منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحرمة. والتفكيك بينهما كما عن الشهيد (قده) وفي تقرير بعض الأعاظم نظرا إلى «أن الحرمة بمقتضى قوله تعالى : إلّا ما ذكيتم أنيطت بعدم التذكية ، وأما النجاسة فقد علقت على الميتة التي هي الحيوان الّذي مات حتف أنفه ، فمع الشك في نجاسة غير المذكى تجري فيه قاعدة الطهارة» غير سديد ، لما مر من أن عدم المذكى ميتة حقيقة أو حكما ، ويترتب عليه جميع أحكام الميتة التي منها النجاسة ، فغير المذكى حرام ونجس وتبطل الصلاة فيه.

نعم مع عدم جريان أصالة عدم التذكية في مشكوك القابلية يستصحب طهارة الحيوان وحرمته المعلومتان حال حياته ، ففي هذه الصورة لا مانع من التفكيك بين الطهارة والحلية.

ومنع جريان استصحابهما بدعوى مغايرة الحيوان حيا وميتا ، فتجري فيه قاعدتا الحل والطهارة ، في غير محله ، لأن موضوع الاستصحاب هو اللحم والجلد ، والحياة والموت من حالاتهما المتبادلة عرفا كما أشرنا إليه سابقا.

وقد اتضح مما ذكرنا : ثبوت الملازمة بين النجاسة والحرمة في كل حيوان تجري فيه أصالة عدم التذكية إذا كان مما له نفس سائلة ، وأما مع عدم جريانها يجري الاستصحاب الحكمي في طهارته وحرمته ، فلا ملازمة حينئذ بين الحرمة والنجاسة ، بل يحكم بالطهارة والحرمة ، فما في تقريرات المحقق النائيني رفع في الخلد مقامه : «فالأقوى ثبوت الملازمة بين الحل والطهارة في جميع فروض المسألة» مما لا يمكن المساعدة عليه ، لأن وجه الملازمة عنده (قده) فيما لا تجري فيه أصالة عدم التذكية هو جريان قاعدتي الحل والطهارة دون استصحاب الحرمة والطهارة ، لاختلاف الموضوع في نظره زيد في علوّ درجته ،

٤٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

حيث ان للحياة دخلا في الحكم بالحرمة والطهارة ، فيكون الحيوان الحي غير الحيوان الّذي زهق روحه ، فتنثلم وحدة الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة.

لكن قد عرفت عدم وجاهة هذا الوجه ، فإجراء الاستصحاب الحكمي مما لا محذور فيه ، ومقتضاه الطهارة والحرمة.

الأمر الثاني : أن جريان أصالة عدم التذكية وكذا استصحاب الطهارة والحرمة موقوفان على عدم أمارة على التذكية من يد مسلم أو سوقه ، حيث انهما أمارتان عليها حاكمتان على أصالة عدم التذكية واستصحاب الطهارة والحرمة. ويدل على ذلك بعد الإجماع بل الضرورة وسيرة المتشرعة نصوص معتبرة :

منها : صحيح البزنطي ، قال : «سألته عن الرّجل يأتي السوق ، فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ فقال : نعم ليس عليكم المسألة ، ان أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : ان الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك» (١) وقريب منه صحيحة الآخر (٢) وصحاح الحلبي (٣) وسليمان بن جعفر الجعفري وإسحاق بن عمار (٤) وغيرها مما يدل على جواز ترتيب آثار التذكية في موارد خاصة مع اشتمال بعضها على رجحان ترك الفحص والسؤال عن تذكيتها.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث : ٣

(٢) المصدر ، الحديث : ٦ ، ص ١٠٧١

(٣) المصدر ، الحديث : ٢ ، ص ١٠٧١

(٤) المصدر ، الحديث ٥ : ص ١٠٧٢

٤٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبهذه النصوص يجمع بين ما يدل على جواز ترتيب آثار التذكية مطلقا ما لم يعلم بعدمها كموثق سماعة : «سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن تقليد السيف في الصلاة وفيه الفراء والكيمخت ، فقال عليه‌السلام : لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة» (١) وقوله عليه‌السلام في رواية علي بن أبي حمزة : «ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه» (٢) وبين ما يدل على المنع من ترتيب الأثر مطلقا حتى يعلم أنه مذكى ، كقوله عليه‌السلام في موثق ابن بكير الوارد في المنع عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه : «فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح» (٣).

ونتيجة هذا الجمع العرفي البناء على عدم التذكية مع الشك فيها ، وترتيب آثار عدمها إلّا مع وجود أمارة عليها من بيع المسلم أو صلاته فيه أو غيرهما من التصرفات الدالة على تذكيته ، وهذا جمع موضوعي يقيّد كلّا من إطلاقي الجواز والمنع ، ومعه لا تصل النوبة إلى الجمع الحكمي بأن يؤخذ بإطلاق الجواز ويحمل إطلاق المنع على الكراهة مع عدم الأمارة ، فان المحقق في محله تقدم الجمع الموضوعي على الحكمي ، فليست الشبهة في المقام كسائر الشبهات الموضوعية التي تجري فيها قاعدة الحل كما عن صاحب الحدائق «تمسكا بعموم كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، ولذا لم يفرق في الحكم بالحلية بين يد المسلم والكافر» فان ما ذكره (قده) يهدم أساس حكومة بعض الأصول على بعضها الآخر ، فكل شبهة موضوعية يكون فيها أصل حاكم لا تصل

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ١٢ ص ١٠٧٣

(٢) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤ ص ١٠٧٢

(٣) الوسائل ، ج ٣ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلى ، الحديث : ١ ، ص ٢٥

٤٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

النوبة معه إلى أصل محكوم ، كتردد المرأة بين الزوجة والأجنبية ، فانه يحرم ترتيب آثار الزوجية عليها وان لم نقل بانقلاب الأصل في الموارد الثلاثة ، وذلك لاستصحاب الأجنبية ، ومعه لا تجري فيها قاعدة الحل أصلا.

ثم ان هنا فروعا لا بأس بالتعرض لها إجمالا :

الأول : أن المراد بالسوق خصوص سوق المسلمين ، لقول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيح الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم : «كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه» (١) ويقيد به إطلاق السوق في سائر النصوص. مضافا إلى انصراف السوق إليه. كما أن المراد باليد مطلق الاستيلاء ولو كان غصبا أو كان المتصدي للبيع ونحوه كافرا وكالة عن مسلم إذ ليس لليد حقيقة شرعية ، ومن المعلوم أن معناها العرفي هو مطلق الاستيلاء وان لم يكن مشروعا.

الثاني : أن الظاهر اعتبار اليد والسوق وأرض الإسلام من حيث الطريقية والكشف عن الاستعمال الدال على التذكية من دون أن يكون لها موضوعية ، فلو لم يكن هناك استعمال كالجلد المطروح في أرض الإسلام ، أو كان ولكن لم يكن كاشفا عن التذكية كما إذا صنع الجلد قربة لنقل النجاسات ، فلا عبرة حينئذ باليد والسوق وأرض الإسلام. والمراد بالاستعمال أعم من الفعلي كوضع المأكول أو المشروب فيه ، ومن الإعدادي كتعريضه للبيع أو للصلاة فيه.

ويشهد له ـ مضافا إلى الانصراف ، وأن اعتبار مثل اليد والسوق انما هو لأجل الكشف والطريقية غالبا لا الموضوعية ـ خبر الأشعري ، قال : «كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام : ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٦ ، الباب ٢٩ من أبواب الذبائح ، الحديث : ١ ، ص ٢٩٤

٤٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عليه‌السلام : إذا كان مضمونا فلا بأس» (١) والظاهر إرادة المستعمل فيما يشترط فيه الطهارة من قوله عليه‌السلام : «مضمونا» إذ إرادة ظاهره خلاف الإجماع.

وقول أبي الحسن عليه‌السلام في خبر إسماعيل بن عيسى : «وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه» (٢)

كما أن الظاهر أيضا إرادة مطلق محل التكسب والتجارة من السوق وان لم يكن هو السوق العام الّذي تقع فيه أنواع التجارات والمعاملات ، والتعبير بالسوق في النصوص مبني على ما هو الغالب من وقوع التكسبات فيه. والظاهر أيضا مرجوحية الفحص والسؤال عما في السوق ، لقوله عليه‌السلام في صحيحي البزنطي المتقدم أحدهما : «ليس عليكم المسألة».

الثالث : أن المراد بالمسلم في سوقه وأرضه ويده كل من يظهر الشهادتين ولم يحكم بكفره كالنواصب والخوارج والغلاة ، فيشمل جميع فرق المسلمين عدا من حكم بكفره سواء اتفقوا في شرائط التذكية أم اختلفوا فيها ، وسواء استحلوا طهارة الميتة بالدبغ أم لا ، وذلك لإطلاق «المسلم في النصوص ، وعدم تقيده بالولاية أو غيرها ، ولقيام سوق المسلمين في عصر صدور الروايات بغير أهل الولاية ، فالمراد بسوق المسلمين ما يقابل سوق الكفار.

نعم الأحوط الأولى الاجتناب عن الجلود المشتراة ممن يستحل الميتة بالدبغ ، لخبر أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام : «كان عليّ بن الحسين عليهما‌السلام رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز ، لأن دباغها بالقرظ ، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو ، فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث : ١٠

(٢) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث : ٧

٤٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وألقى القميص الّذي يليه ، فكان يسأل عن ذلك ، فقال عليه‌السلام : ان أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون أن دباغه ذكاته» (١) وقريب منه خبر ابن الحجاج (٢). وحملهما غير واحد على الكراهة ، لضعف سندهما ، لكنه مبني على قاعدة التسامح ، وهي في موردها أعني المستحبات محل تأمل ، بل منع فضلا عما ألحق به من المكروهات. نعم لا بأس بجعلهما منشأ للاحتياط الاستحبابي بالاجتناب.

الرابع : أن يد المسلم تكون تارة مستقلة وأخرى مشتركة ، وعلى الأول إمّا يعلم بسبق يد الكافر عليه وإمّا يعلم بعدمه وإمّا يشك في ذلك ، لا إشكال في أمارية اليد على التذكية في الصورتين الأخيرتين كما هو واضح.

وأما الصورة الأولى ، فالحكم فيها النجاسة ، اما للنصوص المتقدمة التي قد عرفت أن محصل الجمع بينها البناء على عدم التذكية إلّا مع قيام الأمارة من يد المسلم أو سوقه على التذكية ، وإمّا لكون يد الكافر أمارة على عدم التذكية كما ذهب إليه في الجواهر ، كأمارية يد المسلم على التذكية ، وان كان الأقرب هو الأول ، لعدم تمامية ما استدل به على أمارية يد الكافر على عدم التذكية من خبري إسماعيل بن عيسى (٣) وإسحاق بن عمار (٤) ، وذلك لأنهما بعد الغض عن سندهما لا يدلان إلّا على ثبوت البأس ولزوم السؤال مع عدم غلبة المسلمين وعدم صلاتهم فيه ، وهذا مما تقتضيه أصالة عدم التذكية ، ولا يدلان على كون ذلك لأجل أمارية يد الكافر على عدم التذكية.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٣ ، الباب ٦١ من أبواب لباس المصلى ، الحديث : ٢ ، ص ٣٣٨

(٢) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٦١ من أبواب النجاسات ، الحديث : ٤ ، ص ١٠٨١

(٣) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث : ٧

(٤) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث : ٥

٤٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نعم مع استعمال المسلم له استعمالا يدل على التذكية كجعله ظرفا للمأكول أو المشروب يحكم بتذكيته ، لإطلاق ما دل على أمارية مطلق فعل يصدر من المسلم ـ مما يدل على التذكية كالصلاة فيه ـ على كونه مذكى ، فحينئذ نرفع اليد عما تقتضيه أصالة عدم التذكية باليد التي هي أمارة عليها.

نعم بناء على أمارية يد الكافر على عدم التذكية يمكن أن يقال بتعارض الأمارتين والرجوع إلى أصالتي الحل والطهارة مع عدم ترتب أحكام المذكى عليه ، فلا يحكم بصحة الصلاة فيه ، فتدبر. هذا إذا لم يكن المسلم بمنزلة الآلة وأما إذا كان بمنزلتها فلا عبرة بيده أصلا ، والحكم فيه النجاسة.

وعلى الثاني وهو اشتراك اليد بين المسلم والكافر بحيث يكون كل واحد منهما ذا يد فعلية عليه ، فعلى القول بأمارية يد الكافر على عدم التذكية كما عليه صاحب الجواهر (قده) كأمارية يد المسلم عليها يقع التعارض بينهما ، ويرجع إلى أصالتي الحل والطهارة بناء على عدم جريان استصحاب الحرمة والطهارة ، وإلّا فهو المعول.

وعلى القول بعدم أمارية يد الكافر على عدم التذكية كما هو الصحيح يحكم بكونه مذكى ، لأمارية يد المسلم على التذكية من دون مانع ، ولا حاجة معه إلى جعل اليد أمارة على الملكية ابتداء ثم جعل الملكية أمارة على التذكية.

بل لا وجه له ، لترتب الملكية على التذكية ترتب الحكم على موضوعه ، فان قابلية المحل للملكية شرط لها ، فالحكم بها منوط بإحراز القابلية ، وبدون إحرازها لا يحكم بالملكية ، ومع قيام الأمارة على القابلية للتذكية لا تصل النوبة إلى إحرازها بأمارة تدل بالالتزام عليها ، لأن اليد إذا جعلت أمارة على الملكية

٤٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كانت دلالتها على التذكية بالاستلزام ، بخلاف جعل اليد أمارة على التذكية فانها تدل حينئذ عليها بالمطابقة.

وان شئت فقل : ان الشك في الملكية ناش عن الشك في القابلية لها ، فان كان هناك ما يحرز القابلية مطابقة قدّم على ما يحرزها التزاما ، فتدبر.

هذا كله حال يد المسلم استقلالا واشتراكا.

وأما يد الكافر ، فان كانت غير مسبوقة بيد المسلم أو لم يعلم سبق يد المسلم عليها ، فيحكم بنجاسة ما في يده وعدم تذكيته ، لأصالة عدم التذكية ، ولا يحكم بالطهارة إلّا بعد المنع عن جريانها والبناء على جريان استصحاب الطهارة أو قاعدتها. وان كانت مسبوقة بيد المسلم مع الأثر الدال على التذكية حكم بذكاته وطهارته. ووقوعه تحت يد الكافر لا يغيره عما وقع عليه ، حيث ان أمارية يد المسلم على التذكية ليست مشروطة ببقاء يده عليه ، فإذا حكم بالتذكية حكم بطهارته دائما.

والحاصل : أن اليد المتأخرة عن يد المسلم لا أثر لها ولا تؤثر في نجاسة ما كان محكوما بالطهارة قبل وقوعه تحت يد الكافر.

الخامس : إذا كان السوق مختصا بالكفار أو بالمسلمين ، فلا إشكال ، للحكم بنجاسة ما في الأول من اللحم والجلد وطهارته في الثاني. وأما مع اشتراك السوق بينهما ، فمع غلبة المسلمين على غيرهم يحكم بالطهارة وكونه مذكى ، لقوله عليه‌السلام في موثق إسحاق بن عمار : «إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» إذ المستفاد منه أنه مع كون غير أهل الإسلام أيضا في السوق يبنى على إسلام البائع المجهول الحال لأجل الغلبة ، فجعلت الغلبة أمارة على إسلام

٤٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

البائع.

ومع التساوي أو غلبة الكفار ، فان كان البائع مسلما حكم بكون المبيع مذكى ، لأمارية يده على التذكية. وان كان كافرا وجب السؤال والفحص وترتيب آثار عدم التذكية عليه لأصالة عدمها إلى أن يثبت بحجة معتبرة ذكاته. وان كان مجهول الحال حكم بعدم كون ما بيده مذكى ، لأصالة عدم التذكية وفقد أمارة حاكمة عليها.

ودعوى كونه محكوما بالطهارة في صورة التساوي نظرا إلى التسهيل ، وحمل قوله عليه‌السلام في موثق ابن عمار المتقدم : «إذا كان الغالب عليها المسلمين» على الغالب في تلك الأعصار ، وعدم كونه من القيود الاحترازية حتى يدور الحكم مداره ، غير مسموعة ، لعدم كون التسهيل دليلا على الطهارة ، ومجرد سهولة الشريعة لا تصلح لإثباتها ، لأن التسهيل من قبيل الملاكات الداعية إلى التشريع ، لا أنه دليل على المجعول في مقام الإثبات ، ولا يصح الاستدلال على الطهارة بالتسهيل. ولعدم الوجه في حمل القيد على الغالب ، ضرورة أنه خلاف الأصل في القيود ، ولا يصار إليه إلّا بقرينة هي مفقودة في المقام.

وما اشتهر من أن الغلبة في القيد تخرجه عن الاحترازية تمسكا بقوله تعالى : «وربائبكم اللاتي في حجوركم» غير وجيه ، لأنه لو لم يكن دليل من الخارج على عدم دخل الحجر في حرمة الربيبة لقلنا باختصاص الحكم بالربائب اللاتي في الحجور ، كما يقال باختصاص حرمة الربيبة بربيبة دخل الزوج بأمها تمسكا بقوله تعالى : «من نسائكم اللاتي دخلتم بهن» مع أن الدخول بالنساء قيد غالبي ، فلا بد من حمله على الغالب ، ولم يقل أحد بذلك ، لاتفاقهم على عدم حرمتها بدون الدخول بأمها.

٤٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فالمعوّل أصالة عدم التذكية فيما يؤخذ من مجهول الحال مع اختصاص السوق بالكفار أو غلبتهم على المسلمين أو التساوي.

وأما مع غلبة المسلمين فضلا عن اختصاص السوق بهم ، فيحكم بطهارة ما يؤخذ من مجهول الحال ، لما عرفت من ظهور موثقة ابن عمار المتقدمة في كون غلبة المسلمين أمارة على السلام البائع المجهول الحال ، فما عن المستند «من الحكم بتذكية ما يؤخذ من مجهول الحال إذا كان في سوق المسلمين» في غاية المتانة. نعم استدلاله عليه بإطلاق نصوص السوق لا يخلو عن المناقشة إذ لا إطلاق فيها بعد ما عرفت من كون السوق وأرض الإسلام عنوانا مشيرا إلى ما هو الموضوع حقيقة من الاستعمال الدال على التذكية ، فالوجه في ذلك هو الغلبة التي هي أمارة على إسلام البائع ، والمفروض تحقق الاستعمال الكاشف عن التذكية أيضا ، وهو التعريض للبيع فيتم موضوع الطهارة.

ومن هنا يتضح ضعف ما يظهر من الجواهر «من وجود القول بأمارية السوق مطلقا ولو كان مأخوذا من يد الكافر» لكن ظاهر المستند عدم وجود القائل بها ، وذلك لما عرفت من عدم إطلاق في نصوص السوق ، وعدم موضوعية له ، وطريقيته لاستعمال المسلم بنحو يدل على التذكية.

كما يتضح ضعف ما عن الحدائق «من طهارة الجلد المطروح استنادا إلى أنها مما تقتضيه القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى من أن كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، وكل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» وذلك لمحكومية قاعدتي الحل والطهارة بأصالة عدم التذكية التي هي دليل المشهور على نجاسة الجلد المطروح.

٤٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وكما يظهر ضعف ما عن المدارك «من البناء على طهارة الجلد المطروح لقاعدة الطهارة ، واستشكاله في أصالة عدم التذكية بعدم حجية الاستصحاب ، والاستشهاد بصحيح الحلبي : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفاف التي تباع في السوق ، فقال عليه‌السلام : اشتر وصلّ فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه (١) ، ورواية علي بن أبي حمزة : ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه» (٢) ، وذلك لما قرر آنفا من حكومة أصالة عدم التذكية على قاعدة الطهارة بعد وضوح حجية الاستصحاب كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى. وأما صحيح الحلبي فمورده السوق الّذي هو أمارة على التذكية مع وجود الاستعمال الدال عليها. وأما خبر ابن حمزة فهو بعد الغض عن ضعف سنده من المطلقات التي لا بد من تقييدها بوجود أمارة على التذكية ، ومما يعارضه النصوص التي علّقت جواز الصلاة فيما يؤكل لحمه على العلم بالتذكية كموثقة ابن بكير المتقدمة.

فتلخص من جميع ما ذكرناه : أن المأخوذ من يد الكافر محكوم بالنجاسة وعدم التذكية مطلقا سواء كان في السوق المختص بالمسلمين أو الكفار أم المشترك بينهما ، وسواء علم عدم سبق يد المسلم عليه أم شك في ذلك. نعم مع العلم بسبق يد المسلم عليه مع تصرفه فيه بما يدل على تذكيته يحكم بطهارته ، والوجه في النجاسة في غير هذه الصورة أصالة عدم التذكية من دون أمارة حاكمة عليها.

فما في بعض الرسائل العملية «من نفي البعد عن طهارة اللحم والشحم والجلد المأخوذة من يد المسلم مع العلم بسبق يد الكافر عليها إذا احتمل أن

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢

(٢) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤

٤٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المسلم قد أحرز تذكيته على الوجه الشرعي» لا يخلو من الغموض ، لأن مجرد احتمال إحراز المسلم تذكيته لا يكفي في أمارية يد المسلم وحكومتها على أصالة عدم التذكية. نعم مع معاملة المسلم المبالي بالدين معه معاملة المذكى ، أو العلم بمالكيته لما في يده من الجلد وغيره يحكم بالطهارة.

السادس : لو كان ذو اليد كافرا وأخبر بتذكية ما في يده إمّا باشترائه من مسلم ذكّاه أو توكيله مسلما في التذكية ، فان حصل الاطمئنان العقلائي من إخباره فلا إشكال في اعتباره ، لدخوله حينئذ في العلم العادي النظامي الّذي يبني عليه العقلاء في أمورهم ، ولم يردع عنه الشارع ، بل أمضاه. وان لم يحصل الاطمئنان المذكور من إخباره ففي اعتباره من جهة حجية اخبار ذي اليد إشكال ، لأن مستند اعتبار قول ذي اليد من سيرة العقلاء أو اتفاق الفقهاء ـ كما عن الحدائق ـ لا يشمل إخبار ذي اليد الكافر ، إذ المتيقن من هذين الدليلين اللبيّين غير الكافر.

نعم النصوص الواردة في الموارد المتفرقة ـ مثل ما ورد في القصارين (١) والحجامين ، و «أن الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة» (٢) وما ورد في الدهن المتنجس من «أنه يبينه لمن اشتراه ليستصبح به» (٣) وإخبار المعير بنجاسة الثوب الّذي بيده» (٤) حيث ان ظهورها في اعتبار قول ذي اليد مما لا ينكر ـ يمكن الاستدلال بها على المطلوب واصطياد قاعدة كلية وهي حجية إخبار ذي

__________________

(١) الوافي ، ج ١ ، أبواب الطهارة عن الخبث ، باب التطهير من مس الحيوانات ص ٣٢

(٢) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٥٦ من أبواب النجاسات ، الحديث : ١ ، ص ١٠٧٨

(٣) الوسائل ، ج ١٢ ، الباب ٦ من أبواب ما يكتسب به الحديث : ٤ وغيره ، ص ٦٦

(٤) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٤٧ من أبواب النجاسات ، الحديث : ٣ ، ص ١٠٦٩

٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

اليد منها بالنسبة إلى جميع ما في يده وتحت استيلائه بالحلية والحرمة والطهارة والنجاسة وغيرها كالتذكية.

لكن يستفاد من مجموع صحيح معاوية بن عمار : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرّجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول : قد طبخ على الثلث ، وأنا أعرفه أنه يشربه على النصف ، فأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال عليه‌السلام : لا تشربه ، قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه أنه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف يخبر أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال عليه‌السلام : نعم» (١) اعتبار عدم اتهام ذي اليد في حجية قوله.

والحاصل : أنه لا ينبغي التأمل في حجية قول ذي اليد ولو في خصوص صورة عدم الاتهام. وعليه فما عن شرح المفاتيح وشارح الدروس «من عدم اعتبار قول ذي اليد في خصوص النجاسة ، لقوله عليه‌السلام : كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، وأن قول ذي اليد ليس من العلم» لا يخلو من الغموض وذلك لأن المراد بالعلم مطلق الحجة المعتبرة عقلا أو شرعا من العلم الوجداني والأمارة غير العلمية والأصل ، بل لا يبعد دعوى اعتبار قول الصبي المميز ذي اليد مع عدم الاتهام أيضا ان لم تكن الأدلة منصرفة عنه.

ثم ان الظاهر كفاية مجرد الاستيلاء ولو عدوانا في اعتبار قول ذي اليد وعدم اشتراط كونه مالكا ، لعدم دخله في مفهوم اليد عرفا ، بداهة صدق مفهومها كذلك على مطلق الاستيلاء ولو كان ظلما وعدم دليل على اعتباره في ترتب آثار اليد عليه شرعا.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، الباب ٧ من أبواب الأشربة المحرمة ، الحديث : ٤ ، ص ٢٣٤

٤٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأمر الثالث : إذا كان هناك جلود من حيوانات مذكاة وجلود من حيوانات غير مذكاة واختلطت بحيث لا يتميز المذكى منها عن غيره ، فان كانت الأطراف محصورة وجب الاجتناب عن الجميع ، للعلم الإجمالي بنجاسة بعضها ، وكذا الحال في اللحوم والشحوم المشتبهة. وان كانت الأطراف غير محصورة بحيث لا يكون جميعها موردا للابتلاء حتى ينجز العلم الإجمالي لم يجب الاجتناب ، بل يجوز الارتكاب ، لقاعدة الطهارة. ولا موجب للاجتناب إلّا ما يتوهم من جريان أصالة عدم التذكية فيما يكون محل ابتلائه من بعض الأطراف. وهو فاسد ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف المانع عن التعبد بالبقاء ، وعن البناء العملي على أن أحد طرفي الشك أعني به المعلوم السابق هو الواقع وان لم يلزم من هذا التعبد مخالفة قطعية عملية كالمقام ، إذ لا يلزم من التعبد ببقاء عدم التذكية إلّا الاجتناب عن المذكى الواقعي ، وهذا مما لا محذور فيه ، لكن لا داعي إلى هذا التعبد بعد فرض انعدام موضوعه بانتقاض الحالة السابقة.

والحاصل : أن المانع عن جريان الأصول التنزيلية في أطراف العلم الإجمالي هو المحذور في نفس الجعل والتشريع أعني التعبد بما يعلم إجمالا بخلافه ، وليس المحذور ما يرجع إلى العبد من المخالفة عملا. وعليه فلا يجري الاستصحاب الحكمي أيضا بالمناط المذكور ، فتصل النوبة إلى قاعدة الطهارة.

ومن هنا يظهر حال الجلود المجلوبة من بلاد الكفار وما يصنع منها من الخفّ والنعل وغيرهما مع العلم بنقل جلود من بلاد المسلمين أيضا إلى بلادهم كما هو دأب التجار في هذه الأعصار ، وعدم العلم بكون هذا الجلد المجلوب من جلود الكفار أو من جلود المسلمين المنقولة إلى تلك البلاد ، فانه مع عدم جريان

٤٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

استصحابي عدم التذكية والطهارة تجري قاعدة الطهارة. ولكن لا تجوز الصلاة فيه ، لعدم إحراز شرطه وهو التذكية والمأكولية.

وان شئت فقل : ان وجه عدم جريان استصحاب عدم التذكية في الجلود هو عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، إذ الشك الفعلي انما نشأ من اشتباه الجلود وعدم تميزها بعد العلم بذكاة جلود بلاد المسلمين وعدم ذكاة جلود بلاد الكفار ، فهذا العلم قد تخلل بين القطع بعدم ذكاة الحيوان حال حياته وبين الشك الناشئ عن الاختلاط وعدم تميز الجلود ، وزمان هذا الشك غير متصل بزمان القطع الّذي كان حال حياة الحيوان. نظير عدم جريان استصحاب نجاسة الدم المردد بين كونه من المسفوح أو المتخلف في الذبيحة ، فلا يقال : ان هذا الدم قبل ذبح الحيوان كان نجسا ، والآن كما كان ، وذلك لعدم اتصال زمان الشك في نجاسته فعلا بزمان اليقين بها حال حياة الحيوان ، لأنه بعد الذبح وخروج ما يعتاد خروجه من الدم لقد علم بنجاسة الدم المسفوح وطهارة المتخلف والشك في نجاسة هذا الدم نشأ من الشك في كونه من الطاهر أو النجس ، ومن المعلوم أن زمان هذا الشك ليس متصلا بزمان اليقين بنجاسته حال حياة الحيوان ، لتخلل اليقين بنجاسة المسفوح وطهارة المتخلف بينهما ، فمقتضى القاعدة طهارته ، لكونه من الشبهات الموضوعية التي تجري أصالة الطهارة فيها. هذا ما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس. هذا حال الجلود.

وأما اللحم والشحم المجلوبان من بلاد الكفار ، فمع العلم الإجمالي باختلاطهما بمثلهما من الحيوان المذكى كما إذا علم إجمالا بأن هناك قسمين من الحيوان أحدهما مذكى والآخر غير مذكى كالعلم بأن بعض أفراد السمك

٤٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

يخرج من الماء حيا ويموت خارج الماء ، ويؤخذ بعضها من الماء بعد موته فيه ، فإذا اشتبه لحم السمك المذكى المجلوب من بلاد الكفر بلحم السمك غير المذكى حكم بطهارته ، لعدم كونه مما له نفس سائلة ، وبحليته لقاعدة الحل إذ المانع من جريانها اما العلم الإجمالي ، واما أصالة عدم التذكية ، وشيء منهما لا يصلح للمانعية.

إذ في الأول عدم منجزيته ، لخروج أكثر الأطراف عن مورد الابتلاء.

وفي الثانية عدم جريانها ، لما تقدم آنفا من منافاة التعبد ببقاء المعلوم السابق مع العلم الوجداني بالانتقاض.

وكذا الحال في الاستصحاب الحكمي ، فلا يحكم بحرمته لاستصحابها.

هذا إذا اشتبه المذكى بغيره مما يحل أكله بالأصالة وكانت الحرمة لعدم التذكية.

وكذا إذا اشتبه المذكى بغيره مما يحل أكله ذاتا كما إذا شك في كون هذا اللحم المجلوب من بلاد الكفر من السمك الّذي له فلس أو مما ليس له فلس ، أو في كونه من الغنم أو الخنزير.

والحاصل : أنه مع العلم الإجمالي بوجود المذكى من الحيوانات البحرية والبرية في بلاد الكفر واشتباهه بغير المذكى منها في تلك البلاد يمكن الحكم بحليته وطهارة اللحم والشحم المجلوبين من تلك البلاد إلى الممالك الإسلامية المشكوك كونهما من الحيوان المحلل أو المحرم كالغنم والخنزير أو من الحيوان المحلل الّذي شك في تذكيته بحيث نشأ احتمال حرمته من الشك في تذكيته لا في حرمته الأصلية. والوجه في الحلية والطهارة قاعدتا الحل والطهارة بعد

٤٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

منع جريان أصالة عدم التذكية واستصحابي الحرمة والطهارة. هذا ما تقتضيه القاعدة ، لكن الاحتياط للدين يقتضي الاجتناب.

وأما مع عدم العلم الإجمالي بوجود المذكى في بلاد الكفر واحتمال وجوده فيها وعدمه ، فمقتضى أصالة عدم التذكية نجاسة الجلود ، وحرمة أكل اللحم والشحم ونجاستهما ، والتفكيك بين الحرمة والنجاسة بالقول بالحرمة والطهارة في غير محله كما تقدم مفصلا.

وأما الألبان ومشتقاتها المجلوبة من بلاد الكفر كالدهن والزبد والجبن وغيرها ، فمع احتمال أخذها من مأكول اللحم يحكم بطهارتها وحليتها ، لقاعدتيهما الجاريتين في سائر الشبهات الموضوعية أيضا إلّا مع العلم بأخذها من غير محلل الأكل ، فيحرم حينئذ ، أو العلم بمباشرة الكفار لها ، فيحكم بنجاستها بناء على نجاستهم.

والحاصل : أنه مع احتمال الأخذ من الحيوان المحلل الأكل يحكم بحلية المجلوب وطهارته ، من غير فرق في ذلك بين العلم الإجمالي باشتباه المذكى بغيره ، أو المحلل الأكل بغيره ، وبين عدم العلم بذلك ، حيث ان حلية اللبن وما يصنع منه لا تتوقف على التذكية حتى يقال بجريان أصالة عدمها ويترتب عليها الحرمة والنجاسة.

نعم لو توقفت على التذكية كدهن السمك ، فمع العلم الإجمالي بوجود السمك المذكى وغيره عند الكفار يحكم بطهارته وحليته ، لقاعدتيهما ، وعدم جريان أصالة عدم التذكية واستصحاب الحرمة ، لما مرّ من العلم بالانتقاض. ومع عدم العلم الإجمالي بوجود المذكى عند الكفار يحكم بحرمته ، لأصالة عدم التذكية ، وطهارته ، لعدم نجاسة ميتة ما ليس له نفس سائلة.

٤٧٧

الثاني (١) : أنه لا شبهة في حسن (٢) الاحتياط

______________________________________________________

(٢ ـ تصحيح الاحتياط في العبادة مع الشك في الأمر)

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه هو التعرض لإشكال الاحتياط في العبادات في الأفعال التي يدور أمرها بين الوجوب وغير الاستحباب بحيث لم يحرز تعلق أمر الشارع بها ، وقد عقد شيخنا الأعظم ثاني تنبيهات الشبهة الوجوبية لبيان هذا الإشكال وطرق تصحيح الاحتياط في هذه الموارد ، والظاهر أن المقصود من عنوان هذا البحث هو توجيه فتوى جملة من القدماء باستحباب أفعال لم يقم نصّ على استحبابها ، وأنه هل يمكن أن يكون وجه ذلك رجحان الاحتياط أم لا؟ وقد تصدى المصنف قبل بيان الإشكال والجواب عنه للإشارة إلى أمرين سيأتي بيانهما.

(٢) هذا هو الأمر الأول ، وتوضيحه : أنه لا إشكال في حسن الاحتياط عقلا ورجحانه شرعا في كل شبهة سواء كانت وجوبية أم تحريمية ، والّذي نفيناه سابقا هو وجوبه الشرعي خلافا لأصحابنا المحدثين ، حيث التزموا بوجوبه في الشبهة الحكمية التحريمية الناشئة من فقد النص. أما حسنه العقلي ، فلكونه محرزا عمليا للواقع وموجبا للتحرز عن المفسدة الواقعية المحتملة ، واستيفاء

٤٧٨

شرعا (*) وعقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات

______________________________________________________

المصلحة كذلك ، وأما رجحانه الشرعي ، فلإمكان استفادة استحبابه من بعض الاخبار ، كقوله عليه‌السلام في مقام الترغيب عليه : «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها» (١) بناء على كون التعليل بالأتركية حكمة لتشريع الاحتياط لا علة له ، وإلّا فهو ككثير من الروايات الآمرة بالتوقف والاحتياط عند الشبهات محمول على الإرشاد كما تقدم تفصيله.

ولا يخفى أن هذا الأمر الأول قد أفاده الشيخ الأعظم في مواضع من كلماته ، فحكم برجحان الاحتياط عقلا وشرعا في أول التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة الموضوعية التحريمية بقوله : «انه لا شك في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط ...» وفي صدر التنبيه الثالث من الشبهة الحكمية التحريمية بقوله : «لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا ونقلا كما يستفاد من الاخبار المذكورة» وفي أول التنبيه الثاني من الشبهة الوجوبية ، حيث قال : «انه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل حتى فيما احتمل كراهته».

__________________

(*) أما حسنه العقلي ، فلكونه انقيادا للمولى. وأما حسنه الشرعي فلا بد أن يكون إما لانبعاث الأمر به عن نفس مصلحة الحكم الواقعي كما أشرنا إليه في بعض تعاليق حديث الرفع بحيث تدعو تلك المصلحة إلى جعل الحكم المماثل للحكم الواقعي تحصيلا له ولغرضه. وإما للأمر به لتنجيز الواقع المحتمل حتى يصل المكلف الجاهل إلى الغرض منه ، نظير الأمر بالطرق لتنجيز الواقعيات على بعض المسالك.

وبالجملة : فالرجحان الشرعي لا بد أن يكون لأحد هذين الوجهين. وأما الأمر الإرشادي فهو أجنبي عن الرجحان الشرعي ، إذ لا يأمر الآمر به إلّا من

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١١٨ الحديث ٢٢.

٤٧٩

وغيرها (١).

كما لا ينبغي (٢) الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط

______________________________________________________

(١) يعني : المعاملات ، كالإتيان بما يحتمل دخله في صحة المعاملة مع عدم ما يدل على اعتباره.

(٢) هذا هو الأمر الثاني ، وتوضيحه : أنه لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب على الاحتياط في كل من الشبهة الوجوبية والتحريمية ، كما إذا أتى بالفعل باحتمال أمر المولى ، أو تركه باحتمال نهيه ، وذلك لأنه انقياد للمولى وتخضع له ، بل استحقاقه عليه أولى من استحقاق العقاب على ترك الاحتياط اللازم ، لأن الأمر في جانب الثواب أوسع منه في جانب العقاب ، ولذا لا يعاقب

__________________

حيث انه مخبر بما فيه من الحسن ، لا من حيث انه شارع. فما في ثالث تنبيهات الشبهة الحكمية التحريمية من رسائل شيخنا الأعظم من الترديد في كون الأمر بالاحتياط للاستحباب أو للإرشاد بعد الجزم برجحانه شرعا لم يظهر له وجه.

إلّا أن يوجه حسنه الشرعي بما في حاشية المصنف على الرسائل في أخبار الاحتياط من قوله : «بل الأولى حملها على مطلق الرجحان إرشادا مع ما هو عليه من ملاك الاستحباب أيضا حسب ما هو مقتضى الجمع بين الاخبار».

لكنه واضح المناقشة ، إذ تصوير الجامع بين الوجوب والاستحباب وهو مطلق الرجحان بمكان من الإمكان ، لكونهما من سنخ الطلب المولوي ، وهذا بخلاف الأمر بالاحتياط ، فان فرض الجامع بين الإرشاد والاستحباب غير متيسر ، إذ الاحتياط من مراتب الإطاعة التي لا تقع موردا للطلب المولوي. نعم لا بأس بجعله لمطلق الإرشاد كما تقدم منه فيتبع في وجوبه واستحبابه المرشد إليه ، إلّا أنه أجنبي عما ادعاه من الجمع بين الطلب الاستحبابي والإرشادي وعلى هذا فلم يظهر وجه وجيه لما في المتن تبعا لشيخنا الأعظم.

٤٨٠