منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

فيعارض به (١) ما دل على وجوبه كما لا يخفى.

لا يقال : قد علم به (٢) وجوب الاحتياط.

______________________________________________________

كما سيأتي في كلام شيخنا الأعظم (قده) مستشكلا على الاستدلال بهذا الحديث.

(١) أي : فيعارض بحديث السعة ما دل على وجوب الاحتياط ، فلا ورود ولا حكومة له على حديث السعة.

(٢) أي : بما دل على وجوب الاحتياط ، وهذا هو إشكال شيخنا الأعظم على الاستدلال بهذا الحديث ، قال (قده) : «وفيه : ما تقدم في الآيات من أن الأخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل» توضيحه : أن شيخنا الأعظم استظهر من العلم بالحكم المجهول ـ الّذي وسع الشارع فيه ـ العلم بالوظيفة الفعلية مطلقا وان كانت هي حكما ظاهريا كوجوب الاحتياط ، فلا سعة له ، فإذا لم يعلم المكلف بشيء من الحكم الواقعي والظاهري فهو في سعة ، فموضوع السعة هو الجهل بمطلق الوظيفة ، وأما إذا علم بالوظيفة الفعلية وان كانت هي وجوب الاحتياط فلا سعة له ، لأن العلم بها قاطع لعذره الجهلي وان كان نفس الحكم الواقعي باقيا على المجهولية ، ومن المعلوم أن المحدثين يدعون العلم بوجوب الاحتياط الّذي هو وظيفة الجاهل بالحكم الواقعي ، فيخرج العالم بوجوبه عن الجهل وعدم البيان اللذين هما موضوعان للبراءة العقلية والشرعية ، حيث ان ما دل على وجوب الاحتياط بيان رافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وموجب للعلم بالوظيفة الفعلية الرافع للسعة والرخصة وان كان الحكم الواقعي مجهولا بعدُ ، لما عرفت من كفاية العلم بالحكم الظاهري كوجوب الاحتياط في رفع السعة ، وعليه فلا يصلح مثل حديث السعة لمعارضة أدلة الاحتياط ، بل هي واردة عليه.

٢٦١

فانه يقال (١) : لم يعلم الوجوب أو الحرمة

______________________________________________________

(١) هذا جواب عن إشكال الشيخ (قده) توضيحه : أن وجوب الاحتياط الشرعي المستفاد مما دل عليه يمكن أن يكون إرشاديا وأن يكون مولويا ، أما كونه إرشاديا فسيأتي بيانه ، وأما كونه مولويا ، فاما أن يكون طريقيا بمعنى أنه يجب الاحتياط لأنه طريق إلى الحكم الواقعي المجهول من الوجوب أو الحرمة ، فيكون الملاك الداعي إلى إيجاب الشارع للاحتياط هو مجرد حفظ الواقع في ظرف الجهل به ، فلا ثواب على موافقة أمر هذا الاحتياط ، كما لا عقاب على مخالفته. واما أن يكون نفسيا بمعنى أنه ـ في ظرف الجهل بالواقع ـ يجب الاحتياط في نفسه بفعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة ، وليس الملاك في هذا النحو من الاحتياط النّظر إلى الواقع والتحفظ عليه ، بل الملاك فيه جعل المكلف أشد مواظبة وأقوى عزما على فعل الواجبات وترك المحرمات فالداعي إلى إيجاب الاحتياط هو تشديد مواظبة المكلف وتقوية عزمه على أداء تكاليفه بلا نظر إلى الواقع ، فيترتب الثواب والعقاب حينئذ على موافقة أمر هذا الاحتياط ومخالفته.

فان كان إيجاب الاحتياط طريقيا لم يتم ما ذكره (قده) من أن العلم بالحكم الظاهري كوجوب الاحتياط يُخرج المكلف عن السعة ، لأنه رافع لموضوعها وهو عدم العلم بالحكم ، فيقدم أدلته عليه. وجه عدم تماميته : أن العلم بوجوب الاحتياط طريقيا لا يستلزم العلم بالوجوب أو الحرمة الواقعيين حتى يقع المكلف في ضيق منهما ، وذلك لأنه بعد العلم بوجوب طريق مثل الاحتياط لا يصير ذو الطريق المجهول من الوجوب أو الحرمة الواقعيين معلوما ، إذ العلم بوجوب الاحتياط لا يوجب العلم بالواقع حتى يكون مما يعلم ويقع المكلف في الضيق من أجله.

٢٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل : أن إيجاب الاحتياط ـ بناء على طريقيته ـ وان كان وظيفة فعلية ، لكنه لا يوجب العلم بالواقع حتى يرفع موضوع حديث السعة ـ وهو الجهل بالحكم الواقعي ـ بل الحكم الواقعي باق على مجهوليته ، فلا يكون إيجاب الاحتياط رافعا لموضوع حديث السعة ليقدم دليله عليه ورودا أو حكومة بل هما متعارضان ، لظهور حديث السعة في الترخيص من ناحية الإلزام المجهول فالمكلف في سعة منه ، وظهور دليل الاحتياط الطريقي في أن إيجابه انما هو لأجل التحفظ على الإلزام المجهول ، فالمكلف في ضيق منه ، فهما متعارضان ، والمرجع فيهما قواعد التعارض.

وان كان إيجابه نفسيا تم ما ذكره (قده) من وقوع المكلف في الضيق وتقدم أدلة الاحتياط على حديث السعة ، وذلك لأن المكلف بعد العلم بوجوب الاحتياط يقع في ضيق من أجله ، لكون وجوبه حينئذ مما يعلم ، فيكون رافعا لموضوع حديث السعة فيقدم عليه ، ولا يقع في الضيق من أجل الحكم الواقعي المجهول حتى يعارض الحديث ، لأن وجوب الاحتياط ـ حسب الفرض ـ حكم نفسي ناش عن ملاكه ، وليس ناشئا من الواقع المجهول ، وحينئذ فمع العلم بالوظيفة الفعلية لا يبقى موضوع لحديث السعة ، فيتم ما ذكره الشيخ الأعظم (قده) من تقدم أدلة الاحتياط عليه ، هذا.

ولكن وجوبه النفسيّ غير ثابت ، بل قد عرفت في الاستدلال بحديث الرفع أن وجوبه طريقي شُرِّع لأجل التحفظ على الواقع المجهول وعدم وقوع المكلف في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا ، وعليه فلا يبقى مجال لدعوى تقدم أدلته على الحديث ورودا أو حكومة ، بل يقع بينهما التعارض ، فلا بد من إعمال قواعده.

٢٦٣

بعدُ (١) فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله (٢)؟

نعم (٣) لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان (٤) وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه. لكنه عرفت (٥) أن وجوبه (٦) كان طريقيا لأجل

______________________________________________________

(١) أي : بعد وجوب الاحتياط طريقيا : يعني : أنه مع فرض وجوب الاحتياط طريقيا لا يصير المكلف عالما بالواقع حتى يقع في ضيقه ولا يكون في سعة منه ، إذ لا يوجب الاحتياط العلم بالواقع ولا يكشف عنه أصلا.

(٢) أي : من أجل الوجوب أو الحرمة المجهولين ، غرضه أن غاية السعة هي العلم بالتكليف المجهول لا العلم بإيجاب الاحتياط ، وأنه لا يوجب العلم بالحكم المجهول حتى يرفع السعة ويوقع المكلف في الضيق.

(٣) استدراك على قوله : «فكيف يقع» وقد عرفت توضيحه بقولنا : وان كان إيجابه نفسيا تم ما ذكره ... إلخ.

(٤) أي : ثبت وتحقق ، وضمير «وقوعهم» راجع إلى المكلفين المستفاد من سياق الكلام.

(٥) يعني : عرفت في الاستدلال بحديث الرفع ، حيث قال هناك : «هذا إذا لم يكن إيجابه ـ يعني الاحتياط ـ طريقيا ، وإلّا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول ... إلخ» وقوله : «بعد العلم بوجوبه» إشارة إلى أن لوجوب الاحتياط كالاحكام الأوّلية مراتب ، والمجدي منها هنا هو مرتبة التنجز ، إذ لا يترتب المقصود ـ وهو وقوع المكلف في الضيق ـ على مجرد تشريع إيجاب الاحتياط ، بل على وصوله إلى العبد كما هو ظاهر.

(٦) هذا الضمير وضميرا «ضيقه ، بوجوبه» راجعة إلى الاحتياط. والحاصل : أن تقدم أدلة الاحتياط منوط بجعل وجوبه نفسيا ، أو كون العلم بالحكم المأخوذ غاية للسعة بمعنى العلم بالوظيفة الفعلية ولو كان وجوبه طريقيا ، وحيث لم يثبت

٢٦٤

أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا ، فافهم (١).

ومنها (٢) : قوله عليه‌السلام (*) : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١) ودلالته (٣) تتوقف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما

______________________________________________________

الوجوب النفسيّ ولا إرادة غير الحكم الواقعي من المجهول ، فلا وجه للتقديم.

(١) لعله إشارة إلى أن الغرض من إيجاب الاحتياط طريقيا تنجيز الواقع وهو كاف في تحقق الضيق وارتفاع السعة وان لم يوجب العلم بالتكليف المجهول ، فتدبر.

(٥ ـ مرسلة الصدوق)

(٢) أي : ومن الروايات المستدل بها على البراءة قوله عليه‌السلام ....

(٣) لما كانت هذه العبارة تعريضا بما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في الاستدلال بالمرسلة ، فينبغي أوّلا نقل كلامه وإيضاح مرامه ثم توضيح إيراد المصنف عليه ، فنقول : قال (قده) بعد نقل الحديث : «ودلالته على المطلوب أوضح من الكل ، وظاهره عدم وجوب الاحتياط ، لأن الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو ، لا من حيث كونه مجهول الحكم ، فان تم ما سيأتي من أدلة الاحتياط دلالة وسندا وجب ملاحظة التعارض بينها وبين هذه الرواية ...» وتوضيحه : أن قوله عليه‌السلام : «حتى يرد ... إلخ» ظاهر في أن المراد بورود النهي وصوله إلى المكلف وعلمه به ، لا مجرد صدوره من الشارع وان لم يصل إلى المكلف ، فالشيء الّذي لم يصل إليه نهي فيه من الشارع مطلق ومباح ظاهرا ولو فرض صدور النهي عنه من الشارع. كما أن الظاهر منه بقرينة قوله : «فيه»

__________________

(*) رواه الصدوق مرسلا في صلاة الفقيه هكذا : «وذكر شيخنا محمد

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ كتاب القضاء ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٦٠.

٢٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أن المراد بالنهي عن الشيء النهي عنه بعنوانه الخاصّ يعني بعنوانه الأولي لا بعنوان أنه مشتبه الحكم. وعليه فمعنى الحديث : أن كل شيء مشتبه الحكم مباح ظاهرا ما لم يصل إلى المكلف نهي عن ذلك الشيء بخصوصه ، فشرب التتن المشتبه حكمه مطلق أي مباح لا مؤاخذة عليه ظاهرا ما لم يصل إلى المكلف نهي عنه بخصوصه وعنوانه مثل «لا تشرب التتن» فيتم الاستدلال به على البراءة ، وحينئذ فإذا كان مفاد دليل الاحتياط ـ بناء على كونه مولويا لا إرشاديا ـ هو النهي عن ارتكاب المشتبه وقعت المعارضة بينه وبين هذا الحديث كالمعارضة بينه وبين حديث «كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» هذا.

وقد ناقش المصنف (قده) في هذا الاستظهار هنا وفي حاشية الرسائل ، لا من جهة صدق ورود النهي بورود أدلة الاحتياط الناهية عن ارتكاب المشتبه حتى تكون أدلته مقدمة على هذا الحديث لا معارضة له ، بل من جهة الإشكال في مبنى الاستدلال وهو كون ورود النهي بمعنى وصوله إلى المكلف المساوق لعلمه به ، توضيح ذلك : أن الورود يصدق على الصدور المقابل للسكوت أيضا ،

__________________

ابن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي‌الله‌عنه عن سعد بن عبد الله : أنه كان يقول : لا يجوز الدعاء في القنوت بالفارسية ، وكان محمد بن الحسن الصفار يقول : انه يجوز. والّذي أقول به : انه يجوز ، لقول أبي جعفر عليه‌السلام : لا بأس أن يتكلم الرّجل في صلاة الفريضة بكل شيء يناجي به ربه عزوجل ولو لم يرد هذا الخبر لكنت أجيزه بالخبر الّذي روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، والنهي عن الدعاء بالفارسية في الصلاة غير موجود ، والحمد لله رب العالمين» (١).

__________________

(١) الفقيه ، ج ١ ، كتاب الصلاة ، باب وصف الصلاة ص ٣١٧ طبعة مكتبة الصدوق).

٢٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فمعنى الحديث حينئذ : أن ما لم يصدر فيه نهي واقعا ـ بمعنى سكوت الله تعالى عنه ـ فهو حلال ولا كلفة على العباد من جهته ، في مقابل ما إذا صدر النهي عنه واقعا فليس حلالا وان لم يعلم به المكلف ، فوزان هذا الحديث حينئذ وزان حديث الحجب ، وحديث السكوت أعني قوله عليه‌السلام : «... وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تكلفوها».

وعليه فلا يصح الاستدلال به على البراءة حتى تقع المعارضة بينه وبين أدلة الاحتياط ـ لو تمت ـ بل أدلة الاحتياط مقدمة عليه ، والوجه فيه واضح ، فان المقصود إثبات البراءة في كل ما لم يصل فيه نهي إلينا ، لا فيما لم يصدر فيه نهي واقعا ، وحينئذ فإذا كان مفاد الحديث ـ كما تقدم ـ هو إباحة المشتبه ما لم يصدر نهي فيه واقعا كانت إباحته مغياة بصدور النهي عنه واقعا ، فالحكم بالإباحة ظاهرا يكون مشروطا بالعلم بعدم تحقق هذه الغاية أعني صدور النهي فيه واقعا ، فإذا احتملنا تحققها بأن يكون قد بيّن الشارع حكمه الواقعي واختفي علينا بمعصية من عصى الله تعالى لم يصح التمسك بهذا الحديث لإثبات الإباحة ، لأنه حينئذ من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وقد ثبت في محله عدم جوازه.

والحاصل : أنه مع احتمال إرادة الصدور من الورود لا موجب للجزم بظهوره في خصوص الوصول حتى يتجه الاستدلال به على البراءة.

__________________

والظاهر أنه (قده) استظهر الوصول من الورود ، لعدم احتمال إرادة عدم الوجود من قوله : «غير موجود» وان كان ذلك ظاهره ، ضرورة أن المترتب على الفحص انما هو عدم الوجدان والوصول لا عدم الوجود والصدور. كما أن المراد من النهي هو النهي عن الشيء بعنوانه الخاصّ ، فيكون دليلا على البراءة.

٢٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ولكن حكي استناده إليه في أماليه في جعل إباحة الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الإمامية ، وظاهره إرادة الإباحة الواقعية ، فان كان كذلك لم يصح جعل الورود بمعنى الوصول غاية ، لأن غاية الإباحة الواقعية هي تشريع النهي وصدوره لا وصوله إلى المكلف ، فلا بد أن يريد بقوله : «غير موجود» غير صادر.

ويؤيده أنه (قده) جعل الاستدلال بهذا الخبر كالاحتجاج بقول أبي جعفر عليه‌السلام : «لا بأس أن يتكلم الرّجل الوارد لبيان الحكم الواقعي ، فمراده بقوله : «غير موجود» عدم الصدور كما هو ظاهره لا عدم الوصول ، فلا يكون الخبر حينئذ دليلا على البراءة. لكن إرادة عدم الصدور في غاية البعد كما أشرنا إليه آنفا.

ورواه الشيخ في أماليه (١) عن الصادق عليه‌السلام مسندا هكذا : «الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر أو نهي» ولا ريب في كون الورود هنا بمعنى الوصول دون الصدور ، كما لا ريب في شمولها للشبهة الوجوبية أيضا ، ومعه لا حاجة إلى دعوى عدم الفصل التي استند إليها شيخنا الأعظم (قده) للبراءة في الشبهة الوجوبية ، حيث قال : «والأقوى فيه جريان أصالة البراءة ، للأدلة الأربعة المتقدمة مضافا إلى الإجماع المركب».

لكن الإشكال في سنده ، إذ فيه من لم تثبت وثاقته كعلي بن حبشي ، فراجع هذا ما يرجع إلى متن الحديث وسنده.

__________________

(١) البحار ، ج ٢ ص ٢٧٤ ، الحديث : ١٩. رواه الشيخ في الأمالي عن الحسين ابن إبراهيم القزويني عن محمد بن وهبان عن علي بن حبشي عن العباس بن محمد بن الحسين عن أبيه عن صفوان بن يحيى عن الحسين بن أبي غندر عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

٢٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأما دلالته ، فالمصنف (قده) مع بنائه على كون الورود بمعنى الصدور استظهر منه الإباحة الظاهرية ، ولذا جعله من أدلة البراءة. ولكن اعترض عليه بعض أعاظم تلامذته (قده) بوجوه سيأتي بيانها بعد التعرض لما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) حول هذا الحديث ومحصله : «أن الورود فيه بمعنى الصدور ، والمراد بالإطلاق الإباحة الواقعية الثابتة للشيء بعنوانه الأوّلي دون الإباحة الظاهرية ، فالمعنى : كل شيء مباح واقعا حتى يصدر فيه نهي من الشارع ، والغرض من الحديث : نفي اعتبار قاعدة الملازمة ، وعدم جواز التعويل عليها في استنباط الأحكام الشرعية ، فكل شيء يحكم بأنه مباح واقعا وان أدرك العقلُ قبحَه ، ولا يحكم بحرمته ما لم يصدر نهي من الشارع المقدس عنه ، فلا يلزم حينئذ توضيح الواضحات حتى يستبعد صدوره من الشارع» (١).

أقول : فيه ـ مضافا إلى شمول قاعدة الملازمة للواجبات وعدم اختصاصها بالمحرمات وعدم ملائمة ما أفاده (قده) إلّا بناء على وجود كلمة «أو أمر» في الحديث ـ أنه لا ريب في توقف حكم العقل بحسن شيء أو قبحه على إحراز علته التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع ، فبدون إحراز هذه الأمور الثلاثة لا يحكم بشيء من الحسن والقبح ، ومع إحرازها لا يعقل عدم حكمه به ، لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة ، فالمنع عن حجية حكم العقل ان كان صغرويا بمعنى قصوره عن إدراك المقتضيات والشرائط والموانع بنحو السلب الكلي فهو ممنوع ، لاستقلاله بحسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان ونحوها من المستقلات العقلية الواقعة في سلسلة علل الأحكام وملاكاتها.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٢٣٠.

٢٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وان كان كبرويا بمعنى عدم حجية مدركات العقل أصلا ، فهو ممنوع أيضا إذ لا فرق في حجية البرهان بين الإنّي واللمي ، فكما نستكشف المصالح والمفاسد من العلم بوجوب شيء وحرمة آخر ، كذلك نحكم ـ بنحو اللِّم ـ بالوجوب والحرمة عند العلم بالمصالح والمفاسد الملزمة الثابتة في الأفعال ، لتحقق ما هو مناط حكمه ، فالمنع عن حجية الحكم حينئذ مساوق للمنع عن حجية القطع بالحكم.

وان كان كلامه (قده) ناظرا إلى منع اسناد الأحكام المستنبطة من الأولويات الظنية والاستحسانات العقلية إلى الشارع ، فهو وان كان مسلما ، إلّا أن القائل بقاعدة الملازمة من العدلية يأبى ذلك قطعا. ولا حاجة في ردّ هذه القاعدة في غير ما يوجب العلم إلى التمسك بهذه المرسلة مع وجود الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة الناهية عن العمل بالظن عموما والقياس خصوصا.

وكيف كان فاحتمالات الحديث أربعة ، حيث ان المراد بالنهي إمّا النهي الخاصّ عن الشيء بعنوانه ، أو النهي العام عن الاقتحام في المشتبه ، وعلى كلا التقديرين فالورود إما بمعنى الصدور وإما بمعنى الوصول ، والاستدلال به على البراءة منوط بإرادة النهي عن الشيء الخاصّ وكون الورود بمعنى الوصول كما استظهره شيخنا الأعظم ، وعلى الاحتمالات الثلاثة الأخرى يكون الحديث أجنبيا عن البراءة إلّا بناء على ما تكلفه المصنف كما ستعرفه في التوضيح. مضافا إلى توقف جريان أصالة عدم الورود على القول بجريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية.

وأما ما أشرنا إليه من اعتراضات بعض محققي تلامذة المصنف في حاشيته الأنيقة عليه فنتعرض لمحصل بعضها ، فنقول وبه نستعين : ان كلامه (قده) يشتمل

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على جهتين : الأولى في معنى الإباحة التي تستفاد من كلمة «مطلق». الثانية في نفي معنى الصدور عن الورود الّذي هو مورد الاستدلال بهذا الحديث ، وإثبات أن الورود بمعنى الوصول ، لأنه النافع في مسألة البراءة ، إذ الورود بمعنى الصدور بإرادة إباحة ما لم يصدر فيه نهي واقعا أجنبي عن البراءة ودليل لإباحة الأشياء قبل الشرع.

أما الجهة الأولى فمحصلها بتوضيح منّا : أن الإباحة المدلول عليها بقوله عليه‌السلام : «مطلق» اما عقلية بمعنى اللاحرج العقلي ، في قبال الحظر العقلي لكونه عبدا مملوكا ، واما شرعية ، وهي اما واقعية ثابتة لذات الموضوع لخلوّه عن المصلحة والمفسدة ، وإما ظاهرية ثابتة للموضوع بما هو مشكوك الحل والحرمة ، فالاحتمالات ثلاثة :

أما الاحتمال الأول وهو الإباحة بمعنى اللاحرج العقلي ، فحاصل الكلام فيه : صحة جعلها مغياة بعدم صدور النهي واقعا ، لأن الملحوظ فيه حال العقل مع الغض عن الشرع ، ومن المعلوم أن غايته صدور النهي من الشارع سواء وصل إلى المكلف أم لم يصل. لكن حمل الإباحة على هذا المعنى الّذي يحكم به عقل كل عاقل بعيد غير مناسب للإمام عليه‌السلام المعد لتبليغ الأحكام خصوصا بملاحظة أن الخبر مروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام بعد ثبوت الشرع وإكمال الشريعة سيّما في المسائل العامة البلوى التي يقطع بصدور أحكامها عن الشارع ، فلا فائدة في جعل الإباحة مع قطع النّظر عن الشرع.

وأما الاحتمال الثاني وهو الإباحة الواقعية فمحصله : أنه لا يعقل ورود حرمة في موضوعها ، للزوم الخلف ، إذ المفروض لا اقتضائية الموضوع للمصلحة

٢٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والمفسدة ، وذلك ينافي فرض اقتضائيته للمفسدة الداعية إلى تشريع الحرمة.

لا يقال : لا اقتضائيته انما هي من حيث ذاته ، وذلك لا ينافي اقتضائيته للمفسدة بعنوان ثانوي يقتضي الحرمة.

فانه يقال : ظاهر الخبر هو وحدة متعلقي الإباحة والنهي عنوانا ، فالماء الّذي بعنوانه صار مباحا هو بهذا العنوان يتعلق به النهي ، لا بعنوان آخر ينطبق عليه بحيث يكون موضوع النهي ذلك العنوان كالغصب ، فورود النهي في الماء المغصوب لا يقتضي صدق ورود النهي في الماء بعنوانه وان صدق بعنوان المغصوب ، هذا ما يقتضيه ظاهر الحديث من كون الإباحة مغياة بورود النهي في موردها.

وأما إذا أريد بورود النهي تحديد الموضوع وتقييده ، فلا يصح أيضا سواء كان بنحو المعرفية والمشيرية بأن يراد أن الموضوع الّذي لم يرد فيه نهي مباح ، والموضوع الّذي ورد فيه نهي ليس بمباح ، أم كان بنحو تقييد موضوع أحد الضدين بعدم الضد الآخر حدوثا أو بقاء ، وجه عدم الصحة : أنه على الأول يلزم حمل الخبر على ما هو كالبديهي الّذي لا يناسب شأن الإمام عليه‌السلام.

وعلى الثاني يلزم شرطية عدم الضد لوجود ضده حدوثا أو بقاء ، وقد ثبت في محله عدم معقولية ذلك ، فلا معنى لتقييد موضوع الإباحة الواقعية بعدم ورود النهي على كلا التقديرين.

فالمتحصل : أنه لا سبيل إلى استظهار الإباحة المالكية وهي اللاحرج العقلي وكذا الإباحة الشرعية الواقعية من الحديث أصلا.

وأما الاحتمال الثالث وهو الإباحة الظاهرية الثابتة لمشكوك الحل والحرمة

٢٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الناشئة عن المصلحة التسهيلية ، فتوضيحه : أنه لا يصح جعل هذه الإباحة مغياة ولا محددة ومقيدة بعدم صدور النهي في موضوعها واقعا ، لوجوه ثلاثة :

الأول : أن موضوع الإباحة الظاهرية هو الشيء المشكوك حكمه الواقعي ، وهذا الموضوع مغيا بالعلم بالحكم ، نظير قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» حيث أخذ العلم بالحرمة غاية للحلية الظاهرية ، ويستحيل أن تكون الإباحة الظاهرية مغياة بصدور النهي واقعا ، وإلّا لزم تخلف الحكم عن موضوعه التام ، وهو في الاستحالة كتخلف المعلول عن علته التامة.

توضيحه : أن موضوع الإباحة الظاهرية ـ وهو الجهل بالحكم الواقعي ـ لا يرتفع بمجرد صدور النهي واقعا وعدم العلم به ، لاجتماعه معه حينئذ ، فان قلنا بارتفاع هذه الإباحة بمجرد صدور النهي واقعا مع بقاء الجهل به لزم ارتفاع الحكم وهو الإباحة الظاهرية عن موضوعه وهو الجهل بالحكم الواقعي ، وليس هذا إلّا تخلف الحكم عن موضوعه ، ولا مناص عن هذا المحذور إلّا بجعل الورود بمعنى الوصول.

الثاني : أن الإباحة الظاهرية حيث انها مغياة بصدور النهي واقعا أو مقيدة بعدم صدوره واقعا ، فمع الشك في حصول الغاية أو القيد لا يصح ترتيب آثار الإباحة ، بل لا بد في ترتيبها من إحراز عدم تحقق الغاية أو القيد ـ أعني صدور النهي ـ والمفروض أن عدم صدوره غير محرز وجدانا فلا بد من إحرازه تعبدا بأصالة عدم صدور النهي حتى تثبت الإباحة فعلا للموضوع المشكوك ، وحينئذ فان كان الغرض من إجراء الأصل مجرد نفي الحرمة ودفع تبعتها ظاهرا فلا مانع منه ، إلّا أنه ليس من الاستدلال بالخبر ، بل بالأصل.

٢٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وان كان الغرض من إجرائه التعبد بالإباحة المغياة أو المقيدة بعدم صدور الحرمة ، أو تحقيق موضوع تلك الإباحة ، فحينئذ يرتبط الاستدلال بالخبر ، إلّا أنه لا يجري الأصل لإثبات شيء من هذه الأمور ، وذلك لعدم إمكان إرادة الإباحة الواقعية والظاهرية من المرسلة حتى يجري فيها الاستصحاب. واستصحاب الإباحة المالكية بمعنى اللاحرج غير جار أيضا ، لعدم كونها حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي. كما لا يجري الأصل أيضا لتحقيق موضوع الإباحة لأنها ان كانت من لوازم عدم النهي الأعم من الواقع والظاهر كوجوب الإطاعة وحرمة المعصية اللذين هما من لوازم الحكم مطلقا وان كان ظاهريا ثابتا بالأصل جرى الأصل فيها ، ولكن من الواضح أن الإباحة قبل الشرع هي اللاحرج عقلا حقيقة لا اللاحرج قبل الشرع ظاهرا مع ثبوته واقعا. وبعد عدم جريان الأصل فالاستدلال بالخبر يندرج في التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية ، إذ المفروض عدم إحراز عدم صدور النهي حتى يندرج المشكوك في قوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق» لتثبت إباحته ظاهرا.

الثالث : قال (قده) : «ان ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للإباحة الظاهرية المفروضة ، ومقتضى فرض عدم الحرمة إلّا بقاء هو فرض عدم الحرمة حدوثا ، ومقتضاه عدم الشك في الحلية والحرمة من أول الأمر ، فما معنى جعل الإباحة الظاهرية المبعوثة بالشك في الحلية والحرمة في فرض عدم الحرمة إلّا بقاء» وتوضيحه : أن جعل الورود بمعنى الصدور مستلزم لانقلاب الإباحة الظاهرية المدلول عليها بقوله عليه‌السلام : «مطلق» إلى الإباحة الواقعية ، حيث ان ظاهر قوله : «حتى يصدر» أن الشك دائما هو في بقاء الإباحة لا في

٢٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

حدوثها ، لدلالة الغاية على أن المجعول قبل النهي هو حكم آخر ، وقد دل قوله : «مطلق» على أنه هو الإباحة لا غيرها ، وعليه فيتمحض الشك في بقاء الإباحة لعدم صدور النهي واقعا أو عدم بقائها لصدوره ، فقبل الشك في تشريع الحرمة لا ريب في القطع بعدمها ، ولازم العلم بعدم النهي هو العلم بالإباحة الواقعية لا الظاهرية ، إذ المفروض أنه لا شك في الحرمة قبل صدور النهي حتى يستفاد من قوله عليه‌السلام : «مطلق» إباحة المشكوك حليته وحرمته ظاهرا ، بل المعلوم عدم الحرمة ، ومن الواضح أن الأشياء قبل الحرمة مباحة واقعا لا ظاهرا ، وهذا ما ذكرناه من استلزام جعل الورود بمعنى الصدور لتبدل الإباحة الظاهرية بالواقعية ، وأجنبية المرسلة عن مسألة البراءة ، وكونها دليلا على إباحة الأشياء قبل الشرع كما مرت الإشارة إليه آنفا.

هذا بعض ما أفاده (قده) في الجهة الأولى.

وأما الجهة الثانية ، فقال فيها : «والتعبير عن الوصول بالورود تعبير شائع لا ينسبق إلى أذهان أهل العرف غيره ، بل الظاهر كما يساعده تتبع موارد الاستعمالات : أن الورود ليس بمعنى الصدور أو ما يساوقه ، بل هو معنى متعد بنفسه ، فهناك بلحاظه وارد ومورود ، فيقال : ورد الماء وورد البلد ووردني كتاب من فلان. وان كان بلحاظ إشراف الوارد على المورود ربما يتعدى بحرف الاستعلاء ، فالورود من الأمور المتضايفة المتقومة بوجود كلا المتضايفين ، وفي المقام يكون الوارد هو الحكم والمورود المكلف ، ولو كان معنى الحديث : ـ كل شيء مطلق حتى يصدر فيه نهي ـ لزمه تحقق أحد المتضايفين ـ أعني الحكم ـ بدون الآخر وهو محال ، فلا بد أن يكون الورود بمعنى الوصول.

٢٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نعم قد يكون الوارد أمرا له محل في نفسه كالحكم ، فان متعلق الحكم محل الوارد ، مثل «ورد في الخمر نهي» ولا يصح أن يقال : ورده نهي ، فان الموضوع ـ وهو الخمر ـ محل الوارد باعتبار كونه موضوع حكم الشارع ومتعلق متعلقه ، لا المكلف الّذي هو المورود ، ويكون المكلف مورودا عليه ، ولكن في هذا الحديث ليس المورود إلّا المكلف لا محل الوارد ، ولذا لو لم يكن الوارد محتاجا إلى المحل لا يتعدى إلّا بنفسه أو بحرف الاستعلاء بلحاظ الاشراف.

والحاصل : أن التضايف يقتضي وجود مورود للوارد ، وورود النهي لمّا كان بوصوله إلى المكلف فلا مناص من حمله على الوصول لا على الصدور.

فالمتحصل : أنه بناء على ما تقدم يتم الاستدلال بالمرسلة على البراءة.

هذا توضيح بعض ما أفاده المدقق الأصفهاني في حاشيته الأنيقة.

أقول : يمكن المناقشة في مواضع من كلماته قدس‌سره.

منها : ما أفاده في وجه امتناع إرادة الإباحة الواقعية من «مطلق» مع كونها مغياة بصدور النهي ـ من أن الإباحة متقومة بلا اقتضاء موضوعها للمفسدة فلا يعقل ورود نهي فيه منبعث عن اقتضائه لها ـ إذ فيه : أن عدم المعقولية انما يتصور فيما إذا كان الموضوع علة تامة للمفسدة التي ينبعث عنها النهي ، إذ لا يعقل حينئذ إباحته الناشئة عن عدم اقتضائه للمفسدة ، فان اجتماع الاقتضاء واللااقتضاء من اجتماع النقيضين الممتنع. وأما إذا كان الموضوع مقتضيا للمفسدة لا علة تامة لها ، والإباحة ناشئة تارة من عدم المقتضي للمفسدة ، وأخرى من تزاحم المقتضيين للوجوب والحرمة مع عدم رجحان أحدهما على الآخر ، وثالثة

٢٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من وجود مانع يمنع عن تأثير المقتضي في تشريع الحرمة ، فلا محذور في الاجتماع ، لعدم فعلية جميع الملاكات وما يترتب عليها من الأحكام حينئذ ، فلا موجب للالتزام بتقوم الإباحة دائما بعدم المقتضي للمفسدة حتى يمتنع اجتماعها مع المقتضي لها ، هذا.

مضافا إلى : أن الاتصاف بالاقتضاء واللااقتضاء ليس في زمان واحد ، إذ مع دخل الشرائط الخاصة كالزمان والمكان وغيرهما في الملاكات كدخل الشرائط العامة فيها يتضح أنه لا مانع من عروض الحرمة على ما كان مباحا كالجمع بين الأختين ، فانه على ما يظهر من بعض الروايات كان جائزا ، ولذا روي أن يعقوب عليه‌السلام جمع بين أختين ولدتا له يوسف وأخاه يهودا ، وفي شرع الإسلام صار حراما ، وكذا القصاص في القتل العمدي ، فانه حرام في قتل الوالد ولده وجائز في غيره ، وكالربا ، فانها حرام في بعض الموارد وجائز في بعضها الآخر ، وغير ذلك من الأشياء التي يتعلق الحل والحرمة بها بعناوينها الأولية ، فتأمل.

فالمتحصل : أنه لا مانع من كون الإباحة الواقعية مغياة بصدور النهي.

ومنها : ما أفاده من امتناع جعل الإباحة الواقعية مع كون «حتى يصدر» قيدا للموضوع وتحديدا له ، إذ فيه : أنه بناء على المعرفية والمشيرية يتم معنى الحديث ، وليس ذلك بيانا لأمر بديهي غير مناسب لشأن المعصوم عليه‌السلام ، فانه لو أريد بالإطلاق اللاحرج العقلي كان لما ذكره وجه ، مع الغض عما سيأتي من المناقشة فيه أيضا. ولكن المفروض الإباحة الواقعية التي هي من الأحكام الخمسة التكليفية والمتوقفة على الجعل والتشريع جدّاً ، ولولاه لم يصح إسنادها إلى الشارع.

ولا يلزم اللغوية من بيان هذه الإباحة مع استقلال العقل باللاحرجية قبال الحظر.

٢٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وذلك لما فيه أوّلا من انتقاضه بمثل حديث الرفع مع استقلال العقل بقاعدة القبح. وثانيا من ترتب الأثر الشرعي على جعلها بالخصوص ، ضرورة أنه يجري الاستصحاب في نفس هذا المجعول الشرعي عند الشك في ورود النهي عنه ، ولا يجري في اللاحرجية العقلية كما صرح هو (قده) به من جهة أنها ليست من مقولة الحكم حتى يتعبد بها بالاستصحاب.

نعم ما أفاده (قده) في وجه امتناع تقييد موضوع الإباحة بعدم ورود النهي عنه في غاية المتانة ، لما تقرر في محله من أن الضدين في رتبة واحدة وجودا وعدما ، وعليه فيمتنع أن يكون عدم صدور النهي قيدا للإباحة.

وما أفيد «من أنه خلط بين الأمور التكوينية والاعتبارية ، وأن الممتنع هو عدم مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر في التكوينيات دون الاعتباريات التي منها الأحكام الشرعية ، فلا مانع من تقييد الإباحة بعدم صدور النهي» غير مفيد ، إذ المفروض أن الأمر الاعتباري تابع لكيفية اعتباره ، فالملكية مثلا من الأمور الاعتبارية المنوطة برضا المالك ، فإذا فرض حصولها قبل تحقق رضاه لزم الخلف وعدم شرطية ما فرض شرطا لحصولها ، ومقتضى شرطيته وكونه من أجزاء علة الملكية هو تقدمه عليها ، وعليه فمجرد كون الإباحة والحرمة وغيرهما من الأحكام أمورا اعتبارية لا يوجب صحة تقييد الإباحة بعدم ضدها مع تسليم التضاد بينهما الموجب لوحدة رتبتهما.

والحاصل : أن ما أفاده (قده) في وجه امتناع أخذ عدم النهي قيدا في موضوع الإباحة الواقعية تام لا غبار عليه ، فلا يمكن جعل «المطلق» بمعنى المباح الواقعي.

لكن قد عرفت الإشكال في الفرض السابق ، وأن إرادة الإباحة الشرعية الواقعية

٢٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من قوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق» بمكان من الإمكان.

ومنها : ما أفاده في أول المحاذير الثلاثة بناء على إرادة الإباحة الظاهرية من لزوم تخلف الحكم عن موضوعه التام ، فنقول : انه لا يلزم تخلف الحكم عن موضوعه مطلقا سواء كان صدور النهي غاية أم قيدا. توضيحه : أنه بناء على جعل «حتى يصدر فيه نهي» قيدا للإباحة الظاهرية المدلول عليها بـ «مطلق» لا يكون موضوع الإباحة هو المشكوك بقول مطلق ، بل موضوعها هو المشكوك المقيد بعدم صدور نهي فيه ، وبمجرد صدور النهي تنتفي الإباحة بانتفاء أحد جزأي موضوعها ، وهذا ليس من تخلف الحكم عن موضوعه المساوق لتخلف المعلول عن علته التامة المستحيل ، إذ تخلف الحكم عن الموضوع الواجد لجميع قيوده وحدوده غير معقول إلّا في النسخ ، وما قد يرى من التخلف أحيانا ليس منه حقيقة ، بل انما هو لتغير بعض قيود الموضوع كالوضوء الحرجي الّذي لا يترتب عليه محموله وهو الوجوب ، والبيع الضرري الّذي لا يترتب اللزوم عليه. وفي المقام لا بد في الحكم بالإباحة الظاهرية من إحراز جزأي الموضوع وهو الشك وعدم صدور النهي ، فلو شك في صدور النهي ولم يكن طريق إلى إحراز عدمه لم يحكم عليه بالإباحة الشرعية الظاهرية ، لقصور هذه المرسلة عن بيان حكم هذا الموضوع ، فلا بد في إحراز حكم الواقعة من الرجوع إلى ساير أدلة البراءة.

وبالجملة : لا يلزم تخلف حكم عن موضوع أصلا ، لما عرفت من عدم كون الموضوع عنوان «المشكوك» المجامع للشك في صدور النهي أيضا حتى يترتب المحذور.

٢٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نعم ما أفاده (قده) من محذور تخلف الحكم عن موضوعه التام يتوجه على صاحب الكفاية وغيره ممن يجعل «مطلق» بمعنى المباح الظاهري والورود بمعنى الصدور بناء على كون «حتى يصدر» غاية للحكم بالإباحة لا قيدا لموضوعها ، ضرورة أن الموضوع هو ذات المشكوك المجامع للشك في تشريع النهي ، وحينئذ فاللازم الحكم بالإباحة رعاية لاقتضاء الموضوع ، والتوقف عنه بمقتضى الشك في تحقق الغاية أعني صدور النهي.

ومنها : ما أفاده في إجراء الأصل ، فنقول : ان أريد بإجرائه إثبات الإباحة بالمعنى الأخص ، فهو مثبت ، لأنه من إثبات أحد الضدين بنفي الضد الآخر وهو الحرمة ، أو لأنه من إثبات ذي الغاية بعدم غايته. وان أريد به إثبات الجواز بمعنى اللاحرج فهو غير جار ، لعدم كون الجواز حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي. وان أريد إجراء الأصل في نفس الإباحة فهو وان كان سليما عن مناقشته قدس‌سره ، لما عرفت من إمكان إرادة الإباحة من الحديث ، ولكنه مبني على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

وأما ما أفاده في المحذور الثالث فهو متين لا غبار عليه.

ومنها : ما استبعده من حمل الخبر على بيان الإباحة العقلية ، لاستقلال عقل كل عاقل باللاحرج قبل الشرع. إذ فيه : أن عدم مناسبة بيان هذه الإباحة لمقام الإمام عليه‌السلام منوط بأمرين غير ثابتين : أحدهما : أن يكون مرادهم بالقبلية في مسألة «أن الأشياء قبل الشرع على الحظر أو الإباحة» القبلية الزمانية يعني : أن الأفعال قبل بعثة الأنبياء عليهم‌السلام أو قبل التشريع محظورة أو مباحة ، فيكون بيان الإمام عليه‌السلام أنها على الإباحة بعيدا عن مقامه ، لكونه بيانا لأمر لا فائدة

٢٨٠