منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى أن كل ما يصح الانتفاع به ولا ضرر فيه عاجلا أو آجلا على أحد فهو حسن ، إذ ليس الضرر إلّا مفسدة دينية أو دنيوية ، فلو كان فيه ضرر لوجب على القديم تعالى إعلامنا به ، وحيث لم يعلمنا به حسب الفرض علمنا أنه ليس فيه ضرر فهو حسن ، وحيث كان حسنا كان مباحا ، وهو المطلوب.

الثالث : أن الأصل فيها الوقف بمعنى أنه لا حكم للعقل فيها لا بالحظر ولا بالإباحة ، لبطلان ما استند إليه أصحاب القولين الأوّلين. ذهب إليه كثير من الناس واختاره الشيخان المفيد والطوسي (قدهما) وقد ذكر شيخ الطائفة في عدة الأصول وجه البطلان بقوله : «قد ثبت في العقول : أن الإقدام على ما لا يأمن المكلف كونه قبيحا مثل اقدامه على ما علم قبحه».

والغرض من التعرض لشيء يسير من هذا النزاع الإشارة إليه وتوجيه ذهن الطالب نحوه ، فمن أراد التفصيل فعليه بالمطولات سيما عدة الأصول ، فانه (قده) استوفى البحث فيه.

إذا عرفت هذا فاستدلال أصحابنا المحدثين بأصالة الحظر على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية منوط بالقول بالحظر في تلك المسألة ، فكل فعل محتمل الحرمة ـ بلا اضطرار إليه ـ محكوم بالحرمة عقلا ، ولو لم نقل به فلا أقل من الوقف ، فيكون الإقدام على المشتبه كالإقدام على ما علم حرمته فلا يجوز ارتكابه ، فشرب التتن المشكوك حكمه غير جائز بحكم العقل ، ومعه لا يتوجه الالتزام بإباحة ما لم ينهض دليل على حرمته.

لا يقال : ما دل على إباحة مشتبه الحكم ظاهرا مثل قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه» دليل على إباحته ، ومعه لا مجال للتمسك بأصالة الحظر أو الوقف ، إذ حكم العقل به ـ على تقدير تسليمه ـ

٤٠١

غير الضرورية قبل (١) الشرع ، ولا أقل من الوقف وعدم (٢) استقلاله لا به ولا بالإباحة ، ولم يثبت (٣) شرعا إباحة ما اشتبه حرمته ،

______________________________________________________

انما هو مع قطع النّظر عن الشرع ، وأما مع ورود الترخيص الشرعي فلا مجال للأصل المذكور ، كما صرح به شيخ الطائفة القائل بالوقف ، حيث قال : «انه قد ورد من طريق السمع ما يدل على الإباحة مثل قوله تعالى : وأحل لكم الطيبات» وعليه فلا مجال للتمسك بأصالة الحظر في المقام.

فانه يقال : أدلة البراءة المتقدمة غير ناهضة لإثبات الإباحة الظاهرية ، لمعارضتها بما دلّ على وجوب التوقف والاحتياط ، ومع عدم سلامتها عن المعارضة كيف يستند إليها للقول بالإباحة والترخيص ، وينتهي الأمر إلى ما يستقل به العقل من الحظر في غير الأفعال الضرورية. هذا وقد قرر شيخنا الأعظم هذا الوجه العقلي بقوله : «الوجه الثاني : أن الأصل في الأفعال غير الضرورية الحظر كما نسب إلى طائفة من الإمامية ، فيعمل به حتى يثبت من الشرع الإباحة ...».

(١) ظرف لقوله : «استقلال العقل» يعني : فيثبت الحظر فيما بعد الشرع باستصحاب عدم تشريع الإباحة بناء على جريانه في العدم الأزلي ، ويمكن أن يراد بقوله : «قبل الشرع» القبلية في الرتبة ، فالمعنى : أن العقل ـ مع الغض عن الشرع ـ يستقل بالحظر فهو الحاكم به متى ما شك في تشريع الإباحة.

(٢) عطف تفسيري للوقف ، وضمير «به» راجع إلى الحظر ، وقد عرفت أن الوقف مختار الشيخين المفيد والطوسي قدس‌سرهما.

(٣) إشارة إلى أن هذا الدليل العقلي مؤلف من مقدمتين : إحداهما : ما أشار إليه بقوله : «من استقلال العقل بالحظر» وقد تقدمت. ثانيتهما : ما أشار إليه هنا بقوله : «ولم يثبت شرعا ... إلخ» ويكون وجه عدم ثبوت الإباحة شرعا

٤٠٢

فان (١) ما دل على الإباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط.

وفيه أوّلا (٢) : أنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف (٣) والإشكال ، وإلّا لصح (٤) الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال (٥) على الإباحة.

______________________________________________________

إما عدم نهوض دليل عليها ، وإما ابتلائه بالمعارض ، فلا يجوز الارتكاب حينئذ إذ لا مؤمِّن له عقلا ولا شرعا ، وقد اتضحت هاتان المقدمتان في «لا يقال» وجوابه أكثر من هنا.

(١) تعليل لقوله : «ولم يثبت» وقد عرفته أيضا.

(٢) أورد المصنف (قده) على هذا الدليل العقلي بوجوه ثلاثة أشار إلى أولها بقوله : «انه لا وجه للاستدلال» وهو راجع إلى منع المقدمة الأولى ، وهي استقلال العقل بالحظر ، وتوضيحه : أن ما ذكرتم من كون الأصل في مسألة الحظر والإباحة هو الحظر حتى يبنى عليه وجوب الاحتياط في مسألة البراءة والاحتياط غير مسلم لما عرفت من أنه أحد الأقوال الثلاثة فيها ، فمسألة أصالة الحظر بنفسها محل الخلاف ، ولا وجه لابتناء وجوب الاحتياط على ما هو بنفسه محل الكلام ومورد النقض والإبرام ، ولو صحّ ذلك لصح الاستدلال بالقول الثاني في مسألة الحظر والإباحة ـ وهو أصالة الإباحة ـ على البراءة في المقام ، فان القائل بالبراءة في مشتبه الحكم استند ـ كما تقدم في بيان أدلته ـ إلى استقلال العقل بها ، لقبح العقاب بلا بيان ، وادعى أنها الأصل في الأشياء.

(٣) وهو أن الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة.

(٤) يعني : وان صح للخصم الاستدلال بما هو محل الخلاف لصحّ لنا أيضا الاستدلال ... إلخ.

(٥) أي : الأفعال غير الضرورية مما لا يدرك العقل حسنها أو قبحها.

٤٠٣

وثانيا (١) : أنه تثبت الإباحة شرعا ، لما عرفت من عدم صلاحية ما دلّ على التوقف أو الاحتياط للمعارضة لما دلّ (٢) عليها.

وثالثا (٣) : أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة للقول (*)

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثاني من وجوه الجواب عن الدليل العقلي المذكور ، وهو راجع إلى منع المقدمة الثانية منه ، وهي عدم ثبوت إباحة ما اشتبه حرمته ، وتوضيحه : أن الإباحة ثابتة شرعا ، لما تقدم من عدم نهوض أدلة التوقف والاحتياط للمعارضة مع ما دلّ على البراءة ، لما عرفت من أخصية وأظهرية أدلتها من أدلة التوقف ، مضافا إلى وجود القرائن الصالحة لصرف ظواهر أوامر الوقوف والاحتياط من المولوية إلى الإرشادية ، كما تقدم بيانه مفصلا. وعليه ، فالإباحة ثابتة شرعا لمجهول الحكم ، ولا تصل النوبة إلى أصالة الحظر على فرض تسليمها.

(٢) أي : للمعارضة مع ما دل على الإباحة ، فضمير «عليها» راجع إلى الإباحة.

(٣) هذا هو الوجه الثالث من وجوه الجواب عنه ، وهو راجع إلى منع الملازمة بين المسألتين ، وتوضيحه : أنه ـ بعد تسليم عدم ثبوت الإباحة شرعا ـ لا ملازمة بين القول بالوقف في مسألة الحظر والإباحة وبين القول بالاحتياط في مسألة البراءة ، بحيث يكون اختيار الوقف في تلك المسألة كافيا في ثبوت الاحتياط هنا ، وذلك لاختلاف المسألتين موضوعا ـ كما نسب إلى المصنف في بحثه الشريف ـ ضرورة أن الموضوع في تلك المسألة فعل المكلف من حيث هو يعني مع قطع النّظر عن تشريع حكم له مجهول عند المكلف ، فيبحث

__________________

(*) الأولى حذف اللام ، لأنه مفعول «يستلزم» ولا يحتاج الفعل في عمله إلى لام التقوية.

٤٠٤

بالاحتياط في هذه المسألة ، لاحتمال (١) أن يقال معه بالبراءة ، لقاعدة (٢) قبح العقاب بلا بيان (*).

______________________________________________________

هناك عن أن هذا الفعل من حيث هو هل يكون ـ في نظر العقل ـ محكوما بالإباحة أم بالحظر؟ بخلاف مسألة البراءة ، فان الموضوع فيها هو فعل المكلف بما هو مجهول الحكم بعد تشريع الأحكام ، فيبحث فيها عن أن هذا الفعل من حيث هو مجهول الحكم هل يحكم عليه شرعا بالإباحة أم بالاحتياط؟

(١) تعليل لقوله : «لا يستلزم» وضمير «معه» راجع إلى «القول بالوقف في تلك المسألة».

(٢) تعليل لقوله : «أن يقال» يعني : من الممكن أن تصير قاعدة قبح العقاب بلا بيان منشأ للقول بالبراءة في هذه المسألة مع اختيار الوقف في مسألة الحظر والإباحة.

__________________

(*) الحق أن يقال : انه لا وجه لهذا الاستدلال أصلا بعد أجنبية كل واحدة من المسألتين عن الأخرى ، واختلافهما من وجوه :

الأول : من ناحية الموضوع ، حيث ان الموضوع في مسألة الحظر والإباحة هو ذات الفعل مع الغض عن تشريع حكم له مما يستفاد من الأدلة الاجتهادية ، والموضوع في مسألة البراءة والاشتغال هو الفعل بلحاظ الشك في حكمه.

وبعبارة أخرى : المبحوث عنه في مسألة الحظر والإباحة هو الحكم العقلي من دون نظر إلى الحكم الشرعي ، وفي مسألة البراءة والاحتياط هو الحكم الظاهري المترتب على الشك في الحكم الواقعي ، فيمكن للقائل بالحظر في تلك المسألة اختيار الإباحة في مسألة البراءة والاحتياط وبالعكس ، فلا تلازم بين المسألتين ، ولا وجه للاستدلال بإحداهما على الأخرى.

٤٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثاني : من ناحية الملاك ، حيث ان ملاك الحظر عقلا في مسألة الحظر والإباحة هو أن العبد بما أنه مملوك إذا تصرف فيما لم يأذن له مالكه خرج بذلك عن رسوم العبودية وارتكب قبيحا عقلا ، وملاك الإباحة فيها أن تصرّف العبد فيما لم يمنع عنه المولى ـ من حيث كونه مالكا ـ ليس خروجا عن زيّ العبودية حتى يحكم العقل بقبحه وحسن مؤاخذته ، فليس ملاك الإباحة عدم وصول التكليف ، إذ المفروض عدم لحاظ التكليف بل الملحوظ عدمه. وملاك البراءة عدم تنجز التكليف الواقعي بعدم وصوله إلى المكلف ، وملاك الاحتياط تنجزه باحتماله أو بإيجاب الاحتياط شرعا ، فالملحوظ في مسألة البراءة والاحتياط تنجز التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته وعدم تنجزه المانع عن استحقاق العقوبة على المخالفة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الثالث : من ناحية الأثر ، حيث ان الحظر في مسألة الحظر والإباحة لمّا كان لأجل الخروج عن زيّ العبودية ، إذ المفروض عدم الاذن من المالك في التصرف في ملكه أوجب ذلك استحقاق العقوبة على كل حال ، بخلاف الاحتياط في مسألة البراءة والاحتياط ، فان استحقاقها على الفعل فيها انما هو من جهة تنجز التكليف الواقعي باحتماله ، فالاستحقاق يدور مدار مصادفة الاحتمال للواقع ، فلا استحقاق مع عدمها.

وأما ما قيل : «من الفرق بينهما بكون مسألة الحظر والإباحة ناظرة إلى حكم الأشياء قبل الشرع كما في المتن وغيره ، ومسألة البراءة والاحتياط ناظرة إلى حكم الأشياء بعده» ففيه : أن القبلية الزمانية مفقودة هنا ، لعدم خلوّ زمان عن

٤٠٦

وما قيل (١) من «أن الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته كالإقدام على

______________________________________________________

(١) القائل شيخ الطائفة (قده) في عدة الأصول ، وقد عرفت ـ عند بيان الأقوال الثلاثة في مسألة الحظر والإباحة ـ أنه استدل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته ـ على أن الأشياء على الوقف دون الحظر أو الإباحة. وغرض المصنف من التعرض لكلامه (قدهما) هنا بقوله : «وما قيل ... إلخ» هو دفع توهم عدم جريان البراءة العقلية التي تقدمت الإشارة إلى إمكان جريانها بقوله : «لاحتمال أن يقال معه بالبراءة ... إلخ» نظرا إلى كلام شيخ الطائفة.

تقريب توهم عدم جريانها : أن احتمال التكليف يلازم احتمال المصلحة أو المفسدة بناء على ما هو الحق من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد. وعليه فمخالفة محتمل الحرمة توجب احتمال الضرر الناشئ من الملاك وهو المفسدة ، لأنها ضرر على المكلف ، ودفع الضرر واجب ، فيجب امتثال محتمل الحرمة ، ولا تصل النوبة إلى قاعدة قبح العقاب ، لأن قاعدة دفع الضرر المحتمل واردة عليها كما تعرضنا له سابقا. وعليه فهذا التوهم مؤلف من صغرى وهي : «أن ارتكاب محتمل الحرمة لكونه محتمل المفسدة ضرر كارتكاب معلوم الحرمة» وكبرى وهي «أن كل ضرر يجب دفعه» فارتكاب محتمل الحرمة يجب دفعه ، ولا يتحقق دفعه إلّا بتركه فيجب ، فالنتيجة : أن الإقدام على ارتكاب المشتبه حرام.

__________________

التشريع. وكذا سائر أقسام القبلية ، فان شيئا منها من الطبعي والرتبي والعلّي والشرفي وغيرها لا يناسب المقام ، فلعل المراد حكم العقل في مسألة الحظر والإباحة مع الغض عن الشرع وان كان خلاف الظاهر.

وكيف كان فالمسألتان متغايرتان موضوعا وملاكا وأثرا ولا تتحدان ، فلا يغني البحث في إحداهما عن البحث في الأخرى. مضافا إلى أن مسألة الحظر والإباحة من المسائل الخلافية فلا يصح الاستدلال بها على البراءة كما لا يخفى.

٤٠٧

ما تعلم فيه المفسدة» ممنوع (١) ولو قيل (٢) بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فان (٣) المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا ، ضرورة (٤) أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار ، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر ، والمفسدة فيما فيه المنفعة ، واحتمال (٥) أن يكون في المشتبه ضرر

______________________________________________________

(١) خبر «وما قيل» وجواب عن التوهم المزبور ، وما أفاده في الجواب عنه وجهان ، الأول منهما يرجع إلى منع الصغرى ، وتوضيحه : أن الأحكام وان كانت تابعة للمصالح والمفاسد ، إلّا أنهما ليستا راجعتين إلى المنافع والمضار حتى يكون احتمال المفسدة مساوقا لاحتمال الضرر حتى في المصالح والمفاسد النوعية ، بل قد تكون المصلحة منفعة وقد لا تكون ، بل قد يكون فيما فيه المصلحة ضرر على المكلف كالإحسان إلى الفقراء ، فان مصلحته منوطة ببذل المال وهو ضرر ، وكذا المفسدة فقد تكون ضررا وقد لا تكون ، بل قد يكون فيما فيه المفسدة منفعة كسرقة الأموال.

وبالجملة : فلا ملازمة بين المصلحة والمنفعة وبين المفسدة والمضرة ، وعليه ، فاحتمال الضرر في مشتبه الحكم ضعيف لا يعتدّ العقلاء به ، وقد تقدم في دلالة العقل على البراءة بيان عدم الملازمة بتوضيح أكثر ، فراجع.

(٢) فلو لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل فالمنع أولى ، وهذا تسليم للكبرى تنزّلا ، وسيأتي التصريح بمنعها.

(٣) تعليل لقوله : «ممنوع» وإشارة إلى منع الصغرى ، وقد عرفت توضيحه.

(٤) تعليل لعدم كون المفسدة ضررا غالبا كما تقدم بيانه.

(٥) مبتدأ خبره «ضعيف» وهو تتمة للمطلب المتقدم أعني عدم كون المفسدة

٤٠٨

ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا.

مع أن (١) الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا ، بل يجب ارتكابه (٢) أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز

______________________________________________________

المحتملة في المشتبه ضررا غالبا ، فاحتمال ضرر في المشتبه ضعيف غالبا بحيث لا يعتنى به قطعا ، لأن إحراز الصغرى في ترتب حكم الكبرى عليها مما لا بد منه.

(١) هذا هو الوجه الثاني ، وهو يرجع إلى منع الكبرى ، وتوضيحه : أنه بعد تسليم الصغرى ـ وأن المصلحة والمفسدة مساوقتان للمنفعة والمضرة ـ لا يجب التحرز عن كل ضرر ، بل قد يجب عقلا وشرعا تحمل بعض المضار المعلومة عند مزاحمتها لما هو أهم منها ، فقد يوجب العقل بذل المال الكثير لإنقاذ مؤمن من الغرق مثلا ، كما أن الشارع أيضا قد أوجب ما يستلزم الضرر في المال أو النّفس ، حيث أمر بالحج والجهاد مثلا ، هذا بالنسبة إلى الضرر المعلوم ، فكيف بالمشكوك ، فانه أولى بالتحمل.

وبالجملة : فوجوب دفع الضرر عقلا انما يكون فيما إذا تعلق الغرض بدفعه ، وأما إذا تعلق بعدم دفعه كما في مزاحمته لما هو أهم منه فلا يستقل العقل حينئذ بلزوم دفعه.

(٢) هذا الضمير وضميرا «به ، احتماله» راجعة إلى الضرر ، والمراد بالموصول في «فيما» المورد الضرري ، واللام في «المترتب» للموصول المراد به الأثر ، وضمير «عليه» راجع إلى الموصول في «فيما» وضمير «نظره» إلى الشارع ، والمراد بالموصول في «مما» المصلحة ، و «في الاحتراز» ظرف مستقر ، وضمير «ضرره» راجع إلى المورد الضرري ، والمعنى : أنه يجب ارتكاب الضرر أحيانا في المورد الضرري الّذي يكون الأثر المترتب على ذلك المورد أهم في نظر الشارع من المصلحة الموجودة

٤٠٩

عن ضرره مع القطع به فضلا عن احتماله (*).

______________________________________________________

في الاحتراز عن ضرر ذلك المورد ، كبذل المال ، فانه ضرر لكن يجب ارتكابه أحيانا في بعض الموارد كتحصيل الطهارة المائية ، لأن الأثر المترتب على بذل المال في هذا المورد الضرري أهم في نظر الشارع من مصلحة إمساك المال وترك بذله ، هذا.

__________________

(*) ولا يخفى ما في هذه العبارة من التعقيد وكثرة الضمائر مع اختلاف مراجعها وعدم وجود بعضها في العبارة وخلوّ صلة الموصول في «مما» عن العائد ، فالأولى سوق العبارة هكذا : «بل قد يجب ارتكابه ـ مع القطع به فضلا عن احتماله ـ إذا كان ما يترتب عليه أهم في نظر الشارع مما يترتب على الاحتراز عنه».

٤١٠

بقي أمور مهمة لا بأس بالإشارة إليها :

الأول (١) (*): أنه انما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما

______________________________________________________

(تنبيهات البراءة)

(١ ـ اشتراط جريانها بعدم وجود أصل موضوعي)

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه هو بيان شرط من شروط جريان أصالة البراءة وهو عدم أصل حاكم أو وارد عليها من استصحاب موضوعي أو حكمي ، وما يتفرع عليه من جريان أصالة عدم التذكية في حيوان شك في قابليته للتذكية أو في وقوع التذكية الشرعية عليه ، للشك في اختلال بعض الأمور الدخيلة في تحققها كما سيظهر ذلك إن شاء الله تعالى.

__________________

(*) لا يخفى أنه لما كان أكثر ما أفاده المصنف هنا ناظرا إلى ما تعرض له شيخنا الأعظم ، فينبغي أوّلا التعرض لبعض كلماته ، ثم توضيح المتن ، فنقول وبه نستعين : انه (قده) ذكر اشتراط جريان أصالة البراءة بما إذا لم يكن أصل موضوعي حاكم عليها في موضعين من بحث البراءة ثم فرّع على الاشتراط

٤١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المذكور عدم جريان أصالة الحل في لحم الحيوان المشكوك قابليته للتذكية لحكومة أصالة عدم قابليته للتذكية على أصالة البراءة وغيرها من الأصول الفاقدة لجهة الإحراز.

قال في خامس تنبيهات الشبهة الحكمية التحريمية : «ان أصالة الإباحة في مشتبه الحكم انما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها ، فلو شك في حل أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية جرى أصالة الحل ، وان شك فيه من جهة الشك في قبوله للتذكية فالحكم الحرمة ، لأصالة عدم التذكية».

وقال في أول تنبيهات الشبهة الموضوعية التحريمية : «ان محل الكلام في الشبهة الموضوعية المحكومة بالإباحة ما إذا لم يكن أصل موضوعي يقضي بالحرمة ... إلى أن قال : ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الإباحة اللحم المردد بين المذكى والميتة ، فان أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة حاكمة على أصالتي الإباحة والطهارة».

وتعرض لبعض ما يرتبط بأصالة عدم التذكية في موضعين آخرين من بحث الاستصحاب.

الأول : في استصحاب الكلي ، فانه ـ بعد نقل ردّ الفاضل التوني تمسك المشهور باستصحاب عدم التذكية لإثبات نجاسة الجلد المطروح بقوله : «... فعدم المذبوحية لازم أعم لموجب النجاسة ... إلخ» ـ قال «... أقول : ولقد أجاد فيما أفاد من عدم جواز الاستصحاب في المثال المذكور ونظيره ، إلّا أن نظر المشهور في تمسكهم على النجاسة إلى أن النجاسة انما رتبت في الشرع على مجرد عدم التذكية» إلى أن قال : «والحاصل أن التذكية

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

سبب للحل والطهارة فكلما شك فيه أو في مدخلية شيء فيه فأصالة عدم تحقق السبب الشرعي حاكمة على أصالة الحل والطهارة» إلى آخر ما قال ، فراجع.

الثاني : في تعارض الاستصحابين عند بيان تقدم الأصل السببي على المسببي ، حيث تعرض (قده) لمحكيّ كلام العلامة في بعض كتبه : «الحكم بطهارة الماء القليل الواقع فيه صيد مرمي لم يعلم استناد موته إلى الرمي» ثم رده بقوله : «أنه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة التي منها انفعال الماء الملاقي له».

هذا ما ظفرنا عليه من كلمات شيخنا الأعظم حول أصالة عدم التذكية ، وأشرنا إلى مواضعها تسهيلا للطالب ، ولعل المتتبع يقف على تعرضه له في موارد أخرى.

وكيف كان ، فلا بد قبل بيان صور المسألة وما يجري فيه استصحاب عدم التذكية وما لا يجري فيه من توضيح أمرين : أحدهما في معنى الأصل الموضوعي في المقام كما في المتن وبعض عبارات الشيخ الأعظم.

ثانيهما : في أن تقدم أصالة عدم التذكية على أصالة البراءة والإباحة والطهارة هل هو بالورود كما في المتن ، أم بالحكومة كما عبر بها شيخنا الأعظم (قده) ، فنقول :

أما الأمر الأول ، فتقريبه : أن الأصل الموضوعي يطلق بحسب الاصطلاح على الأصل الجاري في الموضوع لإحراز حكمه كاستصحاب خمرية مائع شك في انقلابه خلّا ، فانه رافع لموضوع أصالة الحل فيه ، وكاستصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير العنبي المغلي إذا شك في ذهابهما ، وكاستصحاب

٤١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عدالة زيد لإحراز الأحكام المترتبة عليها من جواز الاقتداء به ، ونفوذ شهادته وغيرهما. وفي قباله الأصل الجاري في نفس الحكم الشرعي كاستصحاب حرمة مباشرة الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال ، وكاستصحاب نجاسة الماء المتغير الزائل تغيره من قبل نفسه ، واستصحاب نجاسة الثوب المعلوم نجاسته سابقا ، وغير ذلك. ولا ريب في تقدم رتبة الأصل الموضوعي بهذا المعنى على الأصل الحكمي ، لتقدم الموضوع على الحكم رتبة ، حيث انه بالنسبة إلى الحكم كالعلة بالنسبة إلى المعلول ، فلا يجري الأصل في الحكم مع جريانه في الموضوع سواء كان الأصلان بحسب المفاد متنافيين كما إذا اقتضى الأصل الموضوعي حرمة شيء والأصل الحكمي إباحته كما تقدم من مثال استصحاب خمرية المائع المشكوك انقلابه خلّا المقتضي لحرمته وأصالة الحل المقتضية لحلية شربه ، أم متوافقين كما في استصحاب عدالة زيد واستصحاب جواز تقليده.

والوجه في تقديم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي هو تسبب الشك في الحكم عن الشك في الموضوع ، لأن الشك في الموضوع أوجب الشك في الحكم ، فالأصل الموضوعي لكونه منقّحا للموضوع يرفع الشك عن حكمه ، ومعه لا يبقى مجال للأصل الحكمي كما هو الحال في كل أصل سببي ومسببي. وهذا المعنى الخاصّ المصطلح من الأصل الموضوعي ليس مرادهم في المقام ، بل المراد به هنا ما هو أعم منه ، فكل أصل تنزيلي وان كان حكميا يقدم على أصالة البراءة كما يشهد بذلك ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في مقام التفريع على الشرط المذكور أعني عدم وجود أصل حاكم على أصالة البراءة بقوله : «فمثل

٤١٤

فيما لم يكن هناك أصل

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المرأة المترددة بين الزوجة والأجنبية خارج عن محل الكلام ، لأن أصالة عدم علاقة الزوجية المقتضية للحرمة ، بل استصحاب الحرمة حاكمة على أصالة الإباحة». والوجه في هذا التعميم هو : أن أصالة الإباحة من الأصول غير التنزيلية ، وكل أصل تنزيلي وان كان حكميا يقدم على الأصل غير التنزيلي على ما سيأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وأما الأمر الثاني ، فقد جعل شيخنا الأعظم (قده) الوجه في تقدم أصالة عدم التذكية على أصالة الإباحة والحل هو الحكومة ، ولكن المصنف (قده) اختار ورود استصحاب الحكم على البراءة العقلية التي هي مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والبراءة الشرعية التي هي مقتضى حديث الرفع ونحوه. أما وروده على البراءة العقلية فواضح ، لأن موضوعها عدم البيان العقلي والشرعي على الحكم الواقعي والظاهري ، فمع العلم بالوظيفة بأحد الطرق ولو بالاستصحاب لا يبقي مورد للقاعدة.

وأما وروده على البراءة الشرعية ، فلان مشكوك الحكم إذا جرى فيه الاستصحاب للعلم بحالته السابقة صار معلوم الحكم بعنوان كونه مشكوك البقاء ، ومعه لا مجال لجريان أصالة البراءة فيه ، لأن موضوعها الحكم المجهول من جميع الجهات يعني حدوثا وبقاء ، ومن الواضح أن الاستصحاب يرفع الشك ـ الّذي هو موضوع البراءة ـ بقاء ويجعل الحكم معلوما كما كان في السابق. وعليه فتعبير المصنف بالورود هنا لا يخلو من تعريض بكلام شيخنا الأعظم حيث جعل الاستصحاب حاكما على أصالة الحل ونحوها. وانتظر لتفصيل الكلام في خاتمة الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

٤١٥

موضوعي (١) (*) مطلقا ولو (٢) كان موافقا لها ، فانه (٣) معه لا مجال لها أصلا ، لوروده عليها كما يأتي تحقيقه (٤) ، فلا تجري (٥)

______________________________________________________

(١) قد عرفت المراد منه في الأمر الأول مما تقدم في التعليقة.

(٢) بيان للإطلاق ، وغرضه : أن عدم جريان أصالة البراءة في ما إذا كان المورد مجرى للأصل الموضوعي ـ بالمعنى الأعم ـ لا يختص بما إذا كان مفاد أصالة البراءة منافيا لما يقتضيه الأصل الموضوعي ، كما إذا اقتضى الاستصحاب خمرية مائع شك في انقلابه خلّا المستلزمة لحرمته ، واقتضى أصالة البراءة جواز شربه ، بل لا تجري البراءة حتى إذا كان مفادها موافقا للأصل الموضوعي الجاري في موردها كجريان الاستصحاب في خليّة مائع شك في انقلابه خمرا ، فان لازم مفاده ـ وهو حلية الشرب ـ وان كان موافقا لمفاد أصالة البراءة ، لكنها لا تجري أيضا ، بعد جريان الأصل الموضوعي المحرز للموضوع.

(٣) الضمير للشأن ، وهذا تعليل لاشتراط جريان أصالة البراءة بعدم وجود أصل موضوعي ، وقد عرفت توضيحه ، وأن وجه الاشتراط كون الأصل الموضوعي واردا على أصالة البراءة ، كما عرفت أيضا تقريب الورود بنظر المصنف في التعليقة.

(٤) أي : يأتي تحقيق الورود في خاتمة الاستصحاب إن شاء الله تعالى. ثم ان ضمير «لها» في الموضعين و «عليها» راجع إلى أصالة البراءة ، وضميرا «معه ، لوروده» إلى «أصل موضوعي».

(٥) هذا شروع في بيان ما يتفرع على عدم جريان البراءة مع الأصل الموضوعي

__________________

(*) لعل وجه التعبير بالأصل الموضوعي في المتن وفي كلام شيخنا الأعظم هو عدم التسالم على جريان الاستصحاب في الأحكام ووقوع الخلاف فيه ، أو إرادة الأصل التنزيلي من الموضوعي كما عن المحقق النائيني (قده)

٤١٦

مثلا (١) أصالة الإباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله

______________________________________________________

وتوضيحه : أن الشك في ذكاة الحيوان تارة يكون لأجل الشك في نفس الحكم ، فالشبهة حكمية ، وأخرى لأجل الشك في متعلقه بعد العلم بنفس الحكم فالشبهة موضوعية ، والأول قد يكون الشك في أصل قابلية الحيوان للتذكية مع العلم بأن قابليته لها شرط لتأثير الأفعال المخصوصة في طهارته فقط كالأرنب والثعلب أو في طهارته وحلية لحمه كالغنم والبقر ، وقد يكون للشك في مقدار قابليته لها بعد إحراز أصل القابلية ، كما إذا علمنا أن التذكية تؤثر في الطهارة ، لكن شككنا في أنها هل تؤثر في حلية اللحم أيضا أم لا؟ وقد يكون للشك في مانعية شيء كالجلل عن تأثير التذكية في الطهارة فقط أو الطهارة والحلية. والثاني أيضا قد يكون للشك في أصل قابلية الحيوان المعين للتذكية لأجل الشك في كونه مما يقبل التذكية كما إذا شك في أن هذا الحيوان المذبوح غنم أو كلب بعد العلم بحكم كليهما ، وأن الأول يقبل التذكية والثاني لا يقبلها ، وقد يكون للشك في طروه مانع عن قابليته للتذكية كالجلل بعد العلم بمانعيته شرعا ، كما إذا شك في أن هذا الغنم المذبوح هل كان جلّالا حتى لا تؤثر التذكية فيه أم لا حتى تؤثر ويكون مذكى ، فهذه خمس صور تعرض لها المصنف ، وسيأتي بيانها في طي شرح كلماته.

(١) التعبير بـ «مثلا» لإفادة أن تقدم الأصل الموضوعي على غيره لا يختص بما إذا كان ذلك الغير أصالة الإباحة المثبتة للإباحة الظاهرية ، بل يقدم أيضا على أصالتي

__________________

لكنه بعيد ، وأبعد منه احتمال كون التعبير بالموضوعي لأجل رافعية الأصل التنزيلي لموضوع البراءة ، وبشاعته غنية عن البيان ، إذ ليس مؤدى نفس الأصل موضوعا حتى يتصف بالموضوعية ، ورافعيته لموضوع أصل آخر وهو المحكوم لا تصحح توصيفه بالموضوعية.

٤١٧

التذكية (١) ، فانه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية ،

______________________________________________________

الطهارة والبراءة النافية لحرمة اللحم المشكوك قابليته للتذكية ، وذلك لورود الأصل الموضوعي ـ وهو فيما نحن فيه أصالة عدم التذكية ـ على جميع هذه الأصول.

(١) هذا شروع في بيان الصورة الأولى وهي قابلية حيوان للتذكية ، كما إذا تولد حيوان من طاهر ونجس ـ مثل الغنم والكلب ـ ولم يتبع أحدهما في الاسم ، ولم يكن له اسم خاص يندرج به تحت أحد العناوين الطاهرة أو النجسة فيشك في قابليته للتذكية ، فان أصالة الحل لا تجري فيه إذا ذبح على الشرائط المخصوصة من إسلام الذابح والتسمية وغيرهما ، وذلك لوجود الأصل الموضوعي وهو استصحاب عدم التذكية ، أي : عدم وقوع التذكية المعتبرة شرعا على هذا الحيوان ، حيث ان من شرائطها قابلية المحل لها ، ومع الشك في القابلية يشك في وقوع التذكية المعتبرة عليه ، فيستصحب عدمها ، بتقريب : أن هذا الحيوان حال حياته لم يكن مذكى ، وبعد قطع أوداجه يشك في انتقاض عدم التذكية بالتذكية ، فيستصحب عدمها ، وهذا نظير ما تقدم منه في بحث العام والخاصّ من إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي ، كاستصحاب عدم قرشية المرأة ، وشمول المستثنى منه في رواية «إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة إلّا أن تكون امرأة من قريش» (١) للمرأة المشكوكة قرشيتها. وعليه فبعد وقوع الذبح بشرائطه على هذا الحيوان المشكوك قابليته للتذكية يشك في تحقق التذكية الشرعية ـ التي من شرائطهما قابلية المحل لها ـ وأن تلك الأفعال أثّرت في طهارته وحلية لحمه أم لا ، فيحرز عدمها بالاستصحاب ، ومع جريان هذا الأصل الموضوعي الموجب لاندراج الحيوان في «ما لم يذك» لا مجال لأصالة الحل ،

__________________

(١) الوسائل ج ٢ ص ٥٨٠ الحديث : ١.

٤١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وذلك لأن موضوعها هو الشيء ـ كاللحم فيما نحن فيه ـ بوصف أنه مشكوك الحكم ، فإذا جرى الأصل الموضوعي واندرج في غير المذكى صار معلوم الحكم ، لقيام الإجماع على حرمته حينئذ كحرمة الميتة ، فينتفي موضوع أصالة الحل وهو الجهل بحكمه ، فلا يبقى مجال لجريانها كما إذا مات حتف أنفه.

لا يقال : الميتة أمر وجودي ، لأنها عبارة عمّا مات حتف أنفه ، والمذكى أيضا أمر وجودي ، لأنه عبارة عن الحيوان الّذي زهق روحه بكيفية خاصة اعتبرها الشارع ، فهما ضدّان وجوديان ، وحرمة أكل اللحم مترتبة في قوله تعالى : «حرمت عليكم الميتة» على عنوان «الميتة» لا على عنوان «غير المذكى» وحينئذ فاستصحاب كون الحيوان غير مذكى لا يصلح لإثبات كونه ميتة حتى يترتب عليه حرمة الأكل ، لأن إثباته به يكون من إثبات أحد الضدين وهو الميتة بنفي الضد الآخر أعني المذكى ، وهو مبتن على القول بحجية الأصول المثبتة ، وسيأتي في بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى عدم حجيتها ، فيسقط استصحاب عدم التذكية ، وتصل النوبة إلى الأصل المحكوم أو المورود وهو أصالة الحل.

لأنا نقول : استصحاب عدم التذكية وان لم يصلح لإثبات كون الحيوان ميتة ، لعدم حجية الأصول المثبتة ، لكن حيث ان حرمة الأكل لم تثبت في الآية الشريفة للميتة على سبيل الحصر ، وقد ثبت الإجماع على اتحاد الميتة وغير المذكى حكما ، فالحرمة كما ثبتت في الأدلة للميتة ، كذلك ثبتت لغير المذكى أيضا ، فعنوان «غير المذكى» كعنوان «الميتة» بنفسه موضوع مستقل لحكم الشارع بالحرمة ، ومن المعلوم إمكان إحراز هذا الموضوع بأصالة عدم التذكية ، فيترتب عليه الحرمة ، فليس المقصود إثبات حرمة الميتة له ليتوجه

٤١٩

فأصالة عدم التذكية تدرجه (١) [تدرجها] فيما لم يذك ، وهو (٢) حرام إجماعا (*) كما إذا مات حتف أنفه ، فلا حاجة (٣) إلى إثبات

______________________________________________________

الإشكال ، بل نقول هما موضوعان مختلفان حكم على كليهما بحكم واحد وهو الحرمة.

(١) هذا الضمير وضميرا «حليته ، فانه» راجعة إلى الحيوان.

(٢) يعني : أن «ما لم يذك» بنفسه موضوع للحكم بالحرمة ، فيجري فيه الأصل وان لم يصدق عليه «الميتة» حيث انها ما مات حتف الأنف ، وقد عرفت توضيحه في «لا يقال ... لأنا نقول».

(٣) هذا متفرع على تغاير «ما لم يذك» و «الميتة» مفهوما واتحادهما حكما بالإجماع ، وفيه تعريض بكلام شيخنا الأعظم ، حيث حكم بحرمة «غير المذكى» لصدق عنوان «الميتة» عليه في لسان الشرع ، ولا بأس بتوضيح كلامه أوّلا ثم بيان إيراد المصنف عليه ثانيا ، فنقول : ان شيخنا الأعظم بعد أن تعرض في أول تنبيهات الشبهة الموضوعية التحريمية لحكومة أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة على أصالتي الإباحة والطهارة في اللحم المردد بين المذكى والميتة ، قال : «وربما يتخيل خلاف ذلك تارة لعدم حجية

__________________

(*) بل هو مقتضى مفهوم قوله تعالى : «الا ما ذكيتم» ويدل عليه أيضا معتبرة أبي بكر الحضرمي ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صيد البزاة والصقورة والكلب والفهد ، فقال : لا تأكل صيد شيء من هذه إلّا ما ذكيتموه إلّا الكلب المكلب» (١) لدلالة مفهوم «الا ما ذكيتموه» على حرمة أكل ما لم يذك بالمباشرة أو بإرسال الكلب المعلم ، ونحوها كثير من روايات الباب ، وفيها ما هي معتبرة أيضا ، فراجع.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٦ ، الباب ٩ من أبواب الصيد ، الحديث : ١ ، ص ٢١٩

٤٢٠