منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

وأتى أو ترك (١) بداعي احتمال الأمر أو النهي.

وربما يشكل (٢) في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب (٣) من جهة (٤) أن العبادة لا بد فيها

______________________________________________________

إلّا بالاستحقاق ، ولكن ربما يثاب بدونه بل بالتفضل.

(١) هذا وقوله : «وأتى» عطفان تفسيريان لـ «احتاط» وقوله : «بداعي» متعلق بـ «أتى» يعني : أتى بداعي احتمال الأمر أو ترك بداعي احتمال النهي ، والإتيان يكون في الشبهة الوجوبية والترك في الشبهة التحريمية.

(٢) هذا هو المقصود الأصلي من عقد التنبيه وسيأتي توضيح الإشكال.

(٣) التقييد بغير الاستحباب لأجل إمكان الاحتياط فيما إذا دار أمر الفعل بين الوجوب والاستحباب ، للعلم بكونه مأمورا به على كل تقدير وان لم يعلم سنخ أمره ، بناء على كفاية ذلك في الاحتياط وعدم توقفه على إحراز نوعه من الوجوب أو الاستحباب ، فإشكال الاحتياط في العبادات مختص بما إذا لم يعلم وجود الأمر أصلا كما إذا دار أمره بين الوجوب وغير الاستحباب من الإباحة أو الكراهة.

(٤) متعلق بـ «يشكل» وبيان لوجه الإشكال ، وقد قرره المصنف بنحو ما في رسائل شيخنا الأعظم ، قال (قده) : «وفي جريان ذلك في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان ، أقواهما (*) العدم ، لأن العبادة لا بد فيها من نية التقرب ...» إلى آخر ما في المتن ، وتوضيحه يتوقف على بيان أمور ثلاثة :

__________________

(*) هذا لا يلائم التزامه بجريان الاحتياط في العبادات ، وقد استبعد المحقق النائيني (قده) على ما في تقرير بحثه الشريف أن تكون العبارة المتقدمة من قلم الشيخ الأعظم ، بل في حاشية المحقق الهمداني : «حكى سيد مشايخنا أدام ...

٤٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : أن العبادة تتوقف على قصد القربة ، بحيث تكون من القيود المعتبرة في متعلق الأمر كسائر ما له دخل فيه من الأجزاء والشرائط ، بل يكون قصد القربة مقوما لعبادية العبادة ، وهو الفارق بين الواجب التوصلي والتعبدي ، لسقوط أمر الأول بإتيانه كيف ما اتفق بخلاف الثاني.

الثاني : أن قصد القربة عبارة عن قصد الأمر دون غيره مما يوجب القرب إليه جلّ وعلا.

الثالث : أن الأمر الّذي يعتبر قصد التقرب به هو الأمر المعلوم ، فلا يجدي وجود الأمر واقعا في تحقق القصد المزبور ، بل لا بد من العلم به اما تفصيلا كقصد الأمر المتعلق بالصلاة المعلوم تفصيلا جميع أجزائها وشرائطها ، واما إجمالا كقصد الأمر المتعلق بإحدى الصلوات الأربع مثلا عند اشتباه القبلة.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : أن الاحتياط ـ كما قيل ـ هو الأخذ بالأوثق والإتيان بكل فعل أو ترك يحرز به الواقع ، ولمّا كانت عبادية العبادة متقومة بالإتيان بجميع الشرائط والأجزاء عن داع قربي كما عرفت ، فالاحتياط عبارة عن الإتيان بالعمل العبادي بجميع ما له دخل فيه ومنه قصد الأمر ، فإذا شك في تعلق الأمر بعمل من جهة دوران ذلك العمل بين أن يكون واجبا وغير مستحب

__________________

بقائه عدم ذكر لفظ ـ أقواهما ـ في النسخة المرقومة بخط المصنف (ره) فهو بحسب الظاهر من تحريفات النساخ ، وكيف لا ومن المعلوم من مذهب المصنف جريان الاحتياط في العبادات ، والاكتفاء في صحة العبادة بحصولها بداعي الأمر المحتمل على تقدير مصادفة الاحتمال للواقع» ومنه يظهر أن توجيه العبارة بما في بعض الحواشي «من أنه بالنظر إلى بادئ الرّأي فلا ينافى استقرار رأيه في آخر كلامه على جريانه فيها» كما ترى ، فتأمل في العبارة.

٤٨٢

من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا (١) أو إجمالا (٢).

وحسن الاحتياط عقلا (٣) لا يكاد يجدي في رفع الإشكال

______________________________________________________

لم يكن الإتيان به من الاحتياط في العبادة أصلا ، لعدم إحراز تعلق أمر بذلك العمل ، وعليه فعنوان الاحتياط في العبادة حينئذ غير ممكن التحقق ، إذ لا علم بأمر الشارع لا تفصيلا ولا إجمالا ، ومعه لا يتمشى منه قصد القربة.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة سيأتي بيانها.

(١) كالأمر المتعلق بالصلاة المحرز جميع ما له دخل فيها.

(٢) كالأمر المتعلق بإحدى الصلوات إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، فان الفريضة لا تخرج عن هذه الجهات. ويمكن أن يراد بالإجمال العلم بالأمر إجمالا المردد بين الوجوب والاستحباب ، فان مطلوبية الفعل شرعا محرزة حينئذ ، فيقصد ذلك الأمر المعلوم بالإجمال.

(٣) هذا شروع في بيان الأجوبة التي ذكروها لدفع الإشكال المتقدم وإشارة إلى الجواب الأول ، وتوضيحه : أن قصد القربة وان كان عبارة عن قصد الأمر المفروض عدم إحرازه عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، إلّا أن قصد الأمر الشرعي بالاحتياط ـ المستكشف ذلك الأمر من قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع ـ بمكان من الإمكان ، فان الاحتياط لمّا كان حسنا عقلا كان ـ بهذه القاعدة ـ مأمورا به شرعا ، فالحسن العقلي يدل بنحو اللّم على تعلق الأمر الشرعي به ، وقصد هذا الأمر الشرعي كاف في الاحتياط في العبادة وان لم يحرز الأمر بنفس الفعل الّذي يدور أمره بين الوجوب والإباحة مثلا.

وقد أورد المصنف (قده) على هذا الجواب بوجهين : أحدهما : عدم إمكان استكشاف الأمر المولوي بالاحتياط من قاعدة الملازمة.

٤٨٣

ولو قيل (١) بكونه موجبا لتعلق الأمر به شرعا (٢) ، بداهة (٣)

______________________________________________________

ثانيهما : أنه لو سلم الاستكشاف لزم الدور ، وسيأتي بيانهما.

(١) هذا هو الوجه الأول ، وقد أفاده شيخنا الأعظم بقوله : «ودعوى أن العقل إذا استقل بحسن هذا الإتيان ثبت بحكم الملازمة الأمر به شرعا ، مدفوعة لما تقدم في المطلب الأول من أن الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقي ... إرشادي محض .... فلا إطاعة لهذا الأمر الإرشادي ، ولا ينفع في جعل الشيء عبادة ...» وحاصله : أنه لا مجال لاستكشاف الأمر المولوي بالاحتياط من قاعدة الملازمة حتى يتقرب به ، ضرورة أن حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الإطاعة واقع في سلسلة معلولات الأحكام لا عللها ، ومورد تلك القاعدة هو الحكم العقلي الواقع في سلسلة علل الأحكام وملاكاتها نظير قبح الظلم وحسن رد الوديعة ونحوهما ، فكما أن الأمر بالإطاعة لا يصلح لجعل الواجب التوصلي ـ كغسل الثوب للصلاة فيه ـ عبادة بالمعنى الأخص من جهة انطباق عنوان الإطاعة عليه ، وإلّا لزم أن يكون كل واجب عباديا ، لانطباق عنوان الإطاعة التي تعلق بها الأمر حسب الفرض عليه ، فكذلك الفعل المنطبق عليه الاحتياط لا يمكن أن يصير عبادة من جهة قصد التقرب بإطاعة الأمر المتعلق به المستكشف ذلك الأمر من القاعدة المذكورة.

وعليه فالمقام أجنبي عن قاعدة الملازمة ، إذ الاحتياط من أنحاء الإطاعة المترتبة على الأمر والنهي الشرعيين وفي طولهما ، ومن المعلوم أن حسن الإطاعة حينئذ لا يلازم الأمر المولوي بها ، فلا أمر شرعا بالاحتياط.

(٢) بقاعدة الملازمة ، وضمير «بكونه» راجع إلى حسن الاحتياط ، وضمير «به» إلى الاحتياط.

(٣) تعليل لقوله : «لا يكاد يجدي» وبيان للوجه الثاني وهو لزوم الدور ، توضيحه :

٤٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أن استكشاف الأمر المولوي بالاحتياط ـ على تقدير استفادته من قاعدة الملازمة ـ لا يدفع الإشكال ، لأن الاحتياط في العبادة عبارة عن إتيان العمل العبادي بجميع ما يعتبر فيها شطرا كالسورة بالنسبة إلى الصلاة وشرطا كالطهارة لها ، ومنه الإتيان بقصد أمرها وهو المراد بقصد القربة ، فيعتبر في تحقق الاحتياط كون ذلك العمل العبادي مأمورا به حتى يتصف إتيانه ـ بقصد أمره ـ بالاحتياط في العبادة ، يعني : أنه باعتبار أن الاحتياط في العبادة هو الإتيان بجميع ما له دخل فيها ومنه قصد الأمر ، فالأمر مقدم على الاحتياط تقدم الموضوع على حكمه والعلة على معلولها ، وباعتبار أن الأمر يستكشف من الاحتياط ويتولّد منه ـ حسب الفرض ـ فالامر مؤخر عن الاحتياط تأخر الحكم عن موضوعه والمعلول عن علته ، فالأمر بالاحتياط متوقف على ثبوت الاحتياط ، وثبوت الاحتياط متوقف على الأمر به ، وهو دور باطل. وعليه فأوامر الاحتياط ـ وان كانت مولوية ـ لا تصلح لإثبات مشروعية الاحتياط في العبادة.

فالمتحصل : أن حسن الاحتياط عقلا لا يدل بقاعدة الملازمة على تعلق الأمر المولوي به أوّلا ، إذ الأمر المتعلق بالاحتياط كالأمر بالإطاعة الحقيقية إرشادي ، ومن المعلوم أن الأمر الإرشادي لا يصلح للتقرب به. ولو سلم استكشاف تعلق الأمر المولوي بالاحتياط من قاعدة الملازمة لا يدفع ذلك أيضا إشكال جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، للزوم الدور ثانيا بالتقريب المتقدم.

ومن هنا يظهر أن قوله : «ولو قيل بكونه موجبا لتعلق الأمر به شرعا» تعريض بما يظهر من كلام الشيخ الأعظم من أن المانع المنحصر من التقرب به هو إرشادية الأمر المتعلق بالاحتياط ، فلو كان أمره مولويا أمكن التقرب به

٤٨٥

توقفه (١) على ثبوته توقف العارض على معروضه (*) فكيف يعقل

______________________________________________________

والمصنف أورد عليه بأن تعلق الأمر المولوي بالاحتياط لا يدفع الإشكال أيضا ، لكونه مستلزما للدور الّذي قد مرّ تقريبه آنفا. ثم ان ما ذكرناه من التعريض قد أفاده في حاشية الرسائل بعبارة موجزة بقوله : «ومن هنا ظهر القدح في قوله : ودعوى أن العقل ... إلخ ولو قلنا بالملازمة أيضا بين هذا الحسن والأمر الشرعي المولوي ، فانه لا حسن إلّا للاحتياط ، والمفروض توقف تحققه هاهنا على الأمر».

(١) أي : توقف الأمر بالاحتياط ، وضمير «ثبوته» راجع إلى الاحتياط ، و «توقف العارض» مفعول مطلق نوعي ، يعني : أن الأمر بالاحتياط عارض على الاحتياط فيتوقف على ثبوت الاحتياط ، لكونه متأخرا عنه كما هو الحال في جميع العوارض بالنسبة إلى معروضاتها ، حيث انها متأخرة عن معروضاتها سواء كان ذلك في الوجود الخارجي كالبياض العارض على الجدار ، أم في عارض الوجود الذهني كالجنسية والنوعية في قولنا : الحيوان جنس والإنسان نوع.

وبالجملة : فالأمر بالاحتياط لكونه عارضا عليه متوقف على الاحتياط ومتأخر عنه ، فلا يعقل أن يكون الأمر من مبادئ وجود الاحتياط ومتقدما عليه ، مثلا الأمر بالصلاة عارض على الصلاة ، فلا بد من فرض وجود الصلاة ـ بجميع

__________________

(*) ولا يخفى أن محذور الدور قد أورد به الشيخ الأعظم في ثاني تنبيهات أصل البراءة على استدلال الشهيد في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت على شرعية قضاء الصلوات ، لكنه لم يتعرض له في الجواب عن استكشاف الأمر الشرعي من حسن الاحتياط بقاعدة الملازمة ، فأورد عليه المصنف بما عرفت من أنه كما يستلزم استكشاف الأمر المولوي بالاحتياط من الآيات الآمرة بالتقوى للدور ، فكذا استكشافه من قاعدة الملازمة دوري أيضا ، فكان المناسب التنبيه عليه ، وعدم الاقتصار في الإشكال على كون الأمر بالاحتياط إرشاديا.

٤٨٦

أن يكون من مبادئ ثبوته (١)؟

وانقدح بذلك (٢) : أنه لا يكاد يجدي

______________________________________________________

أجزائها وشرائطها التي منها الأمر بها ـ قبل الأمر بها ليترتب عليها الحكم ، فكيف يمكن أن يتولد جزء هذا الموضوع ـ وهو الأمر بها ـ من الحكم أعني الأمر كما عرفت توضيح ذلك.

(١) أي : الاحتياط ، واسم «يكون» ضمير مستتر راجع إلى الأمر ، يعني : كيف يعقل أن يكون الأمر من مبادئ ثبوت الاحتياط وعلل وجوده مع أنه متأخر عن الاحتياط كما عرفت وجهه؟

(٢) هذا إشارة إلى الجواب الثاني عن إشكال الاحتياط في العبادة ، يعني : ظهر ـ من ترتب محذور الدور على استكشاف الأمر بالاحتياط من قاعدة الملازمة ـ أنه لا سبيل أيضا لإحراز الأمر الشرعي بالاحتياط من ترتب الثواب عليه. توضيح إحراز الأمر الشرعي به من ترتب الثواب عليه : أنه لا ريب في ترتب الثواب على الاحتياط ، كما دلّ عليه بعض الروايات ، مثل ما عن أبي جعفر عليه‌السلام في وصية له لأصحابه قال : «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا ، فإذا كنتم كما أوصيناكم لم تعدوه إلى غيره فمات منكم ميت من قبل أن يخرج قائمنا كان شهيدا» (١) ولا يترتب الثواب على شيء إلّا لكونه طاعة ، وكونه طاعة يتوقف على تعلق الأمر به ، فترتب الثواب على الاحتياط يكشف بنحو الإنّ عن تعلق الأمر به ، وهو المطلوب ، فيؤتى بالعبادة حينئذ بنية القربة ، كما استدل على استحباب كثير من الأعمال بترتب الثواب عليها كالحكم باستحباب زيارة قبر فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٢٣ ، الحديث : ٤٣ ، ونحوه غيره ، وقد تقدم بعضها في صفحة ٣٢٨ وما بعده.

٤٨٧

في رفعه (١) أيضا القول بتعلق الأمر به من جهة ترتب الثواب عليه (٢) ، ضرورة (٣) أنه فرع

______________________________________________________

عليه‌السلام بقم لقول أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في جواب من سأله عن زيارتها : «من زارها فله الجنة» (١) وعليه فيصير الاحتياط مستحبا شرعا ، ويقصد هذا الأمر الاستحبابي المصحح لعبادية الفعل المشكوك وجوبه وإباحته.

وللمصنف عليه إيراد ان سيأتي بيانهما.

(١) يعني : رفع الإشكال المتقدم ، وقوله : «أيضا» يعني : كما لم ينفع في رفعه الجواب المتقدم بقوله : «وحسن الاحتياط ... إلخ».

(٢) هذا الضمير وضمير «به» راجعان إلى الاحتياط ، يعني : للأخبار الدالة على ترتب الثواب على الاحتياط ، وقد تقدم بعضها ، وقوله : «القول بتعلق الأمر به» إشارة إلى استكشاف الأمر بالاحتياط بنحو الإنّ.

(٣) تعليل لقوله : «لا يكاد يجدي» وبيان لعدم صحة الجواب الثاني عن إشكال الاحتياط في العبادة وإشارة إلى الإيراد الأوّل عليه.

وتوضيحه : أن تعلق الأمر بالاحتياط ـ سواء كان استكشافه بنحو اللّم لقاعدة الملازمة أم بنحو الإنّ لترتب الثواب عليه ـ فرع إمكان الاحتياط ، وقد عرفت عدم إمكانه ، لمحذور الدور وهو توقف الأمر بالاحتياط على إمكانه ، وتوقف إمكانه على العلم بالأمر به حتى يقصد ذلك الأمر ويندرج الإتيان بالفعل بداعي أمره في الاحتياط في العبادة ، والعلم بالأمر به متوقف على الأمر به حتى يتعلق به العلم ، والأمر به متوقف على إمكانه وهو الدور ، وحيث يتعذر العلم بالأمر لمحذور الدور فيتعذر الاحتياط ، ولا يمكن استكشاف الأمر به بالبرهان الإنّي أعني ترتب الثواب عليه في بعض الاخبار ، لأنه لو ثبت هذا الأمر كان

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٠ ، ص ٤٥١ ، الحديث : ١

٤٨٨

إمكانه (١) ، فكيف يكون من مبادئ جريانه (٢)؟ هذا.

مع أن (٣) حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الأمر به

______________________________________________________

لا محالة متأخرا عن موضوعه وهو الاحتياط ، فكيف يكون من مبادئ ثبوت الاحتياط؟

ولا يخفى أن محذور الدور قد أورده المصنف في حاشية الرسائل على شيخنا الأعظم ، حيث يظهر منه انحصار المانع في كون الأمر بالاحتياط إرشاديا والمصنف أورد عليه بأنه لو فرض تعلق الأمر الشرعي به لم يمكن أيضا دفع الإشكال به في خصوص المقام ، وقد تقدم توضيح كلامه في مناقشة الجواب الأول عن الإشكال ، فراجع.

(١) يعني : أن تعلق الأمر بالاحتياط فرع إمكان الاحتياط ، فهو متأخر عنه فكيف يكون هذا الأمر المتأخر عن الاحتياط من مبادئ جريانه ومن علل وجوده التي لا بد من تقدمها عليه رتبة؟ وعليه فلا يكون ترتب الثواب على الاحتياط كاشفا عن تعلق الأمر به ، بل يكون ترتبه عليه بلا وساطة أمر به ، فلو تعلق به أمر كان إرشاديا كما في الأمر بالإطاعة الحقيقية.

(٢) أي : جريان الاحتياط ، واسم «يكون» ضمير مستتر راجع إلى الأمر يعنى : فكيف يكون الأمر المتأخر عن الاحتياط من مبادئ جريان الاحتياط ومن علل وجوده التي لا بد من تقدمها عليه رتبة؟

(٣) هذا توضيح للإيراد الأوّل وهو لزوم الدور على الجواب الأوّل ـ أعني به استكشاف تعلق الأمر بالاحتياط من حسنه عقلا ـ عن إشكال الاحتياط في العبادة وقد تقدم بقوله : «ولو قيل بكونه موجبا لتعلق الأمر به شرعا» كما أن قوله : «وترتب الثواب ... إلخ» توضيح للإيراد الثاني ـ وهو لزوم الدور أيضا ـ على الجواب الثاني ، وهو استكشاف الأمر بالاحتياط من ترتب الثواب عليه

٤٨٩

بنحو اللّم (١) ، ولا ترتب الثواب عليه (٢) بكاشف عنه بنحو الإنّ (٣) ، بل يكون حاله في ذلك (٤) حال الإطاعة ،

______________________________________________________

بنحو الإنّ ، وقد تقدم أيضا بقوله : «وانقدح بذلك أيضا ...». وقد عرفت أن هذا الجواب قد اقتصر عليه شيخنا الأعظم ، وتقدم توضيحه بقولنا : «وحاصله أنه لا مجال لاستكشاف الأمر المولوي بالاحتياط من قاعدة الملازمة ...» فراجع.

وقد تحصل مما ذكرنا : أن إشكال لزوم الدور مشترك الورود على كلا الجوابين.

(١) كما في الوجه الأول ، حيث ان استكشاف أمر الشارع بالاحتياط كان بنحو اللّم أي من ناحية العلة وهو حسنه العقلي.

(٢) أي : على الاحتياط بكاشف عن الأمر بالاحتياط بالبرهان الإنّي.

(٣) كما في الوجه الثاني ، حيث ان استكشاف أمر الشارع بالاحتياط كان بنحو الإنّ أي من ناحية المعلول وهو ترتب الثواب عليه.

(٤) أي : يكون حال الاحتياط في حسنه وترتب الثواب عليه حال الإطاعة يعني : كما أن الإطاعة الحقيقية حسنة عقلا ويترتب الثواب عليها لا لتعلق الأمر بها ، بل لكونها في نفسها انقيادا ، فكذلك الاحتياط ، فانه ـ لكونه نحوا من الإطاعة ـ حسن عقلا ويترتب الثواب عليه ، ولا يكشف ذلك عن تعلق الأمر به ، وليس ترتب الثواب عليه كترتبه على الصدقة وصلة الأرحام وتسريح اللحية وكثير من المستحبات ، حيث انه كاشف عن استحباب تلك الأفعال وتعلق الأمر المولوي بها. والسّر في ذلك واضح ، فان حسن تلك الأفعال واقع في سلسلة علل الأحكام وملاكاتها ، فلذا كان حسنها وترتب الثواب عليها كاشفا عن استحبابها وتعلق الأمر المولوي بها ، بخلاف الاحتياط ، فانه ـ لكونه نحوا من الإطاعة كما تقدم ـ يكون حسنه كحسن الإطاعة الحقيقية واقعا في سلسلة

٤٩٠

فانه (١) نحو من الانقياد والطاعة [والإطاعة].

وما قيل (٢) في دفعه من : «كون المراد بالاحتياط في العبادات

______________________________________________________

معلولات الأحكام ، فلا يكشف حسنه وكذا ترتب الثواب عليه عن تعلق الأمر المولوي به ، كما لا يكشف حسن الإطاعة الحقيقية وترتب الثواب عليها في قوله تعالى : «ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار» عن تعلق الأمر المولوي بها ، بل هي غير قابلة لذلك كما ثبت في محله ، ومن هنا حمل الأمر بها في قوله تعالى : «أطيعوا الله» على الإرشاد إلى حكم العقل بحسنها.

وبالجملة : فحال الاحتياط حال الإطاعة الحقيقية في حسنها وترتب الثواب عليها ، وعدم كشفهما عن تعلق الأمر المولوي بها ، وأنه لو تعلق أمر بها كان للإرشاد.

(١) يعني : فان الاحتياط من أنحاء الإطاعة ومراتبها كما عرفت غير مرة من أن مراتب الإطاعة أربع إحداها الإطاعة الاحتياطية.

(٢) هذا هو الجواب الثالث عن إشكال الاحتياط في العبادات ، أفاده شيخنا الأعظم بقوله : «ان المراد من الاحتياط والاتقاء في هذه الأوامر هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة ، فمعنى الاحتياط في الصلاة الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط تتعلق بهذا الفعل وحينئذ فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر».

ولتوضيح كلامه وإيراد المصنف عليه ينبغي بيان النزاع في كيفية دخل قصد القربة في العبادة وحل إشكال الدور ، فنقول : قد نسب إلى شيخنا الأعظم أن قصد القربة كسائر الشرائط المعتبرة في المأمور به ، غاية الأمر أن الشارع يتوسل لبيان اعتباره بأمر آخر غير الأمر المتعلق بذات العبادة كالصلاة التي

٤٩١

هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة»

______________________________________________________

أولها التكبير وآخرها التسليم ، فمدلول هيئة «صل» هو وجوب هذه الماهية بما لها من الأجزاء والشرائط عدا نية التقرب ، إذ من المعلوم أن هذا الأمر قاصر عن الدعوة إلى نفسه ، بل يدعو إلى متعلقه ، فيتوسل الشارع ـ إلى لزوم الإتيان بالصلاة على وجه قربي ـ بالأمر الثاني الدال على اشتراط الإتيان بتلك الماهية بداعي الأمر الأول ، وبهذا البيان يرتفع محذور الدور ، إذ لم نقل بدخل قصد القربة ـ أي قصد الأمر ـ في موضوع الأمر الأول حتى يتوجه المحذور من جهة تأخره عنه كي يتعذر أخذه في المتعلق.

والحاصل : أن الشيخ الأعظم يصحّح قصد القربة بتعدد الأمر ، وهو ـ جريا على مبناه ـ صحّح الاحتياط في العبادة ، بتقريب : أن مدلول الأمر في قوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (١) ليس هو الاحتياط بمعنى الإتيان بالفعل المحتمل الوجوب والإباحة مثلا بجميع ما يعتبر فيه حتى قصد القربة حتى يتوجه عليه محذور الدور الّذي أورده على ما تقدم من استدلال الشهيد في الذكرى ، بل وزان قوله : «احتط» وزان قوله في الأوامر الواقعية مثل «صل» في كون المتعلق هو ذات الفعل المجرد عن قصد القربة ، فمدلول هيئة «احتط» هو البعث على الفعل الجامع لتمام ما يعتبر فيه شطرا وشرطا إلّا نية التقرب وهي قصد الأمر ، ويكون الاحتياط بهذا المعنى مأمورا به بمقتضى الاخبار الآمرة به ، وحينئذ فيقصد المكلف التقرب بهذا العمل ـ كقضاء الصلوات احتياطا لأجل احتمال وقوع خلل فيها ـ بنفس الأمر بالاحتياط ، وبهذا يتوجه صحة الفتوى باستحباب بعض الأعمال التي لا دليل على استحبابها في الشرع.

وقد ظهر عدم لزوم محذور الدور ، أعني : توقف عنوان الاحتياط على

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٢٣ ، الحديث : ٤١

٤٩٢

ففيه [فيه] مضافا (١) إلى عدم مساعدة دليل

______________________________________________________

الأمر به الّذي يتوقف هو أيضا على الاحتياط كتوقف سائر الأحكام على موضوعاتها. وجه عدم اللزوم أنه انما يلزم إذا أريد بالاحتياط في الروايات الآمرة به معناه الحقيقي وهو الإتيان بالفعل المشتمل على قصد القربة ، دون معناه المجازي الصوري وهو الإتيان بالفعل المجرد عن قصد القربة ، فانه بهذا المعنى المجازي لا يتوقف على الأمر حتى يلزم الدور.

هذا توضيح ما أفاده الشيخ الأعظم (قده) هنا مع ملاحظة ما نسب إليه في بحث التعبدي والتوصلي في كيفية دخل القربة في العبادة وهي اعتبار القربة فيها بأمر آخر ، وللمصنف على هذا الجواب إيرادان سيأتي بيانهما.

(١) هذا هو الإيراد الأول ، وتوضيحه : أنه لا وجه لرفع اليد عن ظهور الاحتياط ـ في الاخبار الآمرة به ـ في معناه الحقيقي ، أعني الإتيان بالفعل بجميع ما يعتبر فيه حتى نية التقرب المعتبرة في العبادات ، وصرفه إلى هذا المعنى المجازي ـ وهو الإتيان بالفعل مجردا عن قصد القربة ـ حتى يتمكن منه في العبادات التي لم يعلم أمر الشارع بها ، وذلك لمغايرة الاحتياط بهذا المعنى المجازي للاحتياط المأمور به في الاخبار موضوعا وحكما. أما موضوعا فلان ما يستقل بحسنه العقل ويرشد إليه النقل هو الإتيان بالفعل بجميع ما يعتبر فيه حتى قصد التقرب في العبادة ، فجعل الاحتياط المأمور به هو ذات الفعل المجرد عن نية التقرب أجنبي عن معناه المعروف المصطلح عليه.

وأما حكما فلوجوه ثلاثة : أولها : أن الأمر بالاحتياط بهذا المعنى ـ أي الإتيان بالفعل مجردا عن قصد التقرب ، وهو الّذي اختاره شيخنا الأعظم لحل الإشكال ـ أمر مولوي يصح قصد التقرب به ، إذ المفروض مطلوبية الإتيان بالفعل المحتمل وجوبه بدون قصد التقرب ، وتتحقق القربة بقصد هذا الأمر المولوي المتعلق

٤٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بالاحتياط بهذا المعنى الوارد ذلك الأمر في مثل قوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك» والأمر بالاحتياط بمعناه الحقيقي إرشادي لا يصح التقرب به ، فاختلف الاحتياطان حكما ، هذا. ولكن الالتزام بكون الأمر بالاحتياط بمعناه المجازي مولويا خلاف تصريح شيخنا الأعظم (قده) بأنه إرشادي غير صالح للتقرب به ، كما تقدم في عبارته المنقولة سابقا بقوله : «ان الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقي ... إرشادي محض ... فلا إطاعة لهذا الأمر الإرشادي ، ولا ينفع في جعل الشيء عبادة».

ثانيها : أنه لو سلم أن الأمر به مولوي فهو نفسي ، لقيام المصلحة بالإتيان بالفعل العبادي المحتمل بهذا النحو ـ أي مجردا عن قصد القربة ـ ولم يكن الغرض منه حفظ المصلحة الواقعية المحتملة ، لأن الفعل على فرض وجوبه واقعا لم يسقط أمره بالإتيان به بدون قصد التقرب ، إذ قوام العبادة به وهو دخيل في صميمه ، ولو كان الغرض منه حفظ المصلحة الواقعية لوجب الإتيان به مع قصد القربة فالامر بالإتيان به مجردا عن القصد المذكور أمر نفسي يثاب على إطاعته ويعاقب على مخالفته إذا كان إلزاميا كما هو شأن التكليف النفسيّ ، لا غيري. مع أنه لا سبيل إلى الالتزام بنفسية أوامر الاحتياط ، ضرورة أن المقصود من تشريعه التحفظ على الغرض الواقعي كما هو شأن سائر الواجبات الغيرية التي تقوم المصلحة بما يترتب عليها كالمسير إلى الحج الّذي يكون مطلوبيته للتوصل إلى الواجب النفسيّ أعني الحج ، فالاحتياط بالصلاة إلى جهات أربع عند اشتباه القبلة واجب غيري ، أمر الشارع به تحفظا على «معراج المؤمن» مثلا الّذي هو ملاك لتشريع الصلاة ، وحيث ان العبادة المحتملة قد سلب عنها قصد القربة فليس المراد بالاحتياط التوصل إليها ، فلو وجب لذاته كسائر الواجبات

٤٩٤

حينئذ (١) على حسنه بهذا المعنى فيها (٢) ، بداهة (٣) أنه ليس باحتياط حقيقة ، بل (٤)

______________________________________________________

النفسيّة لا للتوصل إلى الواقع المجهول.

ثالثها : أن الأمر بالاحتياط بهذا النحو على تقدير تسليم نفسيته يكون عباديا لا يسقط أمره إلّا بالإتيان بالفعل متقربا به إليه تعالى ، مع أن المقصود تجريده عن قصد التقرب ، وأن المطلوب هو وجود المتعلق في الخارج كيف ما اتفق كتطهير اللباس للصلاة ودفن الميت ، فيكون الأمر به توصليا ، لوفاء مطلق وجوده في الخارج بالغرض الداعي إلى التشريع ولو لم يأت به عن داع إلهي ، فالإتيان بمحتمل الوجوب سواء انبعث عن الأمر المحتمل أم عن الأمر بالاحتياط هو مطلوب الشارع ، فلا محالة يتمحض الأمر به في التوصلية ، فلا يلزم قصد التقرب به ، مع أن مفروض كلام الشيخ الأعظم (قده) التقرب بالأمر بالاحتياط كما عرفت.

والحاصل : أن التقرب بالأمر بالاحتياط يتوقف على كونه مولويا نفسيا عباديا مع وضوح أن الأمر به ليس كذلك ، لأنه إرشادي فكيف يتقرب به؟

(١) أي : حين كون المراد بالاحتياط هو الفعل المجرد عن نية التقرب ، وهذا هو المراد بقوله : «بهذا المعنى».

(٢) أي : في العبادات ، وضمير «حسنه» راجع إلى الاحتياط.

(٣) تعليل لعدم مساعدة دليل الاحتياط على حسنه بهذا المعنى المجازي ، لوضوح أن الإتيان بالمأمور به العبادي مجردا عن قصد التقرب مغاير للاحتياط موضوعا ، وليس امتثالا لأمره أصلا ، بل هو أجنبي عنه بالمرة كما عرفت توضيحه.

(٤) هذا إشارة إلى مغايرة الاحتياط ـ بالمعنى الّذي ذكره الشيخ ـ موضوعا للاحتياط الّذي هو مدلول الاخبار ، وقد تقدم توضيح المغايرة بقولنا : «وأما

٤٩٥

هو أمر (١) لو دلّ عليه دليل كان مطلوبا مولويا (٢) نفسيا عباديا ، والعقل (٣) لا يستقل إلّا بحسن الاحتياط والنقل لا يكاد يرشد إلّا إليه.

نعم (٤) لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص

______________________________________________________

موضوعا فلان ما يستقل بحسنه العقل ... إلخ».

(١) أي : شيء لو دلّ عليه دليل ... إلخ ، وضمير «هو» راجع إلى قوله : «الفعل المطابق للعبادة ... إلخ» وهو الاحتياط الّذي ذكره الشيخ الأعظم.

(٢) هذا إشارة إلى الوجه الأول من وجوه المغايرة بين الاحتياطين حكما و «نفسيا» إشارة إلى الوجه الثاني منها ، و «عباديا» إلى الثالث منها ، وقد تقدمت هذه الوجوه بقولنا : «وأما حكما فلوجوه ثلاثة أولها ... إلخ».

(٣) الواو للحال ، يعني : والحال أن العقل لا يستقل إلّا بحسن الاحتياط ، لا بحسن ما ذكره الشيخ (قده) لمعنى الاحتياط الّذي عرفت أنه لو دلّ عليه دليل لم يكن إلّا مطلوبا مولويا نفسيا عباديا ، كما أن الشرع أيضا لا يرشد إلّا إلى حسن الاحتياط لا إلى حسن هذا المعنى الّذي جعله (قده) لمعنى الاحتياط ، لأنه أجنبي عما يحكم بحسنه العقل ويرشد إليه النقل.

وبالجملة : فالأمر في مثل «خذ بالحائطة لدينك» و «عليكم بالاحتياط» ونحوهما أمر إرشادي ، ومتعلقه هو الاحتياط الّذي يحكم به العقل المنوط بالإتيان بكل ما يحتمل دخله في تحصيل الغرض ، لا المجرد عن نية التقرب فيما يحتمل عباديته ، فالمأمور به هو معناه الحقيقي لا الصوري الّذي يصح سلب عنوان الاحتياط عنه حقيقة ، فانه بهذا المعنى ليس حسنا عقلا ولا مما يرشد إليه الشرع.

(٤) استدراك على قوله : «لعدم مساعدة دليل» وغرضه : أن حمل الاحتياط على معناه المجازي لا وجه له إلّا إذا ألجأتنا دلالة الاقتضاء إلى ذلك ، كما ألجأتنا

٤٩٦

العبادة لما كان محيص عن دلالته (١) اقتضاء على أن المراد به ذاك المعنى بناء (٢) على عدم إمكانه (٣) فيها بمعناه حقيقة كما لا يخفى ـ

______________________________________________________

في مثل قوله تعالى : «واسأل القرية» إلى حمله على المجاز في الحذف بتقدير «الأهل» فانه إذا قام دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة كقضاء الصلوات لمجرد خلل موهوم فيها ولم يمكن إرادة معناه الحقيقي ، لعدم إحراز الأمر حسب الفرض حتى يقصده ويتصف الفعل بكونه عباديا ، فانه لا بد حينئذ من تجريد الفعل عن نية التقرب والإتيان به كذلك امتثالا لأمر الشارع بالاحتياط ، وارتكاب هذا المعنى المجازي مما لا بد منه صونا لكلام الحكيم عن اللغوية ، إذ لو لم يجرد الفعل عن قصد القربة لم يمكن الاحتياط فيه ، فلا بد من تعلق الأمر الاحتياطي بما عدا القربة من الأجزاء والشرائط.

والحاصل : أن ارتكاب هذا المعنى المجازي منوط بورود الأمر بالاحتياط في خصوص العبادة ، ولا وجه لصرف أوامر الاحتياط عن ظاهرها إلى هذا المعنى المجازي.

(١) يعني : دلالة الدليل على الترغيب ، وضمير «به» راجع إلى الاحتياط و «ذاك المعنى» يعني المجازي.

(٢) قيد لقوله : «ان المراد به ذاك المعنى» وغرضه : أن الالتزام بالمعنى المجازي ـ لو ورد أمر بالاحتياط في العبادة ـ لدلالة الاقتضاء إنما هو إذا تعذر حمل ذلك الأمر على معناه الحقيقي ، كما هو كذلك بناء على عدّ قصد القربة من الأجزاء والشرائط. وأما بناء على كونه من كيفيات الإطاعة ، فلو فرض ورود أمر بالاحتياط في خصوص العبادة أمكن حمله على معناه الحقيقي ، لعدم كون القربة في عداد سائر الشرائط كما سيظهر.

(٣) أي : إمكان الاحتياط في العبادة بمعناه الحقيقي.

٤٩٧

أنه (١) التزام بالإشكال وعدم جريانه فيها ، وهو (٢) كما ترى.

قلت (٣) : لا يخفى أن منشأ الإشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة

______________________________________________________

(١) مبتدأ مؤخر ، وخبره قوله المتقدم : «ففيه مضافا» والجملة بأجمعها خبر لقوله : «وما قيل» وضمير «أنه» راجع إلى «ما قيل» وقوله : «وعدم» معطوف على «الإشكال» وتفسير له ، وهذا هو الإيراد الثاني على كلام الشيخ الأعظم ، وهو المقصود الأصلي في مقام الاعتراض عليه ، توضيحه : أن صرف الاحتياط عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي ـ وهو الإتيان بالفعل مجردا عن قصد القربة ـ تسليم لإشكال جريان الاحتياط في العبادة ، وذلك لأن تجريده عن قصد الأمر دليل على عدم إمكان الاحتياط بمعناه الحقيقي في العبادة ، والالتزام بأنه بمعناه الحقيقي لا يجري في العبادة حتى ينسلخ منه قصد الأمر.

(٢) أي : والحال أن الالتزام بعدم جريان الاحتياط في العبادة كما ترى لا يمكن المصير إليه ، كيف؟ وهو مورد فتوى المشهور ، فلا بد لحل الإشكال من التماس وجه آخر وهو ما اختاره المصنف قدس‌سره.

(٣) هذا هو الجواب الرابع عن إشكال الاحتياط في العبادة ، واختاره في حاشية الرسائل أيضا ، وهو تزييف للمبنى الّذي أسس عليه هذا الإشكال. وتوضيح هذا الجواب : أن الإشكال المذكور نشأ من تخيل كون وزان القربة المعتبرة في العبادة وزان غيرها مما يعتبر فيها شطرا أو شرطا في اعتبار تعلق الأمر بها ، فيتعلق أمر العبادة مثل «صل» بقصد القربة كتعلقه بغيره مما هو دخيل في المأمور به ، فيشكل حينئذ جريان الاحتياط في العبادة ، لتعذر قصد الأمر مع الشك فيه.

لكن هذا التخيل فاسد ، لما ذكره المصنف في مبحث التعبدي والتوصلي وفي حاشية الرسائل من عدم كون قصد القربة دخيلا في المأمور به على حذو دخل مثل الاستقبال والستر في الصلاة ، بل هو من الأمور المحصّلة للغرض ،

٤٩٨

في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها مما (١) [ما] يتعلق بها الأمر المتعلق بها (٢) ، فيشكل جريانه حينئذ (٣) ، لعدم التمكن من قصد القربة المعتبرة فيها. وقد عرفت أنه (٤)

______________________________________________________

والحاكم باعتباره ولزومه هو العقل ، فمتعلق الطلب في مثل «صل» و «احتط» هو ذات الفعل ، والقصد المزبور خارج عن ماهية المأمور به ، ولا يلزم الدور حينئذ ، إذ لم يكن قصد الأمر المتأخر عن الأمر دخيلا في المتعلق على حذو سائر الأجزاء والشرائط ، بل هو من كيفيات الإطاعة التي هي في رتبة تالية للأمر ، وبه يصير الاحتياط في العبادة ممكنا ، إذ كما يأتي المكلف بالصلاة الواقعية المعلومة بداعي أمرها المعلوم بحيث يكون الأمر المعلوم هو الداعي للمكلف والمحرّك له نحو الإتيان بالصلاة لا داع آخر من الدواعي النفسانيّة ، كذلك يأتي بالصلاة الاحتياطية بداعي الأمر المحتمل ، وحينئذ فلو كانت مأمورا بها واقعا لكانت مقرّبة (*).

(١) بيان لـ «الشروط» ، وضمير «بها» راجع إلى الموصول في «مما» المراد به الشروط ، وضمير «جريانه» إلى الاحتياط.

(٢) هذا الضمير وضمير «فيها» المتقدم والآتي راجع إلى العبادة.

(٣) أي : حين كون القربة مثل سائر الشروط المعتبرة في العبادة كالطهارة والاستقبال في الصلاة كما هو مبنى التخيل.

(٤) أي : أن التخيل الّذي صار منشأ للإشكال المتقدم فاسد ، لما تقدم من امتناع أخذ الأمر في المتعلق ، بل المتعلق ذات العبادة.

__________________

(*) لا يخلو من غموض ، إذ لا وجه لعدم الاجزاء مع فرض انطباق المأمور به على المأتي به ، فعدم الاجزاء أقوى دليل على دخل القربة في متعلق الأمر شطرا أو شرطا ، والتفصيل موكول إلى محله. نعم بناء على هذا المبنى يندفع إشكال

٤٩٩

فاسد (*) وانما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لأجل أن الغرض منها (١) لا يكاد يحصل بدونه ، وعليه (٢) كان جريان الاحتياط فيه (٣) بمكان من الإمكان ، ضرورة (٤) التمكن

______________________________________________________

(١) هذا الضمير راجع إلى العبادة ، وضمير «بدونه» إلى قصد القربة.

(٢) أي : وبناء على أن اعتبار قصد القربة عقلي كان جريان ... إلخ.

(٣) أي : في قصد القربة في العبادة ، والأولى تأنيث الضمير ، لرجوعه إلى العبادة التي هي ظرف الاحتياط ، إلّا أن يرجع إلى العمل العبادي ، والأمر سهل.

(٤) تعليل لـ «كان جريان».

__________________

الاحتياط في العبادة. لكن الكلام في المبنى.

(*) هذا مع أنه لو أغمض عن فساده لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الإشكال فيها ، فكما يلتزم في دفعه بتعدد الأمر فيها ليتعلق أحدهما بنفس العمل والآخر بإتيانه بداعي أمره ، كذلك فيما احتمل وجوبه منها كان على هذا احتمال أمرين كذلك ، أي أحدهما كان متعلقا بنفسه والآخر بإتيانه بداعي ذاك الأمر ، فيتمكن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله ، فيقع عبادة وإطاعة لو كان واجبا ، وانقيادا لو لم يكن كذلك. نعم كان بين الاحتياط هاهنا وفي التوصليات فرق ، وهو : أن المأتي به فيها قطعا كان موافقا لما احتمل وجوبه مطلقا ، بخلافه هاهنا ، فانه لا يوافق إلّا على تقدير وجوبه واقعا ، لما عرفت من عدم كونه عبادة إلّا على هذا التقدير ، ولكنه ليس بفارق ، لكونه عبادة على تقدير الحاجة إليه ، وكونه واجبا. ودعوى عدم كفاية الإتيان برجاء الأمر في صيرورته عبادة أصلا ولو على هذا التقدير مجازفة ، ضرورة استقلال العقل بكونه امتثالا لأمره على نحو العبادة لو كان ، وهو الحاكم في باب الإطاعة والعصيان ، فتأمل جيدا.

٥٠٠