منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لكن المذكور هناك هكذا «عُفي لأُمتي عن الخطاء والنسيان» نعم تمسك به كما هنا في مسألة التكلم في الصلاة ناسيا ص ١٩٥.

وكيف كان فالشيخ أيضا تمسك في عبارته المتقدمة بحديث الرفع لصحة صلاة ناسي النجاسة ، بل نُقل أنه (قده) تمسك به لصحة الصلاة في مواضع أخر ، وقد حكي أن العلامة والمحقق الأردبيلي (قدهما) تمسكا به أيضا في مواضع.

وبالجملة : فلا إشكال في استدلال غير واحد من الأصحاب بحديث الرفع لصحة الصلاة.

المبحث الرابع : المشهور أن حديث الرفع حاكم على أدلة الأحكام الأولية ، لأنه متعرض لكيفية الدخل والتشريع ، بخلافها ، لأنها لا تتعرض إلّا لأصل الدخل. توضيحه : أن أدلة الاجزاء والشرائط والموانع مثلا تدل على أصل الجزئية والشرطية والمانعية ، ولا تدل على كيفية دخلها ، وحديث الرفع يتعرض لكيفية الدخل ، وأن جزئيتها أو شرطيتها أو مانعيتها مختصة بغير حال النسيان ، فضابط الحكومة وهو تعرض أحد الدليلين لما لا يتكفله الآخر ينطبق على حديث الرفع.

وعليه فلا تلاحظ النسبة بينهما وهي العموم من وجه ، بتقريب : أن دليل جزئية السورة مثلا يختص بالسورة ويعم بالإطلاق حالات المكلف من الجهل والنسيان والاضطرار ، وحديث رفع النسيان مختص بالنسيان ويعم جزئية السورة وغيرها حتى يقال انهما في نسيان السورة مثلا متعارضان ، هذا.

لكنك خبير بعدم انطباق الضابط المذكور للحكومة على المقام ، ضرورة أن كلّا من حديث الرفع ودليل الجزئية ونحوها متكفل لما يتكفله الآخر ، فان إطلاق دليل جزئية السورة مثلا يدل على جزئيتها المطلقة أي في جميع الحالات

٢٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من النسيان وغيره ، وحديث الرفع يدل على عدم جزئيتها حال النسيان ، فهما في هذه الحالة متعارضان ، فلا حكومة لحديث الرفع على دليل الجزئية ونحوها.

نعم ينطبق الضابط المزبور على مثل «لا شك لكثير الشك» و «من شك بين الاثنتين والثلاث بنى على الثلاث» حيث ان الأول يهدم موضوع الثاني ، فهو يتعرض لشيء لا يتعرض له الثاني ، ضرورة أنه على تقدير وجود الشك يحكم عليه بالبناء على الثلاث ، وقوله : «لا شك» يهدم هذا التقدير وينفيه تشريعا.

والحاصل : أن الضابط المذكور لا ينطبق على حديثي الرفع و «لا تعاد الصلاة» إلّا بدعوى عدم إطلاق أدلة الاجزاء والشرائط والموانع ، لإجمالها ، وهي في حيّز المنع. أو بمنع انحصار ضابط الحكومة فيما ذكر ، وأن موارد النص والظاهر ، والأظهر والظاهر أيضا من أقسام الحكومة ، ومن المعلوم أن شمول أدلة الاجزاء والشرائط والموانع لحالات المكلف من النسيان وغيره انما هو بالإطلاق ، ومثل حديثي الرفع و «لا تعاد» يشملها بالنصوصية وان كان شموله لنفس المعنونات كالسورة المنسية بالإطلاق ، وهذا المقدار كاف في تقدم أدلة أحكام العناوين الثانوية على أدلة أحكام العناوين الأولية.

أو يقال في وجه التقدم : ان العرف يحمل العناوين الأولية على الاقتضاء والثانوية على الفعلية.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر غموض ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من أن حكومة حديث الرفع على أدلة الأحكام الأولية انما هي باعتبار عقد الوضع ، نظير قوله عليه‌السلام : «لا شك لكثير الشك» و «لا سهو مع حفظ الإمام»

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

و «لا ربا بين الوالد والولد» ونحو ذلك مما يكون أحد الدليلين متكفلا لما أريد من عقد وضع الآخر.

توضيح وجه الضعف : أن هذه الحكومة النافية للحكم بلسان نفي الموضوع يختص موردها بما إذا ثبت حكم لذلك الموضوع حتى يصح نفيه باعتبار حكمه ، مثل «لا شك لكثير الشك» فان نفي الشك مع وجوده تكوينا لا معنى له إلّا نفى حكمه المجعول له كوجوب البناء على الأكثر ، فان هذا الحكم منفي في الشك الكثير أو مع الإمام ، وكذا نفي حرمة الربا بين الوالد والولد. وأما إذا لم يثبت حكم لموضوع ، فلا معنى لنفي الموضوع ، إذ لا حكم له حتى يرد النفي عليه باعتبار حكمه. والحكومة بهذا الوجه مفقودة في المقام ، إذ مقتضاها نفى الحكم الثابت للنسيان والاضطرار ونحوهما ، فلا بد من ثبوت حكم لهذه العناوين أوّلا حتى يرتفع بمثل حديث الرفع ثانيا كي تكون حكومته باعتبار عقد الوضع.

والحاصل : أن حكومة هذا الحديث تنتج ارتفاع الحكم الثابت بالدليل لهذه العناوين الثانوية بنفس طروها ، فإذا نهض دليل على وجوب سجود السهو للكلام السهوي ، أو وجوب الدية بالقتل خطأ كان حديث الرفع بمقتضى حكومته نافيا لهذين الوجوبين بلسان نفي موضوعيهما أعني الكلام السهوي والقتل الخطائي ، وهذا خلاف المدعى أعني نفي الحكم عن الفعل الّذي جعل موضوعا له بلا شرط إذا طرا عليه نسيان ونحوه ، والمفروض أن مقتضى الحكومة نفى الحكم المجعول للنسيان كنفي حكم الشك عن كثير الشك.

فالحق أن يقال : ان ثبت الحكم للفعل مطلقا وبلا قيد كان مثل حديث الرفع

٢٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مقيدا له ، لكفاية موضوعية مثل النسيان للحكم اقتضاء في صحة ورود نفي الحكم عليه بلسان نفي الموضوع ، فينفي جزئية السورة مثلا للصلاة حال النسيان وتختص بحال الالتفات. وان ثبت له بعنوان النسيان ونحوه من العناوين الثانوية كان مثل الحديث معارضا له ، إذ المفروض ثبوت الحكم له بعنوان النسيان ، فمثل حديث الرفع يعارضه ، لأنه ينفيه بهذا العنوان أيضا ، فلا محالة يقع التعارض بينهما.

إلّا أن يقال : ان تلك الأدلة المثبتة لأحكام لعناوين ثانوية كالنسيان والاضطرار ونحوهما لأخصيتها تقدم على مثل حديث الرفع ، فان مثل ما دلّ على وجوب سجود السهو للتكلم ناسيا أخص من حديث الرفع ، فيتقدم عليه ، وإلّا يلزم لغوية الأحكام المجعولة لعنوان النسيان ونحوه.

وأما ما يقال من : أن المقتضي لشيء يمتنع أن يكون رافعا له ، فلا يرفع حديث الرفع الأحكام المترتبة على عنوان النسيان والاضطرار ونحوهما ، بل يرفع الأحكام الثابتة للأشياء مع الغض عن طروّ هذه العناوين الثانوية عليها ، فهو اعتراف بالتعارض الّذي مرجعه إلى كون شيء واحد مقتضيا لحكم تارة ورافعا له أخرى ، كما إذا دل دليل على وجوب الإرغام ودليل آخر على عدم وجوبه ، فالإرغام مقتض للوجوب تارة ورافع له أخرى ، فمجرد امتناع كون مقتضي الشيء رافعا له لا يوجب الغض عن دليل الرفع ، وإلّا لاقتضى ذلك تقدم الدليل المثبت للتكليف في جميع الأدلة المتعارضة على الدليل النافي له ، وهو كما ترى.

٢٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المبحث الخامس : أن الرفع فيما عدا «ما لا يعلمون» من الأمور التسعة واقعي وفيه ظاهري ، إذ لو كان فيه واقعيا لزم التصويب ، لإناطة الحكم حينئذ بالعلم به ، وهو محال كما ثبت في محله ، فلو جرت البراءة فيما لا يعلم ثم انكشف الخلاف. كان الاجتزاء به مبنيا على إجزاء الحكم الظاهري الّذي هو أجنبي عن باب تبدل الموضوع كالحضر والسفر حتى يكون الاجزاء فيه مقتضى القاعدة ، وحيث انه قد ثبت في محله عدم اجزاء الحكم الظاهري ، فمقتضى القاعدة لزوم إعادة الصلاة فيما إذا صلى بلا سورة مثلا استنادا في نفي جزئيتها إلى أصالة البراءة ، ثم انكشف الخلاف بنهوض دليل على جزئيتها ، إلّا إذا قام دليل على الاجزاء كحديث «لا تعاد» بناء على جريانه في الجهل بالحكم. وهذا بخلاف ما إذا كان ترك جزء أو شرط لأجل الاضطرار أو النسيان أو الإكراه ، فان مقتضى واقعية الرفع فيها الاجزاء ، لكون التقييد فيما عدا «ما لا يعلمون» واقعيا ، فالمأتي به حينئذ هو تمام المأمور به ، فالاجزاء فيها على طبق القاعدة ، إذ لا يستند كون الفاقد تمام المأمور به إلى حديث الرفع حتى يقال : ان شأنه الرفع دون الوضع.

وذلك لأن المستند فيه هو نفس أدلة الأجزاء بعد نفي جزئية المرفوع بحديث الرفع ، كما لا ينافي ارتباطية المركب كون الباقي تمام المأمور به ، ضرورة أن الارتباطية قيد للاجزاء ، ومن المعلوم أن المرفوع خرج عن الجزئية ، فلا موضوع لاعتبار الارتباطية بالنسبة إليه. وأما اعتبارها في غير المرفوع من سائر الاجزاء فهو باق على حاله.

نعم في اعتبار استيعاب الاضطرار ونحوه للوقت في الاجزاء وعدمه خلاف ، قد يقال : بعدم اعتباره ، لتشخص الطبيعة بالفرد الناقص كتشخصه بالفرد الكامل ،

٢٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبانطباقها على الناقص يسقط الأمر المتعلق بالطبيعة ، ولا معنى للامتثال عقيب الامتثال ، وهذا ما يقتضيه إطلاق حديث الرفع.

لكن الحق خلافه ، فالصحيح اعتبار استيعاب العذر من الاضطرار وغيره للوقت في الإجزاء ، إذ المأمور به هو صرف الوجود من الطبيعي الواجد لجميع ما اعتبر فيه شطرا وشرطا ، فإجزاء الفرد التام انما هو لانطباق الطبيعة بتمام حدوده الواقعة في حيّز الأمر عليه ، بخلاف الفرد الناقص ، فان مجرد فرديته للطبيعة لا يوجب الاجزاء ، بل لا بد فيه من فرديته لها بما هي مأمور بها. نعم لو كان الاضطرار ونحوه من الاعذار من الموضوعات العرضية كالفقر والغنى والسفر والحضر لم يكن لاعتبار استيعاب العذر للوقت في الإجزاء وجه ، إذ المفروض فردية الناقص حينئذ كالتام للمأمور به. لكنه غير ثابت ، لما ثبت في محله من طولية الأبدال الاضطرارية التي لا يصدق الاضطرار المسوغ لها إلّا مع استيعابه لتمام الوقت المضروب للمبدل ، إذ المضطر إليه ليس هو الفرد بل الطبيعة في تمام الوقت المضروب لها ، والاضطرار إليها موقوف على الاستيعاب.

نعم إذا دل الدليل على كفاية العذر في فرد من أفراد الطبيعة في جزء من الوقت فلا بأس بالاجزاء حينئذ كحديث «لا تعاد» حيث ان نفس «لا تعاد» لدلالته على الإيجاد ثانيا يدل على أن مورده الفرد مطلقا سواء تم أم لم يتم بعد ، وسواء كان في سعة الوقت أم في ضيقه ، فيجري حديث «لا تعاد» في نفى جزئية السورة المنسية مثلا في أثناء الصلاة وبعدها من دون اعتبار استيعاب هذا العذر للوقت.

والحاصل : أن إطلاق حديث الرفع كغيره من أدلة الأبدال الاضطرارية

٢٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

محل إشكال ، بل منع ، فإثبات الاجزاء به في غير العذر المستوعب مشكل جدا. هذا كله في التكاليف الضمنية.

وأما التكاليف الاستقلالية كالشك في حرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة تصوير ذوات الأرواح أو حرمة وطء الحائض بعد النقاء وقبل الاغتسال ونحو ذلك ، فمقتضى «رفع ما لا يعلمون» جواز ذلك كله ظاهرا ، كما أنه مقتضى غيره من الإكراه والاضطرار أيضا ، غاية الأمر أن الرفع فيما لا يعلمون ظاهري وفي غيره واقعي كما مرت الإشارة إليه ، فإذا أكره على شرب الخمر أو الزنا أو السرقة أو الإفطار في شهر رمضان ونحو ذلك ، أو اضطر إلى شيء من ذلك جاز له فعلها ، وليس بحرام واقعا ، بخلاف الارتكاب فيما لا يعلمون ، فلو تبين بعد الارتكاب حرمته كان معذورا في فعل الحرام الواقعي.

وبالجملة : فحديث الرفع يقدم على أدلة الواجبات والمحرمات حكومة أو تخصيصا على الخلاف المتقدم.

ودعوى عدم مسوغية الإكراه لترك الواجب وفعل الحرام إلّا إذا بلغ حد الحرج كما عن بعض (١) الأعاظم (قده) «واختصاص مجرى ـ رفع ما استكرهوا عليه ـ بالمعاملات بالمعنى الأخص ، حيث ان الإكراه على الشيء يصدق بمجرد عدم الرضا بإيجاده الناشئ من الإيعاد اليسير أو أخذ مال كذلك» لا تخلو من الغموض ، لما فيها أولا : من أنه تقييد لإطلاق حديث الرفع بلا دليل. وثانيا من أنه أخص من المدعى ، حيث انه يدل على عدم مسوغية الإكراه ببعض مراتبه لترك الواجب وفعل الحرام ، ولا مضايقة في ذلك بالنسبة إلى بعض الكبائر من

__________________

(١) هو شيخنا المحقق العراقي قدس‌سره.

٢٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المحرمات ، ولا ينفي مسوغية الإكراه بجميع مراتبه.

وثالثا : من أنه مناف لما ورد بالخصوص في رفع الإكراه للتكاليف التحريمية في موارد :

منها : إظهار كلمة الكفر ، كقوله تعالى : «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» (١) ففي مجمع البيان : «قيل نزل قوله : الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان في جماعة أكرهوا وهم عمار وياسر أبوه وأمه سمية وصهيب وبلال وخباب عذِّبوا ، وقتل أبو عمار وأمه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال قوم : كفر عمار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّا انّ عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه» (٢).

ومنها : إكراه المرأة على الزنا ، فانه رافع للحد الملازم للحرمة التكليفية كما رواه أبو عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «ان عليا عليه‌السلام أتي بامرأة مع رجل فجر بها ، فقالت استكرهني والله يا أمير المؤمنين ، فدرأ عنها الحد» الحديث (٣) ، وقريب منه غيره.

ومنها : إكراه الزوجة على الجماع في نهار شهر رمضان أو في حال الإحرام وغير ذلك من موارد الإكراه على المحرمات ، فالإكراه يرفع الحكم التكليفي والوضعي الملازم له أو المترتب عليه.

وبالجملة : فالإكراه يجري في الأحكام التكليفية والوضعيّة معا إلّا ما خرج

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ١٠٦

(٢) مجمع ، البيان ج ٥ ص ٣٨٧ طبع بيروت.

(٣) الوسائل ج ١٨ ، الباب ١٨ من أبواب حد الزنا الحديث ١.

٢٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالدليل ، كالجنابة وإتلاف مال الغير والصيد في حال الإحرام ، فان الإكراه في هذه الأمور لا يرفع الأحكام الوضعيّة المترتبة عليها ، حيث ان حديث الرفع من العمومات القابلة للتخصيص ، فأدلة أمثال هذه الأمور تخصص عموم حديث الرفع.

وأما الإكراه في المعاملات ، فان كان على ترك إيجاد أصلها أو ما يقوّمها عرفا كالإكراه على البيع بلا ثمن فلا أثر لهذا الترك حتى يرتفع بالإكراه ، فلا يجري فيه حديث الرفع ، لعدم تحقق عنوان المعاملة حتى يرتفع أثرها بالإكراه ، فعدم الأثر حينئذ انما هو لعدم الموضوع. وان كان الإكراه على إيجاد مانع من موانع صحتها شرعا كالإكراه على بيع أحد المتجانسين بالآخر بالتفاضل ، فمقتضى ارتفاع المانع الشرعي بحديث الرفع صحة المعاملة ، لكنها تنافي الامتنان الّذي هو شرط جريانه ، فلا يجري فيه ، ولا يحكم بصحة المعاملة إلّا إذا كان مضطرا ، فحينئذ تصح لأجل الاضطرار ، حيث ان عدم صحتها يوجب شدة اضطراره ، ويكون خلاف الامتنان.

ومثله ما إذا كان الإكراه على ترك جزء أو شرط ، فان الحديث لا يجري في نفي الجزئية أو الشرطية حتى يحكم بصحة المعاملة ، لأن جريانه خلاف الامتنان إلّا مع الاضطرار ، فعدم جريانه حينئذ انما هو لأجل عدم الامتنان ، لا لعدم الأثر لترك الجزء أو الشرط كما قيل ، وذلك لأن الحديث ينفي إطلاق الجزئية أو الشرطية لجميع الحالات التي منها تركهما بالإكراه ، ومع نفيهما لا بد من الحكم بصحة المعاملة ، لأن الفاقد حينئذ تمام السبب المؤثر على ما يقتضيه دليل السببية بعد إسقاط الجزئية أو الشرطية بحديث الرفع. إلّا أن منافاة صحة المعاملة للامتنان

٢٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مانعة عن جريان الحديث فيها ، فلا تسقط الجزئية أو الشرطية بالإكراه حتى يصلح فاقد الجزء أو الشرط للسببية والتأثير ، وعليه فلا وجه لصحة المعاملة حينئذ.

واما الإكراه في الأسباب كالإكراه على قتل الغنم بغير الكيفية الموجبة لذكاتها كالذبح بغير التسمية أو إلى غير القبلة أو فري بعض الأوداج ، أو إكراه من طلق زوجته ثلاثا على تزويجها قبل أن ينكحها المحلل ، ونحو ذلك ، فلا بد فيه من ملاحظة كيفية دخل ما اعتبر في سببيتها ، فان اعتبر فيها مطلقا وفي جميع الحالات ، فلا يؤثر فيها الإكراه أصلا ، وإلّا فالإكراه يرفع أثر ما أكره عليه مع موافقة رفعه للامتنان. ففي الإكراه على ترك استقبال الذبيحة أو ترك التسمية يجري الحديث ظاهرا ، وبه يرتفع شرطيتهما ويحكم بحلية الذبيحة ، وفي غيرهما وكذا سائر الموارد يتبع دلالة أدلة الشرائط ، ومن المعلوم اختلاف الأدلة في ذلك فان المتسالم عليه بين الأصحاب عدم ارتفاع شرطية الطهارة الحدثية والخبثية بالإكراه على أسبابها ، فلو أكره على الجنابة أو ما يوجب الوضوء أو نجاسة بدنه لا ترتفع شرطية الغسل والوضوء والتطهير للصلاة.

وبعبارة أخرى : لو ثبت بأدلة الأسباب سببيتها المطلقة وفي جميع حالات المكلف لم يصلح حديث الرفع لرفع آثارها الشرعية ، فلا يقال : «ان الإكراه على الجنابة يرفع شرطية الغسل للصلاة والطواف ونحوهما» كما لا يقال : «ان وجه عدم ارتفاع شرطيته بالإكراه على الجنابة هو منافاة ارتفاعها للامتنان ، حيث ان الشرط هو الغسل المستحب في نفسه» وذلك لأن المرفوع بناء على جريان الحديث هو حيثية الشرطية ، فلا مانع من بقاء الاستحباب النفسيّ للغسل مع ارتفاع شرطيته الموجبة للضيق. مضافا إلى أن منافاة ارتفاع شرطية

٢٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الغسل للامتنان تقتضي عدم ارتفاعها بالإكراه على ترك نفس الغسل ، مع أن هذا القائل يلتزم حينئذ بسقوط الغسل والانتقال إلى التيمم ، فتأمل (١).

نعم إذا بلغ الإكراه حدا لا يقدر معه عرفا على الغسل في تمام الوقت انتقل تكليفه حينئذ إلى التيمم ، كما أنه لو بلغ الإكراه على التيمم ذلك الحد كذلك صار كفاقد الطهورين الّذي حكم المشهور فيه بسقوط التكليف عنه ، أو صار كتارك الصلاة في الوقت عن عذر في وجوب القضاء عليه. وكذا الإكراه على ترك الطهارة الخبثية ، فإذا أكره على ترك تطهير البدن أو الساتر إلى أن ضاق الوقت وعجز عن غسلهما سقطت مانعية النجاسة بعدم التمكن من تطهيرهما ووجبت الصلاة كذلك.

المبحث السادس : الظاهر أن المرفوع بحديث الرفع ونحوه من أدلة الأحكام الامتنانية في غير الحكم المجهول الّذي تجري فيه البراءة هو مجرد الإلزام مع بقاء الملاك بحاله ، إذ الامتنان يرفع ما يوجب المشقة ، ومن المعلوم أن ذلك ليس إلّا الإلزام ، فلا موجب لارتفاع غيره من المصلحة الداعية إلى تشريعه بعد وضوح عدم ضيق ومشقة فيه ، بل ارتفاعه خلاف المنة.

فما عن المشهور «من كون المرفوع الحكم مع ملاكه ، لوجهين : أحدهما عدم الدليل على بقاء الملاك بعد ارتفاع الحكم ، والآخر : عرضية البدل الاضطراري ومبدله في مثل الوضوء الحرجي ، حيث ان الوضوء محكوم حينئذ بالصحّة مع كونه بدلا اضطراريا ، ومقتضى طولية الأبدال الاضطرارية ترتب مشروعيتها

__________________

(١) وجه التأمل عدم سقوط الغسل ، إذ الانتقال إلى البدل الاضطراري غير سقوط المبدل ، لأنه بدل موقت له.

٢٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على ارتفاع أحكام مبدلاتها ، فالحرج يوجب سقوط وجوب الوضوء الحرجي وثبوت وجوب بدله وهو التيمم ، فصحة الوضوء الحرجي توجب عرضية وجوبي التيمم والوضوء ، وهذا خلاف مقتضى طولية بدلية الأبدال الاضطرارية» لا يخلو من الغموض ، لما في كلا الوجهين من الإشكال :

إذ في أولهما : أن الامتنان قرينة على كون المرفوع ما يوجب الضيق ، وقد عرفت أن الموجب له هو نفس الإلزام دون ملاكه ، بل ارتفاعه خلاف الامتنان ، لأنه يوجب حرمانه عما فيه صلاحه كما أشرنا إليه آنفا.

وفي ثانيهما : أن اللازم وهو عرضية صحة البدل والمبدل غير باطل ، والباطل وهو عرضية وجوبيهما غير لازم ، وذلك لكفاية المحبوبية والمصلحة في صحة المبدل وعدم احتياجها إلى الأمر حتى يلزم عرضية وجوبي المبدل والبدل ، بل يلزم عرضية صحتهما ، وهو مما لا محذور فيه. بل يمكن نسبة بقاء المصلحة وعدم ارتفاعها بارتفاع الإلزام إلى المشهور أيضا الذين نسبت إليهم صحة الوضوء الحرجي ، إذ لو كان المرفوع بدليل رفع الحرج التكليف وملاكه معا لم يكن حينئذ لصحة الوضوء الحرجي ونحوه وجه ، إذ المفروض ارتفاع كل من الأمر وملاكه مع وضوح اعتبار أحدهما في صحة العبادة.

وكيف كان فقد ظهر مما بينا ضعف ما عن شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) من «أنه لا دليل على بقاء الملاك والمحبوبية بعد ارتفاع الإلزام الّذي هو الكاشف عنهما» وجه الضعف ما عرفته من دليلية نفس الامتنان على بقائهما ، ومع الشك في بقائهما يجري استصحابهما ويترتب عليه جواز التقرب بهما.

نعم يعتبر في بقاء الملاك والمحبوبية في موارد ارتفاع الأحكام امتنانا أن لا يرد

٢٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فيها نهي كموارد الضرر ، فان الماء إذا كان مضرا كانت الطهارة المائية منهيا عنها ، والنهي يستدعي المبغوضية المنافية للمحبوبية المتوقفة عليها العبادة ، فيقتضي الفساد ، وليس فيه ما يقتضي الصحة من أمر أو ملاك.

وبالجملة : فالمعتبر في بقاء الملاك عدم ورود نهي في المورد ، ولذا يفرق بين الضرر والحرج بصحة العبادة مع الثاني دون الأول.

المبحث السابع : أن المرفوع لمّا كان حكما شرعيا مترتبا على فعل المكلف بما هو فعله ، حيث ان متعلقات الأحكام الشرعية هي أفعال المكلفين بما هي أفعالهم ، فلا يصح أن يرفع بحديث الرفع الا الحكم المترتب على الفعل بما هو صادر عن المكلف ، فلو لم يلاحظ في الأثر الشرعي ترتبه على فعل المكلف بهذه الحيثية ، بل لوحظ ترتبه عليه بمطلق وجوده وان صدر عن غير مكلف بل غير إنسان لم يصح نفيه بحديث الرفع في حال أصلا ، نظير ملاقاة جسم طاهر لنجس أو متنجس مع الرطوبة ، فان الملاقاة مطلقا سواء كان موجدها مكلفا أم صبيا ، بل حيوانا أو ريحا توجب النجاسة ، وكذا خروج المني من البدن ، والتقاء الختانين ، وفوت الفرائض التي لها قضاء ، فان الجنابة تترتب على الأولين من دون لحاظ كون الخروج والالتقاء فعل المكلف ، فلو خرج المني حال النوم ، أو حصل التقاء الختانين إكراها أو بفعل ثالث لم يصح أن يتمسك لعدم سببيتهما للحدث الأكبر بحديث الرفع ، إذ لم يلاحظ في سببيتهما له فعل المكلف. وكذا لم يلاحظ في وجوب قضاء الصلاة والصوم إلّا الفوت وان لم يستند إلى فعل المكلف ، فلو فات أداؤهما إكراها أو نسيانا أو حال النوم بدون سبق النية في الصوم وجب قضاؤهما ، ولا يصح التشبث

٢٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بحديث الرفع لنفي وجوبه.

ومما ذكرنا يظهر : أنه لا حاجة إلى التمسك بالإجماع لخروج حكم تنجس الملاقي للنجس أو المتنجس عن حديث الرفع كما نسب إلى المحقق النائيني (قده) لما عرفت من أن خروج ذلك ونظائره عنه موضوعي لا حكمي حتى نحتاج في خروجها عنه إلى التشبث بالإجماع.

المبحث الثامن : أن البراءة العقلية لما كان ملاكها نفي العقاب اختصت بالتكاليف الإلزامية ، لاختصاص العقاب بها ، فلا تجري في غير الإلزاميات.

وأما البراءة الشرعية ، فان كان الحكم المشكوك غير الإلزامي من التكاليف الاستقلالية كاستحباب صوم يوم خاص أو صلوات مخصوصة في أوقات معينة كالصلوات الواردة بطرق ضعيفة في ليالي الشهور الثلاثة المعظمة بكيفيات خاصة فلا تجري فيه ، إذ الغرض من رفع الحكم في مرحلة الظاهر عدم وجوب الاحتياط ، وهذا غير حاصل في التكاليف الاستقلالية ، إذ لا شك في استحباب الاحتياط عند الشك في استحباب شيء ، وهذا كاشف عن عدم ارتفاع التكليف المحتمل في مرحلة الظاهر ، فلا يشمله حديث الرفع. وهذا بخلاف التكاليف الضمنية ، فالأمر بالاحتياط عند الشك فيها وان كان ثابتا بلا كلام ، إلّا أن اشتراط العمل المشتمل عليه به مجهول ، فتجري البراءة في شرطيته ، إذ لو كان شرطا لما جاز الإتيان بالمركب فاقدا له بداعي الأمر.

استطراد : قد اشتمل حديث الرفع على الحسد والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق ، وقد احتمل أن يكون المرفوع المؤاخذة على هذه الأمور.

لكنه ضعيف ، لأن الرفع تشريعي ، والمؤاخذة أمر تكويني ، واستحقاقها حكم

٢٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عقلي ، وليس شيء منهما مما تناله يد التشريع وضعا ورفعا ، والمناسب للرفع هنا هو الحرمة التي تقتضيها هذه الثلاثة ، فهي التي رفعت منة على هذه الأمة.

لا يقال : ان متعلق التكليف وجوبيا كان أم تحريميا لا بد أن يكون اختياريا للمكلف ، والحسد من الصفات الرذيلة النفسانيّة غير الاختيارية ، فلا حرمة لها ولو اقتضاء حتى يرفعها الحديث.

فانه يقال : نعم ، لكن مباديها اختيارية ، فيمكن تعلق التحريم بالحسد باعتبار اختيارية مباديه ، فالحسد يقتضي جعل الحرمة ، والشارع منّة على الأُمة منع عن تأثيره في مقتضاه ، لكن المرفوع حرمة نفس الحسد لا آثاره العملية التي دلت النصوص على حرمة ترتيبها.

وكذا المرفوع في الطيرة ، فانه حرمة التزام العرف بالتطير والتشؤم وعدم الإقدام في أمورهم ، فالحرمة التي جعلها العقلاء مانعة عن تمشية أمورهم وموجبة لصدّ مقاصدهم مرفوعة ـ أي غير ممضاة ـ شرعا ، فليس لهم الاعتناء بالتطير في تعطيل أشغالهم وتعويق أعمالهم.

وكذا المرفوع في التفكر ، فانه فيه هو الحرمة أيضا ، يعني : أن حرمة الوسوسة في أمر الخلقة على احتمال ، أو في أمور الخلق وسوء الظن بهم على احتمال آخر مرفوعة ، واحتمال كون المرفوع وجوب التحفظ وصَرف الذهن وإجالة الفكر في أمور غير مرتبطة بأمر الخلقة بعيد ، للاحتياج إلى التقدير ، مع أن الرفع أسند إلى نفس هذه الأمور الثلاثة لا إلى أمر آخر.

٢٣٥

ومنها (١) : حديث الحجب (٢) ، وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع (٣).

______________________________________________________

(٢ ـ حديث الحجب)

(١) أي : ومن الروايات المستدل بها على البراءة : حديث الحجب.

(٢) رواه الصدوق في توحيده عن الإمام الصادق عليه‌السلام كما في الوسائل (١) هكذا : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» ولكن رواه في الكافي (٢) بدون كلمة «علمه». وأما سنده فقد عبر عنه في القوانين والفصول بالموثق ، ولعله لاستظهار أن «أبا الحسن زكريا بن يحيى» الواقع في سنده هو الواسطي أو التميمي الثقتان ، ولكن لم يحصل وثوق بكونه أحدهما مع كثرة من سمي بزكريا بن يحيى ووحدة طبقة أكثرهم وعدم ثبوت وثاقة جلهم كما في كتب الرّجال وان استظهر في جامع الرّواة (٣) أنه هنا هو الواسطي من دون بيان منشأ الاستظهار ، فيشكل حينئذ عدّ الحديث موثقا أو حسنا ، ولعله لما ذكرنا قال العلامة المجلسي في مرآة العقول : «ان الحديث مجهول».

(٣) يعني : أن الإلزام المجهول مما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ، وتوضيحه يتوقف على بيان مفردات الحديث ، وهي الحجب والعلم والوضع.

أما الحجب فهو لغة بمعنى الستر ، والمحجوب هنا هو الحكم الشرعي الواقعي المجهول لا الملاكات والمقتضيات ، حيث ان وظيفة الشارع من حيث

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، كتاب القضاء ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٦٤ ، الحديث : ١.

(٣) ج ١ ص ٣٣٤.

٢٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

انه شارع بيان الأحكام ، وحجب الحكم يتحقق تارة بأمره حججه عليهم‌السلام بعدم تبليغه إلى العباد ، وأخرى باختفائه عنهم بعد تبليغه ، لمعصية العصاة المانعة عن وصوله إلى المكلفين.

وأما العلم ، فالمراد به حيث يطلق في الروايات وغيرها هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، لا كل اعتقاد جازم وان كان مخطئا.

وأما كلمة «وضع» فان تعدّت بحرف الاستعلاء دلّت على جعل شيء على شيء وإثباته عليه ، وان تعدت بحرف المجاوزة دلت على معنى الإسقاط والإحطاط كقوله تعالى : «وضع عنهم إصرهم» أي أسقطها عنهم ، و «وضع عنه الدين» أي : أبرأه عن الدين وأسقطه عن ذمته ، ومن المعلوم أن إسقاط الحق عن الذّمّة فرع استقراره فيها.

وقد ظهر مما ذكرنا تقريب الاستدلال بالحديث على البراءة ، حيث انه يدل على أن الحكم الواقعي المجهول قد وضعه الشارع عن العباد ورفعه عنهم فعلا ، فيكون المراد بحجبه عدم وصوله ، سواء كان بعدم بيانه أم بإخفاء الظالمين له ، ومن الواضح أن المرفوع ليس نفس الحكم الواقعي المجهول ، لاستلزامه التصويب ، فلا بد أن يكون الموضوع عن العباد إيجاب الاحتياط ، وبهذا التقريب يتم دلالة الحديث على البراءة بحيث يصلح للمعارضة مع أدلة المحدثين على الاحتياط المقتضية لاشتغال الذّمّة بالتكاليف الواقعية المجهولة. بل هذا أظهر في الدلالة على البراءة من حديث الرفع ، إذ المراد بالموصول هنا لا محالة واحد وهو الحكم ، بخلاف الموصول في «ما لا يعلمون» كما تقدم.

هذا تقريب الاستدلال به على البراءة في الشبهات الحكمية. وأما تعميمه للشبهات الموضوعية فبما أفاده المصنف في حاشية الرسائل بقوله : «يمكن شموله

٢٣٧

إلّا أنه (١) ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم

______________________________________________________

للشبهة الموضوعية أيضا بأن المراد من الموصول هو خصوص الحكم المحجوب علمه مطلقا ولو كان منشأ الحجب اشتباه الأمور الخارجية ، ولا يحتاج مع ذلك إلى تقدير ، فان الحكم مطلقا بنفسه قابل للرفع والوضع (*) فافهم».

(١) أي : إلّا أن الاستدلال يشكل ، والمستشكل هو شيخنا الأعظم ، حيث قال بعد تقريب الاستدلال : «وفيه : أن الظاهر مما حجب الله علمه ما لم يبينه

__________________

(*) لا إشكال في ذلك ، انما الإشكال في صحة اسناد الحجب إليه تعالى في الشبهات الموضوعية مع كون «حَجَب» بصيغة المعلوم ، ضرورة أنه سبحانه وتعالى ليس حاجبا للحكم فيها ، بل الحاجب له هي الأمور الخارجية. نعم يتجه التعميم بناء على كونه بصيغة المجهول ، لكنه ليس كذلك. فدعوى اختصاص الحديث حينئذ بالشبهات الحكمية قريبة جدا ، ولعل أمره (قده) بالفهم إشارة إلى هذا.

بل يمكن أن يقال : انه سبحانه وتعالى لم يحجب شيئا من الأحكام الشرعية عن العباد ، وبيّن جميعها للحجج الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين حتى أرش الخدش كما في النصوص ، فالمحجوب علمه عن العباد أجنبي عن الأحكام الفرعية ومغاير لها كوقت ظهور الإمام الثاني عشر عجل الله تعالى فرجه الشريف فان علمه محجوب عن العباد ، ووجوب الفحص عن ذلك موضوع عنهم. وعليه فحديث الحجب أجنبي عن أدلة البراءة ، فالاستدلال به على البراءة مطلقا حتى في الشبهات الحكمية مشكل جدا ، وهذا الإشكال لا يجري في سائر أدلة البراءة ، لعدم اسناد الحجب فيها إليه جل شأنه ، بل المدار فيها هو عدم العلم بالحكم سواء كان الجهل به لمفسدة في إظهار الحجج عليهم‌السلام له أم لإخفاء العصاة اللئام له.

٢٣٨

من (١) التكليف ، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه (٢) ، لعدم أمر رسله بتبليغه ،

______________________________________________________

للعباد ، لا ما بيّنه واختفي عليهم من معصية من عصى الله في كتمان الحق أو ستره ... إلخ» وحاصله : المناقشة في ما تقدم بيانه في معنى الحجب ومنع عمومه ، توضيحه : أن اختفاء الحكم قد يستند إلى وجود مصلحة في إخفائه أو مفسدة في إظهاره ، وقد يستند إلى انطماس أدلة الأحكام من جهة تقصير العصاة اللئام ، ومحل البحث في البراءة هو الثاني ، وحينئذ فنقول : إذا كان الحديث دالا على كون الحكم المختفي علمُه عن العباد ـ لأجل طروء الحوادث الخارجية ـ مع بيانه وصدوره عنهم عليهم‌السلام موضوعا عنهم ، فقدتم الاستدلال به.

وأما إذا كان دالا على أن الحكم إذا اختفي علمه عن العباد وكان اختفاؤه عنهم مستندا إلى عدم إظهاره لهم أصلا ، فهو أجنبي عن البراءة ، فان الحكم حينئذ باق على إنشائيته ولم يصل إلى مرتبة الفعلية ، ومن المعلوم أن ظاهر الحديث الشريف بقرينة نسبة الحجب إلى نفسه تعالى هو هذا الاحتمال الثاني ، فمعناه : أن ما لم يبيِّنه الله للعباد فهو موضوع عنهم ، وأما ما بيّنه واختفي علينا بسوء أعمالنا فلا يصدق أنه تعالى حجب علمه علينا ، إذ الحاجب حينئذ غيره ، فلا يكون موضوعا عن العباد ، فلا يصح الرجوع فيه إلى هذا الحديث ، كما لا يصح الرجوع إليه في حكم شُك في كونه من قبيل القسم الأول أو الثاني ، لعدم صحة الرجوع إلى الدليل مع الشك في موضوعه.

(١) كما هو المطلوب في البراءة ، و «بدعوى» متعلق بـ «يشكل» وبيان له وقد عرفته ، وضمير «ظهوره» في الموضعين راجع إلى حديث الحجب.

(٢) أي : على ما لا يعلم من التكليف ، وضمير «بتبليغه» راجع إلى الموصول

٢٣٩

حيث انه (١) بدونه لما صح اسناد الحجب إليه تعالى (*).

ومنها (٢) قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك حلال حتى تعرف

______________________________________________________

في «ما تعلقت» المراد به الحكم الّذي منع اطلاع العباد عليه.

(١) الضمير للشأن ، وضمير «بدونه» راجع إلى منعه تعالى اطلاع العباد عليه ، وحاصله : أن حجب الله تعالى لا يصدق إلّا في صورة عدم أمره تعالى رسله بالتبليغ ، إذ الحكم الّذي أمر رسله بتبليغه لا يصدق عليه أنه تعالى حجبه عن العباد كما هو واضح ، فهذا الحديث الشريف لا يصلح لأن يكون مستندا لأصل البراءة.

٣ ـ حديث الحل

(٢) أي : ومن الروايات المستدل بها على البراءة قوله عليه‌السلام .... ، والظاهر أن المصنف اعتمد في نقل هذا الحديث بالمتن المذكور على ما استدل به شيخنا الأعظم تارة في الشبهة الحكمية التحريمية في تعقيب كلام السيد الصدر بقوله : «كما في قوله عليه‌السلام في رواية أخرى : كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام» وأخرى في الشبهة الموضوعية التحريمية بقوله :

__________________

(*) ولو سلم دلالة الحديث على البراءة لاختص بالشبهات الحكمية ، لاختصاص منشأ الشك بمقتضى اسناد الحجب إليه تعالى بعدم بيان الشارع ، وعدم شموله لما إذا كان منشأ الشك الأمور الخارجية ، لعدم كون الحجب حينئذ مستندا إليه جل وعلا ، ومجرد قدرته سبحانه على رفع جهل العبد تكوينا في الشبهات الموضوعية لا يصحح اسناد الحجب إليه عظمت آلاؤه.

فالمتحصل : أن الحديث الشريف لو سلمت دلالته على البراءة لاختص بالشبهات الحكمية.

٢٤٠