالتزام بأحدهما المعين مع فرض عدم العلم به تشريع محرم ، إذ كيف يتمشى منه الالتزام الجدّي بحكم خاص من قبله تعالى مع عدم إحرازه إلّا على نحو التشريع ، مثلا لو التزم بالوجوب معيّنا مع فرض احتمال حرمته كان تشريعا وان كان الحكم الواقعي هو الوجوب ، إذ مع احتمال الحرمة لا علم له بالوجوب حتى يلتزم به ، فلو التزم به كان افتراء منه ، لأنه التزام بما لا علم له به ، ومن المعلوم أن مفسدة التشريع لو لم تكن أعظم من مصلحة وجوب الالتزام فلا أقل من مساواتها لها وتتزاحمان ، فلا يبقى ملاك للقول بوجوب الموافقة الالتزامية التفصيلية.

الثاني : أنه ـ مع الغض عن محذور لزوم التشريع فيما إذا التزم بأحدهما معينا ـ لا دليل على وجوب هذا الالتزام التفصيليّ مطلقا حتى فيما تمكن المكلف منه ، لابتنائه على مقدمة وهي كون متعلق وجوب الموافقة الالتزامية خصوص العناوين الخاصة من الإيجاب والتحريم ، وعدم كفاية الالتزام بما هو الواقع. ولكن هذه المقدمة ممنوعة ، لعدم مساعدة دليل عليها.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الأول من وجهي الجواب عن التوهم ، وقد تقدم توضيحه ، وضمير «أحدهما» راجع إلى الوجوب والحرمة.

(٢) هذا إشارة إلى الوجه الثاني ، وقد تقدم توضيحه أيضا ، والأولى سوق العبارة هكذا : «لم ينهض على وجوبه دليل أيضا» وببطلان الالتزام التفصيليّ ظهر بطلان القول بلزوم البناء على الحرمة أو الوجوب وترتيب آثار ما اختاره وهو الوجه الثالث من الوجوه ، بل الأقوال الخمسة المتقدمة.

٥٩١

وقياسه (١) بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والآخر

______________________________________________________

(١) هذه العبارة الوجيزة تضمنت أمورا : أحدها : الاستدلال على القول الثالث وهو التخيير الشرعي في دوران الأمر بين المحذورين بمقايسة المقام بالخبرين المتعارضين الدالين على الوجوب والحرمة. ويمكن تقريب هذه المقايسة بوجوه :

الأوّل : أن رعاية الحكم الظاهري الأصولي وهو حجية كل واحد من الخبرين بعد وضوح عدم إمكانها لأجل التعارض أوجبت حكم الشارع بلزوم الأخذ بواحد منهما تخييرا ، ومن المعلوم أن الحكم الواقعي أولى بالرعاية ، فلا بد من البناء على الوجوب أو الحرمة بالأولوية القطعية ، لا طرحهما والقول بالإباحة الظاهرية ، فتختص قاعدة الحل بالشبهات البدوية ، ولا تشمل شيئا من صور الدوران بين المحذورين سواء كان منشأ الدوران الخبرين المتعارضين أم غيرهما.

الثاني : توافقهما على نفي الثالث بالدلالة الالتزامية ، فان الخبرين المتعارضين يدلّان التزاما على نفي الحكم الثالث ، والعالم بالإلزام الجامع بين الوجوب والحرمة يعلم وجدانا بنفي الحكم الثالث ، إذ المفروض دوران الحكم الواقعي بين الوجوب والحرمة ، ومعه كيف يمكن الالتزام بالإباحة الظاهرية؟ بل لا بد من الحكم بالتخيير بالأولوية القطعية. وهذا الاحتمال هو ظاهر كلام المحقق الآشتياني (قده) عند بيان تنقيح المناط الموجود في عبارة شيخنا الأعظم في تقرير القياس.

الثالث : كون المناط في التخيير بين الخبرين المتعارضين إحداثهما احتمال الوجوب والحرمة ، ولتعذر مراعاة كلا الاحتمالين حكم الشارع بالتخيير بينهما وعدم جواز إبداع قول ثالث ، وهذا المناط بعينه موجود في الدوران

٥٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بين المحذورين ، فيتعين الأخذ بأحد الاحتمالين لا القول بالإباحة الظاهرية (*).

الرابع : كون المناط في التخيير بين الخبرين اهتمام الشارع بالعمل بالأحكام الشرعية وعدم إهمالها ، ومن المعلوم أن المقام أولى بالرعاية من الخبرين ، للعلم هنا بعدم خلوّ الواقع عن الوجوب أو الحرمة. وهذا بخلاف الخبرين ، لاحتمال كذبهما وكون الحكم الواقعي غير مؤداهما.

هذا ما يمكن أن يقال في تقريب المقايسة من ناحية وحدة المناط في بعضها والأولوية في بعضها الآخر.

ثانيها : جواب المصنف (قده) عن هذه المقايسة بأنها مع الفارق ، إذ ليس الملاك فيهما واحدا ، توضيحه : أن الأخبار إما أن تكون حجة من باب السببية وإما من باب الطريقية ، فعلى الأوّل يكون التخيير بين الخبرين المتعارضين على القاعدة ، لفرض حدوث مصلحة ملزمة في المؤدى بسبب قيام خبر على

__________________

(*) لكن الظاهر عدم كون المناط في القياس هذا الاحتمال ، ضرورة أنه التزم في التعادل والترجيح بحجية المتعارضين في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية ، ولو كان القياس لهذه الجهة لزم كون الحجة العقلية ـ وهي العلم بالإلزام في المقام ـ أسوأ حالا من الحجة التعبدية النافية للثالث ، إذ المفروض أنه (قده) أجرى قاعدة الحل في المقام ، فيتعين أن يكون الوجه في القياس بعض الاحتمالات الأخرى. ويستفاد من كلامه في حاشية الرسائل وجه آخر غير ما تقدم في التوضيح ، قال : «ولا وجه لاستفادة التخيير من فحوى أخبار التخيير ، لقوة احتمال أن يكون ذلك فيها لأجل الانقياد والتسليم بكل ما ينسب إليهم عليهم‌السلام كما في بعض أخباره بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك ، لا لمجرد احتمال كلّ للواقع من دون علم به بينهما ليكون فحواه مقتضيا لذلك في احتمالين علم به بينهما».

٥٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجوب ، وحدوث مفسدة ملزمة فيه بقيام خبر آخر على حرمة نفس ذلك المتعلق ولما كان كل منهما مستجمعا لشرائط الحجية وجب العمل بكل منهما ، لكن استيفاء المصلحة والاحتراز عن المفسدة غير مقدور من جهة وحدة المتعلق ، فيقع التزاحم بين تكليفين تتعذر موافقتهما ، ويستقل العقل بالتخيير حينئذ مع التكافؤ ، لما قرر في محله من أن التزاحم المأموري يوجب صرف القدرة في الأهم ان كان ، وإلّا فالتخيير كما في إنقاذ غريقين مؤمنين. وليس مناط التخيير ـ وهو الحجية ـ في الاحتمالين المتعارضين موجودا حتى يحكم بالتخيير فيهما أيضا ، إذ ليس في احتمالي الوجوب والحرمة صفة الكشف والطريقية حتى يصح قياسهما بتعارض الحجتين وهما الخبران المتعارضان ، وعليه فتزاحم الاحتمالين ليس كتزاحم الخبرين على السببية.

وعلى الثاني ـ وهو حجية الأخبار على الطريقية ـ فالقياس مع الفارق أيضا ، ضرورة أن مقتضى القاعدة الأوّلية في تعارض الطرق وان كان هو التساقط لا التخيير ، إلّا أنه لمّا كان كل منهما واجدا لشرائط الحجية ولمناط الطريقية ـ من الكشف نوعا عن الواقع واحتمال الإصابة في خصوص كل واحد من المتعارضين ـ ولم يمكن الجمع بينهما في الحجية الفعلية لمكان التعارض ، فقد جعل الشارع أحدهما حجة تخييرا مع التكافؤ وتعيينا مع المزية. وهذا بخلاف المقام إذ ليس في شيء من الاحتمالين اقتضاء الحجية كالخبرين حتى يجري حديث التخيير بين الخبرين في الاحتمالين المتعارضين ، فلا مانع من طرح كلا الاحتمالين وإجراء الإباحة الظاهرية.

نعم بناء على الاحتمال الثالث في وجه المقايسة ـ وهو كون الملاك في حكم الشارع بالتخيير بين الخبرين إحداثهما احتمال الوجوب والحرمة لا السببية

٥٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا غلبة الإصابة نوعا ـ يصح القياس المذكور ، واللازم حينئذ البناء على خصوص احتمال الحرمة أو خصوص احتمال الوجوب ، إذ موضوع حكم الشارع بالتخيير حينئذ انما هو احتمال الوجوب والحرمة سواء كان منشؤهما الخبرين أم غيرهما ولا خصوصية للخبرين. لكن أصل هذه الاستفادة في غير محلها ، لظهور كل عنوان يقع في حيّز الخطاب في الموضوعية لا المشيرية ، ومن المعلوم أن ظاهر الأخبار العلاجية هو كون موضوع التخيير الخبرين من حيث هما خبران متعارضان لا من حيث إحداثهما احتمال الوجوب والحرمة حتى يسري الحكم بالتخيير منهما إلى كل ما يحدث احتمال الوجوب والحرمة كالمقام.

ثالثها : أنه قد ظهر من بطلان التخيير هنا ـ لفساد المقايسة المزبورة ـ عدم مانع عقلا ولا شرعا من شمول حديث «كل شيء لك حلال» للمقام كما أفاده المصنف قبل ذلك ، نعم لو تم قياس مسألة الدوران بين المحذورين بباب الخبرين المتعارضين الدالين على الوجوب والحرمة لكان حكم الشارع بالتخيير مانعا عن إجراء أصالة الحل ودليلا للوجه الثالث في المسألة وهو التخيير الشرعي بين الاحتمالين.

لكن قد عرفت بطلان القياس وعدم مانع من شمول حديث «كل شيء لك حلال» للمقام ، هذا.

ثم ان ما أورده المصنف من القياس والجواب عنه مذكور في كلمات شيخنا الأعظم (قده) فانه ـ بعد أن حكم بعدم كون وجوب الالتزام حكما شرعيا ثابتا في الواقع بحيث يجب مراعاته حتى مع الجهل التفصيليّ به ـ فرّع عليه هذه المقايسة وقال : «ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية ... إلخ» ثم أجاب عنه ، إلّا أنه اقتصر في إبطال القياس بما

٥٩٥

على الوجوب باطل (١) ، فان (٢) التخيير بينهما على تقدير كون الأخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة ، ومن (٣) جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين (*) ، وعلى (٤) تقدير أنها من باب الطريقية ، فانه (٥) وان كان على خلاف القاعدة (٦) ، إلّا أن أحدهما

______________________________________________________

تقتضيه القاعدة بناء على السببية في حجية الأخبار ، ولم يتعرض لحال القياس بناء على الطريقية فيها ، فلاحظ.

(١) خبر «وقياسه» وجواب عنه ، وقد عرفته مفصلا بقولنا : «وتوضيحه أن الاخبار اما أن تكون حجة ... إلخ».

(٢) تعليل للبطلان ، وضمير «بينهما» راجع إلى الخبرين المتعارضين ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «فعلى الأول يكون التخيير بين الخبرين ...».

(٣) عطف تفسيري للقاعدة ، و «يكون» خبر «فان التخيير».

(٤) عطف على «على تقدير كون» وضمير «أنها» راجع إلى الحجية المستفادة من العبارة ، وقد عرفت توضيح الجواب على هذا التقدير بقولنا : «وعلى الثاني وهو حجية الاخبار على الطريقية ...».

(٥) يعني : فان التخيير ، والأولى تبديله بـ «فهو على خلاف ...».

(٦) لاقتضاء القاعدة الأوّلية في تعارض الطرق للتساقط ، فالتخيير بين الخبرين تعبد شرعي على خلاف القاعدة.

__________________

(*) الأولى أن يقال : «بين الواجب والحرام المتزاحمين» أو يقال : «ومن قبيل التخيير بين الواجبين المتزاحمين» ولا يخفى أن قياس المقام بباب التزاحم المأموري الّذي هو عجز المكلف عن امتثال حكمين فعليين مع الفارق ، بل ينطبق عليه ضابط التعارض الراجع إلى عجز المولى عن تشريع حكمين لمتعلق واحد ، توضيحه : أنه بناء على السببية يكون قيام خبر الوجوب موجبا لحدوث مصلحة

٥٩٦

تعيينا (١) أو تخييرا ـ حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من (٢) احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط ـ جعل (٣) [صار] حجة في هذه الصورة (٤) بأدلة الترجيح تعيينا (٥) أو التخيير تخييرا ، وأين

______________________________________________________

(١) أي : أحد الخبرين تعيينا في صورة وجود المرجح كموافقة الكتاب ومخالفة العامة وغيرهما ، وتخييرا مع عدمه.

(٢) بيان للموصول في «لما» واسم «كان» ضمير راجع إلى أحدهما.

(٣) بصيغة المجهول ، والضمير المستتر فيه النائب عن الفاعل راجع إلى «أحدهما» وهو جواب «حيث» المفيد للشرط ، وجملة الشرط والجواب خبر «أن أحدهما».

(٤) أي : في صورة التعارض بناء على الطريقية.

(٥) مع المزية ، والتخيير مع عدمها ، و «بأدلة» متعلق بـ «جعل حجة».

__________________

لازمة الاستيفاء في الفعل ، وقيام خبر الحرمة مقتضيا لحدوث مفسدة ملزمة في الفعل أيضا ، ومن المعلوم أن كل واحد من الملاكين يدعو الشارع إلى جعل الحكم على طبق ما يقتضيه ، وحيث كان متعلق الحكمين واحدا امتنع جعلهما معا بل لا بد من الكسر والانكسار وملاحظة أهم الملاكين ان كان وإنشاء الحكم على طبقه.

وهذا بخلاف باب التزاحم المتقوم بتعدد المبادئ والأغراض والخطابات ولا تمانع بينها في مرحلة الجعل أصلا ، وانما حصل التمانع في مقام الامتثال من باب الاتفاق ، لعجزه عن إنقاذ الغريقين معا أو إطاعة خطاب «أنقذ» و «لا تغصب» مثلا ، فيلزم العقل بمراعاة الأهم ان كان وإلّا فيحكم بالتخيير.

وعليه ، فالظاهر اندراج تعارض الخبرين مطلقا ـ حتى بناء على السببية ـ مع وحدة المتعلق في باب التعارض وأجنبيته عن باب التزاحم.

٥٩٧

ذلك (١) مما إذا لم يكن المطلوب إلّا الأخذ بخصوص ما صدر واقعا ، وهو (٢) حاصل ، والأخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه (٣) بموصل.

نعم (٤) لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب

______________________________________________________

(١) أي : وأين حجية أحدهما تعيينا أو تخييرا مما ...؟ يعني : أن ما تقدم من حجية أحد الخبرين تعيينا أو تخييرا مغاير لما إذا لم يكن المطلوب إلّا الالتزام بما هو حكم الله واقعا ، فان الالتزام به على ما هو عليه ممكن ، بخلاف الخبرين.

(٢) الضمير راجع إلى الأخذ ، ويحتمل فيه أمران ، أحدهما الالتزام الإجمالي بخصوص ما صدر واقعا ، وليس غرضه الالتزام التفصيليّ بالواقع ، لتعذره مع الجهل بخصوصية الإلزام ، مضافا إلى منافاته لقوله : «والأخذ بخصوص» إذ مع احتمال المخالفة كيف يجزم بأن ما التزم به هو الواقع.

ثانيهما : أن يراد بالأخذ العمل كما هو المطلوب في حجية أحد الخبرين فيكون المراد أن العمل بالواقع حاصل ، لكن بالقدر الممكن وهو الموافقة الاحتمالية.

(٣) أي : إلى خصوص ما صدر واقعا ، يعني : ربما لا يكون الأخذ بخصوص أحدهما موصلا إلى الحكم الواقعي ، لاحتمال كون الواقع غير ما أخذ به ، فكيف يتعين على المكلف الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا.

(٤) استدراك على قوله : «وقياسه باطل» وغرضه تصحيح القياس بعدم الفارق بين المقام وبين الخبرين المتعارضين ، بتقريب : أن مناط وجوب الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين انما هو إبداؤهما احتمال الوجوب والحرمة دون غيره من السببية أو مناط الطريقية ، ومن المعلوم أن هذا الاحتمال موجود في المقام ، فلا بد من التخيير ، ويبطل القول بالإباحة ، وقد تقدم توضيح هذا الاستدراك بقولنا : نعم بناء

٥٩٨

والحرمة وإحداثهما (١) الترديد بينهما لكان القياس في محله ، لدلالة (٢)

______________________________________________________

على الاحتمال الثالث في وجه المقايسة ... إلخ (*).

(١) عطف تفسير لـ «إبدائهما» وضميرا «إبدائهما ، إحداثهما» راجعان إلى الخبرين ، وضمير «بينهما» راجع إلى الوجوب والحرمة.

(٢) تعليل لصحة القياس ، و «لكان» جواب «لو كان».

__________________

(*) ويحتمل أن يكون الغرض من بيان المقايسة وجوابها تتميم الكلام في وجوب الموافقة الالتزامية بإثبات وجوبها الشرعي من جهة هذه المقايسة ببيان : أنه يجب الالتزام شرعا بالحكم الواقعي بعنوانه من الوجوب أو الحرمة فان كان ما في صقع الواقع هو الوجوب وجب شرعا الالتزام به والبناء القلبي عليه ، وان كان هو الحرمة وجب شرعا الالتزام بها ، وحيث تتعذر الموافقة القطعية للالتزام الواجب وجبت موافقته الاحتمالية وهي تتحقق بالالتزام بأحد المحتملين.

وأجاب عنه المحقق الأصفهاني (قده) بأن أصل الالتزام الجدي بشيء سنخ مقولة لا تتعلق إلّا بما علم ، والمعلوم هنا ليس إلّا الإلزام ، وهو مما لم يتعلق به وجوب الموافقة الالتزامية ، وانما يتعلق بعنوان الوجوب أو الحرمة المجهولين.

أقول : يمكن أن يقال : ان غرض المصنف من بيان القياس ليس ما ذكر ، ضرورة أن وجوب الموافقة الالتزامية على تقدير القول به انما هو عقلي عند المصنف لا شرعي. ولو سلم إرادة إثباته شرعا ـ ولو تنزلا ـ فإثباته بهذا القياس غير ممكن ، لا لما ذكره المحقق المتقدم في الجواب ، بل لأن التخيير الثابت بين الخبرين ليس إلّا في العمل ، يعني : أن مفاد قوله عليه‌السلام في بعض أخبار التخيير : «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» هو الاستناد إلى أحدهما في مرحلة العمل أي جعله حجة بينه وبين ربه والإفتاء على طبقه وأن

٥٩٩

الدليل على (١) التخيير بينهما على التخيير هاهنا (*) ، فتأمل جيدا (٢).

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «دليل» و «على التخيير» متعلق بـ «دلالة» يعني : أن نفس الأخبار العلاجية الدالة على التخيير بين الخبرين المتعارضين تدل أيضا على التخيير في المقام بناء على كون التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما الاحتمال ، لوجود الترديد والاحتمال هنا أيضا.

(٢) لعله إشارة إلى أنه لا مجال لاستفادة كون المناط في الحكم بالتخيير في تعارض الخبرين هو إبداء الاحتمال حتى يحكم به فيما نحن فيه لهذا المناط. وجه عدم المجال : أن من الواضح وجوب الأخذ بخصوص مضمون أحد الخبرين المتعارضين وان احتمل كون الحكم الواقعي غيرهما ، كما إذا دل أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الحرمة واحتمل الكراهة ، فانه لا يجوز الاعتناء بها ، بل لا بد من الالتزام بمضمون أحد الخبرين ، هذا.

مضافا إلى أنه لو كان المناط إبداء الاحتمال لزم لغوية الشرائط المعتبرة في حجية الخبرين ومراعاة قواعد التعارض بين كل خبرين متعارضين يوجبان الاحتمال وان كانا فاقدين لشرائط الحجية ، وهو كما ترى.

وقد تحصل : أن القول الثالث وهو التخيير الشرعي بين الاحتمالين لا دليل عليه ، فلا مانع من شمول أصالة الحل للمقام.

__________________

مضمونه حكم الله تعالى ، ولا يستشم منه وجوب الموافقة الالتزامية حتى يتعدى من الخبرين إلى مطلق صور الدوران ، فتأمل في العبارة.

(*) وهنا احتمال ثالث في باب جعل الطرق أفاده المصنف في حاشية الرسائل ، وهو كون الأخبار حجة على الطريقية في غير صورة التعارض ، وأما فيها فتكون حجيتها على السببية ، لوجود المصلحة في العمل بخبر العادل مع الغض عن جهة الكشف عن الواقع ، وربما يستفاد هذا من قوله عليه‌السلام :

٦٠٠