منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فيه أصلا ، لأن الأحكام قد شُرِّعت وبيّنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ، ولا يترتب ثمرة على بيان الإباحة قبل الشرع حينئذ. وأما إذا أريد بالقبلية ، القبلية الرتبية كما يساعده عنوان هذه المسألة وأدلة القائلين بالحظر والإباحة والوقف ، بمعنى «أن الأشياء بنظر العقل مع الغض عن الشرع هل هي محظورة أم مباحة» فليس بيان الإمام عليه‌السلام : «كل شيء مطلق» بعيدا عن مقامه ، لأنه يرشد إلى أنها على الإباحة فتصلح المرسلة للاستدلال بها على أصالة الإباحة في مسألة الحظر والإباحة.

ثانيهما : أن إباحة الأشياء قبل الشرع لو كانت مما يستقل بها عقل كل عاقل كان لما أفاده من الاستبعاد وجه ، لأنه بيان لما هو بديهي. ولكن الظاهر خلافه فان نزاع الحظر والإباحة مما تضاربت فيه آراء أعلام العلم والتحقيق ، فالسيد المرتضى على الإباحة ، وجماعة على الحظر ، والشيخان على الوقف ، فلو كانت اللاحرجية العقلية كاستحالة اجتماع النقيضين في البداهة والضرورة لم يبق مورد لذلك النزاع ، وعليه فلا مانع من حمل «مطلق» على الإباحة المالكية قبل الشرع وكون المرسلة ردّا على أصالة الحظر والوقف.

ومنها : ما أفاده من أن مقتضى كون الورود من الأمور المتضايفة إرادة الوصول منه دون الصدور ، إذ لا يعقل تحقق أحد المتضايفين دون الآخر ، والمورود هنا ليس إلّا المكلف دون متعلق الحكم. إذ فيه : أن استظهار الوصول من الورود بالتضايف المختص بهذا المعنى كما هو مفروض كلامه (قده) دون معناه الآخر وهو الصدور غير ظاهر ، ضرورة أنه لا مجال للبناء على التضايف إلّا بعد إثبات كون الورود بمعنى الوصول ، وإثباته مع استعمال الورود في كلا المعنيين وهما الصدور والوصول وفرض اختصاص التضايف بالثاني مشكل ، بل إثبات ذلك

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالتضايف محال ، لاستلزامه الدور ، بداهة توقف التضايف على كون الورود بمعنى الوصول ، والمفروض توقفه على التضايف.

نعم لو أريد إثبات معنى الوصول للورود بكثرة موارد الاستعمالات ، وأن الورود لم يستعمل غالبا إلّا في الوصول الّذي يحتاج إلى المورود بحيث لا يتبادر منه عند الإطلاق الا هذا المعنى كان ذلك وجيها ، ولم يرد عليه إشكال الدور ، لكن ظاهر كلامه (قده) استظهار كون الورود بمعنى الوصول من التضايف ، بحيث يكون التضايف بنفسه من الأدلة.

وكيف كان ، فلو ثبت شيوع استعمال الورود بمعنى الوصول كما هو الظاهر بحيث يتبادر منه هذا المعنى بلا قرينة صح الاستدلال بالمرسلة على البراءة كما استدل بها عليها شيخنا الأعظم (قده) وإلّا لم يصح الاستدلال بها لمكان الإجمال. وان لم يثبت الشيوع المزبور أو ادعي ظهوره في الصدور ، لأن ظاهر الحديث هو بيان الورود في نفسه المساوق للصدور ، فكأنه قيل : كل شيء مطلق حتى يصدر فيه نهي ، فيراد بالإطلاق حينئذ اللاحرج العقلي ، لأنه المناسب لأن يغيّا بصدور فيه النهي فيه (فيكون) دليلا على الإباحة في مسألة الحظر والإباحة وليس دليلا لمسألة البراءة. كما أنه ليس دليلا على الإباحة الشرعية الواقعية لكل شيء إلى أن يصدر فيه نهي ، إذ لازمه تعدد التشريع للموضوع الواقعي ، وذلك لأن المجعول الشرعي الواقعي أوّلا لكل شيء على ما يظهر من الحديث هو الإباحة ، ثم الحرمة والنهي طار عليها ، فكل ما نُهي عنه كان مباحا ثم عرض عليه النهي. مع أنه ليس كذلك ، لأن كل شيء بحسب مقتضى ملاكه يجعل له أحد الأحكام الشرعية ، لا أنه يجعل فيه أوّلا الإباحة ثم الحرمة مثلا ، فتدبر.

٢٨٢

بحكمه بالنهي (١) عنه وان (٢) صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد ، مع أنه ممنوع (٣) ، لوضوح صدقه على صدوره عنه (٤) سيما (٥) بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «العلم» وضمير «عنه» راجع إلى «شيء» وضمير «بحكمه» إلى العلم ، والمراد بما بحكم العلم هو الأمارة غير العلمية.

(٢) وصلية ، يعني : أن الاستدلال بهذا الحديث للبراءة يتوقف على أن يكون ورود النهي بمعنى وصوله إلى المكلف بالعلم به أو ما هو بحكمه كالأمارة المعتبرة ليكون معنى الحديث : أن ما لا يعلم المكلف حرمته فهو حلال سواء لم يصدر فيه نهي أصلا أم صدر ولم يصل إلى هذا المكلف ، وعلى أن لا يصدق الورود على مجرد صدوره وان لم يعلم به المكلف كما هو مبنى استظهار شيخنا الأعظم (قده) وحيث انه يصدق الورود على مجرد الصدور أيضا فلا يتم الاستدلال به على البراءة ، وقد تقدم توضيحه مع تعليله.

(٣) يعني : مع أن عدم صدق الورود على الصدور ممنوع ، وهذا هو الوجه في مناقشة المصنف في استظهار الشيخ الأعظم (قده) من الحديث والاستدلال به على البراءة ، وقد تقدم توضيح المناقشة بقولنا : «توضيح ذلك : أن الورود يصدق ... إلخ» ومحصل ما أريد من هذه العبارة : أن الورود يصدق على الصدور ، ومع صدق الورود عليه لا تجري البراءة ، لتحقق غاية الإطلاق وهو صدور النهي عنه ، فيكون هذا الحديث مساوقا لحديث السكوت كما تقدم.

(٤) أي : لوضوح صدق الورود على صدور النهي عن الشارع.

(٥) وجه الخصوصية : أنه مع وصول النهي إلى بعض الأمة يصدق الورود من الشارع قطعا وان سلمنا عدم صدقه مع صدوره واقعا وعدم اطلاع أحد عليه ، ومع تحقق الغاية لا يصح الاستدلال.

٢٨٣

لا يقال : نعم (١) ولكن بضميمة أصالة العدم صح [لصح] الاستدلال به وتم.

فانه يقال (٢) : وان تم الاستدلال به

______________________________________________________

(١) استدراك على قوله : «ودلالته تتوقف» وتصحيح للاستدلال بالحديث حتى مع صدق الورود على الصدور ، بيانه : أن الورود وان كان صادقا على الصدور أيضا كصدقه على الوصول وعدم ظهوره في خصوص بلوغ الحكم إلى المكلف ، إلّا أنه يمكن تصحيح الاستدلال بالمرسلة حتى بناء على إرادة الصدور والتشريع من قوله : «حتى يرد فيه نهي» وذلك لإمكان إحراز عدم الصدور من الشارع بالاستصحاب ، حيث ان تشريع النهي من الحوادث المسبوقة بالعدم فيجري فيه استصحاب عدمه ، وينقّح به عدم صدور النهي من الشارع ، فيشمله الحديث. وعليه فقوله : «نعم» تصديق لصحة إطلاق الورود على مجرد الصدور وان لم يصل إلى المكلف ، والمستشكل بقوله : «لا يقال» يريد إثبات تمامية الاستدلال بالرواية على البراءة ، لا كما سلكه شيخنا الأعظم (قده) من جعل الورود بمعنى العلم والوصول ، بل باستصحاب عدم الصدور ليكون صغرى لقوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق» أي مباح ظاهرا ، وهو المطلوب.

(٢) هذا دفع الإشكال ، وتوضيحه : أن الاستدلال على البراءة بهذا الحديث ـ بعد ضم استصحاب عدم الورود إليه ـ وان كان تاما ، إلّا أن الحكم بإباحة مجهول الحرمة حينئذ يكون بعنوان ما لم يرد فيه نهي ، لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا كما هو مورد البحث. والفرق بين العنوانين واضح ، فان ما شك في حرمته يكون ـ بلحاظ أصالة عدم ورود النهي عنه ـ بمنزلة ما علم عدم ورود النهي عنه ، فالحكم بإباحة مجهول الحرمة حينئذ يكون لأجل العلم بعدم حرمته ، وهذا خلاف ما يقصده المستدل من الحكم بإباحته لأجل كونه مجهول الحكم ،

٢٨٤

بضميمتها (١) ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه (٢) ، إلّا أنه (٣) لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا ، بل بعنوان أنه (٤) مما لم يرد عنه النهي واقعا (٥).

لا يقال (٦):

______________________________________________________

بمعنى دخل الجهل بالحكم الواقعي في موضوع الحكم بالإباحة ، لأن موضوع أصالة البراءة هو ذلك ، يعني الشك في الحكم ، لا لأجل العلم بعدم حرمته ولو بالبناء على عدم ثبوت حكم في الواقع.

وبعبارة أخرى : المطلوب هو الحكم بإباحة مجهول الحرمة لعدم العلم بحرمته ، لا للعلم بعدم حرمته ولو تعبدا ، لأن مقتضى الاستصحاب هو الثاني. وعليه فاستصحاب عدم ورود النهي لا يثبت حكم المشكوك فيه الّذي هو المقصود. قال المصنف (قده) في حاشيته على الرسائل : «ولا يخفى أنه لا يجدي فيما هو المهم ولو بضميمة أصالة عدم ورود النهي فيه ، فان ما شك في حرمته يكون بملاحظتها بمنزلة ما علم بعدم ورود النهي فيه ، وهو خارج عما نحن بصدده الآن».

(١) أي : بضميمة أصالة العدم ، وضمير «به» في الموضعين راجع إلى الحديث.

(٢) عطف تفسير لقوله : «إباحة» وضمير «إطلاقه» راجع إلى «مجهول».

(٣) أي : إلّا أن الحكم بالإباحة ليس بعنوان مجهول الحرمة كما هو المطلوب في البراءة ، وانما هو بعنوان ما يعلم عدم ورود النهي عنه.

(٤) أي : أن مجهول الحرمة ، وضمير «عنه» راجع إلى الموصول المراد به مجهول الحرمة.

(٥) يعني : ولو تعبدا كما هو مقتضى إحراز عدم ورود النهي بالاستصحاب.

(٦) هذا الإشكال ناظر إلى قوله : «لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا» وتوضيحه :

٢٨٥

نعم (١) ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم (٢) بالإباحة في مجهول الحرمة كان (٣) بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

فانه يقال (٤):

______________________________________________________

أن عنوان «ما لم يرد فيه نهي» الثابت بالاستصحاب وان كان مغايرا لعنوان «مجهول الحرمة» لكن لا تفاوت بينهما في الغرض وهو إثبات إباحة مجهول الحرمة كشرب التتن ، فهذا الفعل مباح ظاهرا سواء كان بعنوان عدم ورود النهي عنه واقعا ولو تعبدا كما هو مقتضى استصحاب عدم ورود النهي عنه أم بعنوان كونه مجهول الحكم. مجهول الحكم.

فالمتحصل من قوله : «لا يقال» هو صحة الاستدلال بهذا الحديث على البراءة وان كان الحكم بالإباحة بعنوان ما لم يرد ، لا بعنوان مجهول الحرمة.

(١) يعني : نسلِّم أن التفاوت بين العنوانين موجود ، لكنه لا يوجب تفاوتا فيما هو المهم ... إلخ.

(٢) بيان للموصول في «فيما».

(٣) أي : كان الحكم بالإباحة بعنوان مجهول الحرمة أو بعنوان «ما لم يرد فيه نهي».

(٤) محصل الجواب : أن التفاوت المذكور بين العنوانين موجب للتفاوت بينهما فيما هو المهم منهما أيضا. توضيح ذلك : أنه إذا جعل الحكم بالإباحة لمشكوك الحكم بعنوان أنه «لم يرد فيه نهي» كان هذا الدليل أعني الحديث المذكور أخص من المدعى ، وذلك لأن الحديث إذا دل على إباحة مشكوك الحكم بعنوان أنه مشكوك الحكم ـ بلا ضمِّ استصحاب عدم الورود إليه ـ شمل جميع موارد الشك في الحكم حتى صورة فرض العلم الإجمالي بورود النهي عن ذلك الفعل المشكوك الحكم في زمان وإباحته في زمان آخر ، إذ

٢٨٦

حيث انه (١) بذاك العنوان لاختص (٢) بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا ، ولا يكاد يعم (٣) ما إذا ورد النهي عنه في زمان وإباحة في آخر واشتبها (٤) من حيث التقدم والتأخر.

______________________________________________________

المفروض أن الفعل ـ فعلا ـ مجهول الحرمة ، والحديث دال على إباحته ظاهرا فيحكم بإباحته. وهذا بخلاف ضم الاستصحاب المذكور إليه ، فان الاستدلال به يختص حينئذ بما إذا شك في ورود النهي عنه وأحرز عدم وروده بالاستصحاب ولا تشمل ما إذا علم بورود نهي وإباحة معا في شيء واشتبه المتقدم منهما بالمتأخر.

وجه عدم الشمول : أن استصحاب عدم ورود النهي عنه ـ الّذي هو جزء لموضوع الحديث المذكور حسب الفرض ـ لا يجري حينئذ ، إذ المفروض العلم بارتفاع إطلاق ذلك المشكوك الحكم بسبب العلم بورود النهي عنه ، فليس مطلقا حتى تجري فيه أصالة البراءة ، مع أنه لا إشكال في أنه من مجاريها.

وبالجملة : فلو قيد المشكوك الحكم بعنوان «ما لم يرد فيه نهي» لم يشمل هذا الحديث جميع موارد الشك في الحكم التي منها تعاقب الحالتين.

(١) أي : حيث ان الحكم بإباحة «ما لم يرد فيه نهي» يوجب اختصاصه ... إلخ.

(٢) الأولى تبديله بـ «يختص» لأنه (قده) جعله جوابا لـ «حيث» المتضمن لمعنى الشرط ، ولم يعهد دخول اللام على جوابه ، والأولى سوق العبارة هكذا «فانه يقال : إذا كان بذاك العنوان اختص بما لم يعلم ... إلخ».

(٣) أي : لا يكاد يعم الحكم بالإباحة الّذي جعل لعنوان «ما لم يرد فيه نهي» لما إذا ورد النهي عنه في زمان ... إلخ.

(٤) كما في موارد تعاقب الحالتين ، وقد عرفت توضيحه.

٢٨٧

لا يقال : هذا (١) لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

فانه يقال : وان لم يكن بينها (٢) الفصل ، إلّا أنه انما يجدي

______________________________________________________

(١) يعني : أن التفاوت المذكور بين العنوانين ـ وهو صيرورة الدليل أخص من المدعى ـ فيما إذا قيِّد المشكوك الحكم بعنوان «ما لم يرد فيه نهي» مسلم لو لم يثبت عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته ، كيف؟ وهو ثابت ، حيث ان الأمة بين من يقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية مطلقا ـ يعني سواء كان الفرد المشتبه مما تجري فيه أصالة عدم ورود النهي عنه أم لا تجري فيه كمورد تعاقب الحالتين ـ كالمحدثين ، وبين من يقول بالبراءة فيها كذلك وهم المجتهدون ، ولم يدّعِ أحد التفصيل بين الافراد المشتبهة بأن يقول بالبراءة فيما تجري فيه أصالة عدم ورود النهي ويقول بالاحتياط فيما لا تجري فيه كمورد التعاقب ، وعليه فالتفاوت المذكور مرتفع.

والحاصل : أن إشكال أخصية الحديث من المدعى يندفع بتعميم دلالته بعدم القول بالفصل في الحكم بالإباحة بين أفراد مشتبه الحكم ، فما لا تجري فيه أصالة العدم يلحق بالموارد التي تجري فيها.

وبالجملة : فببركة عدم الفصل بين الموارد نلتزم بالبراءة في موارد تعاقب الحالتين أيضا.

(٢) أي : وان لم يكن بين أفراد ما اشتبهت حرمته فصل ، إلّا أنه ... إلخ. وتوضيح ما أفاده في الجواب : أن التلازم في الحكم بالإباحة بين أفراد ما اشتبهت حرمته وان كان ثابتا ، إلّا أن المثبِت لأحد المتلازمين لا يجب أن يثبت الملازم الآخر مطلقا يعني دليلا كان هذا المثبِت أم أصلا ، بل انما يثبته إذا كان هذا المثبِت دليلا ، حيث ان الدليل يثبت اللوازم والملزومات والملازمات بخلاف الأصل ، فانه قاصر عن إثبات الملازم الآخر ، مثلا إذا قلنا بالملازمة بين الأمر

٢٨٨

فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل لا الأصل (*) فافهم (١).

______________________________________________________

بشيء والنهي عن ضده ، فان ثبت الأمر بالدليل الاجتهادي ـ كالأمر بالصلاة الثابت بمثل قوله تعالى : «أقيموا الصلاة» ـ ثبت ملازمه وهو النهي عن ضد الصلاة كالاشتغال بالكتابة فيما إذا ضاق وقت الصلاة ، وان ثبت الأمر بالأصل العملي ـ كاستصحاب وجوب الصلاة لمن كان عليه فريضة وشك في الإتيان بها والوقت باق ـ لم يثبت ملازمه المذكور ، لعدم ثبوت اللوازم بالأصول العملية كما حرر في محله. وكذا لو قلنا بثبوت الملازمة بين حرمة العصير العنبي بعد الغليان وقبل ذهاب ثلثيه وبين نجاسته ، فان ثبت حرمته بالدليل ثبتت نجاسته أيضا ، وان ثبتت بالأصل كاستصحاب عدم ذهاب ثلثيه لم تثبت نجاسته ، لما تقدم ، وهكذا.

ففي المقام ان كان المثبت للإباحة فيما لم يرد فيه نهي هو الدليل ، فلا إشكال في ثبوت الفرد الآخر الملازم لِما لم يرد فيه نهي أعني مجهول الحرمة ، وان كان المثبت للإباحة هو الأصل ـ كما هو مفروض البحث ، إذ المثبت للإباحة فيما لم يرد فيه نهي هو الاستصحاب ـ لم يثبت به الملازم أعني الإباحة في مجهول الحرمة ، لما قرر في محله من عدم حجية الأصل في اللوازم والملازمات. نعم إذا فرض التلازم بين الافراد في الحكم مطلقا وان كان ظاهريا ، فلا بأس به. ولعل مقصود مدعي الإجماع المركب ثبوت الملازمة بين الافراد المشتبهة حتى في الحكم الظاهري.

(١) لعله إشارة إلى : أن المثبت للحكم بالإباحة هو الدليل لا الأصل ،

__________________

(*) لا يقال : ما الفرق بين المقام وبين ما تقدم في حديث الحل ، حيث انه

٢٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم الأصل ينقح الموضوع ـ وهو عدم الورود ـ ثم يشمله قوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق» وهو نظير إحراز عالمية زيد بالاستصحاب ليندرج في قوله : «أكرم العلماء» فان الدال على وجوب الإكرام هو الدليل لا الاستصحاب ،

__________________

ظاهر في البراءة في الشبهة التحريمية ، وقد التزم المصنف بالبراءة في الشبهة الوجوبية بعدم الفصل ، فليكن المقام كذلك ، ولو كان الدليل هناك حديث الحل ، فالدليل هنا استصحاب عدم ورود النهي.

فانه يقال : قد ذكر بعض المدققين الفرق بما حاصله : أن الاستدلال بعدم الفصل في حديث الحل تام ، لكون الثابت في كل من الشبهة التحريمية والوجوبية هو البراءة وهو حكم واحد ، بخلاف عدم الفصل بين ما له حالة سابقة تجري فيها الإباحة الظاهرية بالاستصحاب ، وما ليس له حالة سابقة ، فان إثبات الإباحة الظاهرية له يكون بعنوان أنه مجهول الحل والحرمة ، وبعد اختلاف منشأ الإباحة الظاهرية بالاستصحاب فيما له حالة سابقة وبعنوان مجهول الحل والحرمة فيما ليس له حالة سابقة لا مجال لدعوى عدم الفصل.

ولكن يمكن أن يقال : ان موضوع الإباحة المستفادة من هذه المرسلة هو عنوان «ما لم يرد فيه نهي» وهذا العنوان وان كان مغايرا لعنوان المشتبه الّذي لا يجري فيه استصحاب عدم ورود النهي ، لكنه ملحق به حكما بالإجماع المركب ، والحكم فيهما متحد ، إذ لم يثبت الإباحة في العنوان الأول باستصحاب عدم صدور النهي حتى تكون الإباحة التعبدية الثابتة بالاستصحاب مغايرة للإباحة الظاهرية التي يراد إثباتها لعنوان «مجهول الحرمة والحل» بل الأصل ينقح موضوع الحديث ، وإلّا لخرج عن الاستدلال بالحديث للإباحة إلى الاستدلال لها بالاستصحاب ، وعليه فالثابت بالمرسلة هو الإباحة الظاهرية وان كان

٢٩٠

وأما الإجماع (١) (*) ، فقد نقل على البراءة ، إلّا أنه موهون

______________________________________________________

(الاستدلال بالإجماع على البراءة)

(١) كلامه هذا ناظر إلى ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في الاستدلال على البراءة بالإجماع ، فينبغي أوّلا نقل كلامه محررا ثم توضيح المتن ، فنقول : ذكر (قده) لتقرير الإجماع وجهين : أحدهما : إجماع العلماء كلهم على البراءة في ما لم يرد فيه ـ من حيث هو هو ـ دليل عقلي أو نقلي على تحريمه ، ثم ناقش فيه بقوله : «وهذا الوجه لا ينفع إلّا بعد عدم تمامية ما ذكر من الدليل العقلي والنقلي للحظر والاحتياط» ووجه المناقشة فيه واضح ، فان المحدثين يدعون

__________________

موضوعها محققا بأصالة العدم ، ولا مانع من تسرية هذه الإباحة إلى عنوان «المشتبه حله وحرمته» ببركة عدم الفصل.

(*) إذا كان الإجماع على السعة وعدم الضيق من ناحية الإلزام الواقعي المجهول ، كان معارضا لما دل على وجوب الاحتياط ، ولا بد من معاملة أحكام التعارض معهما ، لكن كلمات شيخنا الأعظم في نقل تقارير الإجماع لا تساعد على هذا المعنى ، إذ ظاهرها أنه إرشاد إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ فأدلة الاحتياط ـ على فرض تسليمها ـ حاكمة بل واردة على هذا الإجماع فلا ينهض دليلا على البراءة ، لكن عدم نهوضه عليها ليس لوجود المانع وهو أدلة الاحتياط فحسب ، حتى تكون دلالته على البراءة ـ لو لا الدليل الحاكم أو الوارد ـ تامة ، بل انما هو لقصور المقتضي فيه وهو كونه إجماعا مدركيا لا تعبديا ، وعليه فليس وزانه وزان آية : «وما كنا معذبين» بمعنى كونه للإرشاد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لعدم تماميته في نفسه حتى لو لم تكن أخبار الاحتياط في البين.

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

وجود الدليل العقلي أو النقليّ أو كليهما على لزوم التوقف عند الشبهات والكف عنها ، فهذا الإجماع غير محقق ، بل تقديري ، لإناطته بعدم ورود دليل عقلي أو نقلي على التحريم ، فلا يصلح للمعارضة».

ثانيهما : دعوى الإجماع المحصل على أن الحكم فيما لم يرد دليل على حرمته من حيث هو ـ لا من حيث هو مجهول الحكم ـ هو جواز الارتكاب. ثم شرع في بيان طرق تحصيل هذا الإجماع قولا وعملا ، وهي ترجع إلى وجوه خمسة.

الأول : أن ملاحظة فتاوى العلماء من المحدثين والأصوليين في موارد من الفقه تشهد بعدم اعتمادهم في الحكم بحرمة فعل من الأفعال على الاحتياط ، واستشهد على هذه الدعوى بكلمات جمع من الأصحاب كثقة الإسلام الكليني والصدوق والسيدين والشيخ وغيرهم ، فراجع.

الثاني : الإجماعات المنقولة على البراءة ، فانها قد تفيد القطع بالإجماع المذكور.

الثالث : الإجماع العملي الكاشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام بجواز ارتكاب المشتبه من حيث هو.

الرابع : سيرة أهل الشرائع كافة على البراءة في مشتبه الحكم.

ويستفاد هذا الوجه من قوله (قده) : «فان سيرة المسلمين من أول الشريعة بل في كل شريعة على عدم الالتزام».

الخامس : سيرة كافة العقلاء على قبح مؤاخذة الجاهل ، ويستفاد هذا من قوله : «بل بناء كافة العقلاء وان لم يكونوا من أهل الشرائع على قبح ذلك» هذا ملخص ما أفاده الشيخ الأعظم (قده). وغرض المصنف من الإجماع

٢٩٢

ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة (١)

______________________________________________________

على البراءة هو الوجه الثاني من وجهي تقريره كما هو واضح ، وهذا الإجماع وان كان محصلا في نظر الشيخ الأعظم ، إلّا أنه عند المصنف (قده) منقول إذ العمدة من وجوه تحصيله هو الوجه الثاني أعني الإجماعات المنقولة ، وهي مهما بلغت كثرة لا يحصل منها إجماع محصل كي يستدل به في المقام في عرض الاستدلال بالآيات والروايات المتقدمة ، ومن هنا ناقش فيه في المتن بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «موهون» وتوضيحه : أن الإجماع المنقول ـ لو سلم اعتباره في نفسه ـ فان تحققه في مثل المقام مما ثبت حكمه بالدليل النقلي كما تقدم والعقلي كما سيأتي موهون ، فلا إجماع حتى يثبت بالنقل. والسر فيه واضح ، فان حجية الإجماع المنقول مترتبة على إمكان تحصيل الإجماع التعبدي على حكم شرعي ، إذ النزاع في اعتباره انما هو لكونه منقولا بخبر الواحد ، وأن دليل اعتباره هل يشمل الخبر الحدسي أم يختص بالحسي؟ وهذا كله فرع تحقق نفس الإجماع. وفي المقام حيث لا سبيل إلى الجزم به ، لقوة احتمال استناد المجمعين إلى بعض الوجوه العقلية أو النقليّة المستدل بها على البراءة ، فلا يبقى اطمئنان بكشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «في الجملة» وتوضيحه : أنه لو سلم تحقق الإجماع المنقول في المقام فهو غير معتبر أيضا ، لأنه على القول باعتباره انما يعتبر في الجملة يعني فيما إذا لم يحتمل كونه مدركيا ، وفي المقام حيث يحتمل ذلك لاحتمال استناد المجمعين إلى ما ذكر فيه من الأدلة العقلية والنقليّة ، فلا يكون هذا الإجماع حجة.

(١) كما إذا اتفق الكل على حكم شرعي ولم يحتمل كونه مدركيا ، لعدم وجود ما يمكن استناد المجمعين إليه حينئذ من رواية ولو ضعيفة ، أو قاعدة ،

٢٩٣

فان (١) تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل (٢) ، ومن واضح النقل (٣) عليه دليل بعيد جدا (*)

______________________________________________________

ويمكن أن يمثل له بوجوب الإخفات في التسبيحات الأربع في ثالثة المغرب وأخيرتي الرباعيات. وباشتراط العارية بكون العين المعارة مما يصح الانتفاع بها مع بقائها ، وبصحة إعارة المنحة ـ بكسر الميم ـ وهي الشاة للحلب ، فان الظاهر عدم استناد المجمعين في هذه الموارد إلى شيء من قاعدة أو رواية ولو ضعيفة.

(١) تعليل لقوله : «موهون» وقد تقدم توضيحه.

(٢) لما سيأتي من استقلاله بقبح العقاب بلا بيان.

(٣) من الآيات والاخبار المتقدمة ، و «بعيد جدا» خبر «فان تحصيله».

__________________

(*) مضافا إلى عدم تحقق اتفاق الأصحاب بأجمعهم على البراءة فيما لم يرد فيه نصّ ، لاختلاف المحدثين في الشبهة التحريمية ، وتفصيل المحقق بين ما يعم به البلوى وغيره ، بل الكلمات التي استظهر شيخنا الأعظم منها حكمهم بالإباحة أجنبية عن المدعى ـ وهي إباحة ما لم يرد فيه نصّ ظاهرا ـ إذ مقصودهم بها الإباحة التي يحكم بها العقل أي اللاحرج العقلي ، أو الإباحة الواقعية التي هي من الأحكام الخمسة التكليفية ، فالمحكي عن السيد المرتضى : «أن ما لا مضرة فيه عاجلا أو آجلا فالأصل فيه البراءة» أي الإباحة بحكم العقل ، قال في الذريعة ما لفظه : «والصحيح قول من ذهب فيما ذكرنا صفته من الفعل إلى أنه في العقل على الإباحة ، والّذي يدل على صحته : أن العلم بأن ما فيه نفع خالص من مضرة عاجلة أو آجلة له صفة المباح ، وأنه يحسن الإقدام عليه ... إلخ» (١)

__________________

(١) الذريعة ، ج ٢ ، ص ٨٠٩.

٢٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وقال الشيخ في الفصل الّذي عقده للبحث عن أن الأشياء هل هي على الحظر أو الإباحة ما لفظه : «وذهب كثير من الناس إلى أنها على الوقف ويجوز كل واحد من الأمرين فيه وينتظر ورود السمع بواحد منهما ، وهذا المذهب كان ينصره شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله ، وهو الّذي يقوى في نفسي. والّذي يدل على ذلك : أنه قد ثبت في العقول أن الإقدام على ما لا يأمن المكلف كونه قبيحا مثل اقدامه على ما يعلم قبحه ... إلى أن قال بعد ذكر أدلة القائلين بالحظر والإباحة : واستدلوا أيضا بقوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، وأحل لكم الطيبات وما شاكل ذلك من الآيات ، وهذه الطريقة مبنية على السمع ، ونحن لا نمتنع أن يدل دليل من السمع على أن الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على الوقف ، بل عندنا الأمر على ذلك ، وإليه نذهب ، وعلى هذا سقط المعارضة بالآيات» (١) ومن المعلوم أن المقصود من «الطيب» هو المباح الواقعي ، ولا ربط له بالإباحة الظاهرية التي هي محل النزاع. هذا مضافا إلى منع دلالة كلام الشيخ على الإجماع على الإباحة ، لمعارضته لما ذكره في موضع آخر من العدة في أن الأصل في الحيوان الحرمة وفي غيره الإباحة ، من ابتنائه على القول بأصالة الإباحة ، قال : «وأما بناء على كون الأشياء على الحظر والمنع ، فالجميع يحرم» وهذا ظاهر في اختلاف الأصحاب في عصر الشيخ وقبله في المسألة فكيف ينسب إليه الإجماع على البراءة.

وأما كلام ثقة الإسلام في ديباجة الكافي ، فالظاهر أنه أجنبي عن البراءة فيما لا نصّ فيه ، فانه في الخبرين المتعارضين حكم بالتخيير ، لوجود الحجة عليه بقوله

__________________

(١) عدة الأصول ، ج ٢ ، ص ١٢٢ طبعة بمبئي.

٢٩٥

وأما العقل (١) فانه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة

______________________________________________________

(الاستدلال بالعقل على البراءة)

(١) بعد أن فرغ من الاستدلال على البراءة بالنقل كتابا وسنة وإجماعا شرع في الاستدلال عليها بالعقل ، وقد ادعى شيخنا الأعظم (قده) إطباق العقلاء عليه ، قال : «الرابع من الأدلة حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف ، ويشهد له حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه» (*).

__________________

عليه‌السلام : «بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم» وأنه لا وجه للالتزام بالاحتياط فيهما ، لاختصاص الأمر بالتوقف في مقبولة عمر بن حنظلة بزمن الحضور ، ورفع اليد عنه لوجود النص على التخيير ، وكيف يستفاد منه أنه التزم بالبراءة فيما لا نصّ فيه ولا فيما لم يعلم حكمه الواقعي ، ولم يظهر منشأ قول شيخنا الأعظم بعد حكاية عبارة الكليني : «فالظاهر أن كل من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا».

وأما كلام الصدوق في الاعتقادات ، فليس ظاهرا في الإباحة الظاهرية ، كما أن استفادة الإجماع التعبدي منه لا تخلو من تأمل.

والحاصل : أن الفتاوى التي استند إليها شيخنا الأعظم (قده) في تحصيل الإجماع على البراءة ليست ظاهرة في المدعى ، فتدبر جيدا.

(*) قد يستشكل كما في حاشية الفقيه الهمداني (قده) على الرسائل في الاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية بما محصله : أن كلام الشيخ (قده) يوهم كون المراد بالبيان ما هو وظيفة الشارع أعني بيان الأحكام الكلية ، ومن المعلوم اختصاص قاعدة القبح حينئذ بالشبهات

٢٩٦

التكليف المجهول بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان

______________________________________________________

توضيحه : أنه لا ريب في أن التكليف بوجوده الواقعي لا يكون محرِّكا للعبد بعثا أو زجرا ، بل الانبعاث نحو الفعل والانزجار عنه انما هما من آثار التكليف المنجز ، وهو مدار الإطاعة والمعصية الحقيقيّتين ، إذ من الواضح أن الإنشاء الواقعي غير مؤثر في انقداح الداعي في العبد وقاصر عن تحريكه ، فلا يكون مخالفة التكليف غير الواصل موجبا لاستحقاق العقاب ، لعدم كونه هتكا للمولى ولا ظلما عليه ولا خروجا عن زي العبودية ، فلا تصح المؤاخذة مع عدم وصوله إلى العبد ، لعدم استناد فوت غرض المولى إلى تقصيره ، بل مستند إلى عدم البيان أو عدم تماميته ، فلو عاقبه المولى والحالة هذه اندرجت معاقبته له في الظلم الّذي لا شك في قبحه عقلا بناء على ما هو الحق من القول بالتحسين والتقبيح العقليين. ولا فرق في استقلال العقل بقبح العقاب هنا بين عدم بيان المولى للتكليف أصلا لعدم وصول إرادته الآمرية إلى مرتبة الفعلية ، وبين عدم وصول البيان إلى العبد واختفائه عليه بعد الفحص عنه في مظانه بقدر وسعه. نعم إذا كان غرضه بمثابة من الأهمية كان عليه إيجاب الاحتياط تتميما لقصور محركية الخطاب الأولي عنه. وعليه ، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان بنفسها تامة ومما يستقل بها العقل العملي ، وسيأتي التعرض للنسبة بينها وبين قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

__________________

الحكمية وعدم جريانها في الموضوع المشتبه بين موضوعين معلومي الحكم ، حيث ان بيانه خارج عن وظيفته وانما هو وظيفة العرف ، وهذا هو الفارق بين الشبهة الحكمية والموضوعية ، ولا بأس بنقل كلامه المتضمن لأولوية تقرير القاعدة هكذا لتشمل كلتا الشبهتين : «قبح المؤاخذة على ما لا طريق للمكلف إلى العلم به بإرشاد عقله أو دلالة الشرع ، فالمراد بالبيان في المقام هو مطلق طريق

٢٩٧

حجة عليه ، فانهما (١) بدونها عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان ،

______________________________________________________

(١) أي : فان العقوبة والمؤاخذة بدون الحجة عقاب بلا بيان ، وضمير

__________________

معرفة التكليف لا خصوص الاعلام كما يوهمه العبارة ، فليتأمل».

توضيحه : أن بيان التكليف لا يختص بإعلام الشارع ، بل يراد به كل طريق يؤدي إلى العلم به سواء كان بإرشاد العقل كقاعدة الملازمة ونحوها ، أم بدلالة الشرع كالأدلة السمعية ، وعليه فيمكن إزالة الجهل في الشبهة الموضوعية بإرشاد عقله الّذي هو بيان كبيانية الأدلة النقليّة على الأحكام الكلية ، فيصح حينئذ الاستدلال بقاعدة القبح على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية كجريانها في الشبهات الحكمية.

أقول : ينبغي التكلم أوّلا فيما أفاده شيخنا الأعظم (قده) ثم النّظر في كلام الفقيه الهمداني. أما تمسك الشيخ بقاعدة القبح في الشبهات الموضوعية ، فيمكن توجيهه بأن البيان في هذه القاعدة أعم من الدليل الاجتهادي الدال على الحكم الواقعي والدليل الفقاهتي المتكفل للحكم الظاهري كإيجاب الاحتياط في الشبهات مطلقا حتى الموضوعية ، حيث ان بيان الحكم الظاهري للمشتبه موضوعا أيضا وظيفة الشارع وان كان تشخيص الموضوع وظيفة العرف ، لكن بيان حكم كل موضوع حتى المردد بين عنوانين معلومين حكما كالمائع المردد بين الخمر والخل انما هو وظيفة الشارع كما هو ظاهر قوله (قده) : «على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه».

فالمتحصل : أنه بناء على التعميم المزبور للبيان المأخوذ في قاعدة القبح لا مانع من الاستدلال بها لجريان البراءة في الشبهات الموضوعية ، ولا يرد عليه ما في الحاشية المتقدمة.

وأما ما أفاده الفقيه الهمداني (قده) من قوله : «قبح المؤاخذة على ما لا

٢٩٨

وهما قبيحان بشهادة الوجدان.

ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك (١) لا احتمال لضرر العقوبة في

______________________________________________________

«عليه» راجع إلى التكليف المجهول.

(١) أي : استقلال العقل بقبح العقاب والمؤاخذة من دون بيان ، وغرضه دفع توهم ، توضيح التوهم : أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان وان كانت من المستقلات العقلية كما تقدم ، إلّا أن المقام ـ وهو الشبهة بعد الفحص ـ يكون

__________________

طريق للمكلف» فان أراد بالموصول الحكم الكلي الأوّلي ، فيتوجه عليه : أنه لا يشمل الشبهة الموضوعية ، وهو خلاف ما أراده من شمول القاعدة لها كما هو واضح.

وان أراد به مطلق الحكم الكلي الشامل للحكم الواقعي والظاهري ليشمل الشبهات الموضوعية ، فهو عين التوجيه الّذي وجهنا به كلام الشيخ (قده) لكن الظاهر أنه لم يرد هذا المعنى بقرينة قوله : «لا خصوص الاعلام» لظهوره في إعلام الشارع وهو بيان الحكم الكلي.

وان أراد به مطلق الحكم حتى الجزئي منه الثابت للموضوع الخارجي ، فيتوجه عليه أوّلا : أن معرفة الأحكام الجزئية ليست منوطة ببيان الشارع ، بل هي منوطة بمعرفة العرف انطباق الطبائع الكلية المتعلقة للأحكام على الموضوعات الخارجية. وعليه فتكون قاعدة القبح أجنبية عن الشبهات الموضوعية ، ولا يصح الاستدلال بها على جريان البراءة فيها ، وهذا خلاف مرامه (قده).

وثانيا : أن مقتضى قوله : «قبح المؤاخذة على ما لا طريق للمكلف إلى العلم به ... إلخ» اختصاص البراءة بالشبهات التي لا طريق إلى رفعها ، مع أن المدعى أعم من ذلك ، لبنائهم على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية مطلقا وان أمكن إزالة الشبهة فيها ، ولعله (قده) بقوله : «فليتأمل» أشار إلى بعض ما ذكرناه.

٢٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

صغرى لقاعدة أخرى يستقل بها العقل بالضرورة وهي «وجوب دفع الضرر المحتمل» لصلاحية الاحتمال للبينية ، تقريبه : أن المراد بالبيان الرافع لموضوع قاعدة القبح ليس خصوص الطريق الشرعي على الواقع كخبر الواحد ، بل المراد به كل ما يكون صالحا لتنجيز الخطاب ورافعا لقبح المؤاخذة على مخالفة التكليف أعم من الواقعي والظاهري والشرعي والعقلي ، وبهذا المعنى العام تكون قاعدة وجوب الدفع بيانا ، ولذا حكموا في مواضع باستحقاق العقاب مع فقد الدليل النقلي ، كحكمهم بوجوب النّظر في معجزة من يدعي النبوة ، لاحتمال صدقه المستلزم لوجوب متابعته ، وبوجوب الفحص عن الحكم في الشبهات البدوية قبل الفحص ، وبالاحتياط في أطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، وكحكمهم بصحة عقوبة الكافر والجاهل المقصر ، والمستند في جميع ذلك حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، ولو لم تصلح هذه القاعدة لقطع عذر المكلف كان الاحتجاج عليه في الموارد المتقدمة ونحوها احتجاجا بلا بينة وبرهان ، وعليه فيرتفع موضوع قاعدة القبح بعد كون احتمال التكليف بيانا مقتضيا للاحتياط ، فيقال مثلا : شرب التتن المحتمل الحرمة محتمل الضرر ، وكل محتمل الضرر يجب دفعه ، فشرب التتن المحتمل الحرمة يجب دفعه ، ولا يتحقق دفعه إلّا بالاجتناب عنه ، فيجب الاجتناب عنه.

وقد تحصل مما ذكرنا : أنه لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان عند ارتفاع موضوعها بطروّ احتمال الضرر الّذي هو موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، هذا غاية توضيح التوهم.

ومحصل دفعه : أن قاعدة وجوب الدفع إما لا كبرى لها وإما لا صغرى لها

٣٠٠