منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في النار فأحرقه» كما يصح أن يقال : «أحرقه بالنار» وعليه فمجرد اسناد التذكية في الآية المباركة إلى الفاعلين ، وكذا الأمر بها في بعض الاخبار كقوله عليه‌السلام : «فذكه ثم كل منه» (١) والنهي عن التذكية بغير الحديد بقوله عليه‌السلام : «لا تذك إلّا بحديدة» (٢) لا يكشف عن أنها فعل المذكّي لا مسبب عن فعله ، فاحتمال كونها أمرا بسيطا متحصلا لم يندفع بما ذكر (أمكن دفعه) بأن اسناد المسبب التوليدي إلى الفاعل وان كان صحيحا ، إلّا أن انطباقه على المقام محل تأمل ، لوضوح أن ضابطه عدم توسط إرادة فاعل مختار بين الفعل وأثره كالإحراق المترتب على الإلقاء في النار ، وصدقه على ما نحن فيه منوط بكون التذكية بمعنى الأمر البسيط أثرا تكوينيا وخصوصية في الحيوان مترتبة على الذبح بشرائطه قهرا من دون توسط إرادة فاعل مختار بين الذبح مع شرائطه والأثر المترتب عليه كترتب الإحراق على الإلقاء في النار بحيث لا يترتب ذلك الأمر البسيط على الحيوان إذا زهق روحه بغير الذبح كالنطح والخنق وغيرهما ، وليس الأمر كذلك ، لأن ترتب ذلك الأمر البسيط على الذبح وشرائطه انما هو بحكم الشارع ، وليس قهريا كالإحراق المترتب على الإلقاء في النار.

والحاصل : أنه بناء على كون التذكية بمعنى الأمر البسيط بحكم الشارع لا ينطبق ضابط المسبب التوليدي عليها.

إلّا أن يقال : ان التذكية بهذا المعنى من الأمور الواقعية التي كشف عنها

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٦ ، الباب ٢٤ من أبواب الصيد الحديث : ٢ ، ص ٢٣٧

(٢) المصدر ، الباب ١ من أبواب الذبائح ، الحديث : ٤ ، ص ٢٥٣

٤٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الشارع كما قيل بذلك في الطهارة والنجاسة أيضا. لكنه في كلا المقامين محل تأمل بل منع.

فالحق أن التذكية فعل المذكي ، والأثر المترتب عليه حكم وضعي مجعول كسائر الأحكام الوضعيّة كالملكية والزوجية والحرية وغيرها ، فيكون حكم الشارع بحصول الذكاة بالذبح مع الشرائط نظير حكمه بملكية الحائز للمباحات ، والترتب انما هو بجعل الشارع ، وفعل المكلف موضوع لحكمه ، الّذي هو كسائر الأحكام الشرعية من أفعاله الاختيارية ، ففعل المكلف كإنشاء البيع وحيازة المباحات وفري الأوداج الأربعة بالشرائط موضوع ، والملكية والذكاة حكمان وضعيان شرعيان مترتبان عليه ، وبهذا يندرج المقام في ضابط الحكم والموضوع ويتضح أجنبيته عن باب المسبب التوليدي المترتب قهرا على سببه.

ومع تسليم صغرويته للمسبب التوليدي ، فدعوى أظهرية إطلاق التذكية في الاخبار في نفس فعل المكلف ـ باعتبار إسنادها إليه ـ من ظهورها في المسبب قريبة جدا.

ويؤيده قوله عليه‌السلام في ما رواه درست عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : ذكرنا الرءوس من الشاة ، فقال : الرّأس موضع الذكاة ...» (١) فانه كالصريح في أن التذكية هي نفس الذبح لا ما يتحصل منه ، إذ موضعها بذلك المعنى جميع أعضاء الشاة لا خصوص الرّأس ، وانما الرّأس موضع فري الأوداج الّذي هو فعل المذكّي ، وموضوع حكم الشارع بالذكاة.

والحاصل : أن التذكية في لسان الشارع ظاهرة في نفس الذبح والنحر

__________________

(١) الكافي ، الجزء ٦ ، كتاب الأطعمة ، ص ٣١٩ ، الحديث : ٥

٤٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وسائر ما يوجب حكم الشارع بحلية لحم الحيوان وطهارته كإخراج السمك من الماء وإرسال الكلب المعلم ونحوهما ، وهو معناها العرفي وان كانت في اللغة بمعنى الذبح وحده أو مع النحر كما ستقف عليه.

ومما ذكرنا يظهر غموض ما اختاره بعض المحققين في حاشيته على المتن بقوله : «وربما يقال : ان التذكية عرفا بمعنى الذبح ، وما اعتبر فيها من التسمية والاستقبال شرائط تأثير الذبح في الحلية والطهارة ، إلّا أن ظاهر الاستعمالات العرفية والشرعية أنها بمعنى الطهارة والنزاهة وما أشبههما ، وإطلاقها على الذبح أو على إرسال الكلب المعلم أو على أخذ الجراد والحيتان وأشباه ذلك لأنها أسباب طيب اللحم للأكل وسائر الاستعمالات أو لما عدا الأكل من الاستعمالات ، وذلك لأن التذكية والزكاة بمعنى الطيب والنزاهة مفهوم مباين لمفهوم الذبح المطلق والذبح الخاصّ ... إلى أن قال : فاتضح أن الأقوى أن التذكية من الاعتبارات الشرعية الوضعيّة المتحققة بأسباب خاصة ، لا أن الذبح تذكية» (١)

وحاصل ما يستفاد من كلامه في الاستدلال على دعواه أمران : الأول : أن التذكية لو كانت نفس الذبح ، فلازمه صدق الوصف الاشتقاقي من التذكية على الذبح ، بأن يقال : الذبح طيب ونزاهة ، مع أن المتصف بـ «الطيّب» هو اللحم ، فانه الموصوف بأنه ذكي أو مذكى ، فلا قيام للذكاة بالذبح.

الثاني : أن الحلية والطهارة منوطتان شرعا بالتذكية لا غير ، فلو كانت بمعنى الذبح لزم التفكيك بين الحكم وموضوعه ، لصدق «المذكى» على

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢١٢.

٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحيوان المذبوح فاقدا لبعض الشرائط ، فهو مذكى ، ولكنه ليس بحلال ولا طاهر.

أقول : ما أفاده (قده) من عدم اتصاف الذبح بأنه نزاهة وطيب وان كان صحيحا في نفسه ، إلّا أن الكلام في اتحاد التذكية والزكاة معنى وهو الطهارة ومغايرتهما ، وقد زعم هذا المحقق تراد فهما ورتّب عليه ما ذكره ، لكن الظاهر أن التذكية ليست بمعنى الطهارة لا لغة ولا عرفا ولا شرعا ، وما يكون بمعناها هو الزكاة ، ففي لسان العرب : «وأصل الزكاة في اللغة النماء والطهارة والبركة ...

والتذكية الذبح والنحر» وفي الصحاح : «التذكية الذبح» وفي المجمع : «والتذكية الذبح والنحر» وفي مفردات الراغب : «وذكّيت الشاة ذبحتها ، وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية ، لكنه خصّ في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه» وقال في الزكاة : «أصل الزكاة النموّ الحاصل عن بركة الله تعالى» ولا أثر في كتب اللغة من كون تذكية الحيوان بمعنى تطهيره ، بل بمعنى الذبح كما في الصحاح أو مع النحر كما في غيره وان فسره الراغب بما هو أعم منهما. وعليه فالتذكية لغة نفس فعل المذكّي لا ما يتحصل منه. كما أن الزكاة بمعنى الطهارة ، والتزكية بمعنى التطهير ، ومنه قوله تعالى : «يزكيهم ويعلمهم الكتاب» أي يطهرهم من رذائل الأخلاق وذمائم الصفات. هذا بحسب اللغة.

والظاهر أنه كذلك عرفا ، فليست التذكية بمعنى التطهير والذكاة بمعنى الطهارة حتى يراد منه شرعا المسبب من فعل المذكّي بدعوى عدم صحة حمل الطهارة والطيب على الذبح وأن المتصف بالطيب لحم الحيوان لا فعل المذكي ، لابتناء ذلك كله على كونها بمعنى الطهارة والنزاهة ، مع أنّا لم نظفر عليه في

٤٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

اللغة كما لم يكن كذلك عرفا.

وأما بحسب الشرع فقد عرفت ظهور طائفة من الاخبار في كون التذكية بمعنى الذبح أو النحر أو غيرهما مما يذهب الحياة ، ولا يقدح في ذلك إطلاقها على أخذ الجراد ، وإخراج السمك من الماء حيا ، وإرسال الكلب المعلم ، ورمي الصيد وغير ذلك ، إذ الجامع الانتزاعي وهو زهوق الروح على وجه خاص موجود في هذه الموارد.

وأما قوله عليه‌السلام : «الجراد ذكي والحيتان ذكي» (١) و «الحوت ذكي حيه وميته (٢) حيث ان المراد أنه طاهر ، فهو من باب الإطلاق لا الاستعمال ، فلا ينافي كون هذه المادة بمعنى الذبح والنحر لا الطهارة.

وأما الوجه الثاني فالإشكال فيه واضح جدا ، إذ لم يلتزم أحد من القائلين بأن التذكية هي الذبح بصدق المذكّى على الحيوان المذبوح بأي وجه اتفق حتى يلزم التفكيك بين الحكم والموضوع ، ضرورة أن الذبح الخاصّ موضوع الأثر لا الذبح المطلق ، ومع عدم تحققه فالحيوان ميتة وغير مذكى ، لوضوح انتفاء المشروط بانتفاء شرطه.

الخامس : أنه اختلف الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم فيما يقبل التذكية من الحيوان وما لا يقبلها على أقوال ، ومجمل الكلام فيه : أن الحيوان اما مأكول كالغنم والبقر والجاموس وغيرها من البري والبحري ، ولا إشكال ولا خلاف في قبوله للتذكية ، واما غير مأكول ، وهو على أقسام :

الأول : نجس العين كالكلب والخنزير ، وهو لا يقبل التذكية بمعنى عدم

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٦ ، الباب ٣١ من أبواب الذبائح ، الحديث : ٥ ، ص ٢٩٧

(٢) الوسائل ، ج ١٦ ، الباب ٣١ من أبواب الذبائح ، الحديث : ٦ ، ص ٢٩٧

٤٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

تأثير الذبح في طهارته وحلية لحمه ، بل هو باق على نجاسته وحرمته بلا إشكال ولا خلاف ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل الضرورة كما في كتاب الصيد والذباحة من الجواهر.

الثاني : طاهر العين الآدمي ، وهو أيضا لا يقبل التذكية المشروعة في الحيوانات الموجبة للطهارة والحلية أو الطهارة فقط إجماعا أو ضرورة كما في الجواهر.

الثالث : الحيوان الطاهر غير الآدمي ، وهو على قسمين :

أحدهما : ما لا نفس سائلة له ، ولا تؤثر التذكية في طهارته ، لكونه طاهرا في نفسه ، كما لا تؤثر في حلية لحمه أيضا ، لأنه من غير المأكول كالسمك الّذي لا فلس له ، كما قيل. لكن فيه : أنه بناء على حرمة الانتفاع بالميتة ولو في الجملة تترتب الثمرة على تذكيته ، لأنها تخرجه عن الميتة التي يحرم الانتفاع بها وان لم توجب حلية لحمه.

ثانيهما : ما له نفس سائلة من السباع كالأسد والنمر والثعلب ونحوها ، والمشهور المنصور وقوع التذكية عليها ، بل عن السرائر الإجماع عليه.

ويدل عليه مضمرة سماعة المتقدمة : «سألته عن جلود السباع أينتفع بها ، قال إذا رميت وسميت فانتفع بجلده ، وأما الميتة فلا».

وأما المسوخ كالفيل والدّبّ والقرد وغيرها مما تضمنته النصوص من الجريث والضب وغيرهما ، وكذا الحشرات التي تسكن باطن الأرض كالفأرة وابن عرس ونحوهما ، فالمشهور عدم وقوع التذكية عليهما ، وتفصيل البحث في ذلك وتنقيحه موكول إلى محله.

٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والّذي يختلج بالبال عاجلا واستفاده أيضا صاحب الجواهر (قده) من مجموع النصوص التي تعرض لها في لباس المصلي هو : أن كل حيوان طاهر العين حال الحياة وان لم يكن مأكول اللحم قابل للتذكية ، ولكن لا يصلى فيه عدا ما استثني. وعن صاحب الحدائق «لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم أن ما عدا الكلب والخنزير والإنسان يقع عليه الذكاة».

واختاره شيخنا الأعظم (قده) في طهارته في رد كلام شارح الروضة من حصر المحللات بأن الأصل قبول كل حيوان للتذكية ، قال : «فان أصالة الحل الثابتة بالكتاب في قوله تعالى : قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرما ... إلى أن قال : مضافا إلى قولهم عليهم‌السلام : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ... لا يندفع بمثل هذا الاستقراء الضعيف غير الثابت أصله فضلا عن اعتباره».

لكن ضمّ مرسلة الصدوق إلى الاستدلال بالآية الشريفة كتعبيره بأصالة الحل لا يخلو عن مسامحة ظاهرة ، لدلالة الآية على حلية كل حيوان بالحلية الواقعية إلّا ما خرج ، وهذا لا يجامع عدم قبوله للتذكية ، فهو حكم واقعي ، فكان الأولى التعبير بالعموم لا بأصالة الحل ، كما أن مدلول المرسلة حكم ظاهري ، لأخذ الشك في موضوع الحلية. إلّا أن يريد بالإطلاق الإباحة الواقعية بأن يراد بالورود الصدور والتشريع ، لكنه جعلها أظهر أدلة البراءة في الرسائل ، وهو ينافي إرادة الإباحة الواقعية المترتبة على كون الورود بمعنى الجعل لا الوصول والعلم :

وكيف كان ، فيدل على العموم قول مولانا الصادق عليه‌السلام لزرارة في موثقة ابن بكير : «يا زرارة فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذابح

٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وان كان غير ذلك مما نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسدة ذكاه الذبح أو لم يذكه» لظهوره في كون الذبح تذكية لكل حيوان نهي عن أكله وان لم تصح الصلاة في جلده لكونه غير مأكول ، ويخصص هذا العموم بما دل على عدم قابلية الحيوان النجس العين والمسوخ والحشرات للتذكية.

ثم ان في بعض كتب الحديث «ذكاه الذبح» بدل «الذابح» والظاهر صحة الاستدلال به على التقديرين ، لأنه في مقام اعتبار المأكولية في لباس المصلي علاوة على طهارته بالتذكية ، فما حرم أكله من الحيوان لا تجوز الصلاة في جلده سواء وقع عليه التذكية ـ وهي الذبح ـ أم لم تقع عليه. واسناد التذكية إلى الذابح انما هو لأجل الذبح ، فالمراد أنه وقع الذبح على غير المأكول أو لم يقع.

فالمتحصل مما ذكرنا : أن مقتضى الجمع بين النصوص قابلية كل حيوان للتذكية التي هي مانعة عن عروض النجاسة التي يقتضيها الموت ، فالموت مقتض للنجاسة والتذكية مانعة عنها.

إذا تحقق ما ذكرناه من الأمور ، فليعلم : أنه ـ بناء على قابلية كل حيوان طاهر العين غير مأكول اللحم من ذي النّفس للتذكية إذا كان له جلد صالح للّبس ـ لا يتصور شبهة حكمية من ناحية قابلية الحيوان لها حتى تجري فيها أصالة عدم التذكية ، إذ المفروض قابلية كل حيوان لها عدا ما خرج من نجس العين والحشرات والمسوخ ، فالحيوان المتولد من حيوانين أحدهما محلل كالغنم والآخر محرم كالثعلب غير التابع لأحدهما في الاسم محكوم بقبوله للتذكية.

٤٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نعم يتصور الشبهة الحكمية من غير ناحية القابلية ، كما إذا شك في اعتبار الإيمان أو طهارة المولد أو الذكورة في المتصدي للتذكية. فان كان لأدلة التذكية إطلاق لفظي كما هو الأظهر بدعوى كون التذكية من الأمور العرفية المتعارفة بين الناس قديما وحديثا وأن الشارع لم يتصرف في مفهومها بل زاد فيه قيودا ، فلا إشكال في الرجوع إليه ورفع الشك به ، وإلّا فالمرجع هو الإطلاق المقامي ، لأنه مع تصدي الشارع لبيان موضوع حكمه بماله من الأجزاء والشروط يكون سكوته بعد ذلك وعدم بيان غيرها كاشفا عن عدم دخل أمر آخر في موضوع حكمه ، ومع هذا الإطلاق لا تصل النوبة إلى أصالة عدم التذكية. ومع عدم تسليم شيء من هذين الإطلاقين اللفظي والمقامي يكون المرجع في كل من الشبهة الحكمية والموضوعية الأصول العملية ، فيقع الكلام في مقامين : الأول في الشبهة الحكمية ، والثاني في الشبهة الموضوعية.

أما المقام الأول ، فتفصيل الكلام فيه : أن الشبهة الحكمية تارة تكون من جهة القابلية بمعنى المصلحة المقتضية لتشريع الحلية والطهارة أو الطهارة فقط للحيوان بالتذكية ، أو بمعنى الخصوصية القائمة بالحيوان بعد فرض تصور الشبهة الحكمية من ناحية القابلية والغض عما ذكرناه من قابلية كل حيوان للتذكية عدا ما خرج. وأخرى تكون للشك في حلية لحم الحيوان ، لعدم الدليل على حليته أو إجماله أو تعارضه ، أو لاحتمال دخل شيء في تحقق تذكيته كإيمان الذابح ونحوه ، أو منع شيء عنها كالجلل بعد إحراز قابلية الحيوان لها.

وثالثة تكون للشك في تركب التذكية وبساطتها بعد إحراز القابلية أيضا ، فهنا مسائل :

الأولى : أن تكون الشبهة من ناحية القابلية بمعنى المصلحة المقتضية لتشريع

٤٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحل والطهارة أو الطهارة فقط بالتذكية ، وقد تقدم أن أصالة عدم القابلية لا تجري فيها وان قلنا بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، وذلك لعدم الترتب الشرعي بين الأحكام وملاكاتها المقتضية لتشريعها ، بل الترتب انما يكون بين الموضوع وحكمه ، فلا يجدي في ثبوت الحكم الشرعي استصحاب ملاكه.

وبالجملة : علل الأحكام وملاكاتها ليست أحكاما ولا مما يترتب عليها الأحكام ترتبا شرعيا حتى يصح جريان الأصل فيها.

ولا فرق فيما ذكرناه من عدم جريان استصحاب العدم في القابلية بمعنى المصلحة والملاك بين كون التذكية أمرا بسيطا ومركبا كما هو واضح.

هذا كله بالنسبة إلى القابلية. وأما بالإضافة إلى التذكية ، فان كانت بسيطة فلا مانع من جريان أصالة العدم فيها ، لأنه مع الشك في القابلية بمعنى الملاك يشك في تحقق التذكية التي هي أمر بسيط ، فيجري استصحاب عدمها ويترتب عليه حكم عدم المذكى. وان كانت مركبة من الأمور المتقدمة أو كانت عبارة عن فري الأوداج الأربعة مقيّدة بإسلام الذابح والتسمية والاستقبال وكون آلة الذبح من الحديد فلا تجري أصالة عدم التذكية في الحيوان ، إذ المفروض تحققها ، بل يحكم بطهارته لصيرورته مذكى ، وحرمته لاستصحابها ، ولا ضير في اختلاف منشأ الحرمة حالتي حياته وموته بعد صدق وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة عرفا ، نظير الجلوس في المسجد بداعي البحث مثلا ، فإذا شك في بقاء جلوسه إلى الظهر بداعي الصلاة مثلا فلا مانع من استصحابه مع اختلاف دواعي الحدوث والبقاء ، لوحدة الجلوس الحدوثي والبقائي عرفا ، ومع هذا الاستصحاب لا مجال لقاعدة الحل ، لحكومته عليها.

٤٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا يقال : ان اختلاف الموضوع ـ حيث ان الحيوان الحي غير الميت عرفا ـ مانع عن جريان الاستصحاب كما هو الحال في زوال كل وصف من أوصاف الموضوع.

فانه يقال : لا مانع من جريان الاستصحاب في اللحم والجلد ، لأن الموت والحياة بالنسبة إليهما من الحالات المتبادلة ، فيجري فيه الاستصحاب.

المسألة الثانية : أن تكون الشبهة من ناحية القابلية بمعنى الخصوصية الذاتيّة كالغنمية والبقرية لا الخصوصية الخارجية القائمة بالحيوان ، فلا يجري الاستصحاب أيضا في القابلية ، بل عدم جريانه هنا أولى من الفرض السابق ، إذ مع كون الخصوصية ذاتية لا ينحل الموجود إلى معلوم الوجود ومشكوك الوجود حتى يجري فيه الاستصحاب كما كان هذا الانحلال متحققا في القابلية بمعنى المصلحة ، لصحة أن يقال : ان هذا الحيوان حين لم يكن موجودا لم يكن ذا مصلحة أيضا ، وبعد حصول العلم بوجوده يشك في وجود مصلحته ، فيستصحب عدمها ، وهذا بخلاف الخصوصيات الذاتيّة ، فلا يصح أن يقال : ان هذا الغنم الموجود حين كونه معدوما لم تكن الغنمية المترتبة عليها الحلية والطهارة موجودة فيه ، وبعد وجوده يشك في وجود غنميته ، فتستصحب ، بل هذا المعلوم وجوده إمّا غنم فهو بذاته قابل للحلية والطهارة ، وإمّا أرنب فهو بذاته غير قابل لهما ، ولا أصل يعيّن أحدهما ، لأن شأن الاستصحاب إثبات استمرار المستصحب وبقائه في عمود الزمان لا تعيين الحادث المردد بين شيئين ، فلا يجري الاستصحاب في القابلية بهذا المعنى وان سلمنا جريانه في الأعدام الأزلية ، لأنه يجري في لوازم الوجود دون الأمور الذاتيّة ولوازم الماهية.

٤٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أن الاستصحاب لا يجري في عدم القابلية بهذا المعنى وهو الخصوصية الذاتيّة ، كما لم يجر فيه بمعناها الأول المتقدم في المسألة الأولى.

وأما التذكية فان كانت مركبة من فري الأوداج مع إسلام الذابح والتسمية والاستقبال وكون الذبح بالحديد مع قابلية المحل ، فلا تجري أصالة عدم التذكية إذ المفروض تحققها ، فيحكم بطهارته ، لصيرورته مذكى ، وحرمته لاستصحابها.

وتوهم جريان أصالتي الطهارة والحل ، لعدم جريان أصالة عدم التذكية لتحققها حسب الفرض ، ولعدم جريان الأصل في عدم القابلية ، مندفع بأنه لو انتهى الأمر إلى الأصل لكان الجاري هو الأصل الحاكم على هذين الأصلين وهو استصحاب الطهارة والحرمة الثابتتين للحيوان حال حياته.

واختلاف منشئهما ـ لكون الطهارة المتيقنة لأجل الحياة والحرمة لأجل عدم وقوع قطع الأوداج مع الشرائط عليه حال الحياة ، وبعد الموت تستند الحرمة إلى عدم القابلية ـ لا يقدح في جريان الاستصحاب ، لعدم انثلام ما هو المدار في جريانه من وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة عرفا بذلك كما تقدم في المسألة الأولى.

ونقول هنا توضيحا لوجه عدم القدح : ان المستفاد من قوله تعالى : «إلّا ما ذكيتم» ومثل قوله عليه‌السلام في بعض النصوص : «إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذابح» كون غير المذكى هو الحيوان الّذي زهق روحه ولم يذكّ ، ومن المعلوم أن كلّا من الزهوق والذكاة عرض قائم بالحيوان وليس أحدهما نعتا للآخر ، فهو من صغريات كبرى التركيب لا التقييد ، وزهوق روحه

٤٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

محرز وجدانا ووقوع التذكية كلّا أو بعضا عليه مشكوك ، فيستصحب عدمه ، فيتم الموضوع وهو عدم المذكى بضم الأصل إلى الوجدان ، ويترتب عليه حكمه وهو الحرمة ، فيصح أن يقال : ان هذا الحيوان لم يقع عليه التذكية إلى أن زهق روحه ، فيثبت بالاستصحاب عدم وقوع التذكية عليه من دون أن يكون مثبتا.

وان كانت التذكية بسيطة أو مقيدة ، فلا مانع من جريان أصالة عدمها ، للعلم بعدم التذكية حينئذ حال حياة الحيوان ، فيجري استصحابه.

المسألة الثالثة : أن تكون الشبهة الحكمية من جهة الشك في حلية الحيوان مع العلم بقبوله للتذكية ، ويكون منشأ الشك فيها عدم الدليل على حليته أو حرمته ، أو تعارضه أو إجماله ، والمرجع في جميع ذلك هو استصحاب الحرمة الثابتة للحيوان حال حياته ، إذ لا مانع من جريانه بعد وقوع التذكية عليه ، وعدم القدح في اختلاف منشأ الحرمة في حياته وبعد تذكيته كما تقدم في المسألة الثانية.

وان شئت فقل : ان الشك في ثبوت حلية الحيوان مع العلم بقبوله للتذكية ووقوعها عليه من الشك في رافعية الموجود ، لاحتمال كون التذكية الواقعة عليه رافعة لحرمته الثابتة حال حياته ، فتستصحب تلك الحرمة ، ومع هذا الاستصحاب الحكمي لا تصل النوبة إلى قاعدة الحل ، لحكومته عليها.

وربما قيل بعدم جريان هذا الاستصحاب الحكمي ، وحاصل ما يقال في وجهه أمران :

أحدهما : عدم تسليم حرمة أكل الحيوان الحي حتى يصح استصحابها.

ثانيهما : أن حرمة أكله حيا على تقدير تسليمها كانت ثابتة للحيوان المتقوم

٤٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالحياة ، وما يشك في حليته انما هو اللحم ، وذلك مغاير للحيوان ، فلا يمكن جريان الاستصحاب فيه.

وفي كليهما ما لا يخفى ، إذ في أولهما : أن حرمة أكله قبل وقوع التذكية عليه مسلمة.

ويدل عليه موثقة عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث «أنه سأله عن الشاة تذبح فيموت ولدها في بطنها ، قال : كله فانه حلال ، لأن ذكاته ذكاة أمه ، فان هو خرج وهو حي فاذبحه وكل ، فان مات قبل أن تذبحه فلا تأكله ، وكذلك البقر والإبل» (١) ، فان الأمر بذبح الولد الخارج حيا ظاهر في حرمة أكل الحيوان الحي غير المذكى.

ومنه يعلم أن الاستشهاد على الجواز بما دل على جواز أكل السمك الصغير حيا أجنبي عن المدعى ، إذ المفروض أن ذكاة السمك تتحقق بإخراجه من الماء حيّا ولا دليل على اعتبار زهوق روحه في جواز أكله. وهذا بخلاف مثل الشاة ، فان الأمر بالذبح الّذي يتعقبه زهوق الروح عادة ظاهر في حرمة أكلها قبل زهوق روحها.

نعم لا يعتبر أن يستند موتها إلى التذكية ، فلو ألقيت بعد الذبح من شاهق مثلا وماتت بذلك لم تحرم.

وعليه ، فلا مانع من استصحاب الحرمة بعد وقوع التذكية عليها خصوصا بناء على عدم إطلاق المذكى على الحيوان إلّا بعد زهوق روحه.

وفي ثانيهما : أن موضوع الحرمة هو اللحم ، ومن المعلوم أن الموت والحياة من حالاته المتبادلة ، فلا مانع من استصحاب حرمته.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٦ ، الباب ١٨ من أبواب الذبائح ، الحديث : ٨ ، ص ٢٦٩

٤٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فالحيوان القابل للتذكية المشكوك حلّ لحمه شرعا محكوم بعد وقوع التذكية عليه بالطهارة والحرمة.

إلّا أن في استصحاب الحرمة منعا تقدم التنبيه عليه في ص ٤٢٥ ، فلاحظ.

المسألة الرابعة : أن تكون الشبهة الحكمية من جهة الشك في حلية لحم الحيوان ، ويكون منشأ الشك فيها احتمال دخل شيء في التذكية كإيمان الذابح وعدم تولده من الزنا وذكورته وبلوغه ، كما إذا ذبح صبي غنما وشك في حلية لحمه ، لاحتمال دخل البلوغ في الذابح ، فلا بد حينئذ بعد منع إطلاق أدلة التذكية لفظيا ومقاميا كما هو المفروض من الرجوع إلى الأصل العملي وهو أصالة عدم التذكية ، وهذا من غير فرق بين احتمال دخل البلوغ مثلا في نفس التذكية أو في محصّلها ، وذلك لسبق العلم بعدمها على كل تقدير ، فإذا جرت أصالة عدم التذكية ترتب عليها جميع الأحكام المترتبة على الميتة من النجاسة وبطلان الصلاة وغيرهما ، لما عرفت في الأمر الثالث من أن الميتة هي عدم المذكى موضوعا أو حكما ، فلا وجه لما عن الفاضل النراقي وغيره من الأصحاب (قدس‌سرهم) من سقوط أصالة عدم التذكية بمعارضتها لأصالة عدم الموت حتف الأنف والرجوع إلى قاعدتي الحل والطهارة المقتضيتين لطهارة الحيوان وحلية لحمه.

مضافا إلى أنه بعد تسليم التعارض يكون المرجع استصحاب الحرمة والطهارة الثابتتين حال حياة الحيوان ، لا قاعدتي الحل والطهارة ، لحكومة الاستصحاب عليهما.

كما لا وجه لما في تقريرات بعض أعاظم العصر من «أن التحقيق جريان

٤٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأصلين وهما أصالة عدم الموت حتف الأنف ، لعدم لزوم مخالفة عملية من جريانهما ، ومجرد ملازمة عدم التذكية وأصالة عدم الموت حتف الأنف ، لعدم لزوم مخالفة عملية من جريانهما ، ومجرد ملازمة عدم التذكية للموت لكونهما ضدين لا ثالث لهما غير مانع عن جريانهما ، لأن التفكيك بين اللوازم في الأصول العملية غير عزيز كما في التوضّي بالمائع المردد بين الماء والبول ، حيث انه يحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث ، ففي المقام يحكم بحرمة الأكل ، لأصالة عدم التذكية وبالطهارة لأصالة عدم الموت» وذلك لما مرّ في بعض المقدمات من أن عدم المذكى ليس غير الميتة ، بل هو الميتة حقيقة أو حكما ، فليسا متغايرين حتى يجري فيهما الأصل.

وبالجملة : فالأصل الجاري في الشك في اعتبار شيء في التذكية هو أصالة عدم التذكية دون قاعدتي الحل والطهارة ، ودون استصحاب الطهارة والحرمة ودون أصالتي عدم التذكية وعدم الموت المثبتتين للحرمة والطهارة.

فتلخص من جميع ما ذكرناه في المقام الأول أمور :

الأول : عدم جريان الأصل في الشك في القابلية بكلا معنييها.

الثاني : قابلية كل حيوان للتذكية عدا ما استثني.

الثالث : إطلاق أدلة التذكية الرافع لاعتبار كل ما يحتمل دخله في التذكية.

الرابع : جريان أصالة عدم التذكية بعد منع إطلاق أدلة التذكية والقابلية فيما إذا كانت الشبهة الحكمية ناشئة من إجمال مفهوم التذكية شرعا من حيث كونها أمرا بسيطا أو مقيدا ، أو من حيث احتمال شرطية شيء كبلوغ الذابح فيها. وأما إذا كانت الشبهة ناشئة من القابلية مع وضوح حدود مفهوم التذكية فالأصل الجاري في الحيوان حينئذ استصحاب الطهارة والحرمة دون

٤٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

قاعدتي الحل والطهارة.

وأما المقام الثاني وهو الشبهة الموضوعية ، فله صور أيضا نذكر أحكامها في طيّ مسائل :

الأولى : أن يكون الشك في حلية لحم لدورانه بين كونه من حيوان مأكول اللحم كالغنم وحيوان محرم اللحم كالأسد مع العلم بقبوله للتذكية ووقوعها بجميع شرائطها عليه ، والظاهر جريان أصالة الحل فيه كسائر الشبهات الموضوعية من دون توقف على الفحص ، ومعه لا مجال لاستصحاب حرمة لحمه الثابتة له حال حياة الحيوان ، لأن قاعدة الحل تثبت كون الحيوان محلّل الأكل ، والمفروض وقوع التذكية عليه أيضا ، لأن مرجع الشك حينئذ إلى أن الحيوان المذكى حلال أو حرام ، والأصل الجاري فيه أصالة الحل ، فما عن الشهيد (قده) من أن الأصل في اللحوم مطلقا هو الحرمة لا يمكن المساعدة عليه في هذا الفرض.

وتوجيهه باستصحاب حرمة أكله الثابتة قبل زهوق روحه غير وجيه ، لأنه ان أريد بها حرمته الناشئة من عدم التذكية فقد ارتفعت بالتذكية ، وان أريد بها حرمته الأصلية ، فلا علم بها سابقا حتى تستصحب ، ولذا حكم بعدمها بقاعدة الحل كما أشرنا إليه آنفا.

وكذا تجري قاعدة الحل فيما إذا تردد اللحم بين كون من الحيوان المحلل كالغنم والمحرّم كالقرد مع فرض الشك في قبوله للتذكية ، فانه من الشبهات الموضوعية التي تجري فيها أصالة الحل بدون الحاجة إلى الفحص.

إلّا أن يقال : ان أصالة عدم التذكية في غير صورة العلم بقابلية الحيوان للتذكية مع وقوعها خارجا محكّمة ، ومقتضاها الحرمة ، وفي صورة العلم بقابلية الحيوان للتذكية وحصولها خارجا تجري قاعدة الحل ، وعلى كل حال

٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ليس هنا أصل يقتضي حرمة اللحم في جميع الشبهات كما هو ظاهر كلام الشهيد والسيد في العروة وغيرهما قدس الله تعالى أسرارهم ، فلاحظ.

المسألة الثانية : أن يكون الشك في الحلية لاحتمال عدم قبوله للتذكية ذاتا مع العلم بوقوع الذبح الجامع للشرائط عليه كتردد الحيوان المذبوح لظلمة مثلا بين الغنم والكلب ، فعلى القول الصحيح من قابلية كل حيوان للتذكية إلّا ما استثني مع البناء على جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية حتى في العناوين الذاتيّة كعنوان الكلبية مثلا لا مانع من التمسك بعموم ما دل على قابلية كل حيوان للتذكية بعد إجراء استصحاب عدم تحقق العنوان الخارج لإحراز كونه مما يقبل التذكية ، فيحكم بطهارته لكونه مذكى ، من غير فرق في ذلك بين كون التذكية أمرا بسيطا ومركبا ، ضرورة أنه بعد إثبات قابليته للتذكية بالاستصحاب المزبور ووقوع الذبح مع الشرائط عليه كما هو المفروض يصير مذكى وطاهرا وحلالا ، لقاعدة الحل التي تجري في كل مشكوك الحل والحرمة ، ومنه هذا الحيوان المذكى.

ولا مجال لاستصحاب حرمته الثابتة له قبل التذكية ، لأنه بعد ثبوت حليته الذاتيّة بقاعدة الحل ووقوع التذكية عليه لا يبقى شك في حرمته مطلقا ، أما الحرمة الذاتيّة فبقاعدة الحل ، وأما العرضية فلارتفاعها بالتذكية.

هذا كله بناء على جريان الاستصحاب لإحراز كون الحيوان مما يقبل التذكية. وأما بناء على عدم جريانه فيه لمنع جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية مطلقا أو في خصوص العناوين الذاتيّة ، فيجري أصالة عدم التذكية بناء على بساطة التذكية وتسببها عن الذبح بشرائطه كتسبب الطهارة عن الغسلتين

٤٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والمسحتين على أحد الوجهين ، فيحكم بحرمته ونجاسته ، وبناء على كون التذكية نفس فري الأوداج مع الشرائط تجري قاعدة الحل ، إذ المفروض العلم بتحقق التذكية بهذا المعنى.

فالنتيجة : أن المرجع في هذه المسألة إما أصالة عدم التذكية وإما قاعدة الحل.

المسألة الثالثة : أن يكون الشك في الحلية ناشئا من احتمال عروض عنوان مانع عن تذكيته كالجلل بعد العلم بقابليته لها كالشاة مثلا إذا احتمل طروّ جلل عليها ، لا ينبغي الإشكال في جريان استصحاب عدم المانع ، فإذا ذبح على الوجه الشرعي حكم بحليته ، لتحقق قيد موضوع الحلية وهو عدم الجلل بالأصل ونفس التذكية بالوجدان ، وهذا من غير فرق بين كون التذكية الذبح المقيد بإسلام الذابح والتسمية وغيرهما وبين كونها بسيطة ومركبة ، فان وقوع التذكية بأي معنى كانت على حيوان أحرز قابليته لها بالأصل يكون كوقوعها على حيوان أحرزت قابليته للتذكية بالوجدان.

وبالجملة : فالحكم في هذه الصورة من الشبهة الموضوعية هو الطهارة والحلية.

المسألة الرابعة : أن يكون الشك في الحلية للشك في وقوع أصل الذبح أو في جامعيته للشرائط ، كما إذا شك في إسلام الذابح أو في كون الذبح بالحديد مع العلم بقبول الحيوان للتذكية ، والمرجع فيها أصالة عدم التذكية المقتضية للنجاسة وحرمة الأكل وعدم جواز الصلاة في أجزائه. نعم إذا كان الذابح مسلما وشك في تحقق بعض ما يعتبر في التذكية ، فلا مانع من جريان أصالة

٤٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الصحة في فعله ، فيحكم بوقوع التذكية على الوجه الشرعي ، فيكون طاهرا ويحل أكله.

ثم ان هنا أمورا ينبغي التنبيه عليها :

الأول : أنه قد أورد على أصالة عدم التذكية في موارد جريانها تارة بمعارضتها بأصالة عدم الموت حتف الأنف ، فيرجع بعد تساقطهما إلى قاعدة الطهارة كما عن الفاضل النراقي (ره) وأخرى بعدم اليقين السابق ، توضيحه : أن موضوع الحرمة والنجاسة ليس مطلق عدم التذكية حتى يستصحب ، بل خصوص عدمها حال خروج الروح ، لطهارة الحيوان الحي قبل التذكية ، فلا يقين بالموضوع وهو عدم التذكية حين الزهوق ليستصحب.

وثالثة بأن أصالة عدم التذكية لا تثبت إلّا الحرمة ، لأن النجاسة مترتبة على الميتة دون عدم المذكى.

والكل كما ترى ، إذ في الأول : ما تقدم من أن عدم المذكى هو الميتة حقيقة أو حكما ، فليسا متغايرين حتى يجري فيهما الأصل.

وفي الثاني ما سبق أيضا من أنه لا مانع من استصحاب عدم التذكية إلى زمان الزهوق ، فالموت معلوم وجدانا وعدم تذكيته إلى زمان الزهوق محرز تعبدا ، وهذا من الموضوع المركب الّذي يحرز كلّا أو بعضا بالتعبد ، لا من الموضوع المقيد الّذي لا يحرز بالأصل إلّا على القول بحجية الأصول المثبتة.

وفي الثالث : ما مر أيضا من أن الحرمة والنجاسة ثابتتان لغير المذكى مطلقا وان لم يمت حتف أنفه.

والحاصل : أنه إذا جرت أصالة عدم التذكية ترتب عليها كل من النجاسة

٤٦٠