منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

فصل (١)

إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته

______________________________________________________

(دوران الأمر بين المحذورين)

(١) عقد المصنف (قده) هذا الفصل لبيان حكم دوران الأمر بين المحذورين يعني الوجوب والحرمة ، وقد عقد له شيخنا الأعظم مسائل أربع بملاحظة منشأ الدوران ، ضرورة أن دوران حكم الواقعة بين الوجوب والحرمة يكون تارة لعدم الدليل على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على أصل الإلزام الدائر بينهما كما في اختلاف الأمة على قولين مع العلم بعدم الثالث. وأخرى لإجمال النص ، وهو إمّا من جهة هيئته كالأمر المردد بين الإيجاب والتهديد الدال على كون المتعلق منهيا عنه ، وإما من جهة المادة كما لو أمر بالتحرز عن أمر مردد بين فعل الشيء وتركه. وثالثة لتعارض النصين اللذين أحدهما يأمر به والآخر ينهى عنه ، وهذه المسائل الثلاث للشبهة الحكمية. ورابعة للشبهة الموضوعية كما إذا وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفساق واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة دخل في إجمال النص ـ ولم يكن هناك أصل موضوعي يدرجه تحت أحد

٥٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

العنوانين.

هذا ما عليه شيخنا الأعظم في تربيع مسائل هذا البحث ، وسيأتي بيان مختاره. ولكن المصنف ـ جريا على ما أسسه في أول بحث البراءة من عقد فصل واحد لجميع المسائل ، لوحدة المناط فيها ـ عقد هنا أيضا فصلا واحدا لجميعها فلا وجه لعقد مسائل متعددة.

ولا بأس ببيان مثال للشبهة الحكمية وهو ما بيّنه في أوثق الوسائل بقوله : «ويمكن أن يمثل له بما اختلفوا فيه من اشتراط الدخول في ثبوت العدة على الحائل بالطلاق كما هو ظاهر المشهور ، أو تكفي فيه المساحقة من مقطوع الذّكر السليم الأنثيين كما حكي عن الشيخ في مبسوطه ، قال : وجبت عليها العدة ان ساحقها ، فان كانت حاملا فبوضع الحمل ، وإلّا فبالأشهر دون الأقراء ، فإذا طلقها بعد المساحقة بالطلاق الرجعي وراجعها قبل انقضاء عدتها ، فالتمتع بها بالدخول أو غيره بعد المطالبة منه يتردد بين الوجوب والحرمة عند من اشتبه عليه حكم المسألة» (*).

__________________

(*) لكن الّذي عثرنا عليه في المبسوط (١) هو هذا : «وان كان قد قطع جميع ذكره فالنسب يلحقه ، لأن الخصيتين إذا كانتا باقيتين فالإنزال ممكن ، ويمكنه أن يسحق وينزل ، فان حملت عنه اعتدت بوضع الحمل ، وان لم تكن حاملا اعتدت بالشهور ، ولا يتصور أن تعتد بالأقراء ، لأن عدة الأقراء انما تكون عن طلاق بعد دخول ، والدخول متعذر من جهته».

ولا يخفى ما في قوله : «فالتمتع بها بالدخول أو غيره ... إلخ» من المسامحة

__________________

(١) المبسوط ، ج ٥ ، ص ٣٣٨ طبع المكتبة المرتضوية

٥٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيحه : أن المقطوع الذّكر المتعذر عليه الدخول إذا تزوج وساحق زوجته ثم طلقها ، فان كانت المساحقة في حكم الدخول فطلاقها رجعي ، وحينئذ فلو طلب الزوج منها الاستمتاع في العدة وجبت الإجابة عليها. وان لم تكن بحكم الدخول كان الطلاق بائنا ، وليس له الاستمتاع بها بالرجوع ، بل بالعقد الجديد ، فلو طلب منها الاستمتاع حرم عليها الإجابة. وعليه فيدور حكم إجابة الزوجة بين الحرمة والوجوب ، وهذا هو الدوران بين المحذورين.

وكيف كان ، ففي مسألة الدوران بين الوجوب والحرمة وجوه ، بل أقوال تعرض لجملة منها في المتن ، ونحن نذكرها مع الإشارة إلى أدلتها.

أحدها : الحكم بالإباحة ظاهرا ، لجريان البراءة العقلية والنقليّة فيه. أما العقلية فلتحقق موضوعها وهو عدم البيان ، إذ لا بيان على خصوص الوجوب والحرمة المحتملين ، فالمؤاخذة على كل من الفعل والترك في المقام مما يستقل العقل بقبحه ، والعلم بأصل الإلزام ليس باعثا ولا زاجرا كما هو واضح ، فتجري القاعدة بلا مانع. وأما النقليّة ، فلأن مثل حديثي الرفع والحجب لا يختص بما إذا كان أحد طرفي الشك في حرمة شيء هو الإباحة كشرب التتن حتى يختص بالشبهة البدوية ، بل يعم ما إذا علم جنس الإلزام ولم يعلم النوع الخاصّ منه فالوجوب المشكوك فيه مرفوع كرفع الحرمة المحتملة.

ثانيها : وجوب الأخذ بأحد الاحتمالين تعيينا ، لترجيح جانب الحرمة والبناء عليه في مرحلة الظاهر ، واستدل عليه بوجوه خمسة :

__________________

ضرورة أن حكم تمتع الزوج بها يدور بين الحرمة وغير الوجوب ، فهو من صغريات الشبهة التحريمية ، والدائر بين الوجوب والحرمة انما هو تمكين الزوجة كما بيناه في توضيح عبارته المحكية.

٥٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : الأصل ، والمراد به قاعدة الاحتياط ، قال المحقق الآشتياني (قده) في شرحه على الرسائل في تقريره : «أي قاعدة الاحتياط عند دوران الأمر بين التخيير والتعيين ، فان مقتضاها تقديم احتمال التحريم والبناء عليه في مرحلة الظاهر» والمقام من موارد الدوران المذكور ، فيقدم احتمال التحريم.

الثاني : الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة بناء على كون المراد منه عدم الدخول في الشبهة والسكون عندها ، فتدل على وجوب ترك الحركة نحو الشبهة وهو معنى تقديم احتمال الحرمة.

الثالث : حكم العقل والعقلاء بتقديم دفع المفسدة على جلب المنفعة عند دوران الأمر بينهما ، فاللازم رعاية جانب المفسدة الملزمة وترك الفعل المشكوك حكمه وان استلزم فوت المصلحة الملزمة الواقعية.

الرابع : إفضاء الحرمة إلى المقصود منها أتم من إفضاء الوجوب إلى المقصود منه ، فان المقصود من الحرمة ترك الحرام ، والترك يجتمع مع كل فعل ، بخلاف الوجوب ، فان المقصود منه وهو فعل الواجب لا يتأتى غالبا مع كل فعل ، مضافا إلى حصول الترك حال الغفلة عنه أيضا إذا لم يكن الحرام المحتمل تعبديا كما هو الغالب ، فلذا كان رعاية جانب الحرمة أرجح عند العقلاء لأنها أبلغ في المقصود.

الخامس : الاستقراء الّذي يستفاد منه أن مذاق الشرع هو تقديم جانب الحرمة في موارد اشتباه الواجب بالحرام ، وهذا يقتضي تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب أيضا.

وقد تعرض المصنف لبعض هذه الوجوه وغيره في مسألة اجتماع الأمر والنهي وناقش فيه ، فراجع ، كما سيأتي التعرض لبعضها في آخر هذا الفصل ، فانتظر.

٥٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ثالثها : التخيير الظاهري بين الفعل والترك شرعا بمعنى لزوم الأخذ بأحد الاحتمالين تخييرا. والوجه فيه قياس المقام بباب الخبرين المتعارضين ، حيث ان أحدهما حجة تخييرية في حق المكلف ، فيجب عليه الالتزام إما بالخبر الآمر فعليه الفعل وإمّا بالخبر الناهي فعليه الترك ، وهذا مفاد قوله عليه‌السلام في بعض أخبار التخيير : «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» وفي المقام أيضا يكون مخيرا بين الأخذ باحتمال الوجوب المقتضي للفعل والأخذ باحتمال الحرمة المقتضي للترك.

ومنه يظهر أن وجوب الأخذ بأحدهما معين في حقه ، فهو من قبيل وجوب الأخذ بأحد الواجبين ، وأن ما أخذ به منهما كان حجة ، فلا يجوز له الرجوع إلى الإباحة ، للعلم بمخالفتها للإلزام المعلوم إجمالا الدائر بين الوجوب والحرمة. وهذا هو المراد بأصالة التخيير في مسألة الدوران بين المحذورين ، فانها عبارة عن الأصل الشرعي المجعول وظيفة حال الشك في الوجوب والحرمة ، الّذي عدّ في ضبط مجاري الأصول من الأصول الأربعة.

رابعها : التخيير في العمل بين الفعل والترك عقلا الثابت للعبد تكوينا والتوقف في الحكم شرعا بمعنى عدم الحكم عليه بشيء من التخيير أو الإباحة أو البراءة لا ظاهرا ولا واقعا ، قال الشيخ الأعظم (قده) في أوائل هذه المسألة عند عدّ الأقوال فيها : «والتوقف بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا ولا واقعا ، ومرجعه إلى إلغاء الشارع لكلا الاحتمالين ، فلا حرج في الفعل ولا في الترك بحكم العقل وإلّا لزم الترجيح بلا مرجح» والدليل على هذا الوجه : أن الموافقة القطعية متعذرة في المقام كالمخالفة كذلك ، والموافقة الاحتمالية حاصلة كالمخالفة الاحتمالية ، وحيث لا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر ، فيستقل العقل بالتخيير بمعنى

٥٦٥

لعدم (١) نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا ، ففيه وجوه : الحكم (٢) بالبراءة عقلا ونقلا ، لعموم النقل (٣) وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة ، للجهل به (٤) ، ووجوب (٥)

______________________________________________________

أنه لو فعل لا يعاقب عليه كما لا يعاقب على الترك. ووجه التوقف عن الحكم بالتخيير أو البراءة أو الإباحة في مرحلة الظاهر هو وجوب الالتزام بأحد الحكمين ، ومن الواضح منافاة الحكم بشيء مما ذكر ولو في مرحلة الظاهر لما علم إجمالا من الحرمة أو الوجوب.

وقد ظهر امتياز هذا الوجه عن سابقه ، إذ التخيير هناك كان في الأخذ بأحد الاحتمالين بمعنى وجوب الحكم بالأخذ بأحدهما ، وهنا في العمل بأحدهما دون الحكم به. مضافا إلى كونه هنا تكوينيا لا تشريعيا ، وهناك تشريعيا. فالتخيير في الوجه السابق من قبيل التخيير في المسألة الأصولية ، وفي هذا الوجه من قبيل التخيير في المسألة الفرعية.

خامسها : التخيير العقلي بين الفعل والترك والحكم عليه شرعا بالإباحة ظاهرا ، وهو مختار المصنف وسيأتي.

(١) تعليل لقوله : «دار» وضمير «عليه» راجع إلى أحدهما ، وقوله : «ففيه» جواب «إذا دار».

(٢) هذا إشارة إلى الوجه الأول المتقدم توضيحه بقولنا : «أحدها ...».

(٣) مثل حديثي الرفع والحجب.

(٤) متعلق بـ «قبح» وضمير «به» راجع إلى خصوص ، وهذا تقريب جريان البراءة العقلية ، يعني : أن الجهل بخصوصية الإلزام ونوعه موجب لصدق عدم البيان الّذي أخذ موضوعا لقاعدة القبح.

(٥) معطوف على «الحكم» وإشارة إلى الوجه الثاني المتقدم توضيحه

٥٦٦

الأخذ بأحدهما تعيينا (١) أو تخييرا (٢) ، والتخيير بين (٣) الترك والفعل عقلا (٤) مع التوقف عن الحكم به رأسا (٥) ، أو مع (٦) الحكم عليه بالإباحة شرعا ، أوجهها الأخير (٧) ، لعدم الترجيح بين الفعل والترك ،

______________________________________________________

بقولنا : «ثانيها ... إلخ».

(١) أي : ترجيح جانب الحرمة بعينها وأما الأخذ باحتمال الوجوب معينا فلم نعثر على قائل به.

(٢) إشارة إلى الوجه الثالث ، وقد تقدم توضيحه أيضا بقولنا : «ثالثها ...» (٣) إشارة إلى الوجه الرابع ، وقد عرفت توضيحه أيضا بقولنا : «رابعها ...» (٤) الفرق بين التخيير العقلي والبراءة العقلية هو ما أفاده في حاشية الرسائل بقوله : ان أصالة البراءة وأصالة التخيير وان كان بحسب الأثر عملا واحدا وهو مجرد نفي الحرج عن الفعل عقلا ، إلّا أن الملاك في إحداهما غير الملاك في الأخرى».

(٥) في قبال من حكم عليه بالإباحة الظاهرية كالمصنف ، ومن حكم عليه بالتخيير الواقعي كما ربما ينسب إلى شيخ الطائفة في مسألة اختلاف الأمة على قولين.

(٦) وهذا إشارة إلى الوجه الخامس.

(٧) فدعوى المصنف مؤلفة من أمرين : أحدهما : الحكم بالتخيير العقلي لا الشرعي. ثانيهما : الحكم شرعا على المورد بالإباحة الظاهرية ، واستدل على الأول بقوله : «لعدم الترجيح» وتوضيحه : أن المكلف لا يخلو من الفعل أو الترك ، فلو اختار الفعل احتمل الموافقة على تقدير وجوبه واقعا ، والمخالفة على تقدير حرمته كذلك ، وكذا لو اختار الترك ، فانه يحتمل الموافقة والمخالفة أيضا ، وحيث لا مرجّح لأحدهما على الآخر ـ كما هو المفروض ـ فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجح ، وهو قبيح ، فيتساويان وهو معنى التخيير العقلي.

واستدل على الثاني ـ وهو الحلية الظاهرية ـ بقوله : «وشمول مثل» وقبل

٥٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

توضيح الاستدلال به ينبغي التنبيه على أمر ، وهو : أن مراد المصنف بقوله : «مثل» هو سائر الروايات التي تصلح لإثبات قاعدة الحل ، وليس غرضه منه أخبار البراءة كحديثي الرفع والحجب ونحوهما ، وذلك لأن مدلول حديثي الرفع مطابقة نفي التكليف الإلزامي ، على ما اختاره المصنف في أول البراءة بقوله : «فالإلزام المجهول مرفوع فعلا» فليس الحلّ الظاهري مدلول المطابقي ، بل ولا مدلوله الالتزامي أيضا ، إذ مدلوله الالتزامي ليس إلّا الترخيص الّذي هو أعم من الإباحة بالمعنى الأخص التي هي المطلوبة ، فأخبار البراءة تثبت التزاما ما هو أعم من الإباحة المقصودة.

وبالجملة : ففرق بين أصالتي البراءة والحل ، إذ مدلول الأولى نفي التكليف الإلزامي في مرحلة الظاهر المستلزم للترخيص عقلا ، ومدلول الثانية حكم شرعي ظاهري.

والشاهد على ما ذكرناه من الفرق بينهما هو : أن المصنف جعل الوجوه والأقوال في المسألة خمسة ـ لا أربعة كما صنعه شيخنا الأعظم ـ وعدّ أوّلها الحكم بالبراءة عقلا ونقلا ، ولكنه لم يرتض ذلك واختار الوجه الخامس ، ولو كان مفاد أصالتي البراءة الشرعية والحلّ واحدا لم يكن وجه لعدّهما قولين. نعم جمع شيخنا الأعظم بينهما كما يظهر من الجمع في الاستدلال على الإباحة الظاهرية بين أخبار البراءة والحل ، حيث قال : «فقد يقال في المقام بالإباحة ظاهرا ، لعموم أدلة الإباحة الظاهرية ، مثل قولهم : كل شيء لك حلال ، وقولهم : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ، فان كلّا من الوجوب والحرمة قد حجب علمه عن العباد وغير ذلك من أدلته».

وكيف كان ، فالاستدلال بحديث الحلّ على إباحة ما دار أمره بين الوجوب

٥٦٨

وشمول مثل «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام» له (١) (*) ولا مانع عنه (٢) عقلا

______________________________________________________

والحرمة يستدعي البحث في مقامين : الأوّل في وجود المقتضي ، والثاني في عدم المانع.

أما المقام الأول ـ وهو الّذي أشار إليه بقوله : «وشمول» فتوضيحه : أن الحديث يدل على حلية المشكوك حرمته ظاهرا ، وأنها باقية إلى أن يحصل العلم بخصوص الحرمة ، فموضوع حكم الشارع بالحلية الظاهرية هو ما شك في حرمته وغيرها سواء كان ذلك الغير المقابل للحرمة هو الوجوب أم الإباحة بالمعنى الأخص أم الاستحباب أم الكراهة ، وبهذا يندرج مورد الدوران بين المحذورين في موضوع الحديث ، لعدم العلم فيه بخصوص الحرمة المأخوذ غاية للحل ، فإذا دار الأمر بين حرمة شيء ووجوبه صدق عليه عدم العلم بحرمته فهو حلال ظاهرا ولا مفسدة في الاقتحام فيه حتى يعلم أنه حرام.

وأما المقام الثاني ـ وهو الّذي أشار إليه بقوله : «ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا» ـ فتوضيحه : أن العلم بالمانع يتوقف على بيان ما يمكن أن يكون مانعا شرعا أو عقلا والنّظر فيه ، وحيث لم يبيّن ذلك فمقتضى الأصل عدمه ، فيكون مثل «كل شيء لك حلال» شاملا للمورد ، وسيأتي تقريبه في طيّ شرح كلمات المصنف (قده).

(١) متعلق بـ «شمول» والضمير راجع إلى المورد وهو الدوران بين المحذورين.

(٢) أي : عن شمول مثل «كل شيء لك حلال» للمورد. ومثال ما يوجد فيه المانع العقلي عن جريان قاعدة الحل الشبهة المحصورة ، فان العقل يمنع عن

__________________

(*) قد عرفت مما ذكرناه في أدلة البراءة الإشكال في الاستدلال بقاعدة

٥٦٩

ولا نقلا (١) ،

______________________________________________________

جريان القاعدة في الأطراف ويوجب الاجتناب عن جميعها مقدمة للعلم بفراغ الذّمّة عن التكليف المعلوم بالإجمال ، غير أن في المقام لا يتصور مانع عقلي إلّا توهم لزوم المخالفة العملية ، حيث ان جريان القاعدة يوجب الترخيص في المعصية ، ومن المعلوم أن الترخيص في المعصية غير معقول ، فلا بد من تخصيص دليل أصالة الحل بغير المقام كالشبهة البدوية.

لكن فيه : أن المفروض هنا عدم حصول العلم بالمخالفة العملية ، لتعذر كل من الموافقة والمخالفة القطعيتين ، والموافقة الاحتمالية حاصلة قهرا كالمخالفة الاحتمالية ، لعدم خلوّ المكلف من الفعل الموافقة لاحتمال الوجوب ، أو الترك الموافق لاحتمال الحرمة. وعليه فلا يلزم من الحكم بإباحة كلّ من الفعل والترك ظاهرا ترخيص في المعصية كما يلزم من جريانها في أطراف الشبهة المحصورة.

(١) مثال ما يوجد فيه المانع الشرعي عن جريان أصالة الحل الشبهة البدوية ـ بناء على تقديم أخبار الاحتياط ـ فان الشرع يمنع عن جريانها فيها ، كما قيل بوجوده في المقام بتوهم رجحان جانب التحريم تمسكا بأخبار الوقوف وتقديما لها على أدلة الإباحة ، بل المحكي عن شرح الوافية الاستدلال عليه بأخبار الاحتياط كما يستدل بها على حرمة الاقتحام في الشبهة البدوية.

__________________

الحل لإثبات الإباحة الظاهرية في الشبهة الحكمية البدوية فضلا عن دوران الأمر بين المحذورين ، وقلنا هناك باختصاص الدليل بالشبهة الموضوعية ، لعدم الظفر بالمتن الّذي نقله المصنف وشيخنا الأعظم (قدهما) فما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من اختصاص «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» بالشبهة الموضوعية وان كان صحيحا في نفسه ، إلّا أن القائل بأصالة الحل في المقام لم يعتمد عليه ، وانما استدل بما في المتن وهو خال عن الظرف ، فيكون الإشكال

٥٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن فيه : أن التوقف بالنظر إلى التعليل الوارد في أخباره ظاهر في ما لا يحتمل الضرر على ترك الشبهة وأن الاقتحام فيها خير من الوقوع في الهلكة المحتملة ، وفي المقام حيث يلزم فوات المصلحة الملزمة على تقدير وجوب الفعل واقعا ، فلا يكون مشمولا للأخبار الآمرة به ، كما لا مجال للتمسك بأدلة وجوب الاحتياط لفرض تعذره هنا. مضافا إلى عدم كون الأمر الوارد به مولويا كما تقدم مفصلا ، بل هو إرشاد إلى حسنه العقلي.

__________________

الوارد عليه عدم الظفر به في جوامع الأخبار.

ويشكل شموله للمقام أيضا من جهة أخرى ، وهي : أن إطلاق الصدر أعني «كل شيء» وان كان شاملا بالنظر البدوي لمورد الدوران بين المحذورين ، إلّا أن ظاهر الغاية وهي «حتى تعلم أنه حرام» قرينة على كون طرف الحرمة خصوص الحل والإباحة لا الوجوب ، وإلّا كان اللازم أن يقال : «حتى تعلم أنه حرام أو واجب» كي يندرج محتمل الوجوب في مدلول الصدر ، والمفروض أن طرف الحرمة هنا هو الوجوب لا الإباحة ، فلا يعمّه الصدر.

إلّا أن يقال : ان المراد بالغاية هو العلم بالحرمة مطلقا سواء كان هو العلم بحرمة الفعل أم تركه ، فإذا علم بأنه واجب صدق عليه العلم بحرمة تركه ، لحصول الغاية الرافعة للحل ، فيشمل الحديث صدرا وذيلا دوران الأمر بين المحذورين ، هذا.

لكن فيه : أنه مبني على انحلال كل حكم إلى حكمين ، بأن يكون وجوب الفعل مثلا منحلا إلى حكمين وجوب الفعل وحرمة الترك ، وذلك ممنوع جدا ، لأن هذا الانحلال موقوف على تعدد الملاك ، بأن يكون في الوجوب مصلحة في الفعل ومفسدة في الترك ، وكذا في الحرمة ، وعلى تعدد الإرادة والكراهة ، وعلى تعدد العقاب

٥٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في عصيان الوجوب فقط أو الحرمة كذلك ، ولا دليل على الانحلال المزبور ، بل الأحكام الشرعية كلها بسائط ولا تركب فيها أصلا. هذا مضافا إلى قيام الملاكات الداعية إلى تشريع الأحكام بالأفعال دون التروك. وإلى أن مقتضى قوله : «قد ساوق الشيء لدينا الأيسا» إرادة الفعل من «شيء» في «كل شيء لك حلال» وعليه فضمير «أنه» في «تعرف أنه حرام» راجع إلى الشيء المراد به الفعل ، فلا يشمل الحديث إلّا الفعل الدائر حكمه بين الحرمة وغير الوجوب ، ولا يشمل «الشيء» الفعل والترك معا حتى يقال : ان «كل شيء» يعم الفعل وتركه ، فحينئذ يكون الحديث أجنبيا عن دوران الأمر بين المحذورين.

ولعل ما ذكرناه ـ من أن التقابل بين الغاية والمغيا وغيره يقتضي اختصاص الحديث بالشبهة البدوية التحريمية ـ هو منشأ استظهار المحقق النائيني قدس‌سره اختصاص الحديث بما كان طرف الحرمة الحل لا الوجوب حتى يشمل الدوران بين المحذورين ، فتعليل عدم الشمول بما ذكرناه ـ من ظهور الغاية وغيره ـ أولى من دعوى الانصراف التي أفادها شيخنا الأعظم بقوله : «ولكن الإنصاف أن أدلة الإباحة فيما يحتمل الحرمة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب» لما عرفت من أنه مع ظهور الغاية في ذلك وغيره لا ينعقد الإطلاق من أول الأمر ، ومع تسليمه فيمكن الخدشة فيه بكونه بدويا غير صالح لتقييد المطلق.

مضافا إلى أن تسليم شمول الإطلاق للمورد يقتضي قابلية الحديث للاستدلال به على البراءة في الشبهة الوجوبية غير المقرونة ، مع أنه قدس‌سره تمسك هناك بالإجماع المركب ، والحال أن شمول الإطلاق له أسهل مئونة من شموله لما نحن فيه أي مما دار أمره بين الوجوب والحرمة ، وعليه فالمتعين

٥٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إنكار الإطلاق بقرينة المقابلة وغيرها مما عرفت لا منعه بالانصراف ، هذا.

وقد أورد على التمسك بأصالة الحل هنا بوجوه أخرى :

الأول : ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) أيضا من «أن جعل الإباحة الظاهرية مع العلم بجنس الإلزام لا يمكن ، فان أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال ، لأن مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل والترك ، وذلك يناقض العلم بالإلزام وان لم يكن لهذا العلم أثر عملي ، وكان وجوده كعدمه في عدم اقتضائه التنجيز ، إلّا أن العلم بثبوت الإلزام المولوي حاصل بالوجدان ، وهذا العلم لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا ، فان الحكم الظاهري انما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي ، فمع العلم به وجدانا لا يمكن جعل حكم ظاهري يناقض بمدلوله المطابقي نفس ما تعلق العلم به» (١) الثاني : ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) على ما في تقرير بحثه الشريف : «من جهة اختصاص جريانها بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان.

ولئن شئت قلت : ان الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان انما هو في ظرف سقوط العلم الإجمالي عن التأثير ، والمسقط له حيثما كان هو حكم العقل بمناط الاضطرار ، فلا يبقى مجال لجريان أدلة البراءة العقلية والشرعية ، نظرا إلى حصول الترخيص حينئذ في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك» (٢).

الثالث : ما أفاده بعض المدققين في جملة ما أورده على شمول أصالة الحل

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٣ ، ص ١٦٢

(٢) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٢٩٣

٥٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

للمقام ، وحاصله بتوضيح منّا : أن الغاية وهي «حتى تعلم» اما أن تكون شرعية ، وهو حصول العلم للمكلف سواء كان مؤثرا في وجوب الموافقة وحرمة المخالفة أم لا ، واما أن تكون عقلية بمعنى المنجز أي ما يؤثر في حرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيتين. والاستدلال بالحديث على حلية ما دار أمره بين المحذورين منوط بجعل الغاية عقلية ليكون المعنى : «كل شيء لك حلال ما لم يقم منجز عليه» وحيث لم يكن العلم بالإلزام منجزا ، لعدم تأثيره في المخالفة والموافقة القطعيتين ، لعدم القدرة عليهما ، فالمغيا وهو الحلية باق على حاله ، إذ لا أثر لهذا العلم في رفعه. وأما إذا كانت الغاية شرعية ، فالغاية محققة ، للعلم الإجمالي بالحرمة أو الوجوب ، ولازمه ارتفاع المغيا أعني حلية المشكوك ظاهرا ، ولا يصح الاستدلال بالحديث هنا (١).

بل لا يصح حتى مع جعل الغاية عقلية ، لأن ظاهر أدلة البراءة الشرعية بيان معذرية الجهل بالحكم الواقعي ، لا معذورية غير القادر على الامتثال ، ومن المعلوم أنه لا قصور في العلم الإجمالي هنا ، بل هو مطلقا قابل للتأثير ، وانما المانع عدم التمكن من الامتثال المعتبر عقلا في استحقاق العقاب على تركه ، وحيث ان العجز عن الإطاعة القطعية غير مستند إلى الجهل ، بل إلى عدم القدرة عليها ، فلا سبيل لإثبات الترخيص بأدلة البراءة ، إذ ليست المعذورية هنا لأجل عدم حصول الغاية (٢).

الرابع : ما في حاشية الفقيه الهمداني على الرسائل من : «أنه لا معنى للرجوع إلى أصل الإباحة في مثل المقام مما لا يترتب عليه أثر عملي ، إذ لا معنى

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٣ ، ص ٢٣٣

(٢) نهاية الدراية ، ج ٣ ، ص ٢٣٦

٥٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لإجراء الأصل إلّا البناء على حصول مؤداه في مقام ترتيب الأثر من حيث العمل والمفروض أنه لا أثر له ، فلا معنى للرجوع إليه ، فليتأمل» (١).

أما الإشكال الأول ، فقد أجاب عنه شيخنا المحقق العراقي (قده) ـ بناء على مبناه من تعلق الأحكام الشرعية بالصور الذهنية التي ترى خارجية لا تتعداها إلى صورة أخرى ولا إلى وجود المعنون في الخارج بشهادة اجتماع اليقين والشك في وجود واحد بتوسط العناوين الإجمالية والتفصيلية ـ بأن متعلق الإلزام المعلوم تفصيلا ليس هو خصوص الفعل ولا خصوص الترك ، بل عنوان أحد الأمرين ، ومجرى الأصل هو الخصوصية المشكوكة بالوجدان ، قال المقرر : «فلا محالة ما هو معروض العلم الإجمالي انما هو عبارة عن عنوان أحد الأمرين المباين في عالم العنوانية مع العنوان التفصيليّ ، لا خصوص الفعل ولا خصوص الترك ، إذ كل واحد من الفعل والترك بهذا العنوان التفصيليّ لهما كان تحت الشك» (٢).

ولكن يمكن المناقشة فيه أوّلا : بعدم انفكاك مجرى الأصل عن متعلق العلم هنا ، وذلك لأن معروض العلم بالإلزام وان كان عنوان أحدهما ، إلّا أن هذا العنوان بما أنه ملحوظ مرآتا للخارج كما هو صريح كلامه (قده) فلا جرم يكون العبرة بذي المرآة وهو الخصوصية التي بنفسها جعلت مجرى للأصل.

وثانيا : بأن معروض علم المكلف هو خصوص الفعل وليس دائرا بين الفعل

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٧٢

(٢) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٢٩٤

٥٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والترك ، إذ موضوع الأحكام الشرعية سواء الاقتضائية أم التخييرية هو فعل المكلف ، وليس الترك موضوعا لحكم أصلا ، إذ المصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام قائمة بالأفعال ، ولا ينحل كل حكم إلى حكمين يتعلق أحدهما بالفعل والآخر بالترك حتى المباح ، فان معناه الترخيص في الفعل وليس تركه محكوما بحكم ترخيصي آخر غير ما تعلق بالفعل ، وقد نبهنا على ذلك في الجزء الثالث من هذا الشرح ، فلاحظ.

وعليه ففعل المكلف لا يخلو بمقتضى العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة من حكم إلزاميّ ، ويصح الإشارة إليه ويقال : ان هذا الفعل اما واجب واما حرام ، ومع العلم التفصيليّ بالإلزام المتعلق بالفعل كيف يمكن أن يحكم عليه بأنه مباح؟ إذ لا يعقل أن يكون الفعل الواحد مركبا لاعتبارين متضادين أو متناقضين.

ومنه ظهر أن مرتبة الحكم الظاهري غير محفوظة هنا كما أفاده المحقق النائيني (قده) ولا تصل النوبة إلى الجمع بين المعلوم بالإجمال وبين الحكم الظاهري بفعلية الثاني دون الأوّل. أو إلى القول بأن المخالفة هنا التزامية لا بأس بها.

نعم لا بد من إرجاع كلامه (قده) إلى أن العلم بالإلزام علم إجمالي بإحدى الخصوصيّتين ، إذ الإلزام بنفسه ليس حكما شرعيا مجعولا ، لانحصار الأحكام في الخمسة ، بل هو منتزع من الوجوب والحرمة ، ومجعول الشارع هو نوع التكليف لا غير ، فالمقام نظير العلم بالإلزام مع تعدد المتعلق ، فانه علم إجمالي بإحدى الخصوصيّتين من وجوب هذا أو حرمة ذاك ، ولذا يكون منجزا ومصححا للعقوبة على مخالفته.

٥٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أن أصالة الحل بمدلولها المطابقي تنافي العلم بالإلزام ، فالمانع من جعلها ثبوتي.

وأما الثاني فقد أجيب عنه في حاشية بعض المدققين (قده) بالنقض بالشبهة البدوية ، حيث «ان الاضطرار إلى أحد الأمرين من الفعل والترك موجود في تمام موارد الإباحات ، لعدم خلوّ الإنسان فيها من الفعل والترك. وهو غير الاضطرار المانع عن مطلق التكليف ، لصدور كل من طرفي الفعل والترك بالاختيار» (١).

لكن يمكن أن يجاب عنه بالفرق بين المقام والشبهة البدوية ، والفارق هو إمكان جعل الاحتياط هناك وعدمه هنا كما هو المفروض ، والمكلف وان لم يخل عن الفعل أو الترك هناك ، إلّا أن شيئا منهما غير مستند إلى الترخيص العقلي بمناط قبح الترجيح بلا مرجح ، بل الترك في مثل شرب التتن يستند إلى إيجاب الاحتياط شرعا ، والفعل فيه إلى مثل حديث الرفع الموجب للترخيص في مخالفة الإلزام المجهول.

فالصحيح أن يجاب عنه بعدم وصول النوبة إلى حكم العقل بالتخيير بمناط الاضطرار ، ضرورة أن حكمه في أمثال المقام ليس اقتضائيا من جهة كشفه عن الملاك التام كما في حسن العدل وقبح الظلم ونحوهما من المستقلات العقلية ، بل من باب عدم الاقتضاء بمعنى أنه معلق على عدم تعيين الوظيفة شرعا كما هو كذلك في كيفية الإطاعة لا أصلها ، ومن المعلوم أنه مع وصول الحكم الفعلي أو النافي له إلى المكلف لا يبقى موضوع لحكمه ، لإناطته بعدم جعل

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٩

٥٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الوظيفة ولو ظاهرا ، ومع العلم بالتكليف الظاهري ترتفع الحيرة كما لو حكم بترجيح جانب الحرمة في المقام ، فانه لا ريب في عدم حكمه بالتخيير ولزوم مراعاة ما قرره الشارع. وبناء على جريان قاعدة الحل في مورد الدوران بين المحذورين قد وصل النافي لفعلية التكليف بلسان جعل الأصل وتثبت الإباحة الظاهرية. ولو أريد بالتخيير التكويني منه كان صحيحا في حدّ نفسه ، إلّا أنه غير مانع من التعبد بالإباحة الظاهرية.

وأما الإشكال الثالث ، ففيه : أن الظاهر كون الغاية عقلية لا تعبدية جعلية ، فكل ما يكون منجزا للواقع ورافعا لمعذرية الجهل به عقلا هو الرافع للحلية المغياة.

ولعل هذا مختار المصنف لو لم يكن ظاهر كلامه في حاشية الرسائل فانه (قده) ـ بعد أن أجاب عن المناقضة بين صدر بعض أخبار الاستصحاب وذيله بأنه قضية عقلية محضة ليس فيها إعمال تعبد شرعي حتى يدعى ظهوره الإطلاقي في كل من العلم التفصيليّ والإجمالي بالانتقاض ـ حكم بذلك في هذه الرواية ورواية أخرى ، وقال : «وهكذا يمكن أن يكون حال الغاية في الروايتين بأن يكون غاية عقلية من دون أن يكون حكم شرعي في جانبها ، فلا يمنع عن شمول المغيا بإطلاقه ما يصح أن يعمه ، فتأمل فانه دقيق» (١).

وعليه فلا قصور في الصدر عن إثبات الحلية في المقام ، إذ المفروض أن الغاية المجعولة هي العلم بخصوص الحرام ، ومن المعلوم أن العلم بالإلزام الدائر بين الوجوب والحرمة ليس علما بخصوص الحرام.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٩

٥٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وما أفاده في موضع آخر «من قصور أدلة البراءة الشرعية عن إثبات الترخيص وان قلنا بكون الغاية عقلية ، لكونها مسوقة لبيان معذرية الجهل لا العجز عن الامتثال كما في المقام» لا يخلو من غموض أيضا ، فان اضطرار المكلف إلى أحد الأمرين وعجزه عن الامتثال انما نشأ من الجهل بوظيفته ، فلو قيل بترجيح احتمال الحرمة أو بالتخيير الشرعي لم يكن اضطرار في البين أصلا ، للزوم رعاية ما عينه الشارع في هذا المورد.

وعليه ، فلا مانع من استكشاف عدم فعلية التكليف مما دلّ على أصالة الحل ، وإسناد الترخيص في الفعل والترك إلى الشارع.

وأما الإشكال الرابع ، فقد أجيب عنه نقضا بلزوم لغوية التعبد بالأمارات النافية للتكليف مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ولو قيل بصحة اسناد التكليف المنفي إلى الشارع عند قيام الأمارة النافية له ، وعدم وصول النوبة إلى نفيه بقاعدة القبح ، قلنا بكفاية استناد المكلف هنا في كل من فعله وتركه إلى الشارع بما أنه عبد مملوك ينبغي أن يكون وروده وصدوره بأمر الشارع واذنه ، فله حينئذ الإتيان بالمحتمل اعتمادا على أصالة الحل والترك كذلك.

وقد تحصل : أن عمدة الإشكال هي ما أفاده الميرزا قدس‌سره. هذا كله في أصالة الإباحة.

وأما أصالة البراءة الشرعية المستندة إلى مثل حديث الرفع ، فظاهر المتن عدم جريانها. ولعل الوجه فيه ما أفاده المحقق النائيني (قده) من أن الرفع فرع إمكان الوضع ، وفي مورد الدوران بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما للفعل الواحد لا تعيينا ولا تخييرا حتى يرفعهما جميعا وتجري

٥٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

البراءة ، إذ الملاك ان كان هو المصلحة الملزمة فاللازم كون المجعول هو الوجوب ، وان كان هو المفسدة الملزمة فاللازم كون المجعول هو الحرمة ، ولا يعقل أن يكون الفعل الواحد واجدا لكلا الملاكين. ومنه يتضح عدم معقولية وضعهما أيضا تخييرا بأن يقول الشارع : «افعل هذا أو اتركه» مع فرض تبعية الحكم الإلزامي للملاك الملزم ، وامتناع اجتماع ملاكين ملزمين في فعل واحد ، ومع تعذر الوضع لا يعقل تعلق الرفع بكل من الوجوب والحرمة.

وأجاب عنه سيدنا الأستاذ (قده) بأن مجرى البراءة هو الوجوب والحرمة تعيينا ، فتجري تارة في الوجوب المشكوك فيه وتنفي المؤاخذة على تركه ، وأخرى في الحرمة المحتملة وتنفي العقوبة على الفعل ، وجعل كل من الوجوب الحرمة تعيينا وان كان محالا ، ولكن جريان حديث الرفع منوط باجتماع شرائطه من كون المشكوك فيه حكما شرعيا وكون رفعه منة وعدم مانع من الجعل كما هو الحال في الأصول التنزيلية. وأما ما ذكر من اعتبار إمكان الوضع في إمكان الرفع فلا دليل عليه حتى يمتنع الرفع أيضا بامتناعه ، بل شأنية الوضع كافية ، ومن الواضح إمكان جعل الوجوب بخصوصه هنا أو الحرمة بعينها كما يلتزم به القائل بترجيح جانب التحريم.

والحاصل : أن المرفوع هنا هو الوجوب المحتمل القابل للوضع والرفع التشريعيين ، فمجرى الأصل هو كل واحدة من الخصوصيّتين ، وليس مفاده مفادا جمعيا رافعا لنفس الإلزام المعلوم كما هو الحال في أصالة الحل ، ولذا كان رتبة الجعل غير محفوظة فيها.

ثم منع (قده) عن جريانها ، لوجهين أحدهما : أن شرط جريانها وهو

٥٨٠