منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

كيف (١) لا يكون قوله : «قف عند الشبهة ، فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» للإرشاد (٢)؟ مع أن المهلكة ظاهرة [ظاهر]

______________________________________________________

(١) هذه قرينة أخرى على الإرشاد ، وتختص بأخبار الوقوف المعلّلة ، وتوضيحها : أن المراد بالهلكة ما يرجع إلى المكلف في الآخرة وهو العقوبة ، ومقتضى التعليل بقوله : «فان الوقوف» كون الهلكة ثابتة قبل إيجاب الاحتياط ، لأن الهلكة في هذه الاخبار موضوع للحكم بوجوب التوقف ، ومن المعلوم تقدم الموضوع على الحكم ، لأنه كالعلة له ، فلا بد أن تكون العقوبة مفروضة الوجود قبل الأمر بالتوقف حتى يكون إيجابه لأجل التحرز عنها ، ومن الواضح أن هذه الهلكة ليست على مخالفة الإلزام الواقعي المجهول ، لقضاء قاعدة قبح العقاب بلا بيان بقبحها ، فلا بد أن تكون على التكليف المنجز بغير الأمر بالتوقف ، وإلّا لزم الدور ـ كما سيأتي ـ وحينئذ فيختص الأمر بالتوقف بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، والشبهة البدوية قبل الفحص ، ويكون الأمر بالاحتياط إرشادا إلى حكم العقل بوجوبه ، لتنجز الواقع بالعلم الإجمالي ولا مساس له بالشبهة البدوية بعد الفحص.

نعم إذا كان أمر الاحتياط نفسيا لا إرشادا إلى التحفظ على الأحكام الواقعية ترتب استحقاق العقوبة على مخالفته ، لكن لازمه أجنبية التعليل عن المعلل ، لعدم كون التوقف في الشبهة البدوية بعد الفحص معلولا للعقوبة الواقعية ، بل واجبا مستقلا مستتبعا للمؤاخذة على مخالفة نفسه ، مع أن ظاهر التعليل بقوله عليه‌السلام : «فان الوقوف عند الشبهة ...» هو التحرز عن عقوبة التكليف الواقعي المجهول ، وقد عرفت أن لازم ذلك وجود الهلكة قبل الأمر بالاحتياط حتى يحسن الإرشاد إليه بالأمر بالتوقف.

(٢) خير لقوله : لا يكون.

٣٦١

في العقوبة (*) ، ولا عقوبة في الشبهة البدوية (١) قبل إيجاب الوقوف والاحتياط ، فكيف يعلل إيجابه (٢) بأنه خير من الاقتحام في الهلكة؟

______________________________________________________

(١) لاعتراف المحدثين بكونه من العقاب بلا بيان المتسالم على قبحه وعدم صدوره من الحكيم ، لكنهم يدعون وجود التكليف الظاهري وهو وجوب الاحتياط.

(٢) ضميرا «إيجابه ، بأنه» راجعان إلى الوقوف والاحتياط ، يعني : بعد أن اتضح لزوم كون الهلكة مفروضة الوجود قبل الأمر بالاحتياط ، لأنها علة لوجوده ، فلا يعقل تأخرها عنه ونشوها منه لاستلزامه الدور ، بتقريب : أن الهلكة ـ لكونها علة لإيجاب الاحتياط ـ مقدمة عليه رتبة كتقدم سائر العلل على معاليلها ، فلو ترتبت الهلكة على إيجاب الاحتياط كما هو مدعى الخصم ـ حيث يدعي ترتب العقوبة على ترك الاحتياط ، لأنه يعترف بقبح المؤاخذة على التكليف المجهول ـ كانت مؤخرة عنه ، وهو الدور ، لتوقف إيجاب الاحتياط على الهلكة ، وتوقف الهلكة على إيجاب الاحتياط (فلا بد) دفعا لمحذور الدور من القول بعدم ترتب الهلكة على الأمر بالتوقف والاحتياط والالتزام بترتبها على التكليف المنجز بغير الأمر بهما ، فإذا لم تترتب الهلكة عليه كان للإرشاد.

وبالجملة : لا يصح جعل الهلكة علة لإيجاب الاحتياط مع فرض ترتب الهلكة عليه كما يدعيه الخصم ، لاستلزامه ـ بمقتضى تقدم العلة على المعلول ـ أن يكون كل منهما مقدما على صاحبه ومؤخرا عنه في آن واحد ، وهو محال ، فلا محيص عن الالتزام بتقدم الهلكة رتبة على الأمر بالاحتياط دون تأخرها عنه بمعنى كونها معلولة له ، بل هي معلولة لشيء آخر كما تقدم. وهذا نظير قوله

__________________

(*) لكن هذا الاستظهار ـ مع منافاته لما ذكره قبل أسطر بقوله : «فيختلف

٣٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

«لا تعبر عن الطريق الفلاني ، لأن فيها قاطع الطريق» فان التعليل به لا يصح إلّا مع وجوده قبل النهي عن العبور.

__________________

إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه» إذ لا معنى للإرشاد إلى الهلكة بمعنى العقوبة مع فرض استحباب التحرز عنها ـ ممنوع جدا ، إذ التعليل المذكور ورد في مقبولة عمر بن حنظلة بعد الأمر بالإرجاء «حتى تلقى إمامك» ولا ريب في إرادة العقوبة منها هنا ، وكذا في صحيحة جميل. ولكنه ورد في موثقة مسعدة بن زياد للاحتراز عن نكاح المرأة التي بلغه أن لها معه رضاعا محرِّما ، ولا ريب في أن الهلكة فيها ليست بمعنى العقوبة قطعا ، لأنها شبهة موضوعية بدوية قد أطبق المحدثون على كونها مجرى البراءة ، وهو مورد لاستصحاب عدم الرضاع ، مضافا إلى التصريح بحليته في رواية مسعدة بن صدقة ، ولا معنى لكونها بمعنى العقوبة ثم تخصيصها بما دلّ على الترخيص فيها ، لأنه من التخصيص بالمورد وإخراجه.

ولعله لذا التزم شيخنا الأعظم (قده) بأن الأمر به للإرشاد المطلق ، قال (قده) «فان كان ذلك الهلاك المحتمل من قبيل العقاب الأخروي كما لو كان التكليف متحققا فعلا في موارد الشبهة المحصورة ونحوها ... ففي هذه المقامات ونحوها يكون التوقف لازما عقلا وشرعا من باب الإرشاد. وان كان الهلاك المحتمل مفسدة أخرى غير العقاب سواء كانت دينية ... أم دنيوية كالاحتراز عن أموال الظلمة ، فمجرد احتماله لا يوجب العقاب على فعله لو فرض حرمته واقعا .... إلى أن قال : فخيرية الوقوف عند الشبهة من الاقتحام في الهلكة أعم من الرجحان المانع من النقيض ومن غير المانع منه ، فهي قضية تستعمل في المقامين ، وقد استعملها الأئمة كذلك ...».

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

واستشهد للحمل على الإرشاد بما تقدم في التوضيح من تبين حكمة طلب التوقف ، وإباء السياق عن التخصيص ، وتخصيص الأكثر ، وعدم ترتب عقاب على مخالفة الأمر بالتوقف غير ما يترتب على ارتكاب الشبهة أحيانا من الهلاك المحتمل.

والكل لا يخلو عن غموض ، أما الأول ، فلان مجرد تبين حكمة الطلب لا يساوق الإرشاد ، كما يظهر من ملاحظة الحكم الشرعية لبعض الأحكام مثل عدم اختلاط المياه الّذي علل به تشريع العدة ووجوب الصلاة لكونها ذكرا له تبارك وتعالى أو ناهية عن الفحشاء والمنكر ، وغير ذلك ، ولا أظن الالتزام بكون الأمر للإرشاد بمجرد بيان حكمته ، بل هو لازم أعم وليس مساويا للإرشادية. وكذا الحال في تعليل قاعدة التجاوز بأنه «حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» (١) فان قلت : فرق بين التعليل الوارد في أخبار الوقوف وبين ما ورد من حكمة وجوب الاعتداد ، فان الأول كالصريح في الإرشاد ، بخلاف الثاني ، فالمراد بتبين حكمة طلب التوقف هو وجود خصوصية في أخباره تقتضي حملها على الإرشاد.

قلت : نعم ، لكنه يتم بناء على جعل الهلكة بمعنى العقوبة مطلقا كما عليه المصنف (قده) لا بناء على جعلها بمعنى أعم من العقوبة كما عليه الشيخ الأعظم حيث جعلها بمعنى العقوبة تارة وبمعنى المفسدة أخرى ، وحينئذ فيشكل بما ذكرنا من أن ذكر الحكمة أعم من الإرشادية.

وأما الثاني ، فلان التخصيص يرد على الشبهة في قوله عليه‌السلام : «وقفوا

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ ص ٣٣١ ، الحديث : ٧.

٣٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عند الشبهة» القابلة له بلا إشكال ، لا على التعليل الآبي عنه ، فان وجوب الاحتياط يستفاد من الأمر الدال على مطلوبية التوقف عند كل شبهة ، وما دلّ على الترخيص في الموضوعية صالح للتخصيص ، وهو لا ينافي سياق التعليل ، فان الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام فيها ، فكأنه قال : «الوقوف عند كل شبهة واجب الا الموضوعية التي ورد الترخيص فيها» ثم علل الأمر به بما ذكر. ويشهد لعدم التنافي بين الأمر به والترخيص موثقة مسعدة بن زياد ، فانه عليه‌السلام مع فرض جواز التزويج بالمرأة المرددة بين كونها أجنبية وأختا رضاعية علّل رجحان التوقف بأنه خير من الاقتحام في الهلكة ، فاعتراف شيخنا الأعظم بعدم كون الهلكة بمعنى خصوص المؤاخذة الأُخروية يوجب النقض عليه بأن مجرد الترخيص لا ينافي سياق أخبار الوقوف ، ولا يهدم عموم التعليل الجامع بين المانع من النقيض وغيره.

وأما الثالث ، فبالمنع من لزوم تخصيص الأكثر في القضايا الحقيقية ، حيث ان موضوع الحكم فيها هو العنوان لا الأفراد ، فالمحذور مختص بالقضايا الخارجية كما إذا قال : «أكرم من في المسجد» فيما إذا كان «من في المسجد» عنوانا مشيرا ثم أخرج زيدا وعمراً وغيرهما من الأفراد منه إلى أن يبقى واحد أو اثنان تحت العام. هذا.

مضافا إلى أن التخصيص إذا كان بعنوان «ما ورد فيه ترخيص» فلا مورد للمحذور المتقدم ، مع تصريح الشيخ في قاعدة لا ضرر بعدم قدحه ، حيث قال : «وقد تقرر أن تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لأفراد هي أكثر من الباقي ، كما إذا قيل : أكرم الناس ودلّ دليل على اعتبار

٣٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العدالة خصوصا إذا كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب» فكأنه عليه‌السلام قال : «قف عند الشبهة إلّا ما ورد الترخيص فيها» فان الخارج عنوان واحد وان كانت مصاديقه أكثر مما بقي.

وأما الرابع ، فلان عدم ترتب العقوبة على مخالفة الأمر غير مساوق للإرشاد ، إذ الأوامر الطريقية أيضا كذلك مع أنها مولوية ، فمخالفة خبر العادل مع فرض الإصابة للواقع لا تستتبع عقابين أحدهما على عصيان الواقع والثاني على عدم تصديق العادل عملا ، بل يستحق عقوبة واحدة على التمرد عن الطلب النفسيّ في المؤدي ، وعليه ، فاستكشاف إرشادية أوامر الوقوف من عدم ترتب العقوبة على مخالفتها غير تام.

كما أن ما أفاده الشيخ الأعظم (قده) من استحباب التحرز إذا كان غير العقاب ـ الشامل بإطلاقه للإضرار بالنفس ـ ينافي ما تقدم منه في رد كلام الحاجبي في أول أدلة اعتبار مطلق الظن بقوله : «ثم ان ما ذكرنا من ابتناء الكبرى على التحسين والتقبيح العقليين غير ظاهر ، لأن تحريم تعريض النّفس للهلاك والمضار الدنيوية والأخروية مما دل عليه الكتاب والسنة مثل التعليل في آية النبأ ، وقوله تعالى : لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ...».

فالحق في إثبات إرشادية أوامر الوقوف كأوامر الاحتياط أن يقال : ان تطبيق الهلكة في موثقة مسعدة بن زياد على خصوص المفسدة وعدم إرادة العقوبة منها قرينة على عدم كون الأمر بالوقوف فيها للوجوب المولوي ، لوضوح أن مورده مجرى الأصل المرخّص ، وعدم التزام أحد بوجوب التوقف فيه ، فإرادة الوجوب المولوي منه توجب خروج مورد الموثقة عنه ، واستهجان ذلك

٣٦٦

لا يقال (١):

______________________________________________________

(١) الغرض من هذا الإشكال : استكشاف الأمر المولوي الظاهري بالاحتياط بالبرهان الإنّي كما سيظهر ، وقد تعرض له شيخنا الأعظم في الجواب عن أخبار الوقوف ـ بعد حمل الأمر فيها على الإرشاد ـ بقوله : «فان قلت : ان المستفاد منها احتمال التهلكة في كل محتمل التكليف ...... ولازم ذلك إيجاب الشارع الاحتياط ، إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهري بالاحتياط قبيح» ثم أجاب عنه بما تقدم في كلام المصنف بقوله : «ولا يصغى إلى ما قيل ...».

وتوضيح الإشكال منوط بذكر أمور :

الأول : أن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو عدم البيان على الحكم الواقعي فقط حتى يجري بمجرده ولو مع وجود البيان على الحكم الظاهري ، بل هو عدم البيان على كليهما معا ، فلو وجد البيان على الحكم الظاهري فقط لم تجرِ القاعدة وان لم يحصل بيان بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، كما لا تجري لو وجد على الحكم الواقعي فقط.

الثاني : أن ظاهر تعليل حكم متعلق بطبيعة هو سريان الحكم في جميع

__________________

بديهي.

وكذا الحال في الأمر بالوقوف في المقبولة وصحيحة جميل مع كون المراد بالهلكة فيهما العقوبة ، حيث ان الوجوب المولوي فيهما يوجب تنجز المتنجز ، إذ التكليف في الشبهة المقرونة والبدوية قبل الفحص قد تنجز بمنجز سابق وهو العلم الإجمالي والاحتمال ، فلا معنى لتنجزه ثانيا بوجوب التوقف مولويا.

فالنتيجة : أنه لا بد من حمل أوامر التوقف على الإرشاد ، فلا تدل على الوجوب المولوي حتى تعارض أدلة البراءة وتصل النوبة إلى علاج التعارض.

٣٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مصاديق تلك الطبيعة وعدم اختصاصه ببعض أفرادها ، كما في قولك : «لا تأكل الرمان لأنه حامض» وموضوع الأمر بالتوقف في المقام هو «الشبهة» وهي بإطلاقها تشمل مورد النزاع أعني البدوية بعد الفحص ، فإذا لم يوجد مقيد شمله الحكم بالوقوف.

الثالث : أن الحكم الشرعي اما أن يدل عليه الخطاب بالمطابقة كقوله : «يجب كذا» أو «يحرم كذا» أو يدل عليه بالالتزام مثل قوله تبارك وتعالى : ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها» فانه يدل بالالتزام على حرمة القتل عمدا ، وإلّا لم يكن وجه لجزاء القاتل بخلوده في جهنم.

الرابع : أن المقصود من الهلكة ـ كما هو المتبادر منها إلى الذهن أو المنصرف إليه من إطلاقها ـ هو العذاب الأخروي دون المضار الدنيوية ، ضرورة أن هم الشارع صَرف العباد عن العقوبة الأخروية.

إذا عرفت هذه الأمور ، فنقول : حاصل الإشكال أنه وان لم يمكن أن يكون الأمر بالوقوف والاحتياط في الاخبار المثبتة للهلكة للطلب المولوي الإلزامي ، بل لا بد من حمله على الإرشاد كما تقدم ، لكن يمكن استفادة طلب ظاهري مولوي آخر من تلك الاخبار بالدلالة الالتزامية ، وذلك لأنه لمّا كانت العقوبة من آثار الطلب المولوي ـ كما هو المستفاد منها ، حيث رتبت الهلكة يعني العقوبة على كل محتمل التكليف الإلزامي الّذي منها الشبهة البدوية بعد الفحص ـ كان الدليل الدال على وجود العقوبة في الشبهة كاشفا عن وجود البيان على التكليف ودالا عليه بالدلالة الالتزامية ، وأن الشارع قد اكتفي بذكر اللازم ـ وهو الابتلاء بالعقوبة الأخروية ـ عن بيان ملزومه وهو الوجوب الشرعي.

وبالجملة : فالاخبار المثبتة لترتب الهلكة على ترك الاحتياط في الشبهة

٣٦٨

نعم (١) ، ولكنه يستكشف منه (٢) [عنه] على نحو الإنّ (٣) إيجاب الاحتياط من قبل (٤) ليصح به (٥) العقوبة على المخالفة.

فانه يقال : ان مجرد إيجابه (٦) واقعا ما لم يعلم (*) لا يصحح

______________________________________________________

التي منها البدوية بعد الفحص كاشفة عن وجوب الاحتياط شرعا كشفا بالمعلول عن العلة ، وإلّا كان المعلول بلا علة والعقاب بلا بيان.

(١) استدراك على قوله : «فكيف يعلل» وضمير «لكنه» للشأن ، يعني : أن مقتضى ما تقدم من انبعاث الأمر بالتوقف عن الهلكة المفروضة الوجود وان كان هو وجودها في رتبة سابقة على الأمر ، فلا يمكن استكشاف الهلكة من الأمر ليحمل على كونه مولويا ، لكن يمكن استكشاف الأمر المولوي بالاحتياط من الهلكة المترتبة على الأمر به بالبرهان الإنّي ، كما عرفت توضيحه.

(٢) أي : من التعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة : «فان الوقوف ...».

(٣) البرهان الإنّي هو العلم بالعلة من العلم بالمعلول ، واستكشافها منه.

(٤) أي : من قبل تشريع إيجاب الاحتياط في الشبهات البدوية ، وقوله : «إيجاب» نائب عن فاعل قوله : «يستكشف».

(٥) أي : بإيجاب الاحتياط المستكشف من التعليل المزبور.

(٦) أي : إيجاب الاحتياط ، وتوضيح ما أجاب به هنا وفي حاشية الرسائل عن الإشكال : أن العقاب على مخالفة إيجاب الاحتياط في الشبهة البدوية ما لم يصل إلى المكلف عقاب بلا بيان ، إذ المصحح للمؤاخذة هو البيان الواصل ،

__________________

(*) هذا الجواب لا يدفع الإشكال ، لأن المستشكل لا ينكر قبح العقاب على المجهول وان كان ذلك إيجاب الاحتياط ، وانما يدّعي العلم إنّا بوجوب الاحتياط الّذي هو بيان على المجهول ورافع لقبح العقاب عليه ، فدفع الإشكال منحصر بإنكار البرهان الإنّي في المقام كما يظهر من حاشيته على الرسائل.

٣٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لا التكليف بوجوده الواقعي ، سواء كان الحكم الواقعي نفسيا أم طريقيا كإيجاب الاحتياط ، والمفروض عدم وصوله بغير أخبار الوقوف ، واستكشاف وصوله مما اشتمل على ثبوت الهلكة في ارتكاب الشبهة من باب دلالة اللازم على ثبوت ملزومه ـ بدعوى عموم الشبهات في قوله عليه‌السلام : «فمن ترك الشبهات» أو إطلاق الشبهة في قوله عليه‌السلام : «فان الوقوف عند الشبهة» ـ غير ممكن ، لاستلزامه الدور ، وذلك لأن بيانية أخبار الوقوف للوجوب المولوي منوطة بإمكان الأخذ بظاهر الهلكة وهو العقوبة ليدل قوله : «قفوا» على الوجوب ، إذ لو أريد بالهلكة معنى آخر غير العقوبة الأخروية لم يدل عليه ، لعدم وجوب دفع غير العقوبة وجوبا مولويا ، وحمل الهلكة على العقوبة منوط بكون قوله : «قفوا» بيانا وإعلاما لحكم المشتبه ـ وهو وجوب الاجتناب عن الواقع المجهول ـ إذ لو لم يكن بيانا ومنجزا له لم يصح حمل الهلكة على ظاهرها أعني العقوبة.

وبعبارة أخرى : الأخذ بظاهر «قفوا» من الوجوب المولوي متوقف على حمل الهلكة على العقوبة ، وحملها عليها متوقف على كون الأمر في «قفوا» للوجوب المولوي ، فبيانية أخبار الوقوف للوجوب المولوي متوقفة على بيانيتها له ، وهو الدور.

ومن هنا يظهر الفرق بين المقام وما ورد من الوعيد الصريح في العقوبة الأخروية على بعض الأفعال ـ كقتل المؤمن متعمدا ـ الدال بالالتزام على حرمته المولوية ، حيث ان الوعيد لا بد أن يكون بمقتضى دلالة الاقتضاء كناية عن التحريم وبيانا عليه ، ولا يلزم منه محذور الدور ، لأن الدور هناك كان ينشأ من توقف حمل الهلكة على العقوبة على أن الأمر في «قفوا» للوجوب المولوي

٣٧٠

العقوبة ولا يخرجها عن أنها (١) بلا بيان ولا برهان ، فلا محيص (٢) عن اختصاص مثله (٣) بما يتنجز فيه المشتبه قبل الفحص مطلقا (٤) ، أو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

وتوقف كونه للوجوب المولوي على حمل الهلكة على العقوبة ، بخلاف الوعيد هنا ، فانه صريح في العقوبة ، ولا يتوقف حملها عليها على شيء ، فيستكشف منه الحرمة المولوية ، ولا وجه لحمل النهي عن ذلك الفعل المتوعد عليه ـ فيما إذا ورد نهي عنه ـ على الإرشاد. وهذا بخلاف أخبار الوقوف ، فحيث كان محذور الدور مانعا عن إرادة الإيجاب المولوي تعين حمل الشبهة على ما تنجز فيه التكليف بمنجز آخر كالمقرونة بالعلم الإجمالي والبدوية قبل الفحص ، ويكون الأمر بالوقوف إرشادا إلى حكم العقل بلزوم رعاية العلم الإجمالي والاحتمال.

(١) الضميران راجعان إلى العقوبة ، قال في حاشية الرسائل : «حيث لا يعلم بإيجابه بعدُ ، وهذه الاخبار لا تصلح بيانا وإعلاما له ، فان كونها بيانا وإعلاما موقوف على صحة حمل التهلكة فيها على ظاهرها ، وهو موقوف على كونها بيانا وإعلاما ، وإلّا لما صح حملها على ظاهرها كما عرفت».

(٢) هذا نتيجة بطلان ما ذكره في «لا يقال» وأن التعليل المذكور في أخبار التوقف لا يدل على وجوب الاحتياط مولويا ، فمثل هذا الحديث أجنبي عن مورد البحث وهو الشبهة الحكمية بعد الفحص ، ومختص بالشبهات التي تنجز فيها الحكم كالشبهة البدوية قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي ، لعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيهما.

(٣) يعني : مثل التعليل الوارد في حديث مسعدة بن زياد المتقدم : «وقفوا عند الشبهة».

(٤) يعني : سواء كانت الشبهة وجوبية أم تحريمية.

٣٧١

وأما العقل،فلاستقلاله (١) بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته (*)

______________________________________________________

(١) بعد أن فرغ المصنف من بيان الدليل النقلي على وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص تعرض للدليل العقلي ، وقد قرر هذا الدليل بوجهين هذا أولهما ، وهو مؤلف من صغرى وجدانية وكبرى برهانية. أما الصغرى فهي أن كل مكلف بمجرد التفاته يعلم إجمالا بتكاليف إلزامية في الشريعة المقدسة وهي منتشرة في الوقائع المشتبهة ، ونسبة هذه التكاليف المعلومة إجمالا إلى المشتبهات كنسبة ألف شاة محرمة في عشرين ألف شاة ، فهي من شبهة الكثير في الكثير ولم يعلم بعد مراجعة الأدلة بالخروج عن عهدة تلك التكاليف الواقعية المعلومة إجمالا التي كلفنا الشارع بامتثالها. وأما الكبرى فهي : استقلال العقل بتنجز الخطاب بالعلم الإجمالي به ، فنرتب المقدمتين هكذا : هذه تكاليف إلزامية معلومة بالإجمال ، وكل ما كان كذلك فهو منجز عقلا ، فيجب بحكم العقل الخروج عن عهدتها ، ولا يتحقق ذلك إلّا بالاحتياط بالإتيان بما يحتمل وجوبه وترك ما يحتمل حرمته ، لاقتضاء الاشتغال اليقيني البراءة اليقينية.

__________________

(*) لكن شيخنا الأعظم (قده) قرر هذا الدليل العقلي بوجه آخر يختلف عما في المتن ، قال (قده) : «وأما العقل فتقريره من وجهين : أحدهما : أنا نعلم إجمالا قبل مراجعة الأدلة الشرعية بمحرمات كثيرة يجب بمقتضى قوله تعالى : وما نهاكم عنه فانتهوا ونحوه الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب ... إلخ».

ومن المعلوم مغايرته لما في المتن من وجهين :

الأول : افتراقهما في متعلق العلم الإجمالي ، حيث ان شيخنا الأعظم (قده) جعل متعلق العلم الجمالي خصوص الشبهات التحريمية ، ووجهه واضح ،

٣٧٢

حيث (١) عليم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه

______________________________________________________

(١) ظرف وتعليل لقوله : «فلاستقلاله» وإشارة إلى الصغرى المذكورة أعني العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة المقدسة.

__________________

لأنه عقد المطلب الأوّل من الشك في التكليف للبحث عن حكم الشبهة التحريمية ، والمطلب الثاني منه للشبهة الوجوبية ، والثالث للدوران بين المحذورين ، فكان اللازم جعل المتعلق خصوص الشبهات التحريمية. هذا مضافا إلى أن أصحابنا المحدثين ـ الا القليل منهم ـ لم يلتزموا بالاحتياط في الشبهات الوجوبية ، وعمدة النزاع معهم في بحث البراءة والاحتياط انما هو في الشبهات التحريمية الناشئة من فقد النص ، فلا جدوى في إدراج الشبهة الوجوبية في محل النزاع.

والمصنف (قده) جعل متعلق العلم الإجمالي مطلق التكاليف الإلزامية لا خصوص الشبهات التحريمية. والوجه في هذا التعميم : أنه عقد فصلا واحدا للبحث عن البراءة والاحتياط وجعل الموضوع «ما لم تقم فيه حجة على التكليف» وهذا شامل للشبهات الموضوعية والحكمية مطلقا من التحريمية والوجوبية سواء كان منشأ الشك في الحكم الكلي فقد النص أم إجماله أم تعارضه ، ومن المعلوم أن إقامة الدليل على هذه الدعوى تستدعي تقرير الدليل العقلي بما يلتئم معها ، فلذا عمّم المتعلق لما يشتمل على الشبهة الوجوبية كما عمّمه صاحب الفصول أيضا ، حيث قال : «أما الأول ـ أي دلالة العقل على الاحتياط ـ فللقطع بثبوت الاشتغال بالأحكام الشرعية ، فيجب أن لا يحكم بالبراءة إلّا بعد اليقين بها ، ولا يقين إلّا مع الاحتياط».

ومما ذكرنا ظهر متانة تقرير شيخنا الأعظم ، إذ لا جدوى في إدراج الشبهة الوجوبية في محل النزاع ثم دعوى انحلال العلم الإجمالي بالنسبة إليها بالظفر

٣٧٣

وجوبه أو حرمته مما (١) لم يكن هناك حجة على حكمه

______________________________________________________

(١) بيان للموصول في «فيما» وهو يتعلق بـ «وجود» وضمير «حكمه» راجع إلى الموصول في «مما».

__________________

بالأمارات القائمة عليها.

الثاني : أن تقرير المصنف للدليل العقلي متمحض في بيان ما يقتضيه العقل ضرورة أن الكبرى ـ وهي تنجيز العلم الإجمالي ولزوم مراعاة الاحتياط في الأطراف استنادا إلى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ـ من المستقلات العقلية. بخلاف تقرير شيخنا الأعظم ، لأنه استشهد على وجوب الانزجار عن المحرمات بالآية الشريفة. وللمناقشة فيه مجال ، أما أوّلا ، فلأن قوله تعالى : «وما نهاكم عنه فانتهوا» شامل للنهي التنزيهي ، إذ المكروهات منهياته تعالى أيضا كالمحرمات ، ومقتضى الأمر بالاجتناب عنها تركها وكفّ النّفس عنها ، وهذا مما لا يلتزم به أحد. ودعوى اختصاص وجوب الاجتناب بالمحرمات للانصراف أو غيره مجازفة.

وأما ثانيا : فلان الأمر بالانتهاء عن المحرمات ان كان مولويا لزم الخلف وصيرورة الدليل ـ المتكفل للكبرى ـ نقليا لا عقليا. وان كان إرشاديا ـ كما هو الحق ـ نظير الأمر بالإطاعة كان المناسب أن يقال في تقرير دلالة العقل هكذا : «يجب بحكم العقل المرشد إليه أو المؤكد بقوله تعالى ... إلخ» ففي تعبير الشيخ بـ «يجب بمقتضى قوله تعالى» مسامحة ظاهرة ، هكذا قيل.

لكن هذا الإشكال ـ وان أورده غير واحد على كلام الشيخ الأعظم ـ مندفع بما تفطن له المحقق الهمداني في حاشية الرسائل بقوله : «وجه الحاجة إلى الاستدلال بالآية الشريفة في مثل المقام مع كون مضمونها من المستقلات العقلية دفع ما قد يتوهم : من عدم استقلال العقل بوجوب الاجتناب عما عدا ما علم

٣٧٤

تفريغا (١) للذمة بعد اشتغالها ، ولا خلاف (٢) في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلّا من بعض الأصحاب (٣).

______________________________________________________

(١) تعليل لاستقلال العقل بالاحتياط ، يعني : أن علة هذا الحكم العقلي هو لزوم تفريغ الذّمّة عما اشتغلت به.

(٢) إشارة إلى الكبرى المتقدمة أعني منجزية ذلك العلم الإجمالي.

(٣) كما ينسب إلى المحقق القمي (قده) حيث جعله كالشك البدوي ، لكنك عرفت في الجزء الرابع النّظر في هذه النسبة ، فراجعه للوقوف عليه ، وأن الحق عليته التامة لكل من الموافقة والمخالفة القطعيتين.

__________________

حرمته تفصيلا ، ولا يتمشى هذا النحو من التوهم في الآية الشريفة ، حيث ان مفادها وجوب الاجتناب عن جميع المحرمات الواقعية ، وبعد أن علم هذا الخطاب تفصيلا يجب الخروج عن عهدته بالانتهاء عن جميع ما نهى الله تعالى عنه في الواقع ، لقاعدة الاشتغال».

وحاصله : أن انتصار الشيخ للمحدثين بذكر هذه الآية في الدليل في محله ، لأن قوله تعالى : «وما نهاكم عنه» يشمل المحرمات المشتبهة أيضا ، إذ مقتضى وضع الألفاظ للمعاني الواقعية وجوب الاجتناب عن المحرم الواقعي وان لم يكن معلوما فعلا. ولعل هذا المعنى أجنبي بزعم الأصولي عن حكم العقل ، لاختصاص حكمه على زعمه بالمحرم الّذي نهض الحجة المعتبرة عليه ، فلا يشمل مورد النزاع وهو الشبهة الحكمية التحريمية ، ولكن المحدث يدعي استقلال العقل بلزوم الاحتراز عن الشبهة ، ويؤكد ذلك بالآية الشريفة بالتقريب المذكور. وعليه فانتصار الشيخ للمحدثين بذكر الآية الشريفة في محله.

إلّا أنه يبقى على المحدثين التخلص عن إشكال التزامهم بالبراءة في الشبهة الموضوعية التحريمية ، مع وجود احتمال النهي الواقعي فيها أيضا.

٣٧٥

والجواب : أن العقل وان استقل بذلك (١) ، إلّا أنه (٢) إذا لم

______________________________________________________

(١) أي : بلزوم الاحتياط ، وتوضيح ما أفاده في الجواب : أن منجزية العلم الإجمالي وان كانت مما يستقل بها العقل ، لكنها منوطة ببقاء العلم الإجمالي على حاله ـ أي دائرا بين الأطراف بنحو القضية المنفصلة الحقيقية ـ وعدم انحلاله إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، فلو انحل في مورد سقط حكم العقل بلزوم الاحتياط في سائر الأطراف ، لسلامة الأصل النافي للتكليف الجاري فيها عن المعارض. والمفروض في المقام انحلال العلم الإجمالي ـ بوجود المحرمات والواجبات في الوقائع المشتبهة ـ بعلم إجمالي آخر متعلق بالطرق والأصول المثبتة لمقدار من تكاليف مساو للمعلوم بالإجمال أو أزيد منه ، فينحل العلم الإجمالي الكبير ـ المتعلق بجميع الأحكام الإلزامية الواقعية ـ بهذا العلم الإجمالي الصغير المتعلق بالأمارات والأصول المثبتة للمقدار المذكور من التكاليف ، وبعد الظفر بهذا المقدار الّذي أدّت إليه الأمارات والأصول لا يبقى علم بتكاليف واقعية أخرى غيرها حتى يجب رعاية الاحتياط فيها ، فما عداها مشكوك بالشك البدوي الّذي يكون دعوى الاحتياط فيه عين المتنازع فيه.

ثم ان شيخنا الأعظم أجاب عن الدليل العقلي بوجهين ، وما في المتن موافق للوجه الثاني ، قال (قده) : «وثانيا : سلمنا التكليف الفعلي بالمحرمات الواقعية ، إلّا أن المقرر في الشبهة المحصورة كما سيجيء إن شاء الله تعالى : أنه إذا ثبت في الشبهات المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلق بالمعلوم الإجمالي اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر ، لاحتمال كون المعلوم الإجمالي هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا ، فأصالة الحل في البعض الآخر غير معارضة بالمثل ... إلخ».

(٢) أي : أن لزوم الاحتياط في الأطراف مشروط بما إذا لم ينحل العلم

٣٧٦

ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، وقد (١) انحل هاهنا (*) ، فانه (٢) كما علم بوجود تكاليف إجمالا كذلك علم

______________________________________________________

الإجمالي ... إلخ.

(١) أي : والحال أنه قد انحل هاهنا إلى علم تفصيلي بما تضمنته الطرق والأصول وشك بدوي فيما عداه.

(٢) هذا تقريب الانحلال ، وقد عرفت توضيحه.

__________________

(*) والوجه في الانحلال واضح ، لوجود ضابطه ـ وهو عدم كون المعلوم إجمالا في العلم الإجمالي الصغير أقل عددا من المعلوم إجمالا في العلم الإجمالي الكبير ـ في المقام ، إذ لو كان عدد المعلوم الإجمالي الكبير مائة حكم مثلا كان هذا العدد موجودا أيضا في العلم الإجمالي الصغير بحيث يحتمل انطباق المعلوم الإجمالي الكبير عليه ، ولا يبقى معه علم إجمالي بحكم أصلا. وحيث انتهى الكلام إلى انحلال العلم الإجمالي فلا بأس بالتعرض أوّلا لكون هذا الانحلال في موارده حقيقيا أو حكميا ، وثانيا لما يوجب الانحلال ، فنقول وبه نستعين : إذا علم إجمالا بوجوب أحد شيئين كالقصر والإتمام مثلا في المسافة التلفيقية مع كون الذهاب أقل من أربعة فراسخ ، ثم علم تفصيلا بوجوب أحدهما المعين كالقصر مثلا فلا إشكال ظاهرا في عدم وجوب الاحتياط بالجمع بينهما ولزوم العمل على مقتضى هذا العلم التفصيليّ ، انما الكلام في أن العلم الإجمالي المزبور هل ينحل حقيقة بمعنى تبدل الصورة العلمية الإجمالية بالعلم التفصيليّ أم ينحل حكما بمعنى ارتفاع تنجز المعلوم إجمالا مع بقاء نفس الصورة على حالها؟

قد يقال : ان انحلاله حقيقي ، ولعله إمّا للعلم الوجداني بوجوب فرد خاص والشك في وجوب غيره ، نظير القطع باشتغال ذمته بعشرة دنانير مثلا والشك في اشتغالها بأزيد منها.

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإمّا للزوم اجتماع المثلين ـ أعني العلمين ـ حيث ان الطبيعة المهملة المعلومة إجمالا عين الطبيعة الخاصة المعلومة تفصيلا في الخارج ومتحدة معها ، واتحاد المعلومين يوجب اجتماع العلمين ، وهو من اجتماع المثلين الممتنع كامتناع اجتماع الضدين.

ولا يندفع هذا الإشكال بفرض أطراف الشبهة أكثر من اثنين ، بأن يقال : انه بعد خروج المعلوم التفصيليّ عن طرفيّته للعلم الإجمالي يمكن قيامه بسائر الأطراف. وجه عدم الاندفاع : أنه بعد عزل ما يساوي المعلوم بالإجمال ينتفي العلم الإجمالي في سائر الأطراف ، وإلّا كان خلاف الفرض ، هذا.

وأنت خبير بما في كلا الوجهين ، إذ في الأول : أن زوال العلم الإجمالي خلاف الوجدان الحاكم بوجود العلمين في مثل العلم بنجاسة الإناء الأبيض تفصيلا والعلم بنجاسة إناء زيد المردد بينه وبين والإناء الأحمر.

وفي الثاني : أن الاتحاد المزبور مبني على تعلق العلم بالأمور الخارجية دون الصور الذهنية ، إذ يتعدد الموضوع حينئذ ، لمغايرة الصورة الحاكية عن المعلوم بالتفصيل للصورة الحاكية عن المعلوم بالإجمال ، فموضوع كل واحد من العلمين غير موضوع الآخر ، فلا يلزم محذور اجتماع المثلين.

ويظهر مما ذكرنا : فساد قياس الانحلال بباب الأقل والأكثر ، وذلك للعلم التفصيليّ بوجوب الأقل من أول الأمر ، وكون الشك في وجوب الزائد عليه بدويا بشهادة عدم صدق القضية التعليقية المقوّمة للعلم الإجمالي عليه ، إذ لا يصح أن يقال : «الواجب هو الأقل أو الأكثر» بحيث لو كان الواجب هو الأكثر لم يكن الأقل واجبا كما هو الحال في المتباينين ، ضرورة أن الأقل واجب على

٣٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كل تقدير ، ولو كان الواجب هو الأكثر ، فالإجمال انما هو في حدّ القلة والكثرة مع العلم بوجوب ذات الأقل مطلقا. وعليه فالعلم الإجمالي في الأكثر مفقود حقيقة لا حكما ، فقياس المقام بذلك فاسد جدا.

فالنتيجة : أن العلم الإجمالي باق على حاله ، فلا محالة يكون الانحلال حكميا ـ أي رافعا لتنجيزه ـ لا حقيقيا. تقريب الانحلال الحكمي : أن العلم الإجمالي كان منجزا مستقلا لمعلومه القابل للانطباق على كل واحد من طرفيه أو أطرافه على البدل ، وبعد قيام منجز من علم أو علمي أو أصل في أحد طرفيه أو أطرافه خرج عن الاستقلال في التنجيز بالنسبة إلى هذا الطرف ، لعدم قابلية تكليف واحد لتنجيزين ، ولخروج هذا الطرف عن قابلية التنجز بالعلم الإجمالي مستقلا يخرج المعلوم بالإجمال ـ وهو الجامع أيضا ـ عن قابلية التنجزية ، فلا محالة يسقط العلم الإجمالي عن التأثير ، إذ معنى منجزيته هو كونه سببا مستقلا في تنجيز متعلقه ، وهو غير معقول ، لوضوح أن الجامع المطلق لا ينطبق على الطرف الخارج من أطراف العلم الإجمالي ، لما عرفت من استحالة اجتماع تنجيزين على تكليف واحد ، فلا يبقى إلّا تأثير العلم الإجمالي على تقدير خاص وهو انطباق المعلوم الإجمالي على الطرف الآخر ، وهو مشكوك من أول الأمر ، إذ لم يكن ذلك التقدير بالخصوص متعلقا للعلم ، بل كان تعلق العلم به من جهة كونه أحد الأطراف التي كان المعلوم الإجمالي قابل الانطباق عليه ، فالجامع المطلق الصالح للانطباق غير قابل للتنجز من ناحية العلم الإجمالي مستقلا ، وما هو القابل للتنجز ـ أعني المعلوم المقيد بانطباقه على الطرف الآخر ـ غير معلوم من الأول ، إذ المتنجز أوّلا بالعلم الإجمالي بالاستقلال هو المطلق القابل للانطباق على

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كل واحد من الأطراف ، وقد سقط ذلك عن التنجز وان كانت صورته الذهنية باقية لبقاء الشك في الطرف الآخر ، وهذا هو المراد بالانحلال الحكمي ، وعليه استقرت سيرة العقلاء ، إذ لا يعتنون بغير المعلوم تفصيلا من سائر أطراف العلم الإجمالي.

وبعد وضوح معنى الانحلال يظهر أنه لا فرق في ذلك بين كون العلم التفصيليّ والإجمالي حقيقيين كالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين والعلم التفصيليّ بنجاسة أحدهما ، وبين كونهما تنزيليين كقيام بينة على نجاسة أحد الإناءين إجمالا وأخرى على نجاسة أحدهما المعين ، وبين كونهما مختلفين كقيام بينة على نجاسة أحد الإناءين لا بعينه وعلم تفصيلي على نجاسة أحدهما بعينه.

وبالجملة : فالمثبِت للتكليف في طرف بعينه وان كان أصلا ـ كما إذا فرض أن أحد الإناءين اللذين علم إجمالا بوقوع قطرة دم في أحدهما مستصحب النجاسة يوجب انحلال العلم الإجمالي وسقوطه عن التأثير ، فلا يجب الاجتناب عن الطرف الآخر.

هذا إذا كان المثبت للتكليف في واحد معين من أطراف العلم الإجمالي ـ سواء كان علما أم علميا أم أصلا ـ مقارنا للعلم الإجمالي ، وكذا إذا كان متقدما عليه ، كما إذا قام علم وجداني أو بينة أو أصل على نجاسة إناء معين ، ثم علم إجمالا بوقوع قطرة دم بول فيه أو في إناء آخر ، فيحدث العلم الإجمالي غير مؤثر ، لحدوثه في ظرف وجود منجز قبله ، ويمتنع اجتماع منجزين على الطرف المعين الّذي ثبت فيه التكليف.

وإذا كان المثبت للتكليف في طرف معين متأخرا عن العلم الإجمالي ،

٣٨٠