منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

أن الميتة تعم غير المذكى

______________________________________________________

استصحاب عدم التذكية ، وأخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت ، والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة» ثم أجاب عن إشكال المعارضة أوّلا بأنه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية ، ولا يتوقف على ثبوت الموت حتى ينفى بانتفائه ولو بالأصل ... إلى أن قال : «وثانيا : ان الميتة عبارة عن غير المذكى ، إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه ، بل كل زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا» ومحصل كلامه (قده) في الجواب عن إشكال المعارضة أمران :

أحدهما : أن كلّا من الميتة والمذكى وان سلمنا كونه وجوديا ، لكن لا مجال مع ذلك لتعارض الاستصحابين ، لتوقفه على ترتب الطهارة والحلية على المذكى ، والحرمة والنجاسة على خصوص عنوان الميتة ، وليس كذلك ، بل هما كما تترتبان على الميتة كذلك تترتبان ـ بمقتضى الأدلة مثل مفهوم قوله تعالى : «الا ما ذكيتم» ـ على عنوان «ما لم يذك» أيضا ، وعلى هذا فيبقى استصحاب عدم التذكية سليما عن المعارض.

ثانيهما : أنه لو سلمنا اختصاص موضوع الحرمة والنجاسة بالميتة جمودا على ظاهر قوله تعالى : «حرمت عليكم الميتة» وعدم كونهما من أحكام «ما لم يذك» فيمكن إثبات المدعى ـ وهو حرمة غير المذكى أيضا ـ بأن الميتة وان كانت بحسب اللغة بمعنى ما مات حتف أنفه ، إلّا أنها شرعا بمعنى غير المذكى ، فزهوق روح الحيوان ان استند إلى التذكية الشرعية كان الحيوان مذكى ، وان لم يستند إليها كان ميتة سواء مات حتف أنفه أي بلا سبب خارجي ، أم مات لا بحتف أنفه أي بسبب خارجي ، بأن كان موقوذا يعني مقتولا بالضرب أو مترديا يعنى ملقى من شاهق ، أو مأكول سبع ، أو منخنقا ، أو مذبوحا فاقدا لبعض الشرائط

٤٢١

شرعا (١) ، ضرورة (٢) كفاية كونه (٣) مثله حكما ، وذلك (٤) بأن التذكية انما هي عبارة عن فري الأوداج

______________________________________________________

كما إذا كان الذبح إلى غير القبلة ، أو كان الذابح غير مسلم بناء على اعتبار الإسلام فيه ، أو غير ذلك ، فان أحكام الميتة تترتب على جميع ذلك ، هذا غاية توضيح كلام الشيخ (قده).

والمصنف اختار ما ذكره الشيخ الأعظم في الجواب الأول ، واستدل عليه بالإجماع لا بمفهوم قوله تعالى : «الا ما ذكيتم» وأورد على الجواب الثاني بأن إدراج «ما لم يذك» في الميتة غير وجيه ، لأن الميتة لغة عبارة عن خصوص ما مات حتف أنفه ، وهذا المعنى مباين لغير المذكى ، لأنه عبارة عما زهق روحه بسبب غير شرعي ولو كان بالذبح الفاقد لبعض الشروط كالاستقبال والتسمية. ومع مباينة هذين الموضوعين معنى لا وجه لتعميم أحدهما وهو الميتة للآخر أعني غير المذكى كما صنعه شيخنا الأعظم ، نعم هما متحدان حكما ، للإجماع على لحوق أحكام الميتة لما لم يذك من الحيوانات ، وبهذا يصير «غير المذكى» موضوعا لحكم الشارع بحرمة لحمه ، ولا مانع من إحرازه بأصالة عدم التذكية.

(١) كما التزم بهذا التعميم شيخنا الأعظم ، فحكم بأن الميتة شرعا أعم من الميتة لغة.

(٢) تعليل لقوله : «فلا حاجة» وبيان لوجه التعريض بكلام الشيخ كما عرفت.

(٣) أي : كفاية كون «ما لم يذك» مثل «ما مات حتف أنفه» المستفادة من قوله : «وهو حرام إجماعا كما إذا مات حتف أنفه» حكما وان اختلفا مفهوما ، فيحكم عليه بالحرمة والنجاسة كما حكم بهما على ما مات حتف أنفه.

(٤) بيان لوجه جريان أصالة عدم التذكية المتقدم في قوله : «فأصالة عدم التذكية تدرجه فيما لم يذك» ومحصله : أن التذكية لما كانت عبارة عن فري

٤٢٢

الأربعة (١) مع سائر شرائطها عن خصوصية في الحيوان التي (٢) (*) بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية ، ومع الشك في تلك الخصوصية ، فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري

______________________________________________________

الأوداج الأربعة مع الشرائط الشرعية التي منها خصوصية في الحيوان تجعله قابلا لتأثير التذكية بهذا المعنى في ترتب الطهارة فقط ، أو هي مع حلية الأكل على الحيوان ، فإذا شك في تحقق شيء منها جرى استصحاب عدم التذكية ، لأنه في حال حياته لم يكن مذكى ، فالآن كما كان.

(١) صريح هذا الكلام أن التذكية بنظر المصنف هو نفس الذبح بالشرائط لا المجموع المركب من الأمور المعهودة مع القابلية ، ولا الأمر البسيط المتحصل من الأفعال.

(٢) المراد بالموصول هو الخصوصية التي عبر عنها شيخنا الأعظم بالقابلية والضمير المستتر في «يؤثر» راجع إلى الفري ، وضمير «فيه» إلى الحيوان و «الطهارة» مفعول لـ «يؤثر» يعني : أن الفري بسبب تلك الخصوصية يؤثر في الحيوان الطهارة وحدها فيما لا يؤكل لحمه كالأرانب والثعالب وغيرهما إلّا أن يكون نجس العين ، أو الطهارة مع الحلية فيما يؤكل لحمه كالغنم.

وبالجملة : فمقتضى استصحاب عدم التذكية عند الشك في القابلية هو عدم الحلية والطهارة ، ولا مجرى لأصالة الإباحة في لحم الحيوان المشكوك قابليته لها.

__________________

(*) الظاهر زيادتها ، لتمامية المعنى بدونها ، وان فرض بقاؤها فاللازم تعريف «خصوصية» لتطابق الصفة موصوفها. وحق العبارة أن تكون هكذا «عن خصوصية في الحيوان بها يؤثر فيه الطهارة وحدها ... إلخ».

٤٢٣

بسائر شرائطها (١) كما لا يخفى.

نعم (٢) لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلية فأصالة الإباحة

______________________________________________________

(١) من التسمية واستقبال الذبيحة وإسلام المذكي والذبح بالحديد.

(٢) استدراك على قوله : «فالأصل عدم تحقق التذكية» وإشارة إلى الصورة الثانية ، وهي ما إذا كان الشك في حلية لحمه مع العلم بتأثير التذكية في طهارته ، وغرضه من هذا الاستدراك : أن أصالة الإباحة تجري في هذه الصورة الثانية ، توضيح ذلك : أنه إذا علم قابلية الحيوان للتذكية وعلم حصول طهارته بها لإحراز الذبح بشرائطه ، لكن شك في حلية لحمه أيضا بالتذكية ، فان أصالة الحل تجري ويحكم بحلية لحمه ، ولا مجال للأصل الحاكم وهو استصحاب عدم التذكية ، للعلم بتحققها حسب الفرض ، والشك انما هو في أن ما يترتب عليها أثران وهما الطهارة والحلية كما تترتبان على تذكية مأكول اللحم أو أثر واحد وهو الطهارة فقط كما تترتب على تذكية غير مأكول اللحم؟ يعني نعلم أن هذا الحيوان قابل للتذكية ، لكن لا نعلم أنه من قبيل البقر والغنم أو من قبيل الأرنب والثعلب ، فيحكم بطهارته استنادا إلى التذكية ، وبحلية لحمه استنادا إلى أصالة الحل.

ووجه عدم المجال للأصل الحاكم ـ أعني استصحاب عدم التذكية ـ أنه ليس هنا أصل يجري في نفس قابلية الحيوان لحلية لحمه بالتذكية حتى يستند إليه ويحكم بمقتضاه بحلية لحمه مثلا ، لأن الحيوان إمّا خلق قابلا لها أو خلق غير قابل لها ، فليس للقابلية المذكورة أو لعدمها حالة سابقة حتى تستصحب ، وحيث لا يجري الأصل الحاكم ، فتصل النوبة إلى الأصل المحكوم أعني أصالة الحل كما عرفت ، لأن هذا الحيوان بعد ورود التذكية الموجبة لطهارته عليه

٤٢٤

فيه محكمة ، فانه حينئذ (١) انما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام ، ولا أصل فيه إلّا أصالة الإباحة (*) كسائر ما شك (٢) في أنه من الحلال أو الحرام.

______________________________________________________

يكون طاهرا مشكوك الحل والحرمة ، فيحكم بحليته استنادا إلى أصالة الحل ، فهو نظير شرب التتن المشكوك حكمه الكلي ، حيث تجري فيه أصالة الحل بلا مانع كما هو واضح.

(١) أي : حين العلم بقبوله للتذكية وصيرورته طاهرا بورودها عليه.

(٢) كالشك في حلية شرب التتن ونحوه من الشبهات الحكمية ، فان المرجع فيه أصالة الحل.

__________________

(*) إلّا أن يقال : ان هنا أصلا حاكما على أصالة الإباحة وهو استصحاب حرمته قبل التذكية إما لحرمة أكل الحيوان ذاتا أو عرضا لعدم التذكية ، ومن المعلوم حكومة هذا الاستصحاب على أصالة الإباحة ، فيحكم في هذا الفرض بطهارة الحيوان وحرمة لحمه كما قيل. ولا يقاس المقام بمثل شرب التتن مما شك في حكمه الكلي ، لانحصار الأصل فيه بأصالة الإباحة ، وعدم أصل حاكم عليه بخلاف المقام كما عرفت.

اللهم إلّا أن يدعى جريان أصالة الإباحة في الحيوان القابل للتذكية الموجبة لطهارته قطعا المشكوك كونه حلالا ذاتا ، فيحكم بأنه مما يحل أكله ، فإذا جرى هذا الأصل في الحيوان كان حاكما على استصحاب حرمته ، لتقدم رتبته على الاستصحاب ، حيث ان مجرى أصالة الإباحة هو ذات الحيوان ، فإذا ثبتت حليته بالأصل وأنه من الحيوانات المحللة كانت التذكية لا محالة واقعة على الحيوان المحلل الأكل ، ومعه لا مجال لاستصحاب حرمته قبل التذكية ، لعدم الشك في الحرمة لأجل عدم التذكية.

٤٢٥

هذا (١) إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله

______________________________________________________

(١) إشارة إلى الصورة الثالثة وهي ما إذا كان الشك في الحكم لأجل الشك في مانعية شيء عن تأثير التذكية في الطهارة وحدها أو هي مع الحلية ، يعني : ما ذكرناه ـ من عدم جريان الأصل الحكمي كأصالتي الحل والطهارة عند جريان الأصل الموضوعي كاستصحاب عدم التذكية لوروده عليه ـ انما هو فيما إذا لم يكن أصل موضوعي آخر يوافق الأصل الحكمي ، ونعني بالأصل الموضوعي الموافق له ما يثبت قابليته للتذكية ، فلو كان هناك أصل موضوعي موافق حكم به ولم يجر الأصل الحكمي كما لم يجر في الصورة الأولى.

وغرضه (قده) من هذا الكلام : أن ما ذكرناه في الصورة الأولى ـ من عدم جريان أصالة الإباحة مع وجود الأصل الموضوعي المخالف لها كاستصحاب عدم التذكية المقتضي لنجاسة الحيوان وحرمة لحمه كما عرفت توضيحه ـ بعينه جار في هذه الصورة الثالثة وهي ما إذا كان الأصل الموضوعي موافقا لأصالة الإباحة ، كاستصحاب قبوله التذكية الموافق لأصالة الطهارة والحلية فانها لا تجري أيضا ، وانما الجاري هو الأصل الموضوعي المقتضي لطهارة الحيوان وحلية لحمه ، فيستند فيهما إليه كما أشرنا إليه وإلى وجهه ، ونقول هنا توضيحا : ان الأصل الموضوعي كالاستصحاب إذا جرى في مورد كان واردا على أصالة الحل سواء وافقها في المؤدى كاستصحاب قابلية الحيوان للتذكية

__________________

فان كان هذا مراد المصنف (قده) بقوله : «ولا أصل فيه إلّا أصالة الإباحة» فلا بأس به ، وإلّا فيرد عليه أن مقتضى الاستصحاب في هذا الحيوان المذكى هو الحرمة لا أصالة الإباحة ، وهذا الاستصحاب من قبيل القسم الثاني من الاستصحاب الكلي ، إذ لو كانت حرمة الحيوان ذاتية ، فهي باقية بعد التذكية وان كانت عرضية ، فهي مرتفعة بالتذكية ، فتدبر.

٤٢٦

التذكية ، كما إذا شك (١) مثلا في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها أم لا (٢)؟

______________________________________________________

أم خالفها فيه كاستصحاب عدم التذكية ، وذلك لزوال الشك في ناحية الحكم بإجراء الأصل الموضوعي.

وعلى هذا فإذا علم قابلية حيوان للتذكية وشك في ارتفاعها بجلل ونحوه ، فان استصحاب بقاء القابلية للتذكية ـ بعد صيرورته جلّالا ـ يحرز قيد التذكية الموجبة لحلية اللحم حينئذ ، وهذا الأصل الموضوعي الموافق لأصالة الحل كما يمنع عن جريان أصالة الحل ، لكونها مورودة به كذلك يمنع عن جريان أصالة عدم التذكية ، لأن منشأ الشك في التذكية ليس أصل القابلية حتى تجري أصالة عدم التذكية من جهة عدم إحراز شرط التذكية وهو القابلية ، بل منشأ الشك بقاء القابلية بعد العلم بوجودها حسب الفرض ، وانما الشك في رافعية الموجود ـ وهو الجلل ـ لها ، فتستصحب ويحرز بقاؤها تعبدا ، وقد أحرز ورود فعل المذكّي عليه بالوجدان ، فتحرز التذكية بما لها من الاجزاء والشرائط ـ بناء على تركبها من فري الأوداج وغيره ـ كسائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها بالأصل ، فلا يكون استصحاب القابلية مثبتا.

نعم بناء على بساطة التذكية وهي الأثر المترتب على الذبح لا تثبت التذكية الفعلية بأصالة بقاء القابلية إلّا على القول بحجية الأصل المثبت ، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الاستصحاب التعليقي كما سيأتي عند شرح كلمات المصنف (قده).

(١) مثال للمنفي وهو وجود أصل موضوعي آخر في المسألة غير أصالة عدم التذكية وهو الأصل الموضوعي المثبت للتذكية كاستصحاب قبول الحيوان لها ، وقد عرفت توضيحه. ثم ان هذا إشارة إلى الصورة الثالثة.

(٢) هذا مجرد فرض ، وإلّا فلا شك بحسب الأدلة الاجتهادية في عدم حلية لحم

٤٢٧

فأصالة قبوله (١) لها معه محكّمة ، ومعها (٢) لا مجال لأصالة عدم تحققها ، فهو (٣) قبل الجلل كان يطهر (*) ويحل بالفري بسائر شرائطها ، فالأصل أنه (٤) كذلك بعده.

______________________________________________________

الجلّال بالذبح ، بل تتوقف على استبراء الحيوان على النحو المذكور في الكتب الفقهية.

(١) أي : فأصالة قبول الحيوان للتذكية ، يعني : استصحاب قابليته لها الثابتة له قبل الجلل محكمة ، وضمير «قبوله» راجع إلى «الحيوان» وضمير «لها» إلى التذكية ، وضمير «معه» إلى «الجلل».

(٢) يعني : ومع أصالة بقاء قابليته للتذكية الثابتة له قبل الجلل لا مجال لجريان أصالة عدم تحقق التذكية ، لتقدم استصحاب القابلية التي هي شرط للتذكية عليها.

(٣) هذا استصحاب حكمي تعليقي لإثبات الطهارة والحلية ، بأن يقال : كان هذا الحيوان قبل الجلل إذا ذبح على الوجه المشروع يطهر ويحل ، وهو باق على ما كان عليه.

(٤) هذا الضمير راجع إلى الحيوان ، وقوله : «كذلك» يعني : يطهر ويحل بالفري مع سائر شرائط التذكية ، وضمير «بعده» راجع إلى الجلل ، يعني : أن مقتضى الأصل وهو الاستصحاب صيرورة الحيوان طاهرا وحلالا بالفري مع سائر الشرائط بعد الجلل أيضا.

__________________

(*) لا يخفى أن مقتضى الشك في بقاء القابلية هو استصحاب نفس القابلية التي هي قيد موضوع الحكم التنجيزي وهو الطهارة والحلية الفعليتان ، فان استصحاب قيد الموضوع يثبت فعلية الحكم ، كما إذا شك المقلد في بقاء عدالة مجتهده ، فان استصحاب عدالته يثبت فعلية جواز تقليده.

٤٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد تحصل إلى هنا : أن المصنف (قده) بيّن من صور الشك في التذكية ثلاث صور للشبهة الحكمية :

الأولى : الشك في أصل قابلية الحيوان للتذكية ، وأنه خلق قابلا لها أم لا ، وقد عرفت أن الجاري فيه هو الأصل الموضوعي أعني استصحاب عدم التذكية ، فيحكم بنجاسته وحرمة لحمه.

الثانية : الشك في مقدار قابليته لها بعد العلم بأصلها ، فلا يعلم أن المترتب عليها هل هو الطهارة فقط أم هي مع الحلية ، وقد عرفت أيضا أن الجاري فيه هو الأصل الحكمي ، فيحكم بطهارته استنادا إلى التذكية ، وبحلية لحمه إلى

__________________

ولم يظهر وجه لعدول المصنف (قده) عن استصحاب القابلية إلى الاستصحاب التعليقي ، ولعل وجهه هو كون التذكية عبارة عن الأثر المترتب على فري الأوداج وغيره ، واستصحاب القابلية لا يثبت التذكية بهذا المعنى إلّا على القول بالأصل المثبت. لكنه لو كان كذلك ، فيتوجه عليه أوّلا : أن التذكية عنده على ما صرح به قبيل هذا هي فري الأوداج مع سائر شرائطها عن خصوصية في الحيوان ، وعليه فالقابلية من قيود التذكية ، ومن المعلوم صحة جريان الاستصحاب في نفسها وترتب الحكم التنجيزي عليه من دون لزوم إشكال المثبتية.

وثانيا : أن الجاري بعد فرض كون التذكية هي الأثر هو الاستصحاب التعليقي الموضوعي لا الحكمي ، ضرورة أنه مع إمكان جريان الأصل الموضوعي لا تصل النوبة إلى الأصل الحكمي ، فيقال في تقريب الاستصحاب التعليقي الموضوعي : كان هذا الحيوان قبل الجلل إذا قطعت أوداجه بالشروط المخصوصة يصير ذكيا ، وهو باق على ما كان ، ومعه لا يجري الاستصحاب الحكمي التعليقي ، فتأمل جيدا.

٤٢٩

ومما ذكرنا (١) ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة

______________________________________________________

أصالة الحل.

الثالثة : الشك في بقاء القابلية ، لاحتمال ارتفاعها ببعض ما طرأ على الحيوان كالجلل ، وقد عرفت أن الجاري فيه هو الأصل الموضوعي أيضا أعني استصحاب قابليته لها ، فيحكم بطهارته وحلية لحمه. هذا كله في صور الشبهة الحكمية من الشك في التذكية ، وأما صورتا الشبهة الموضوعية منه ، فسيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

(١) هذا شروع في بيان صورتي الشبهة الموضوعية من الشك في التذكية ، يعني ومما ذكرنا ـ من جريان أصالة عدم التذكية إذا شك في أصل القابلية كما في الصورة الأولى من صور الشبهة الحكمية ، وجريان أصالة بقاء القابلية إذا شك في زوالها بجلل ونحوه كما في الصورة الثالثة منها ـ ظهر حكم صورتي الشبهة الموضوعية ، بتقريب : أن منشأ الشك في التذكية ان كان هو الشك في وجود ما يعتبر فيها من إسلام الذابح وتوجيه الحيوان إلى القبلة ونحوهما جرى فيها أصالة عدم التذكية ، فإذا شك في أن ذابح هذا الحيوان كان مسلما أم لا ، أو ذبحه إلى القبلة أم لا حكم بعدم كونه مذكى ، كما هو كذلك فيما إذا شك في أنه غنم أو كلب ، حيث عرفت في الصورة الأولى من الشبهة الحكمية أنه لا يحكم عليه بالتذكية.

وان كان منشأ الشك فيها هو الشك في ارتفاع القابلية لاحتمال تحقق الجلل بأكل عذرة الإنسان مدة يشك في تحققه به فيها ـ جرى استصحاب بقائها ، فيحكم بكونه مذكى ، لكون الشك حينئذ في وجود الرافع ، كما كان استصحاب بقائها جاريا عند الشك في رافعية الجلل الموجود ـ لو فرض الشك في رافعيته شرعا ـ كما تقدم في الصورة الثالثة من الشبهة الحكمية ، حيث

٤٣٠

الموضوعية من الحيوان ، وأن (١) أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لأجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا ، كما أن (٢) أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروء ما يمنع عنه (٣) ، فيحكم بها (٤)

______________________________________________________

عرفت أنه يحكم عليه بالتذكية ، وهاتان هما صورتا الشبهة الموضوعية ، فمجموع الصور خمس كما عرفت.

(١) معطوف على «الحال» وتفسير له وإشارة إلى الصورة الرابعة ، وهي الأولى من صورتي الشبهة الموضوعية.

(٢) إشارة إلى الصورة الخامسة ، وهي الثانية من صورتي الشبهة الموضوعية وقد تقدم بقولنا : وان كان منشأ الشك فيها هو الشك في ارتفاع القابلية ... إلخ.

والمتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه في الصورة الأولى من الشبهة الحكمية والأولى من الشبهة الموضوعية يحكم بأصالة عدم التذكية ، فيحكم بنجاسة الحيوان وحرمة لحمه ، وفي الثانية والثالثة من الشبهة الحكمية والثانية من الموضوعية يحكم بالتذكية ، فيحكم بطهارته وحلية لحمه.

(٣) أي : عن قبول التذكية.

(٤) أي : بالتذكية في صورة إحراز فري الأوداج مع سائر شرائط التذكية عدا ما يمنع عن قبول التذكية ، يعني : إذا كان الحيوان قابلا للتذكية كالغنم ، فأجرينا الفري مع باقي شرائط التذكية عليه ، وشككنا في عروض ما يمنع عن تحققها كالجلل ، فان أصالة قبول التذكية محكمة ، فيحكم بها ، فتكون التذكية محرزة بما لها من الاجزاء والشرائط ، غاية الأمر أن بعضها حينئذ محرز بالوجدان كفري الأوداج ، وبعضها ـ وهو بقاء القابلية ـ بالتعبد أعني الاستصحاب ، وهذا كسائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها بالتعبد ، وقد تقدم بعض الأمثلة في مباحث القطع وغيره ، فراجع.

٤٣١

فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه (١) كما لا يخفى (*) ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

(١) الضمير راجع إلى «ما» في قوله : «ما يمنع عنه».

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بتوضيح المتن ، وبيان الصور الخمس التي ذكرها المصنف (قده).

__________________

(*) لا يخفى أن مسألة التذكية لمّا كانت من المسائل المهمة المبتلى بها واشتملت على الجهات التي اختلفت فيها أنظار الأصحاب ولم يتعرض المصنف لأكثرها ، فلا بأس بالتعرض لجملة منها ، فنقول وبه نستعين : ان في هذه المسألة مباحث :

الأول : أن موضوع حكم الشارع بالطهارة وحدها أو مع الحلية هو المذكى كما أن ما يقابله موضوع حكمه بالحرمة والنجاسة ، ولا بد من ملاحظة النسبة بين هذين الموضوعين حتى يتضح جريان الأصل فيهما وعدمه ، أو في أحدهما دون الآخر ، فاعلم : أن الميتة تطلق تارة على الحيوان الّذي زهق روحه بأي وجه اتفق ولو بالتذكية الشرعية ، فالنسبة بينهما حينئذ هي العموم والخصوص ، إذ كل مذكى ميتة ولا عكس ، فالمذكى وعدم المذكى وصفان لما زهق روحه ، ولا يتصف الحيوان الحي بشيء منهما.

وأخرى على الحيوان غير المذكى مما له قابلية التذكية ، والميتة بهذا المعنى تقابل المذكى تقابل العدم والملكة ، وعليه فتطلق الميتة بلا عناية على الجنين الّذي لم تلجه الروح ، وهذا الوجه مع سابقه يشتركان في كون المذكى والميتة وصفين للحيوان غير الحي ، وعدم اتصاف الحي بشيء منهما ، ويفترقان في صدق الميتة على المذكى في الوجه السابق ، لكونه من أفرادها ، بخلاف هذا الوجه ، فانها لا تصدق على المذكى ، بل هما متقابلان تقابل العدم والملكة كما مر آنفا.

٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وثالثة على الحيوان الّذي لم يذك شرعا وان لم يكن له شأنية التذكية ، والميتة بهذا المعنى تقابل المذكى تقابل السلب والإيجاب لا تقابل العدم والملكة وهذا ظاهر حاشية بعض المحققين (قده) على المتن ، حيث قال : «وان كانا متقابلين بتقابل السلب والإيجاب بمعنى أن عدم التذكية وان كان عدم ما شأنه أن يكون مذكى وهو ما زهق روحه ، لكنه لم يؤخذ العدم هكذا موضوعا للحكم بل أخذ ما يصدق حال الحياة وهو ليس بمذكى ، وذلك كعدم البصر يؤخذ تارة بنحو عدم ما من شأنه أن يكون بصيرا ، فيساوق العمى ، فلا يصدق إلّا على الحيوان ، وأخرى بنحو السلب المقابل للإيجاب ، فيقال : الجدار ليس ببصير كما أنه ليس بأعمى ، فإذا سلب المذكى عن الحيوان في حال حياته فقد صدق السلب المقابل للإيجاب وان لم يصدق العدم المضاف إلى ما من شأنه أن يكون مذكى».

ورابعة على الحيوان الّذي زهق روحه على وجه خاص وهو الموت حتف الأنف ، فما خرج روحه بأسباب خارجية وان لم تكن موجبة لذكاته ليس ميتة فمثل الموقوذة والمتردية لا ميتة ولا مذكاة. وعليه فالميتة أمر وجودي ، لأنها خرج روحه على الوجه المعهود ، والتقابل بينهما تقابل التضاد ، ومبنى اعتراض بعض الأصحاب كالفاضل التوني (ره) على المشهور القائلين بجريان أصالة عدم التذكية لإثبات الحرمة والنجاسة في الحيوان الّذي شك في تذكيته هو الميتة بهذا المعنى أي ما مات حتف أنفه. توضيح الاعتراض هو سقوط أصالة عدم التذكية بمعارضتها بأصالة عدم الموت حتف الأنف ، والرجوع إلى قاعدتي الحل

٤٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والطهارة ، وسيأتي تفصيل البحث فيه إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت إطلاقات الميتة ، فاعلم : أنه بناء على الإطلاق الأول يجري استصحاب عدم التذكية بلا مانع ، إذ الموت بمعنى زهوق الروح من دون اعتبار كونه حتف الأنف محرز وجدانا ، فلا يجري فيه الأصل بأن يقال : الأصل عدم كونه ميتا حتى يعارض أصالة عدم التذكية. وكذا يجري أصالة عدم كونه مذكى على الإطلاق الثاني والثالث بلا مانع ، لعدم جريان أصالة عدم كونه ميتا. ومنع جريان أصالة عدم التذكية استنادا إلى عدم كون عدم التذكية حال الحياة موضوعا لحكم حتى يستصحب ، إذ المفروض كون المذكى وغير المذكى وصفين للحيوان غير الحي ، ممنوع ، لكفاية ترتب الأثر على المستصحب بقاء في جريان الاستصحاب ، وعدم توقف جريانه على ترتب الأثر على المستصحب حدوثا وبقاء معا ، فأصالة عدم التذكية في جميع إطلاقات الميتة جارية بلا مانع إلّا في الإطلاق الرابع كما أشرنا إليه آنفا.

الثاني : أن عدم المذكى الّذي هو موضوع الحرمة والنجاسة تارة يؤخذ بنحو العدم المحمولي وأخرى بنحو العدم النعتيّ ، فعلى الأول يكون الموضوع مركبا من أمرين وجودي وهو زهوق الروح ، وعدمي وهو عدم التذكية ، فكأنه قيل : الحيوان الّذي زهق روحه ولم يذك حرام ونجس ، فإذا أحرز زهوق روح حيوان ولم يحرز ذكاته فلا مانع من إحراز عدمها بأصالة عدم التذكية ، حيث ان ذكاته كانت معدومة حال حياته ، فيستصحب عدمها إلى زمان زهوق روحه ، فيتم موضوع الحرمة والنجاسة بضم الأصل إلى الوجدان ، كسائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها بالتعبد ، نظير استصحاب عدم اذن

٤٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المالك حين استيلاء الغير على ماله ، فان الاستيلاء المحرز بالوجدان بعد ضمّ عدم اذن المالك بالتصرف فيه إليه يوجب ضمان المستولي عليه ، إذ موضوعه مركب من الاستيلاء وعدم اذن المالك ، فمع الشك في اذنه لا مانع من استصحاب عدمه.

وعلى الثاني يكون الموضوع مقيدا ، بمعنى أن موضوع الحرمة والنجاسة هو الزهوق المقيد بعدم كونه عن تذكية شرعية ، ومن المعلوم أن هذا الموضوع المقيد لا حالة سابقة له ، فلا يجري فيه الأصل.

فتحصل : أنه بناء على العدم المحمولي تجري أصالة عدم التذكية ويثبت بها موضوع الحرمة والنجاسة ، لكونه من الموضوعات المركبة ، وبناء على العدم النعتيّ الموجب لكون الموضوع من الموضوعات المقيدة لا تجري ، لأن العدم النعتيّ لا حالة سابقة له ، وإثباته بإجراء الأصل في العدم المحمولي منوط بحجية الأصول المثبتة.

الثالث : الظاهر أن موضوع الحرمة والنجاسة شرعا هو عدم المذكى وان لم يكن ذلك معنى لغويا ولا عرفيا للميتة كما هو ظاهر الآية الشريفة ، حيث ان الميتة جعلت فيها في قبال الموقوذة والمتردية وغيرهما ، فلا بد أن تكون الميتة غيرها وهو ما مات حتف أنفه ، إلّا أن المراد بها في غير الآية هو عدم المذكى وان لم يصدق عليه الميتة بمعناها اللغوي ، فكل ما لم يذك فهو ميتة. ويشهد بذلك جملة من النصوص ، كمضمرة سماعة : «إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده ، وأما الميتة فلا» (١) فان الميتة جعلت في مقابل المذكى المستفاد من قوله عليه‌السلام : «إذا رميت وسميت» فيراد بالميتة

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٤٩ من أبواب النجاسات الحديث ١ ، ص ١٠٧٢

٤٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

حينئذ عدم المذكى. وصحيح ابن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت [ميتة] وما أدركت من سائر جسده حيا فذكّه ثم كل منه» (١) فان إطلاق الميت على الشيء المقطوع مع عدم خروج الروح عنه بالموت حتف الأنف اما حقيقي كما يظهر من محكي المصباح ، حيث فسر الميتة بـ «ما لم تلحقه الذكاة سواء مات بحتف أنفه أو قتل وذبح بغير الوجه الشرعي» وفي الصحاح وعن القاموس «أنها ما لم تلحقها الذكاة» واما تنزيلي ، وعلى التقديرين يدل هذا الإطلاق على كون ما زهق روحه بغير التذكية ميتا أو بحكمه ، وكذا غير ما ذكر من النصوص الدالة على ثبوت ما للميتة ـ من الأحكام الأربعة وهي النجاسة وعدم صحة الصلاة فيها وحرمة الانتفاع بها ولو في الجملة وعدم جواز الأكل ـ لغير المذكى تذكية شرعية ، هذا.

مضافا إلى ما ادعي من التسالم والاتفاق على كون الموضوع للأحكام الأربعة المتقدمة عدم المذكى لا خصوص الميتة وان تغايرا مفهوما ، فلا جدوى في إثبات اتحادهما مفهوما وتغايرهما كذلك.

ومن هنا يظهر ضعف ما عن الفاضل التوني (ره) «من سقوط أصالة عدم التذكية لمعارضتها بأصالة عدم الموت حتف الأنف والرجوع إلى قاعدتي الحل والطهارة» وذلك لأن موضوع الحرمة والنجاسة ليس عنوان الميتة حتى يقال : انها أمر وجودي ، فيجري فيها أصالة العدم ، بل موضوعهما كما عرفت هو عدم المذكى فلا يجري الأصل في الميتة حتى يعارض أصالة عدم التذكية ، بل الأصل الجاري بلا مانع هو أصل عدم التذكية ، وهو ينقح موضوع النجاسة والحرمة ، فلا وجه

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٦ ، الباب ٢٤ من أبواب الصيد ، الحديث : ٢ ص ٢٣٧

٤٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

للحكم بالحلية والطهارة من هذه الناحية.

لكن قد يستدل لهما من ناحية أخرى ، وهي : أن الطهارة والحلية كما تنشئان عن خصوصية في الحيوان ، كذلك الحرمة ، فانها تنبعث عن مفسدة وجودية قائمة بخصوصية وجودية ، والنجاسة تنشأ مما يوجب تنفر الطبع ، فأصالة عدم التذكية معارضة بأصالة عدم ثبوت تلك الخصوصية المقتضية للحرمة والنجاسة فيرجع حينئذ إلى قاعدتي الحل والطهارة.

لكن في هذا الاستدلال أوّلا ما قيل من : «أن التضاد بين المذكى وما يقابله لا يقتضي نشوء الحرمة والنجاسة عن خصوصية وجودية في الحيوان ، لإمكان أن يكون المقتضي لهما نفس زهوق الروح ، وفري الأوداج وشرائطه مانعة عن تأثيره في الحرمة والنجاسة ، والمفروض أن زهوق الروح محرز بالوجدان وعدم التذكية بالأصل ، فيحرز تمام موضوع الحرمة والنجاسة» (١) وثانيا : أن المراد بالخصوصية هو الملاك ، وليست هي حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي حتى يصح جريان الأصل فيها وجودا أو عدما ، حيث ان الملاكات دواع للأحكام لا نفس الأحكام ولا موضوعاتها.

وثالثا : ـ بعد تسليم اقتضاء التضاد ذلك ـ أنه بعد تعارض الأصلين تصل النوبة إلى استصحاب الحرمة والطهارة الثابتتين حال الحياة دون قاعدتي الحل والطهارة ، لحكومته عليهما ، فلا بد من الحكم بالحرمة والطهارة لا الحل والطهارة هذا.

ثم انه يحتمل أن يكون منشأ توهم كون الميتة أمرا وجوديا ـ أعني به خصوص ما مات حتف الأنف ـ استعمالها في الآية الشريفة في هذا المعنى ، فان كان

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

٤٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كذلك ، ففيه : أن استعمالها فيه انما هو بالقرينة ، وهي اجتماع الميتة في الآية الشريفة مع الموقوذة والمتردية والنطيحة ، إذ العطف يقتضي المغايرة. وأما إفراد الميتة وإطلاقها مجردة عن المذكورات ، فلا ينبغي الارتياب في إرادة غير المذكى منها ، فليست الميتة بنفسها ظاهرة في خصوص ما مات حتف أنفه.

بل يمكن أن يقال : ـ بعد تسليم كون الميتة لغة خصوص ما مات حتف أنفه ـ ان المعنى العرفي يقدم على اللغوي عند التعارض ، فيحمل الميتة فيما عدا الآية المتقدمة وغيرها ـ مما ذكر فيه مع الميتة غيرها من الموقوذة والمنخنقة ونحوهما مما زهق روحه بأسباب خارجية غير ما يوجب ذكاة الحيوان ـ على معناها العرفي العام ، وهو غير المذكى.

مضافا إلى أنه فسر قوله تعالى : «الا ما ذكيتم» في بعض الروايات بإدراك ذكاة المحرمات المذكورة مما يقبل منها التذكية ، فتنقسم المحرمات في الآية باعتبار إمكان ذكاتها بذبحها مع الشرائط إلى المذكى وغيره ، والمدار في الحرمة على غير المذكى منها. ووجه ذكر المنخنقة والموقوذة وغيرهما مع شمول الميتة لجميعها على ما في مجمع البيان هو : أن جماعة من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك ولا يعدونه ميتا ، انما يعدون الميت الّذي يموت من الوجع ، فأعلمهم الله تعالى أن حكم الجميع واحد ، وأن وجه الاستباحة هو التذكية فقط (١).

فالمتحصل : أن موضوع الأحكام المتقدمة هو عدم المذكى ، ولا دخل لخصوص الموت حتف الأنف فيها أصلا.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٥٨ ، طبع بيروت.

٤٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الرابع : الوجوه المحتملة في التذكية كثيرة :

منها : أن تكون بسيطة متحصلة من فري الأوداج الأربعة بالحديد إلى القبلة مع التسمية وإسلام الذابح وقابلية الحيوان ، كالطهارة الحدثية المترتبة على الغسلتين والمسحتين بناء على كون المأمور به هي الطهارة لا الأفعال المحصّلة لها.

ومنها : أن تكون مركبة خارجية من تلك الأفعال مع القابلية المذكورة أو بشرطها ، كنفس الغسلتين والمسحتين بناء على تعلق الأمر بهما كما هو مقتضى قوله تعالى : «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» (١).

ومنها : أن تكون مقيدة بجعل التذكية نفس الأمر المتحصل من الأمور المعهودة مقيدا بقابلية المحل.

ثم ان القابلية يحتمل أن يراد بها المصلحة الموجبة لتشريع الحل والطهارة أو الطهارة فقط للحيوان ، فالقابلية حينئذ من الملاكات الداعية إلى تشريع الأحكام.

ويحتمل أن يراد بها خصوصية ذاتية مقتضية للحكم بالحل والطهارة كخصوصية الغنمية والبقرية والإبلية ونحوها.

وقد اختار المصنف أن التذكية فعل المذكي وهو الفري مع الشرائط التي منها قابلية المحل ، ووافقه المحقق العراقي (قده) على ما في تقرير (٢) بحثه الشريف «لإسناد التذكية في قوله تعالى : «الا ما ذكيتم» إلى الفاعلين الظاهر في أنها من فعلهم ، ولما ورد في موثقة ابن بكير من قوله عليه‌السلام : ذكاه

__________________

(١) المائدة ، الآية : ٦

(٢) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٢٥٧

٤٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الذبح أم لم يذكه (١) ، ولقوله عليه‌السلام في خبر علي بن أبي حمزة بعد قول السائل : أو ليس الذكي ما ذكّي بالحديد؟ بلى إذا كان مما يؤكل لحمه (٢)» إذ لا ريب في أن اسناد التذكية إلى المذكي ظاهر في كونها فعلا له ، ولا وجه لحمل اللفظ على معناه المجازي وهو المسبب.

أقول : ان المناقشة في دلالة الموثقة على المدعى ظاهرة ، إذ لو كانت التذكية بمعنى الذبح لكان المعنى «ذبحه الذبح» وهو مما لا محصل له ، إلّا أن يكون الذبح بمعنى اسم الفاعل ، لكنه لا قرينة عليه ، أو يعتمد في الاستدلال على النسخة الأخرى وهي «ذكاه الذابح» فيكون كسائر الروايات الدالة على المقصود مثل قوله عليه‌السلام في السمك : «ان ذكاته إخراجه من الماء ثم يترك حتى يموت من ذات نفسه» (٣) ، وقوله عليه‌السلام : «انما صيد الحيتان أخذها» (٤) ، وقوله عليه‌السلام «في ثور تعاصى فابتدره قوم بأسيافهم وسموا فأتوا عليا عليه‌السلام ، فقال : هذه ذكاة وحية ولحمه حلال» (٥) ، وغيرها من الروايات التي أسندت التذكية فيها إلى المكلف الظاهر في كونها فعلا له.

ولو نوقش في استظهار ما ذكرناه بإمكان إرادة المعنى البسيط المتحصل من فري الأوداج بالشرائط مع قابلية المحل ، حيث ان الفعل التوليدي يصح اسناده إلى الفاعل كصحة اسناد الفعل المباشري إليه ، فيصح أن يقال : «ألقاه

__________________

(١) الوسائل ، ج ٣ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلي ، الحديث ١ ، ص ٢٥٠

(٢) الوسائل ، ج ٣ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلي ، الحديث ٢ ، ص ٢٥٠

(٣) الوسائل ج ١٦ ، الباب ٣١ من أبواب الذبائح ، الحديث : ٨ ، ص ٢٩٧)

(٤) المصدر ، الباب ٣٢ ، الحديث : ٥ ، ص ٢٩٩

(٥) المصدر ، الباب ١٠ ، الحديث : ١ ، ص ٢٦٠

٤٤٠