منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين سيّما الامام المبين وغياث المضطر المستكين عجل الله تعالى فرجه الشريف واللعن المؤيد على أعدائهم أجمعين وبعد فهذا هو الجزء الثامن من كتاب (منتهى الدراية في توضيح الكفاية) وفقنا لاعداده للطيع وهو يتبع الأجزاء المتقدمة في النهج والترتيب وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.

٣
٤

المقصد الثامن في تعارض (١) الأدلة والأمارات

______________________________________________________

تعارض الأدلة والأمارات

(١) هذا هو الصحيح المذكور في النسخة الأصلية المصححة بقلم المصنف «قده» فالتعبير بـ «مبحث التعادل والترجيح» كما في بعض نسخ الكتاب لعله من سهو الناسخ أو الطابع.

ثم إن في عبارة المتن جهات من البحث نتعرض لبعضها في التوضيح ولبعضها في التعليقة.

فمنها : جعل مباحث التعادل والترجيح من مقاصد علم الأصول لا خاتمة مباحثه.

ومنها : أولوية التعبير ببحث تعارض الأدلة من التعبير ببحث التعادل والترجيح.

ومنها : إرادة معنى واحد من الأدلة والأمارات هنا أو إرادة معنيين.

وقبل التعرض لهذه الجهات لا بأس ببيان الوجه الموجب للبحث عن التعادل والترجيح ، فنقول وبه نستعين : إنّ همّ الفقيه من تنقيح مباحث الأصول هو تحصيل الحجة على الحكم الشرعي ، ولا ريب في أنّ فعلية كل حجة ـ بمعنى جواز الاستناد إليها في مقام الاستنباط ـ تتوقف على وجود المقتضي للحجية وفقد المانع عنها.

وتوضيحه : أن استنباط الحكم الشرعي من أخبار الآحاد ـ التي هي عمدة أدلة الفقه ـ منوط بأمور :

الأول : حجية خبر الواحد ، بأن يكون خبر العدل أو الثقة طريقا الإحراز صدور الحكم

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الشرعي من النبي والولي صلى الله عليهما وآلهما».

الثاني : ظهور الألفاظ الواردة في الخبر في معانيها وعدم إجمالها ، كدلالة صيغة «افعل» على الوجوب ، ودلالة صيغة «لا تفعل» على الحرمة ، ودلالة الجملة الشرطية على المفهوم ، وألفاظ العموم على العموم ، وعدم دلالة الأمر الواقع عقيب الخطر أو توهمه على الوجوب ، وغير ذلك من الأمور المبحوث عنها في مباحث الألفاظ الراجعة إلى تعيين صغريات الظهورات.

الثالث : حجية ظواهر الألفاظ بنحو الكبرى الكلية ، سواء وردت في الكتاب أم في السنة ، في قبال من يدّعي اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه ، أو غير ذلك.

الرابع : علاج تعارض الأخبار ، لما يتراءى من التنافي بين الأخبار المأثورة عن الأئمة المعصومين «عليهم أفضل صلوات المصلين» خصوصا في أبواب العبادات.

أما الأمر الأول فيتكفله بحث خبر الواحد ، إذ قد عرفت هناك وفاء الأدلة ـ من الكتاب والسنة المتواترة إجمالا والسيرة العقلائية الممضاة شرعا ـ بإثبات اعتبار خبر الثقة أو الموثوق به.

وأما الأمر الثاني فيتكفله العرف واللغة ، وقد تقدم في مباحث الألفاظ جملة منها.

وأما الأمر الثالث فيبحث عنه في مسألة حجية ظواهر الألفاظ ، وأنّ ظواهر الكتاب والسنة تكون حجة في حقنا كحجيتها في حق الموجودين في عصر التخاطب.

وبتمامية هذه الأمور الثلاثة يتمّ المقتضي لحجية خبر الواحد ، فإذا تصدى المجتهد للاستنباط ولم يكن للخبر معارض كان الخبر حجة فعلية أي منجّزا للواقع على تقدير الإصابة ، ومعذّرا عنه على تقدير الخطأ. وإن كان للخبر معارض أو معارضات لم يجز التمسك به إلّا بعد علاج التعارض ، وذلك لقصور أدلة حجية الخبر وظاهر الكلام عن شمولها لحال التعارض بناء على ما هو الحق من حجية الأمارات على الطريقية ، وحينئذ يكون أحد الخبرين المتعارضين حجة شأنية لا حجة فعليّة ، ومن المعلوم أن ما يصلح للاستناد إليه في مقام الاستنباط هو الحجة الفعلية لا الاقتضائية ، وتتوقف هذه الحجية الفعلية ـ في الأخبار المتعارضة ـ على قيام دليل ثانوي على حجية أحد الخبرين تعيينا أو تخييرا. وهذا المقصد الثامن يتكفل البحث عن هذا الدليل الثانوي ، ويعيّن وظيفة

٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الفقيه الّذي يواجه الأخبار المتعارضة في كثير من الأبواب ، ويلزم البحث حينئذ عن جهات

منها : أن الأصل في تعارض الخبرين هو التخيير أو التساقط.

ومنها : حجية المتعارضين في المدلول الالتزامي أعني نفي الثالث وعدمها.

ومنها : عدد المرجحات واعتبار الترتيب بينها وعدمه.

ومنها : التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى كل ما يوجب أقربية أحد المتعارضين إلى الواقع وعدمه.

ومنها : حكم معارضة أكثر من خبرين ومسألة انقلاب النسبة. وغير ذلك مما سيأتي بحثه في هذا المقصد إن شاء الله تعالى.

إذا اتضح ما ذكرناه من شدة الحاجة إلى تنقيح مسائل تعارض الأدلة لدخلها في الاستنباط ، فلنعد إلى ما

أردنا بيانه من الجهات الثلاث ، فنقول :

أما الجهة الأولى : فمحصّل الكلام فيها : أنه قد جعل جمع من الأصحاب المسائل الباحثة عن أحكام تعارض الأدلة في خاتمة مباحث علم الأصول ، كما جعلها جمع من المقاصد ، فمن الطائفة الأولى صاحب المعالم والقوانين والفصول وشيخنا الأعظم ، ففي المعالم والرسائل : «خاتمة في التعادل والترجيح» وفي القوانين : «خاتمة في التعارض والتعادل والترجيح» وفي الفصول : «خاتمة في تعارض الأدلة». ومن الطائفة الثانية العلامة في محكي التهذيب والمحقق الرشتي في البدائع (١) والمصنف «قدس‌سرهم».

والظاهر أن ما صنعه المصنف أولى ، إذا البحث عنه بعنوان الخاتمة ربما يكون ظاهرا في خروجه عن مسائل علم الأصول كخروج الأمور المبحوث عنها في المقدمة ـ كمسألة الاشتراك والصحيح والأعم والمشتق ونحوها ـ عن مسائل العلم ، مع وضوح انطباق ضابط المسألة الأصولية عليه ، فان تعريف علم الأصول ـ سواء أكان هو «العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الكلية» أم كان هو «ما يبحث فيه عن عوارض الأدلة» أم غيرهما ـ ينطبق على أحكام تعارض الأدلة ، فلا وجه لجعلها خاتمة العلم. إلّا إذا أريد اختتام مسائل علم الأصول بها ، لا خروجها عن حاقّ مباحثه.

__________________

(١) بدائع الأفكار ، ص ٤٠٦

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي المقام احتمال ثالث له وجه وجيه ، وهو ما نبّه عليه سيدنا الفقيه الأعظم الأصفهاني «قده» من أنه ينبغي جعل هذا المقصد الثامن تتمة لمباحث حجية خبر الواحد ، لرجوع البحث فيه إلى حجية الخبر المعارض وعدمها ، كحجية خبر غير المعارض ، فراجع تقرير بحثه الشريف (١).

وأما الجهة الثانية ، فتقريبها : أنهم جعلوا عنوان هذه المباحث تارة «التعادل والترجيح» بلفظ المفرد ، أو «التراجيح» بصيغة الجمع ، المذكورين في عدة من كتب الأصول ، وأخرى «تعارض الأدلة» كما في المتن وعدّة أخرى من العبارات. والظاهر أولوية التعبير الثاني من الأوّل ، لأن «تعارض الأدلة» عنوان جامع لكل من المتعارضين المتعادلين في المزايا ، والواجد أحدهما لمزيّة دون الآخر. ومع كون نفس الكلي ـ مع الغض عن خصوصيات أفراده ـ ذا حكم فالأنسب جعل نفسه عنوان البحث دون أفراده ، ومن المعلوم أن لنفس التعارض أحكاما ، مثل كون الأصل فيه التساقط أو التخيير ، ومثل أولوية الجمع بينهما مهما أمكن من الطرح ، ونحوهما.

مضافا إلى مناسبة هذا العنوان لما ورد في بعض أخبار العلاج أعني به مرفوعة زرارة التي فيها «الخبران المتعارضان».

ولعلّ نظر المحقق القمي «قده» ـ في الجمع بين الألفاظ الثلاثة المذكورة ـ إلى التنبيه على تكفل هذا البحث لأحكام نفس الكلي وأفراده معا ، فتأمل جيّدا.

وأما الجهة الثالثة ، فتقريبها : أنهم اصطلحوا على تسمية الطريق المعتبر في الأحكام بالدليل وفي الموضوعات بالأمارة ، فخبر الثقة إن كان مؤدّاه حكما شرعيا كوجوب صلاة الجمعة كان الخبر دليلا ، وإن كان موضوعا خارجيا ـ بناء على اعتباره فيها ـ سمّي أمارة كسائر الطرق المثبتة للموضوعات كالبينة والإقرار. لكن الظاهر أن المقصود بهما في المتن أمر واحد ، لأن موضوع البحث في باب التعارض هو الأخبار التي هي أدلة الأحكام ، وعليه يكون عطف «الأمارات» على «الأدلة» تفسيريا.

فان قلت : ان الفقيه كما يثبت له منصب الإفتاء بالأحكام الكلية كذلك يثبت له التصدي للقضاء وفصل الخصومة ، وحينئذ فكما يلزمه تعيين حكم الخبرين المتعارضين

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ٢٥١

٨

.................................................................................................

______________________________________________________

والشهرتين المتعارضتين في مقام الإفتاء ، فكذلك يلزمه تعيين حكم البينتين المتعارضتين من تقديم بيّنة الداخل وعدمه. وعليه يكون «تعارض الأدلة» للإشارة إلى وظيفته في مقام الإفتاء ، و «تعارض الأمارات» إلى وظيفته في مقام القضاء ، فلا يكون العطف حينئذ تفسيريا.

قلت : لا ريب في ثبوت المنصبين للفقيه بل وغيرهما بناء على عموم ولايته ، لكن المقصود بالبحث في مسألة التعادل والترجيح هو إثبات حجية أحد الخبرين وعدمها ، لا علاج تعارض مطلق الطرق حتى يندرج حكم تعارض البينتين ونحوهما في هذا البحث (*)

__________________

(*) وهنا جهات أخرى كما قلنا آنفا :

منها : أن العرض المناسب هنا هو كون الدليلين في رتبة واحدة من حيث شمول دليل الحجية لهما ، فلا يكون لأحدهما تقدم رتبي كالعلية على الآخر. وأما العرض بمعناه اللغوي وهو الإظهار فإرادته في المتعارضين ، بدعوى «أن كلّا من الخبرين يظهر نفسه للآخر» خالية عن المناسبة ، ضرورة أن هذا الإظهار ثابت في الحجج وغيرها من الأصول غير المعتبرة كالمسببية والروايات الضعاف التي يقطع بعدم حجيتها حتى بدون التعارض ، مع وضوح كون الموضوع في باب التعارض خصوص الخبرين الجامعين لشرائط الحجية ، وانحصار المانع عن شمول دليل الاعتبار فعلا لهما بوجود التعارض فقط ، وعدم كون تعارض الخبرين من صغريات تعارض الحجة واللاحجة.

فالمتحصل : أن المراد بتعارض الدليلين هو الدليلان اللّذان يكونان في رتبة واحدة بأن لا يكون أحدهما في طول الآخر ومعلولا له.

نعم للإظهار مناسبة إن أريد به إبراز مفاد كلّ من المتعارضين بنحو الإنجاز وإيجاد المراد ، حيث إن كلّا منهما في مقام إبراز مفاده في نظام الوجود ، فإطلاق الإظهار حينئذ لا بأس به ، إذا المفروض قابلية كل منهما للحجية ، والمانع عن فعليتها هو التعارض.

وأما العرض الّذي هو أحد أبعاد الجسم في مقابل الطول والعمق فالظاهر أنه لا مناسبة بينه وبين المعنى المقصود من تعارض الأدلة ، وإن قيل بها ، بتقريب : «ان كلّا من المتعارضين في عرض الآخر من حيث الدليليّة والحجية». لكن هذا البيان أقرب إلى ما ذكرناه ـ إن لم يكن عينه ـ من إرادة وحدة المتعارضين رتبة وعدم علّية أحدهما للآخر ، والأمر سهل.

ومنها : أن التعارض عنوان عام يشمل الروايتين المتعارضتين وغيرهما كتعارض الآيتين

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والفتويين والإجماعين والشهرتين ونحو ذلك. لكن لمّا كان موضوع الاخبار العلاجية خصوص الروايات المتعارضة أوجب ذلك تخصيص البحث بتعارض الأخبار.

ومنها : أن حقيقة التعارض هي التزاحم في مقام التشريع الّذي هو فعل الشارع. والوجه في هذا التعارض هو تزاحم الملاكات الداعية إلى الجعل ، كما إذا اقتضى فعل من جهة تشريع الوجوب له ، ومن أخرى تشريع الحرمة له ، وهذا هو التزاحم الآمري المصطلح عليه بالتعارض. وأمّا التزاحم المأموري المصطلح فهو التزاحم في مقام الامتثال بعد تشريع الحكمين بلا مانع ، وعجز المكلف عن امتثالهما كوجوب إنقاذ الغريقين وإطفاء الحريقين ونحوهما.

ومن هنا يظهر وجه اعتبار واجدية كل من الخبرين المتعارضين لشرائط الحجية ، للزوم وجود المقتضي لجعل الحكم في كل منهما. وبه يخرج اشتباه الحجة بغير الحجة عن باب التعارض كما مرّ آنفا.

ومنها : أن التعارض ـ سواء فسّر بتنافي مدلولي الدليلين أم بتنافي الدليلين في مقام الدلالة ـ صفة لنفس الدليلين كما في بعض الأخبار العلاجية ، لوضوح أن الدليل مجموع الحاكي والمحكي ، فالتعارض صفة لنفس الدليلين ولو باعتبار منافاة مدلوليهما ، كتعارض شخصين على شيء يريده أحدهما ولا يريده الآخر ، فإنه يصدق عليهما أنهما متعارضان باعتبار التنافي بين مراديهما. وعليه فالوصف بحال الموصوف لا بحال المتعلق.

١٠

فصل (١)

التعارض هو تنافي (٢)

______________________________________________________

تعريف التعارض :

(١) الغرض من عقد هذا الفصل تعريف التعارض الّذي هو موضوع الأحكام الآتية في هذا المقصد ، ثم بيان ما يترتب على هذا التعريف من عدم شموله لموارد الجمع الدلالي والتوفيق العرفي مما يكون بين المدلولين منافاة وتمانع لكن ليس بين نفس الدليلين تمانع ، والصور الرئيسية التي ادّعى المصنف عدم صدق تعريف التعارض عليها ثلاث :

الأولى : موارد حكومة أحد الدليلين على الآخر.

الثانية : موارد التوفيق العرفي بين الدليلين بالتصرف في أحدهما تارة ، وفي كليهما أخرى.

الثالثة : موارد حمل أحد الدليلين على الآخر كما في النص والظاهر والقرينة وذي القرينة. وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى بعد الفراغ من تعريف التعارض.

(٢) اعلم أن الموجود في كلمات القوم في تعريف التعارض عناوين ثلاثة :

أولها : وهو المنسوب إلى المشهور «تنافي المدلولين على وجه التناقض أو التضاد» ففي القوانين : «تعارض الدليلين تنافي مدلوليهما» وفي الفصول : «تنافي مقتضاهما».

ثانيها : ما أفاده شيخنا الأعظم «قده» بقوله : «وغلب في الاصطلاح على تنافي الدّليلين

١١

.................................................................................................

______________________________________________________

وتمانعهما باعتبار مدلولهما ...».

ثالثها : ما أفاده الماتن. ولا ريب في مغايرة تعريف المصنف لما أفاده المشهور ، وفي مغايرته لتعريف شيخنا الأعظم تأمل سيأتي بيانه.

وتحقيق ما أجمله المصنف هنا ، ووجه عدوله عن تعريف المشهور منوط بالبحث في مقامين ، الأول : في توضيح الألفاظ الواردة في التعريف. الثاني : في الفرق بين تعريف المشهور وتعريف الماتن ، ووجه عدوله عنه.

أما المقام الأول : فنقول فيه : ان الكلمات المحتاجة إلى البيان هي التنافي والدلالة والتناقض والتضاد.

أما التنافي فهو كالتعارض على وزن «التفاعل» من النفي ، والنفي في اللغة هو الطرد والدفع (١) ، وهذا المعنى هو المقصود في باب التعارض ، لأنّ كل واحد من المدلولين ينفي الآخر ولو بالدلالة الالتزامية الشرعية كما سيظهر ، أو لأنّ كل واحد من الدليلين يطرد الآخر ويزاحمه في حجيته الفعلية. لكن التعارض أخص من التنافي ، لأنّ التنافي ـ وهو عدم الاجتماع في الوجود ـ بالذات يتحقق في المدلولين المتمانعين كالوجوب والحرمة ، أو الوجوب وعدمه ، ولا يصدق التعارض على هذا التمانع ، فلا يوصف الوجوب والحرمة بأنهما متعارضان وإن وصفا بأنهما متنافيان ، بل يوصف ما دلّ على الوجوب وما دلّ على الحرمة بالمعارضة ، فيقال : تعارض الخبران ، ولا يقال : تعارض الحكمان ، فالتعارض من أوصاف الدال ـ بما هو دال ـ بالذات لا بالعرض.

وأما كلمة «الدلالة» ففيها جهتان :

الأولى : أنها تطلق على معنيين : أحدهما : الحكاية ، والكشف ، وهذا في قبال الكلام المجمل ، فالدلالة متقومة بالظهور.

والآخر : الحجية ، أي ظاهر الكلام المتصف بالحجية. وبعبارة أخرى : يراد بالدلالة ظاهر خصوص الدليل دون غيره مما لا يكون دليلا ، ومعنى التنافي في الدلالة هو تمانع الدليلين المتعارضين في الاندراج تحت دليل الاعتبار ، فإذا دلّ أحد الخبرين على وجوب

__________________

(١) مجمع البحرين ، ١ ـ ٤١٨

١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

جلسة الاستراحة ، والخبر الآخر على عدم وجوبها امتنع شمول أدلة حجية خبر الثقة لكليهما ، لامتناع التعبد بالمتناقضين ، الموجب لبطلان اقتضاء دليل الاعتبار الحجيةَ الفعليةَ لكل منهما بعينه ، للزوم اجتماع النقيضين ، ولأحدهما المعيّن ، لكونه ترجيحا بلا مرجح ، فيزاحم كل منهما الآخر في الحجية الفعلية وفي شمول عموم أدلة الاعتبار له ، وهذا هو التنافي في الدلالة.

والشاهد على إرادة هذا المعنى من الدلالة لا مطلق الكشف والحكاية هو تصريح المصنف فيما سيأتي بعدم التعارض في موارد الجمع الدلالي كالعام والخاصّ المنفصل عنه ، لوضوح أن الخاصّ المنفصل لا يصادم ظهور العام في عمومه ، وإنما يزاحمه في حجيته بالنسبة إلى مورد الخاصّ ، فلو كان المناط في تنافي الدلالتين اختلاف ظهورهما لزم إدراج موارد الجمع الدلالي وتقديم أقوى الحجتين على الأخرى في تعريف التعارض ، مع أنه لا ريب في خروجها عنه. وينحصر وجه خروجها عنه في إرادة الحجة من الدلالة ، إذ لا تمانع بين حجية كل من العام والخاصّ.

نعم لا ريب في أن المنسبق من كلمة الدلالة هو الحكاية والكشف لا الحجية ، إلّا أن مقصود الماتن منها هو الحجية ، فانه «قده» جعل التعارض من حالات الدليل لا من عوارض المدلول.

الجهة الثانية : أن المراد بالدلالة ليست هي خصوص الدلالة اللفظيّة المنحصرة في المطابقية والتضمنية والالتزامية ، بل المراد بها مطلق ما كان حجة ولو لم ينطبق عليه ضابط الالتزام من اللزوم العقلي كما في العمى والبصر ، أو العرفي كما في وجود حاتم الطائي. ويشهد لهذا التعميم ما أفاده بقوله : «عرضا» وصرّح به في حاشية الرسائل من درج العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين ـ مع تعدد موضوعيهما ـ في موضوع التعارض.

وأما كلمة التناقض فواضحة ، لأنها عبارة عن تقابل السلب والإيجاب في شيء واحد ، واعتبر في استحالته اجتماع الوحدات الثمانية أو الأزيد منها.

وأما كلمة «التضاد» فقد قسّم المصنف التضاد إلى الحقيقي والعرضي ، ولكن المشهور أرادوا به التضاد الحقيقي خاصة كالتناقض حيث لم يوصفوه بالحقيقي

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والعرضي.

وكيف كان فالتضاد الحقيقي كالتناقض يشترط فيه اتحاد الموضوع كاجتماع الوجوب والحرمة في فعل واحد. والتضاد العرضي لا يعتبر فيه اتحاد الموضوع ، بل يمتنع تحقق أمرين وجوديين في موضوعين في نظام الوجود كما سيأتي مثاله في موارد العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين.

ثم إن المعتبر من اتحاد الموضوع في التناقض والتضاد الحقيقي ـ كما أفاده في حاشية الرسائل ـ هو الاتحاد في الجملة ليشمل التعارض التبايني والعموم والخصوص المطلق والعموم والخصوص من وجه ، كما سيأتي.

هذا شرح الألفاظ الواردة في تعريف المصنف للتعارض.

وقد ظهر بما ذكرناه : أنه تعريف جامع لأفراد التعارض ومانع للأغيار أي لموارد التوفيقات العرفية.

وأما المقام الثاني ـ وهو الفرق بين تعريف التعارض بما أفاده المشهور والمصنف ووجه عدوله عنه ـ فنقول : أما الفرق بين التعريفين فهو : أن ظاهر تعريف المشهور كون التعارض من صفات المدلولين ، وكون توصيف الأمارتين والدليلين بالتعارض توصيفا بحال المتعلق كما ورد التصريح به في كلمات بعضهم كالمحقق السيد علي القزويني (١) ، فيصح حينئذ جعل التعارض وصفا للدليلين ، لأنه كتوصيف اللفظ بالكلية والجزئية مع كونهما من أوصاف المعاني والمفاهيم لا الألفاظ.

وظاهر تعريف المصنف «قده» أن التعارض وصف لنفس الدليلين كالخبرين اللذين وصفا بالتعارض في بعض نصوص الباب كقوله : «إذا ورد عنكم الخبران المتعارضان» ومنشأ هذا التنافي في الحجية هو تمانع المدلولين ، فيكون الوصف بحال الموصوف حقيقة ، إذ الموصوف بالتعارض يكون نفس الأمارتين كالخبرين لا مدلوليهما ، غاية الأمر أن تنافي المدلولين حيثية تعليلية وواسطة ثبوتية لتوصيف الدليلين بالتعارض كوساطة النار لحرارة الماء ، فان قولنا : «الماء حار» حمل حقيقي وإسناد إلى ما هو له. وهذا بخلافه على تعريف المشهور ، فإن تنافي المدلولين فيه حيثية تقييدية في تعارض الأمارتين

__________________

(١) حاشية القوانين ، ص ١٩٦

١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ويكون واسطة في عروضه على الدليلين كوساطة حركة السفينة لحركة الجالس فيها ، فإنّه يصح سلبها عن الجالس فيها حقيقة ، إذ المتحرك هو السفينة دون جالسها ، إلّا بناء على معنى آخر للحركة غير مقصود عرفا.

هذا تقريب الفارق بين تعريف المصنف والمشهور.

وأما وجه عدوله عن تعريف المشهور فأمران ، اقتصر في المتن على ذكر واحد منهما ، وتعرض لكليهما في حاشية الرسائل في مقام تحسين تعريف الشيخ للتعارض :

أحدهما : ما تقدم آنفا من أنه لو كان التعارض «تنافي المدلولين» كما أفاده المشهور كان التعارض وصفا لمتعلق الدليلين لا لأنفسهما. ولو كان التعارض ما أفاده الشيخ من «أنه تنافي الدليلين باعتبار تنافي المدلولين» كان التعارض وصفا لنفس الموصوف أعني الدليلين ، وكان منشأ تنافيهما تمانع مدلوليهما ، فيسري التنافي من المدلولين إلى الدالّين (١).

ثانيهما ـ وهو العمدة ـ أن تعريف المشهور يعمّ موارد الجمع الدلالي والتوفيق العرفي ، مع أنه لا ريب في عدم إجراء أحكام التعارض ـ من التوقف والترجيح والتخيير ـ عليها. وهذا بخلاف تعريف التعارض بتنافي الدليلين. وتوضيحه : أن تنافي الدليلين قد يكون بدويّا زائلا بالتأمل بحيث لا يتحير العرف في الجمع بينهما والعمل بهما ، وقد يكون مستقرّا لا يرى العرف سبيلا إلى الجمع بينهما. والظاهر أن موضوع الأخبار العلاجية والأبحاث الآتية هو التعارض المستقر الّذي يوجب استمرار تحيُّر العرف في الجمع بين المتعارضين كما إذا كان أحدهما يأمر بشيء والآخر ينهى عنه.

وعلى هذا فالتعريف المناسب لهذا الموضوع المأخوذ في أخبار العلاج هو أن يقال : «التعارض تنافي الدليلين» لا تعريفه بـ «تنافي المدلولين» لأن تعريف المشهور يشمل كلّ دليلين متنافيين مدلولا وإن لم يكن بينهما منافاة دلالة وإثباتا ـ أي في مقام الحجية ـ كما إذا كان بينهما حكومة أو جمع عرفي على أنحائه ، فلا بد من إجراء أحكام التعارض عليهما من التخيير أو الترجيح ، مع أنه ليس كذلك ، لخروجهما عن باب التعارض. وهذا بخلاف تعريف المتن ، فإنّه لا يشمل مثل هذين الدليلين. ولنذكر شاهدين على الدعوى المتقدمة.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٥٥

١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : موارد حكومة أحد الدليلين على الآخر ، نظير ما دلّ على حكم الشكوك في الركعات مثل قوله عليه‌السلام : «إذا شككت فابن علي الأكثر» وما دلّ على نفي الشك عمّن كثر شكّه ، كقوله عليه‌السلام : «لا شك لكثير الشك» فإنّ مدلولي هذين الدليلين متنافيان ، بمقتضى تقابل الموجبة الكلية مع السالبة الجزئية ، فالخطاب الأوّل المثبِت للحكم يشمل كثير الشك وغيره ، والخطاب الثاني النافي للحكم مخصوص بكثير الشك ، فيتصادم المدلولان ـ في كثير الشك ـ بالنفي والإثبات. ومقتضى تعريف المشهور إجراء أحكام التعارض عليهما ، لأنهما دليلان متنافيان بحسب المدلول ، مع أنه لا ريب ـ عند الجميع ـ في عدم عدِّ هذين الدليلين من المتعارضين. والوجه في عدم تعارضهما عدم تنافيهما في مقام الدلالة والحجية ، فإنّ الدليل الحاكم شارح ومبيِّن للمراد الجدّي من الدليل المحكوم كما سيأتي توضيحه في (ص ٢٨) وعليه فلا محذور في شمول دليل حجية خبر الثقة لكلا الخبرين المتقدمين. وينحصر التخلص عن هذا النقض ـ الوارد على تعريف المشهور للتعارض ـ في العدول إلى تعريف المتن.

الثاني : موارد الجمع الدلالي ، كما إذا ورد «أكرم الأمراء ولا تكرم زيدا الأمير» لتمانع المدلولين في «زيد الأمير» بالنفي والإثبات ، لاقتضاء الأمر بإكرام الأمراء على نحو العام الاستغراقي مطلوبية إكرامه ، واقتضاء النهي مبغوضيته ، فيندرجان في باب التعارض بناء على تعريف المشهور له ، ويخرجان عنه بناء على تعريف المصنف للتعارض ، وذلك لعدم تنافيهما دلالة ، لكون الثاني ـ لأخصيته ـ مخصّصا وقرينة على عدم إرادة «زيد» من العام.

والحاصل : أن تعريف المشهور ينتقض بموارد الحكومات والتوفيقات العرفية لتحقق التنافي بين المدلولين أو المداليل مع عدم إجراء أحكام التعارض ـ من التخيير والترجيح ـ على هذه الموارد قطعا ، فيتعين تعريف التعارض بالتنافي في مرحلة الدلالة والإثبات كي لا يرد النقض المزبور.

هذا ما يتعلق بتوضيح ما أفاده المصنف من تعريف التعارض ، ووجه عدوله عن تعريف المشهور. وأما تعريف شيخنا الأعظم «قده» للتعارض فهو إما ملحق بتعريف المشهور ، وإما متحد مع تعريف الماتن ، كما سيأتي بيانه في التعليقة إن شاء الله تعالى.

١٦

الدليلين

______________________________________________________

(١) تنافي الدليلين إما أن يكون بحسب المدلول المطابقي وطرد كلّ منهما لتمام ما يدل عليه الآخر ، وإما أن يكون بحسب المدلول التضمني أي تمانع الدليلين في بعض مدلوليهما ، وإما أن يكون بحسب المدلول الالتزامي. فالأوّل ـ وهو التنافي في المدلول المطابقي ـ أظهر مصاديق التعارض ، نظير ما دلّ على استحباب القنوت في ركعتي الشفع وما دلّ على عدم استحبابه فيهما.

ونظير ما دلّ على انفعال البئر والماء القليل بملاقاة النجاسة ، وما دلّ على عدم انفعالهما بها. ويصدق تعريف التعارض عليهما سواء أكان بمعنى تنافي المدلولين أم تنافي الدليلين في مقام الإثبات.

والثاني ـ أي التنافي في المدلول التضمني ـ نظير العامّين من وجه ، وهو كثير في الأخبار ، فمنها ما قيل : من تعارض قوله عليه‌السلام : «أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة» مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما عداه إلّا المسجد الحرام» ووجه التعارض واضح ، فإنّ الأفضل للمتنفِّل بمكة والمدينة الصلاة في داره بمقتضى إطلاق الخبر الأوّل ، كما أن الأفضل له هو الإتيان بالنافلة في أحد المسجدين بمقتضى إطلاق الخبر الثاني الشامل للمكتوبة والنافلة ، فمورد الاجتماع هو التنفل في المسجدين.

والثالث ـ أي التنافي في المدلول الالتزامي ـ يجري في الالتزام الشرعي تارة ، وفي الالتزام العقلي أخرى. أما الدلالة الالتزامية الشرعية ، فكما إذا دلّ دليل على وجوب القصر في أربعة فراسخ ، ودلّ دليل آخر على وجوب الصوم فيها ، فإنّهما من حيث المدلول المطابقي لا منافاة بينهما ، لتعدد الموضوع. لكن الملازمة الشرعية بين الإفطار والقصر الثابتة بدليل خارجي ـ وهو قوله عليه‌السلام : «كلّما قصّرت أفطرت ، وكلما أفطرت قصّرت» ـ أوجبت التنافي بينهما ، وحينئذ فما يدل على وجوب القصر ينفي التزاما وجوب الصوم ، كما أن ما يدل على وجوب الصوم ينفي التزاما وجوب القصر.

وأما الدلالة الالتزامية العقلية ، فكما إذا دلّ دليل على وجوب شيء ، فانه يدل بالالتزام العقلي على وجوب ما يتوقف عليه ، وإذا ورد ما يدلّ على عدم وجوب تلك المقدمة دلّ

١٧

أو الأدلة (١) بحسب (٢) الدلالة ومقام (٣) الإثبات على (٤) وجه التناقض

______________________________________________________

على عدم وجوب ذلك الشيء لا محالة مع فرض بقاء التوقف ، فيتعارضان من حيث الدلالة الالتزامية العقلية (١).

(١) كاختلاف أخبار الحبوة في مقدارها من كونه سبعة أو أربعة أو ثلاثة أو اثنين (٢) ، فإنه لمّا كانت الروايات في مقام تحديد الحبوة فلا محالة يقع التعارض بينها ، لأنّ كلّا منها ينفي بالدلالة الالتزامية الناشئة من التحديد ـ الظاهر في الحصر ـ ما يثبته الآخر ، فراجع.

وكروايات العارية ، فإنّ بعضها ينفي الضمان فيها مطلقا (٣) ، وبعضها ينفيه إلّا في عارية الذهب والفضة (٤) ، من غير فرق في ذلك بين المسكوك وغيره ، وبعضها ينفيه إلّا في عارية الدرهم ، فإنه مضمون على المستعير مطلقا سواء شرط عليه الضمان أم لا (٥) ، وبعضها ينفيه إلّا في عارية الدنانير سواء اشتراط الضمان على مستعيرها أم لا (٦). وسيأتي تفصيل تعارض أكثر من دليلين في مسألة انقلاب النسبة إن شاء الله تعالى.

(٢) متعلق بـ «تنافي» يعني : أن التعارض وصف الأدلة لا المداليل ، وقد تقدم بيانه عند توضيح الوجه الثاني من وجهي عدول المصنف عن تعريف المشهور.

(٣) الظاهر أنه عطف تفسيري للدلالة المراد بها الحجية التي يثبت بها الحكم الشرعي.

(٤) الظاهر أنه متعلق بمحذوف مثل «كائنا» ونحوه ، وليس متعلقا بالتنافي ، وغرضه من قوله : «على وجه التناقض أو التضاد» بيان منشأ تعارض الدليلين في مرحلة الإثبات ، لا بيان كيفية تعارض نفس الدليلين من أنه على وجه التناقض تارة ، وعلى وجه التضاد أُخرى.

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٤ ـ ٤

(٢) الوسائل ، ج ١٧ ، الباب ٣ من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ص ٤٣٩ إلى ٤٤١

(٣) الوسائل ، ج ١٦ ، كتاب العارية ، الباب ١ ، الحديث : ٣ ، ص ٢٣٦

(٤) المصدر ، الباب ٣ ، الحديث : ٢ ، ص ٢٣٩

(٥) المصدر ، الحديث : ٣ ، ص ٢٤٠

(٦) المصدر ، الحديث : ١ ، ص ٢٣٩

١٨

أو التّضاد (١)

______________________________________________________

وتوضيحه : أن التعارض وإن كان وصفا لنفس الدليلين ـ لا وصفا للمدلولين ـ كما مرّ مشروحا ، لكن الواسطة الثبوتية لتعارض الخبرين هي تنافي المدلولين ، ومن المعلوم أن تنافي المدلولين يكون بنحو التناقض تارة كما في دلالة أحدهما على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه ، ويكون بنحو التضاد أخرى ، كما في دلالة أحدهما مثلا على استحباب صلاة العيدين جماعة في عصر الغيبة ودلالة الآخر على حرمتها بناء على تضاد الوجوب والاستحباب.

ويشهد لما ذكرناه من أن مراد المصنف بيان منشأ التعارض لا جعل التناقض والتضاد في نفس الحجية ـ حتى يشكل بما سيأتي بيانه في التعليقة من كون التعارض في الحجية على وجه التضاد دائما كما أفاده شيخنا المحقق العراقي ـ تعبيره في الفوائد ، قال فيها : «التعارض وإن كان هو تنافي الدليلين بحسب المدلول ، للتناقض أو التضاد بين المدلولين» (١). وهذا صريح في أن التعارض وإن لم يكن تنافي المدلولين كما زعمه المشهور ، بل هو تعارض الدليلين ، لكن منشأ تعارض الدليلين تناقض مدلوليهما تارة وتضادهما أخرى. ويستفاد هذا من عبارة الحاشية أيضا ، قال فيها : «ولا ينافي ذلك ـ أي كون التعارض وصفا قائما بنفس الدليلين ـ كون المنشأ تنافي المدلولين ، لسراية التنافي إليهما بما هما دليلان ...» (*) (٢).

(١) الوجه في زيادة قيد «التضاد» وعدم الاقتصار على التنافي بنحو التناقض هو : أنّ التنافي الّذي فسّر به التعارض لمّا كان موهما لاختصاص التعارض بالتناقض ـ لأن مقتضى التنافي هو النفي والرفع الّذي هو نقيض كل شيء ـ دعا الشيخ والمصنف وغيرهما «قدس‌سرهم» إلى أخذ قيد التضاد في تعريفه ليعمّ التعارض مطلق التمانع بين المداليل. ودعوى عدم الحاجة إلى قيد «التضاد» لأن الدليلين الدالين على المتضادين بالمطابقة

__________________

(*) أورد شيخنا المحقق العراقي «قده» وغيره على تعريفي المشهور والمصنف بما محصله : أما الإشكال على تعريف المشهور فبلزوم الاقتصار على قيد التناقض ، إذ بعد تعميم المدلول للمدلول

__________________

(١) الفوائد المطبوعة مع حاشية الرسائل ، ص ٣٢٤

(٢) حاشية الرسائل ، ص ٢٥٥

١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

يدلان على المتناقضين بالدلالة الالتزامية ، فتقييد التنافي بالتناقض كاف في عموم التعريف للمتضادين غير مسموعة ، لعدم ثبوت كفاية الدلالة الالتزامية في الحدود إن لم

__________________

الالتزامي يكون تمانع المدلولين دائما على وجه التناقض وإن كانا دالّين بالمطابقة على حكمين متضادين كالوجوب والحرمة ، إلا أنّهما دالّان على أمرين متناقضين بالالتزام. وأما الإشكال على تعريف المصنف فبلزوم إلغاء قيد التناقض ، فان المدلولين وان كانا متناقضين ، لكن لمّا كان التعارض في مرحلة الحجية ـ وهي أمر وجودي ـ فلا وجه حينئذ لتوسعة التنافي بكونه على وجه التناقض (١).

لكنه لا يخلو من غموض ، وذلك أما ما أورد على تعريف المشهور ، فالظاهر ـ كما ذكرناه في التوضيح ـ أنّ أخذ قيد التضاد مع دلالة التناقض عليه ، إنما هو للزوم كون الحدّ تاما في وفائه بالمحدود وكونه أجلى منه. والاقتصار على كلمة التناقض باعتبار دلالته الالتزامية على ما لو كان تقابل الحكمين بالتضاد بعيد عن قانون التعريف.

وأما الإشكال على تعريف الماتن ـ بالاقتصار على كلمة التضاد وإلغاء قيد التناقض ـ فقد تقدم بيانه في التوضيح من أنه ناظر إلى تناقض المدلولين تارة وتضادهما أخرى ، وليس ناظرا إلى تنافي الحجتين حتى يكون بنحو التضاد دائما.

وأما توجيه أخذ التناقض في تعريف الماتن «فيما دلّ أحد الخبرين على وجوب شيء والآخر على عدمه بلحاظ استحقاق العقوبة على الترك وعدم استحقاقه ، فانهما متناقضان» (٢) فلا موجب للالتزام به بعد ما عرفت من كلام المصنف في الفوائد. مع أن شيئا من استحقاق المؤاخذة وعدمه ليس مدلول الخبرين ، بل هو أثر الحكم الإلزامي ، والظاهر إناطة التعارض بنفس مؤدى الدليلين لا بلازمهما وما يترتب عليهما من استحقاق المؤاخذة ، فإن موضوع الأخبار العلاجية المذكور فيها هو الخبران المتعارضان ، وإرجاع الخبرين إلى استحقاق العقوبة وعدمه كما ترى.

هذا مضافا إلى اختصاص هذا التوجيه بالخبرين الدالّين على الحكمين الإلزاميّين وعدم شموله لسائر الأخبار المتعارضة.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٣٧٢

(٢) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٤١ و ١٤٢

٢٠