منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

الثالث (١) : أنه لا يخفى أن النهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب

______________________________________________________

(٣ ـ أنحاء تعلق النهي بالطبيعة)

(١) الغرض من عقد هذا الأمر هو تمييز ما تجري فيه البراءة من الشبهات الموضوعية عما لا تجري فيه منها ، وبيان ما قيل من منع جريانها فيها مطلقا أو جريانها فيها كذلك كما عن شيخنا الأعظم ، أو التفصيل بين تعلق الحكم بالموضوع على نحو الانحلال وبين غيره بجريانها في الأول دون الثاني. ولمّا كان كلام المصنف ناظرا إلى ما أفاده الشيخ في الشبهة الموضوعية التحريمية فلا بأس بالتعرض لكلامه قدس‌سره ثم توضيح المتن ، فنقول ذكر الشيخ بعد التزامه بالبراءة في الشبهة الموضوعية التحريمية توهما وأجاب عنه فقال : «وتوهم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا نظرا إلى أن الشارع بيّن حكم الخمر مثلا فيجب حينئذ اجتناب كل ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدمة العلمية ... مدفوع ... إلخ».

توضيح التوهم : أن أدلة البراءة الشرعية والعقلية لا تجري في الشبهة الموضوعية كالمائع المردد بين الخل والخمر ، ضرورة أن وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلّا بيان الكبريات مثل «الماء حلال ، والخمر حرام» وقد بيّنها

٥٤١

تركه في زمان أو مكان بحيث لو وجد في ذاك

______________________________________________________

ووصلت إلى المكلف حسب الفرض ، وانما الشك في الصغرى وهي كون هذا المائع الخارجي مما ينطبق عليه متعلق الحرمة وهو الخمر مثلا أم لا ، ومن المعلوم أن المرجع في إزالة هذه الشبهة التي هي من الشبهات الموضوعية ليس هو الشارع الأقدس ، وحينئذ فلا يحكم العقل بقبح المؤاخذة على تقدير مصادفة الحرام بأن كان ما شربه من المائع المردد خمرا ، إذ لا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ضرورة انتقاض عدم البيان بصدور الحكم الكلي وعلم المكلف به ، وتردد متعلق التكليف بين شيئين لأمور خارجية غير مرتبط بالشارع حتى يرفعه ، بل على المكلف نفسه إزالة هذا التردد والاشتباه.

كما لا يجري فيه مثل حديث الرفع لإثبات الترخيص الظاهري ، إذ الحديث انما يرفع ما كان وضعه بيد الشارع ، وقد عرفت أن ما يكون وضعه بيده هو إنشاء الحكم الكلي لا غير.

ثم قال (قده) في دفع التوهم : «ان النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا والمعلومة إجمالا ... إلخ» توضيحه : أن موضوع حكم العقل بقبح المعصية واستحقاق العقوبة عليها هو مخالفة التكليف المنجز المتوقف على إحراز كل من الصغرى والكبرى ، ومع الجهل بالصغرى يكون موضوع قاعدة القبح محققا ، إذ ليس المناط في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان خصوص بيان الشارع حتى يمنع من جريان القاعدة في الشبهة الموضوعية من جهة صدور البيان وعلم المكلف به ، بل المناط فيه قبح مؤاخذة من لم يتنجز التكليف في حقه سواء كان عدم التنجز لعدم بيان الشارع له أصلا كما في الشبهة الحكمية الناشئة من فقد النص ، أم لإجمال بيانه ، أم لمعارضته مع كونه مبيّنا بخطاب آخر مكافئ له ، أم للشك في تحقق متعلقه ، أم في كون الموجود من

٥٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

مصاديق متعلقه كما في المقام ، ففي جميع هذه الموارد تقبح المؤاخذة فتجري قاعدة القبح.

وعليه فمجرد العلم بالكبريات مثل «الخمر حرام» أو «لا تشرب الخمر» غير كاف في تنجز التكليف على المكلف حتى يقال : يحكم العقل بلزوم الاجتناب عن الأفراد المشكوكة كحكمه بلزوم الاجتناب عن المصاديق المعلومة ، وعلى هذا فينحصر امتثال الخطاب في موردين : أحدهما : العلم بفردية المائع الخارجي بخصوصه للخمر المحرّم ، والآخر العلم الإجمالي بخمرية أحد الإناءين مثلا. وأما الخمر المشتبه بالشبهة البدوية ، فلا يقتضي نفس الحكم الكلي وجوب الاجتناب عنه ، بل مقتضى أدلة البراءة جواز ارتكابه ، فلو ارتكبه المكلف مستندا إلى مرخص شرعي فهو معذور في مخالفته لو صادف كونه خمرا واقعا ، هذا غاية توضيح التوهم ودفعه.

والمتحصل من ذلك حكمه (قده) بالرجوع إلى البراءة في الشبهة الموضوعية ، حيث قال : «وأما ما احتمل كونه خمرا من دون علم إجمالي فلم يعلم من النهي تحريمه» وظاهره جريان البراءة في الأفراد المشتبهة مطلقا.

والمصنف منع هذا الإطلاق وأفاد أنه لا بد في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية من التفصيل بين الطبيعة المنهي عنها بنحو القضية المعدولة وبنحو القضية المحصلة ، بيان ذلك : أن متعلق النهي تارة يكون نفس الطبيعة بلا نظر إلى ما لها من الحصص ، فتكون القضية الشرعية حينئذ معدولة ، لكون حرف السلب جزءا من محمولها ، فيكون قولنا : «لا تشرب الخمر» بمنزلة قولنا : «كن لا شارب الخمر». وأخرى يكون الملحوظ الحصص ووجودات الطبيعة بحيث يكون كل وجود من وجوداتها متعلقا لحكم على حدة ، لوجود

٥٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تمام ملاك الحكم فيه ، فتكون القضية الشرعية حينئذ قضية حقيقية ينحل الحكم المأخوذ فيها إلى أحكام عديدة حسب تعدد الموضوعات وأفراد الطبيعة ، فيكون قوله : «لا تشرب الخمر» بمنزلة قوله : لا تشرب هذا الخمر ولا تشرب ذلك الخمر وهكذا ، نظير العام الاستغراقي الّذي يكون كل فرد من أفراده بحياله موضوعا للحكم كوجوب إكرام كل فرد من أفراد العلماء المستفاد من قوله : «أكرم العلماء».

إذا عرفت هذين النحوين من تعلق النهي بالماهية ، فاعلم : أنه إذا كان تعلق النهي بها من قبيل النحو الأوّل ، فلازمه عدم جواز ارتكاب مشكوك الفردية اعتمادا على أصالة البراءة ، لأن مجراها هو الشك في التكليف ، دون الشك في المحصّل الراجع إلى الشك في الفراغ ، والمقام يكون من الثاني ، دون الأول ، إذ المفروض أن الشك ليس في نفس التكليف حتى يجري فيه البراءة ، بل الشك في الفراغ ، لتعلق النهي بالطبيعة دون الأفراد ، فترك الأفراد لازم عقلا من باب المقدمة العلمية ، لتوقف اليقين بالفراغ عن ترك الطبيعة المنهي عنها على اجتناب ما احتمل كونه فردا كترك ما علم بفرديته لها.

وإذا كان تعلق النهي بالماهية من قبيل النحو الثاني ، فلازمه جواز ارتكاب ما شك في فرديته للطبيعة المنهي عنها اعتمادا على أصالة البراءة ، لأن الشك حينئذ في ثبوت التكليف ، إذ المفروض كون كل فرد من أفراد طبيعة الخمر مثلا محكوما بحكم على حدة ، فالشك في فردية شيء للخمر يستتبع الشك قهرا في الحرمة ، فتجري فيها البراءة ، فيجوز ارتكابه ، كما يجوز ارتكاب المشتبه بناء على تعلق التكليف بنفس الطبيعة لا الأفراد فيما إذا كان مسبوقا بترك تلك الطبيعة ، فان ارتكاب المشتبه يوجب الشك في انتقاض الترك بالفعل ، فيستصحب ذلك

٥٤٤

الزمان (١) أو المكان (٢) ولو دفعة (٣) لما امتثل أصلا

______________________________________________________

الترك حين ارتكاب المشتبه.

وقد تحصل مما ذكرنا : أن الفرد المشتبه بالشبهة الموضوعية على ثلاثة أقسام :

الأول : المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق النهي بها بلحاظ أفرادها.

الثاني : المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق النهي بها بما هي مع كونها مسبوقة بالترك.

الثالث : المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق النهي بها بما هي مع عدم كونها مسبوقة بالترك. وفي الأوّلين يجوز ارتكاب مشكوك الفردية ، وفي الأخير لا يجوز ، فما أفاده الشيخ (قده) من جواز ارتكاب الأفراد المشتبهة مطلقا استنادا إلى البراءة ممنوع.

(١) كالنهي عن الصيد وغيره من تروك الإحرام حاله ، بناء على رجوع النهي إلى قضية معدولة.

(٢) كالنهي عن قطع شجر الحرم ونباته.

(٣) يعني : ولو دفعة واحدة ، إذ من لوازم تعلق النهي بالطبيعة أنه لو أوجد المكلف الشيء المنهي عنه ولو مرة واحدة لم يمتثل أصلا ، إذ المطلوب حينئذ هو ترك الطبيعة ، فبإيجاد فرد منها توجد الطبيعة المنهي عنها ، فيتحقق العصيان وان ترك سائر الأفراد ، إذ لا أثر لتركها حينئذ في دفع العصيان ، كما لا أثر للإتيان بسائر الأفراد أيضا في تحقق امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة بعد الإتيان بأول وجوداتها كوجوب الستر في الصلاة كما سيأتي التمثيل به ، وقد تقدم ذلك مشروحا مع التمثيل بالنهي عن الاستدبار في الصلاة ، لكونه مانعا عنها ، وكالنهي عن الحدث ولبس الحرير والذهب للرجال.

٥٤٥

كان (١) اللازم على المكلف إحراز أنه (٢) تركه بالمرة ولو بالأصل ، فلا يجوز (٣) الإتيان بشيء يشك معه (٤) في تركه ، إلّا (٥) إذا كان

______________________________________________________

ومن أمثلة تعلق الحكم بالطبيعة شرائط الصلاة كالطهارة والستر والاستقبال ، فان الحكم أعني النهي في الموانع والأمر في الشرائط متعلق بطبائع هذه الأشياء ، فلو أتى بفرد طبيعة من الموانع كالاستدبار مثلا ولو مرة واحدة ، بطلت الصلاة ولم يكن أثر للأفراد الأخرى من الاستدبار في فساد الصلاة كما هو الحال في الشرائط أيضا ، فلو أتى بفرد من طبيعة الستر مثلا في الصلاة تحقق الامتثال وصحت الصلاة ، ولا أثر لسائر أفراد الستر في صحتها.

والحاصل : أن مبغوضية الطبيعة في النهي نظير مطلوبيتها في الأمر ، فكما يحصل الامتثال هناك بإتيان صرف الوجود من الطبيعة ، فكذلك تحصل المعصية هنا بإيجاد صرف الوجود منها.

(١) جواب قوله : «إذا كان» وإشارة إلى النحو الأول من تعلق النهي بالطبيعة المعبر عنه بمعدولة المحمول ، لكون المطلوب فيه عنوانا بسيطا وهو اللاشاربية في مثال النهي عن شرب الخمر واللالابسية في النهي عن لبس الحرير ، وقد تقدم توضيحه.

(٢) أي : أن المكلف ترك الشيء ـ كشرب الخمر ـ بالمرّة ، وقوله : «بالأصل» قيد لقوله : «إحراز».

(٣) هذا نتيجة لزوم إحراز أنه ترك الفعل المنهي عنه بالمرّة فيما إذا تعلق النهي بالطبيعة.

(٤) يعني : يشك ـ مع الإتيان بذلك الشيء المشتبه ـ في أنه ترك المنهي عنه بالمرة أم لا ، حيث كان المطلوب منه تركه رأسا.

(٥) استثناء من قوله : «فلا يجوز» واسم «كان» ضمير مستتر فيه راجع إلى

٥٤٦

مسبوقا به ليستصحب (١) مع الإتيان به.

نعم (٢) (*) لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه (٣) على حدة لما وجب إلّا ترك ما علم أنه فرد (٤) ، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلّا بما علم أنه مصداقه (٥)

______________________________________________________

الشيء المأتي به الّذي شك مع الإتيان به في ترك المنهي عنه بالمرة ، وضمير «به» راجع إلى الترك ، يعني : إلّا إذا كان ذلك الشيء المأتي به المشكوك كونه فردا للمنهي عنه مسبوقا بترك طبيعته ، فيستصحب حينئذ ـ مع الإتيان بذلك المشتبه ـ ترك المنهي عنه ، فيحرز ولو تعبدا ترك المنهي عنه بالمرة ، فيثبت المطلوب ، وقد مر توضيحه أيضا.

(١) أي : ليستصحب ترك الطبيعة مع الإتيان بالمشكوك كونه فردا لها ، فيكون الشك في ترك الطبيعة مع الإتيان بمشكوك الفردية من الشك في رافعية الموجود.

(٢) استدراك على قوله : «كان اللازم على المكلف إحراز ...» وإشارة إلى النحو الثاني من تعلق النهي بالطبيعة المعبر عنه بالمحصلة السالبة وبالحقيقية والانحلال ، لانحلال الحكم فيها إلى أحكام متعددة بتعدد أفراد الطبيعة. وقد مر توضيحه أيضا.

(٣) أي : من الشيء الّذي تعلق به النهي.

(٤) كما أفاده شيخنا الأعظم ، وقد تقدم توضيح كلامه ، فراجع.

(٥) أي : مصداق الشيء المنهي عنه كالخمر ، وضمير «أنه» راجع إلى الموصول في «بما علم» المراد به الشيء.

__________________

(*) سوق العبارة يقتضي أن يقال : «وإذا كان ـ أي النهي عن شيء ـ بمعنى طلب ترك ... إلخ» لأنه عدل قوله : «إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان ... إلخ».

٥٤٧

فأصالة (١) البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة.

فانقدح بذلك (٢) : أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده [الأفراد] المشتبهة فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة (٣) أو كان (٤) الشيء مسبوقا بالترك ،

______________________________________________________

(١) جواب «وحيث» يعني : فتجري البراءة في المائع المشكوك كونه خمرا ، ووجه جريانها فيه ما تقدم من أن الشك حينئذ في أصل التكليف ، ومن المعلوم أن الأصل الجاري فيه هو البراءة ، بخلاف النحو الأوّل ، فان الشك في الفرد المشتبه فيه يرجع إلى الشك في الفراغ والسقوط دون الشك في ثبوت التكليف ، فلذا لا تجري فيه البراءة.

(٢) يعني : ظهر بما ذكرناه ـ من أن تعلق النهي بالطبيعة يتصور على نحوين ـ أن مجرد العلم بحرمة شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عما شك في فرديته له إلّا في صورة واحدة ، وهي ما إذا تعلق النهي بالطبيعة ولم تكن مسبوقة بالترك ، فيجب حينئذ ـ بقاعدة الاشتغال ـ الاجتناب عن الفرد المشتبه كوجوب الاجتناب عن الفرد المعلوم. وأما إذا تعلق النهي بالأفراد أو بالطبيعة مع سبق الترك فلا بأس بارتكاب المشتبه. أما الأوّل فلأصالة البراءة. وأما الثاني فلإحراز ترك الطبيعة مع الإتيان بالمشتبه بالاستصحاب. ولا فرق في لزوم إحراز ترك الطبيعة بين إحرازه بالوجدان أو بالتعبد كما مرّ في أوائل التنبيه الثالث. فقول المصنف : «فانقدح بذلك» إشارة إلى ضعف ما أفاده الشيخ من جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية مطلقا ، بل لا بد من التفصيل الّذي ذكرناه.

(٣) كما هو مفاد القضية السالبة المحصلة ، و «فيما كان» متعلق بـ «لا يوجب».

(٤) كما هو مفاد تعلق النهي بالطبيعة على نحو القضية المعدولة مع سبق الطبيعة بالترك.

٥٤٨

وإلّا (١) لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعا ، فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لأمره ، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم (٢) إتيانه امتثالا لنهيه ، غاية الأمر (٣) كما يحرز وجود الواجب بالأصل (٤) ، كذلك يحرز ترك الحرام به (*). والفرد (٥) المشتبه وان كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه ،

______________________________________________________

(١) أي : وان لم يكن المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة أو لم يكن مسبوقا بالترك لوجب الاجتناب عقلا عن الأفراد المشتبهة.

(٢) بالجر عطف تفسير لقوله : «تركه».

(٣) غرضه تعميم الترك لصورة إحرازه تعبدا ، يعني : أن الإحراز لا ينحصر في الإحراز الوجداني ، بل يعم التعبدي ، كما هو الحال في الإحراز بالنسبة إلى وجود الشيء كإحراز الطهارة باستصحاب الوضوء.

(٤) أي : بالأصل العملي ، وهو متعلق بـ «يحرز» في قوله : «كما يحرز» وضمير «به» راجع إلى الأصل.

(٥) إشارة إلى ما أفاده شيخنا الأعظم في المقام بالنسبة إلى الفرد المشتبه ، وحاصله : أن الفرد المشتبه من المنهي عنه وان جاز ارتكابه بمقتضى أصالة

__________________

(*) هذا في الحرام النفسيّ ، وكذا الغيري المأخوذ شرطا للمأمور به ، كما إذا فرض أن لابسية ما لا يؤكل لحمه من شرائط المصلي ، فانه لا مانع من استصحاب هذا الوصف حين لبس اللباس المشكوك كونه مما يؤكل ، بخلاف ما إذا كان من شرائط المأمور به ، كما إذا فرض أنه يعتبر في الصلاة كون لباس المصلي مما يؤكل ، فإذا لبس اللباس المشكوك كونه مما يؤكل فاستصحاب لابسية ما لا يؤكل لا يجدي ، لعدم إثباته كون هذا اللباس مما يؤكل إلّا على القول بحجية الأصول المثبتة.

٥٤٩

إلّا (١) أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب (٢) التحرز عنه ، ولا يكاد يحرز إلّا بترك المشتبه أيضا (٣) (*) فتفطن.

______________________________________________________

البراءة مع الغض عن العلم بحرمة صرف الطبيعة كما أفاده قدس‌سره بقوله : «فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقف العلم باجتنابه على اجتنابه بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلي المشتبه حكمه كشرب التتن في قبح العقاب عليه» إلّا أنه نظرا إلى العلم بحرمة صرف الطبيعة لا مورد لأصالة البراءة هنا ، بل المقام مجرى قاعدة الاشتغال ، لما عرفت مفصلا من أن تعلق النهي بالطبيعة ان كان بنحو القضية المعدولة كان المعلوم حرمة صرف الطبيعة ، ومقتضى ذلك وجوب الاجتناب عما احتمل فرديته لها ، كوجوب الاجتناب عن الأفراد المعلومة ، ضرورة أن العلم بتعلق التكليف بالطبيعة ـ دون الأفراد ـ بيان وارد على أصالة البراءة ورافع لموضوعها ، فالشك في انطباق الطبيعة على الفرد المشتبه ليس مجرى لها ، لتوقف العلم بتحقق هذا الترك الواجب على الاحتراز عن المشتبه. نعم لا بأس بإجراء البراءة في المصداق المشكوك إذا كانت القضية سالبة محصلة كما تقدم.

(١) هذا رد لما أفاده الشيخ الأعظم ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «إلّا أنه نظرا إلى العلم بحرمة صرف الطبيعة ... إلخ».

(٢) خبر «أن» وضمير «عنه» راجع إلى الفرد المشتبه.

(٣) يعني : كوجوب الاجتناب عما علم فرديته للطبيعة.

__________________

(*) لما عرفت من أن مقتضى مطلوبية عنوان بسيط ـ أعني وصف اللاشاربية ـ مثلا هو ترك كل ما يحتمل فرديته للطبيعة ، إذ لا يحرز هذا الوصف إلّا بترك محتمل الفردية كمعلومها ، فالاقتصار على ترك معلوم الفردية يندرج في الشك في المحصل الّذي هو مجرى قاعدة الاشتغال ، لا في الشك في التكليف الّذي

٥٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

هو مجرى أصالة البراءة.

ومن هنا يظهر ضعف ما قد يقال : «من جريان البراءة في محتمل الفردية وجواز ارتكابه نظرا إلى أن صرف الوجود عبارة عن صرف المفهوم الصالح للانطباق على القليل والكثير ، فالشك في فردية شيء للطبيعة ملزوم للشك في سعة دائرة متعلق التكليف وضيقها الموجب للرجوع إلى البراءة ، فلا موجب حينئذ لترك محتمل الفردية للطبيعة ، وليس المقام من الشك في المحصل حتى يجري فيه الاشتغال دون البراءة ، إذ لا بد فيه من مغايرته للمتحصل الواجب خارجا ، وهي مفقودة في المقام ، لكون صرف المفهوم عين القليل والكثير في ظرف انطباقه عليهما ، لا غيرهما ، فضابط المحصل أجنبي عما نحن فيه».

وجه الضعف : أنه ـ بناء على ما مر من رجوع مثل قضية «لا تشرب الخمر» إلى المعدولة ـ ينطبق ضابط المحصّل على المقام ، إذ المفروض أن المتحصل الواجب هو العنوان البسيط أعني اللاشاربية مثلا ، وذلك مغاير لمحصله الّذي هو ترك كل شيء علم أو احتمل كونه فردا للطبيعة ، لأن العلم بتحقق الواجب وهو العنوان البسيط منوط بالترك المستوعب لمحتمل الفردية أيضا ، فلا تجري البراءة في محتمل الفردية مع العلم بالمكلف به وعدم إجمال فيه ، وكون ترك الأفراد مقدمة لحصول العلم به ، ولا دليل على اعتبار أزيد من هذه المغايرة بين المتحصل الواجب ومحصله.

هذا مما لا ينبغي الإشكال فيه. انما الإشكال في أن الظاهر من تعلق النهي بشيء هل هو لزوم تحصيل عنوان بسيط كاللاشاربية للخمر واللالابسية لما لا يؤكل مثلا أم لا؟ حيث ان صور تعلق النهي بالطبيعة كثيرة :

٥٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إحداها : تعلقه بها بنحو السريان بحيث يكون كل فرد من أفرادها متعلقا للحكم ، فترك بعضها إطاعة وارتكاب غيره عصيان ، والمرجع في الشك في فردية شيء للطبيعة حينئذ هو البراءة.

ثانيتها : تعلقه بها بنحو صرف الوجود الصادق على أول وجود الطبيعة ، بحيث يكون هو المحرم دون سائر وجوداتها ، فإذا شك في فردية شيء لها ، فالظاهر جواز ارتكابه ، بل جواز ارتكاب معلوم الفردية أيضا بعد ارتكاب أول وجوداتها المفروض حرمته ، ضرورة أن المحرم وهو أول وجوداتها قد أتي به ، فلا دليل على حرمة سائر الوجودات. وعليه فلا مانع من جريان البراءة ، ولا مورد لقاعدة الاشتغال ، إذ ليس الشك في سقوط التكليف ، بل الشك انما هو في ثبوته كما لا يخفى.

ثالثتها : تعلقه بها بنحو يكون مجموع وجوداتها موضوعا واحدا تعلق به النهي ، لا كل واحد منها بالاستقلال ، فعصيان النهي حينئذ منوط بارتكاب الجميع دون البعض ، فلو ارتكب البعض وترك الآخر لم يتحقق العصيان ، ولعل من هذا القبيل النواهي المتعلقة بتصوير ذوات الأرواح وتغطية المحرم رأسه وحلقه له ، لإمكان أن يدعى أن المنهي عنه حرمة تصوير مجموع البدن لا كل جزء من أجزائه بالاستقلال ، وكذا تغطية رأس المحرم وحلقه له ، وتنقيح البحث في هذه المسائل موكول إلى محله.

وكيف كان فيجوز في هذه الصورة ارتكاب بعض الأفراد المعلومة فضلا عن المشكوكة ، بل يجوز الاقتصار في الترك على الأفراد المشكوكة وارتكاب جميع الأفراد المعلومة ، لكونه من صغريات الأقل والأكثر ، حيث ان الحرام

٥٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المتيقن هو الأكثر ، فيقتصر في الترك عليه ، وفي الأقل وهو الأفراد المعلومة تجري البراءة على العكس في الواجبات ، فان المتيقن منها هو الأقل ، فهو الواجب وتجري البراءة فيما عداه وهو الأكثر.

رابعتها : تعلقه بنفي الطبيعة بنحو القضية المعدولة بحيث يكون المطلوب عنوانا بسيطا كما أشرنا إليه آنفا. وهذه الوجوه الأربعة هي محتملات تعلق النواهي بالطبائع ثبوتا. ولعل الاستظهار منها يختلف باختلاف الموارد ، فالمرجع خصوصيات الأدلة.

ولا يخفى أن تفصيل المصنف وان كان متينا ثبوتا ، لكن لا دليل عليه إثباتا حيث ان ظاهر القضايا هو السلب المحصل لا المعدولة ، لاحتياجها إلى مئونة زائدة ثبوتا وإثباتا ، وعليه فقول شيخنا الأعظم (قده) بجريان البراءة مطلقا ناظر إلى ما هو الغالب في مقام الإثبات.

ثم ان ما تقدم في الشبهة التحريمية يجري في الشبهة الوجوبية أيضا ، فإذا قال : «أكرم العالم» فتارة يراد به وجوب إكرام طبيعة العالم بحيث لو لم يكرم فردا من أفرادها لم يطع أصلا وان أكرم سائر الأفراد ، وأخرى يراد به وجوب إكرام كل فرد من أفرادها بنحو العام الاستغراقي. فعلى الأوّل يجب إكرام كل مشتبه فضلا عن معلوم العالمية ، لأن امتثال وجوب إكرام الطبيعة المطلقة لا يحرز إلّا بإكرام الفرد المشتبه ، فهو من قبيل الشك في المحصل ، فيجب ذلك أيضا ، لتوقف العلم بحصول غرض المولى عليه.

وعلى الثاني لا يجب إكرام الفرد المشتبه ، لكونه شكا في التكليف ، إذ المفروض تعلق الحكم بالأفراد ، والشك في فردية شيء شك في موضوعيته ، والشك في الموضوع يستتبع الشك في الحكم.

٥٥٣

الرابع (١) : أنه قد عرفت (٢) حسن الاحتياط عقلا ونقلا ، ولا يخفى أنه مطلقا كذلك حتى (٣) فيما كان هناك حجة على عدم

______________________________________________________

(٤ ـ التبعيض في الاحتياط المخل بالنظام)

(١) الغرض من عقد هذا الأمر بيان جهات ثلاث متعلقة بالاحتياط : إحداها : حسنه حتى مع قيام الدليل على نفي التكليف ، ثانيتها : كون حسنه محدودا بما لم يستلزم اختلال النظام ، ثالثتها : كيفية التبعيض في الاحتياط إذا استلزم الاحتياط التام اختلال النظام ، وقد تعرض لهذه الجهات الثلاث شيخنا الأعظم في ثالث تنبيهات الشبهة الموضوعية التحريمية كما ستقف على بعض كلماته.

(٢) يعني : في صدر التنبيه الثاني ، حيث قال : «انه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية ...»

(٣) بيان للإطلاق ، وضمير «انه» راجع إلى الاحتياط ، وقوله : «كذلك» يعني : حسن عقلا ونقلا ، وهذا إشارة إلى الجهة الأولى ، وحاصلها : أن الاحتياط حسن مطلقا حتى في صورة قيام حجة على عدم التكليف الإلزامي في الشبهات الحكمية ، كما إذا فرض قيام دليل على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو عدم وجوب السورة في الصلاة ، أو قيام بينة مثلا على عدم كون المشتبه بالخمر

٥٥٤

الوجوب أو الحرمة ، أو أمارة (١) معتبرة على أنه (٢) ليس فردا للواجب (٣) أو الحرام (٤) ما لم يخل (٥) بالنظام

______________________________________________________

بحكم الخمر حتى يحرم شربه ، فانه لا ريب في حسن الاحتياط في هذه الصورة أيضا ، كحسنه في صورة عدم قيام حجة على نفي التكليف ، إذ الاحتياط ـ لكونه محرزا للواقع عملا ـ حسن عقلا ، فانه مع قيام الحجة على عدم التكليف الإلزامي لا ينتفي موضوع حسنه ، وهو احتمال وجود التكليف واقعا ، ومن المعلوم أن حسنه مبني على رجاء تحصيل الواقع وإدراك المصلحة النّفس الأمرية ، لا على خصوص تحصيل المؤمّن من العقاب حتى يتوهم عدم بقاء الموضوع للحسن العقلي عند قيام حجة على نفي التكليف واقعا ، لعدم العقاب على مخالفته حينئذ ، لتوسعة الشارع على المكلف عند اشتباه التكليف ، قال شيخنا الأعظم (قده) : «الثالث : أنه لا شك في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقا حتى فيما كان هناك أمارة على الحل مغنية عن أصالة الإباحة ...».

(١) معطوف على قوله : «حجة على ...» وهذا في الشبهة الموضوعية.

(٢) الضمير راجع إلى الموصول في «فيما» المراد به المورد الّذي يحتمل التكليف الإلزامي فيه.

(٣) كقيام البينة على عدم عالمية زيد مثلا مع وجوب إكرام العالم ، فان إكرام زيد ـ لكونه مما يحتمل مطلوبيته ـ حسن بلا إشكال.

(٤) كقيام البينة على عدم خمرية هذا المائع المشتبه ، فان ترك شربه ترك لما يحتمل مبغوضيته ، وهو أيضا حسن عقلا.

(٥) ظرف لقوله : «مطلقا كذلك» وإشارة إلى الجهة الثانية ، يعني : أن حسن الاحتياط مطلقا عقلا ونقلا منوط بعدم إخلاله بالنظام ، فإذا بلغ حدّ الإخلال به لم يكن حسنا ولا راجحا شرعا. أما عدم حسنه العقلي فلان ما يوجب اختلال

٥٥٥

فعلا (١) ، فالاحتياط قبل ذلك (٢) مطلقا يقع حسنا كان (٣) في الأمور المهمة

______________________________________________________

النظام قبيح عند العقلاء ، لأنه من مصاديق الظلم الّذي هو التجاوز عن حدود العدل والإنصاف. وأما عدم رجحانه الشرعي ، فلان المانع عن رجحانه في هذا الحال موجود ، وهو كون الإخلال بنظام النوع مبغوضا للشارع. وعليه فالمستفاد من ظاهر العبارة هو عدم حسن الاحتياط عند لزوم اختلال النظام لا عدم تحققه وصدقه.

وبعبارة أخرى : لزوم اختلال النظام رافع لحسن الاحتياط لا مانع عن نفس الاحتياط ، فالسالبة حينئذ تكون بانتفاء المحمول ، يعني : أن قولنا : «الاحتياط حسن» يئول ـ عند اختلال النظام ـ إلى قولنا : «الاحتياط لا يحسن» لا إلى قولنا : «الاحتياط لا يمكن» والوجه فيه واضح ، فان المناط في صدق الاحتياط ـ وهو الجمع بين المحتملات لغرض إدراك المصلحة الواقعية وإحراز الواقع المحتمل ـ موجود عند إخلاله بالنظام أيضا ، فالاحتياط متحقق عند الإخلال لكنه غير حسن ، لمزاحمة حسنه العقلي بالقبح الطاري عليه من جهة استلزامه اختلال النظام ، ولكن هذا العنوان العارض لا يوجب تبدل المصلحة الواقعية حتى لا يكون إحرازها احتياطا (*).

(١) قيد للاختلال ، يعني : أن الرافع لنفس الاحتياط أو حسنه هو الاختلال الفعلي دون الشأني ، فهو قبل وصوله إلى حد الإخلال بالنظام حسن.

(٢) أي : قبل الإخلال الفعلي بالنظام ، والمراد بحسنه مطلقا هو حسنه من ثلاث جهات إحداها : الاحتمال ، ثانيتها المحتمل يعني المورد ، ثالثتها وجود الحجة على عدم التكليف أو وجودها كما سيتضح.

(٣) هذا بيان لإطلاق حسن الاحتياط من حيث المحتمل ، يعني : أن الاحتياط ،

__________________

(*) فما في بعض الحواشي من أن السالبة تكون بانتفاء الموضوع «لأن

٥٥٦

كالدماء والفروج أو غيرها ، وكان (١) احتمال التكليف قويّا أو ضعيفا

______________________________________________________

غير المخل بالنظام حسن سواء كان مورده الأمور المهمة كالدماء والأعراض أم الأمور غير المهمة كسائر التكاليف الشرعية.

(١) عطف على «كان» وهو بيان لإطلاق حسن الاحتياط من حيث الاحتمال يعني : أن موضوع حكم العقل بحسن الاحتياط وحكم الشرع برجحانه هو احتمال التكليف سواء كان هذا الاحتمال ظنا أم شكا أم وهما ، فالإتيان بالفعل المظنون

__________________

الاحتياط هو الإتيان بمحتمل المطلوبية ، ومع القطع بالمبغوضية الناشئة من استلزامه لاختلال النظام لا يعقل كونه احتياطا» لا يخلو من غموض ، إذ المصلحة القائمة بالحكم الواقعي المحتمل باقية على حالها حتى فيما إذا استلزم إحرازها الاختلال ، وليس مبغوضية الإخلال بنظام النوع في عرض المصلحة الواقعية المحتملة حتى يحصل الكسر والانكسار مع عدم الغلبة ، بل هي في طول ملاك الواقع كالمصلحة التسهيلية التي هي في طول المصلحة الواقعية ومتأخرة عنها ، ولا تسري إلى الواقع حتى يصير منهيا عنه.

ومنه يظهر أن ما أفاده بعض المدققين من «عدم رجحان الاحتياط المخل بالنظام شرعا نظرا إلى وجود المانع منه وهو لغوية تصديق البعث» في غاية المتانة ، وتوهم عدم رجحانه في هذا الحال ـ لعدم المقتضي له ، لأن الاحتياط هو الإتيان بمحتمل المطلوبية ، ومع احتمال المبغوضية فضلا عن القطع بها كما في المقام لا مقتضي لتشريع الاحتياط ـ ممنوع ، لأنه نشأ من الغفلة عن مبناه قدس‌سره في جعل وجوب الاحتياط مولويا ناشئا من نفس الغرض القائم بالحكم الواقعي ، فمصلحة الواقع باقية حتى في حال الاختلال ، غير أن الاختلال مانع عن تداركها ، فالمقتضي لجعله موجود ويرجع المحذور إلى المانع وهو عدم إمكان تصديق البعث نحوه.

٥٥٧

كانت (١) (*) الحجة على خلافه أولا ، كما أن الاحتياط الموجب لذلك (٢) لا يكون حسنا

______________________________________________________

وجوبه ـ بظن غير معتبر ـ إطاعة حكمية للمولى ، فهو حسن عقلا وراجح شرعا كما أن الإتيان بالفعل المشكوك أو الموهوم وجوبه إطاعة حكمية أيضا. وكذا الكلام في ترك الحرام المظنون أو المشكوك أو الموهوم ، فانه حسن عقلا وراجح شرعا ، ولا ترجيح للاحتمال القوي على الضعيف في مراعاة الاحتياط فيه دونه ، لأن الظن بالتكليف لما لم يكن معتبرا ـ كما هو المفروض في المقام ـ كان مساويا للشك والوهم ، فلا يكون قوة الاحتمال فيه مرجحا له على أخويه حتى يراعى الاحتياط فيه دونهما بعد اشتراك الجميع في عدم الاعتبار.

(١) هذا بيان لإطلاق حسن الاحتياط من حيث وجود الحجة على عدم التكليف أو عدم وجودها ، يعني : أن نفس رعاية احتمال التكليف أمر مرغوب فيه سواء كان هناك حجة معتبرة على عدم التكليف الإلزامي في البين أم لم يكن دليل معتبر على نفيه ، فيبقى نفس احتمال التكليف الواقعي غير المعارض بشيء ، وهو الموضوع لحكم العقل والنقل بمطلوبية الاحتياط ، وفي هذا إشارة إلى رد ما احتمله شيخنا الأعظم في حسن الاحتياط من الفرق بين وجود أمارة على الإباحة وعدمه قال (قده) : «ويحتمل التبعيض بين موارد الأمارة على الإباحة وموارد لا يوجد إلّا أصالة الإباحة ، فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات على الثاني دون الأول ، لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشرعية على الإباحة».

(٢) أي : لاختلال النظام فعلا.

__________________

(*) هذه الجملة مستدركة بما أفاده في صدر التنبيه بقوله : حتى فيما كان هناك حجة.

٥٥٨

كذلك (١) وان كان (٢) الراجح لمن التفت إلى ذلك (٣) من أول الأمر

______________________________________________________

(١) يعني : لا يكون حسنا مطلقا سواء كان الاحتمال قويا أم ضعيفا ، وسواء كان المحتمل مهما أم لا ، وسواء وجدت الحجة على خلافه أم لا.

(٢) هذا إشارة إلى الجهة الثالثة أعني بيان كيفية التبعيض في الاحتياط المستحب إذا استلزم الاختلال بالنظام ، وتوضيحه : أن المكلف إذا التفت من أول الأمر إلى أن الاحتياط التام يؤدي إلى اختلال النظام كان الراجح له التبعيض في الاحتياط بمعنى ترجيح بعض الاحتياطات على بعض ، والتبعيض في الاحتياط يكون بأحد وجهين : الأول : ترجيح بعض الأطراف بحسب المحتمل ، فان كان المورد مما اهتم به الشارع كالدماء والأموال قدّمه على غيره سواء كان احتمال التكليف قويا أم ضعيفا ، فالموارد المهمة على هذا الوجه أولى بالاحتياط من غيرها ، ولا عبرة بقوة الاحتمال وضعفه حينئذ.

قال شيخنا الأعظم : «ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات ، فالحرام المحتمل إذا كان من الأمور المهمة في نظر الشارع كالدماء والفروج ، بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق الله تعالى يحتاط فيه ، وإلّا فلا ... إلخ».

الثاني : ترجيح بعض الأطراف بحسب الاحتمال ، فإذا كان هناك تكاليف متعددة محتملة ، بعضها مظنون وبعضها مشكوك أو موهوم أخذ بالمظنون وترك الاحتياط في غيره ، فقويّ الاحتمال على هذا الوجه أولى بالاحتياط من ضعيفة ، ولا عبرة بالمحتمل حينئذ ، سواء كان من الأمور المهمة أم لا. قال شيخنا الأعظم «... فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات ، فيحتاط في المظنونات ، وأما المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات إليها ، فالاحتياط في المظنونات ، وأما المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات إليها ، فالاحتياط فيها حرج مخل بالنظام ... إلخ».

(٣) أي : إلى أن الاحتياط موجب للاختلال ، كما إذا كانت أمور متعددة

٥٥٩

ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا (١) ، فافهم (٢).

______________________________________________________

مشتبهة موردا لابتلائه ، والتفت إلى أن الاحتياط في جميعها مخل بالنظام.

(١) قيدان لـ «بعض الاحتياطات» فإذا احتمل وجوب فعل احتمالا ضعيفا وكان المحتمل من الأمور المهمة بحيث لو كان وجوبه معلوما لاهتم به الشارع ترجحت مراعاة المحتمل ، فيحتاط فيه نظرا إلى أهميته ، كما أنه لو احتمل وجوب فعل احتمالا قويا ولم يكن المحتمل من الأمور المهمة ترجحت مراعاة الاحتمال ، فيحتاط فيه بالإتيان به نظرا إلى أهمية الاحتمال.

هذا بناء على كون «أو» للترديد أو التقسيم. وأما بناء على كونه للتخيير ـ كما استظهره بعض المحشين ـ فربما يورد على المصنف (قده) بأن لازم كلامه عدم رجحان الاحتياط في الفرض الأول وهو كون محتمل الوجوب بالاحتمال الضعيف من الأمور المهمة ، ضرورة أن إطلاق حكمه بالتخيير بين الأخذ بجانب الاحتمال أو المحتمل هو التخيير في المحتمل المهم بالاحتمال الضعيف ، ولا يظن الالتزام به.

لكن فيه : أنه لا دليل على كون «أو» العاطفة للتخيير ، ولا أقل من احتمال كونه للترديد كما هو ظاهر كلام الشيخ المتقدم حيث لم يجزم بترجيح جانب الاحتمال ولا المحتمل ، بل اقتصر على قوله : «ويحتمل ... فيحتمل».

وعليه فغرض المصنف هو رعاية الاحتياط في كل مورد بخصوصه ، وأن الترجيح قد يكون بحسب الاحتمال ، وقد يكون بحسب المحتمل ، فلا إطلاق لكلامه حتى ينتقض بما ذكر.

(٢) لعله إشارة إلى أن حسن الاحتياط قبل الإخلال وعدم حسنه حينه انما هو بالإضافة إلى الجمع بين الاحتياطات بالنسبة إلى تكاليف متعددة ، وأما بالإضافة إلى الجمع بين محتملات تكليف واحد فهو مبني على إمكان الانفكاك بين الموافقة القطعية وترك المخالفة القطعية ، فلاحظ وتدبر.

٥٦٠