منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العقلي كالأمر بالإطاعة الحقيقية.

وأما المقام الثاني وهو مقام الإثبات ، فيتوقف تنقيحه على ذكر روايات الباب التي هي مستفيضة ، بل في رسالة شيخنا الأعظم المشار إليها «لا يبعد دعوى تواترها معنى» وان كان إثبات هذه الدعوى لا يخلو من تكلف.

وكيف كان ، فمنها : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقد تقدمت في المتن ، قال عليه‌السلام : «من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وان كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله».

ومنها : حسنة هشام بل صحيحته عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا ، وقد تقدمت في التوضيح.

ومنها : روايتا محمد بن مروان المتقدمتان عن الصادقين عليهما‌السلام.

ومنها : رواية صفوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به [فعمله] كان له أجر ذلك وان كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله [وان لم يكن على ما بلغه]».

ومنها : رواية السيد ابن طاوس في الإقبال عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «من بلغه شيء من الخير ، فعمل به كان له ذلك وان لم يكن الأمر كما بلغه».

ومنها : رواية أحمد بن فهد الحلي في عدة الداعي قال : «روى الصدوق عن محمد بن يعقوب بطرقه إلى الأئمة عليهم‌السلام : أن من بلغه شيء من الخير ، فعمل به ، كان له من الثواب ما بلغه وان لم يكن الأمر كما نقل إليه».

ومنها : رواية جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي مروية من طريق العامة كما عن عدة الداعي هكذا : «روى عبد الرحمن الحلواني مرفوعا

٥٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إلى جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من بلغه من الله فضيلة ، فأخذ بها وعمل بما فيها إيمانا بالله ورجاء ثوابه ، أعطاه الله تعالى ذلك وان لم يكن كذلك ، فصار هذا المعنى مجمعا عليه عند الفريقين» (١) هذه مجموع روايات الباب ، ودعوى تواترها المعنوي كما ترى لو سلم أن الصادر منهم عليهم‌السلام بالغ إلى هذا العدد ، ولكن دعوى اتحاد روايتي الإقبال وعدة الداعي مع ما رواه هشام قريبة جدا. والجامع لشرائط الحجية هو خصوص الأولين.

وكيف كان ، فقد اختلفت الأنظار فيما يستفاد من هذه الاخبار ، فقيل : ان ظاهرها الإخبار عن ترتب الثواب الموعود على العمل من دون نظر إلى حكمه ، وهذا الاستظهار قريب جدا ، لأن «كان له» و «كان أجر ذلك له» في صحيحة هشام وحسنته المتقدمتين كالصريح في ترتب الأجر الموعود على العمل الّذي بلغ عليه الثواب ، فحاصل المعنى المستفاد منهما : هو إعطاء الأجر الخاصّ الّذي بلغه على عمل بعد إتيان العبد به ، فهما ناظرتان إلى ما يترتب على العمل بعد وقوعه من الثواب من دون تعرض لحكمه ، لا لبيان إلغاء شرائط حجية خبر الواحد في المستحبات كما هو المراد بقاعدة التسامح في أدلة السنن.

وتوهم دلالة إطلاق الموضوع وهو البلوغ على عدم اعتبار شرائط حجية خبر الواحد في المستحبات فاسد ، إذ الإطلاق انما سيق لبيان تفضله سبحانه وتعالى على العباد بإعطاء الثواب وعدم دورانه مدار إصابة قول المبلغ للواقع ، لا لبيان استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب حتى يقال : ان موضوع

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، ج ١ ص ٩٣ ، الطبعة الأولى.

٥٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الاستحباب وهو البلوغ مطلق سواء كان المبلّغ له واجدا لشرائط حجية الخبر أم لا.

وبالجملة : فعلى هذا الوجه أعني الإرشاد إلى ترتب الأجر على العمل لا وجه لدعوى عدم اعتبار شرائط حجية الخبر في المستحبات تمسكا بإطلاق البلوغ ، بل تفرع العمل على البلوغ واستناده إليه كما هو مقتضى الفاء ظاهر في حجية الخبر المبلّغ للثواب لئلا يلزم التشريع المحرم وهو الاستناد إلى غير الحجة ، فتأمل.

وقيل : ان ظاهر أخبار الباب ما هو المشهور عند الأصحاب من حجية الخبر الضعيف في المستحبات ، وهذا الاستظهار منوط بإرادة الإنشاء من «عمله» و «صنعه» في صحيحة هشام وحسنته المتقدمتين ، بأن يكون بمنزلة «فليعمله» و «ليصنعه» ليدل مطابقة على استحباب ذلك العمل ، والتزاما على حجية الخبر المبلّغ للثواب مطلقا وان لم يكن واجدا لشرائط الحجية ، إذ لو كان البلوغ الّذي هو موضوع الاستحباب مقيدا لكان على المولى ذكر قيده ، لكونه في مقام البيان.

ففرق واضح بين الإطلاق في هذا الوجه وبينه في الوجه السابق في التمسك به هنا ، لكونه في مقام البيان ، بخلافه هناك ، لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة ، بل بصدد بيان التفضل بإعطاء الأجر الموعود.

لكن فيه أوّلا : أن إرادة الإنشاء من «فعمله» و «فصنعه» خلاف الظاهر جدا ، وان كان استعمال الجملة الخبرية في مقام الإنشاء شائعا ، لكن الفاء في «فعمله» و «فصنعه» ظاهر في تفرع العمل على البلوغ كتفرع سائر المعاليل على عللها الغائية ، ومعناه حينئذ انبعاث العمل عن الثواب البالغ المحتمل ، وليس هذا إلّا

٥٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الانقياد. ففي المقام ليس «فعمله» جزاء لمن بلغه حتى يكون البلوغ موضوعا و «فعمله» حكما كي يصير بمنزلة «فليعمله» بل الجزاء «كان أجر ذلك له» فالمستفاد من مجموع هذه الجملة شرطا وجزاء هو ترتب الأجر على العمل المنبعث عن داعي بلوغ الثواب المحتمل ، وهذا هو الاحتمال الأول الّذي قد عرفت أنه أظهر الاحتمالات ، وليس ذلك إلّا إرشادا إلى الثواب على الانقياد.

وثانيا : ـ بعد تسليم إرادة الإنشاء من الجملة الخبرية المزبورة ـ أنه لا يدل على حجية الخبر الضعيف في المستحبات ، بل يدل على استحباب العمل وكون البلوغ محقّقا لموضوع الاستحباب ، فالدليل على الاستحباب هو أخبار «من بلغ» لا الخبر الضعيف. فالجملة الخبرية بعد تسليم إرادة الإنشاء منها لا تدل على حجية الخبر الضعيف في المستحبات لا مطابقة ولا التزاما. أما الأوّل فواضح ، وأما الثاني فلعدم استلزام استحباب العمل حجية الخبر الضعيف الدال عليه مع إمكان أن يكون مستند استحبابه نفس أخبار «من بلغ» كما هو الظاهر.

مضافا إلى نفي البعد عن دعوى كون البلوغ الداعي إلى إيجاد العمل منصرفا إلى خصوص المبلغ الّذي يعتمد عليه العقلاء في أمورهم وهو الخبر الواجد لشرائط الحجية ، وهذا الانصراف بعد كون قبح الافتراء والتشريع مرتكزا عندهم من الانصرافات المعتد بها في تقييد الإطلاقات ولا أقل من صلاحيته له ، فلا ينعقد إطلاق في البلوغ حتى يصح التمسك به لحجية الخبر الضعيف في المستحبات. ومن هنا يظهر ضعف ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من صحة التمسك بإطلاق البلوغ.

وإلى : أن لازمه حجية الخبر الضعيف في الواجبات أيضا إذا كان دالا على

٥٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثواب مطابقة بل والتزاما أيضا ، لصدق بلوغ الأجر والثواب على كلتا الدلالتين ، وهو كما ترى مما لا يلتزم به أحد.

إلّا أن يقال : ان الداعي إلى العمل في الواجبات ليس هو بلوغ الثواب ، بل الداعي له هو الفرار من العقاب ، فتدبر.

وقيل : ان ظاهر صحيحة هشام المتقدمة هو استحباب نفس العمل من دون دخل للبلوغ فيه ، وهذا هو الّذي استظهره المصنف (قده) من الصحيحة المتقدمة بتقريب : أن ترتب الثواب على العمل الّذي بلغه أنه ذو ثواب يتصور على وجهين :

أحدهما : ترتبه عليه برجاء إدراك الواقع ، وهذا ثواب انقيادي لا يتوقف على وجود أمر مولوي استحبابي متعلق بالعمل ، لعدم الحاجة إليه مع كون نفس الانقياد مقتضيا للثواب كالإطاعة الحقيقية ، ومعه لا سبيل إلى استكشاف الأمر المولوي الموجب لاستحبابه.

ثانيهما : ترتب الثواب على نفس العمل ، وكون البلوغ جهة تعليلية لا تقييدية ، وحيث ان الفعل بنفسه لا يصلح لترتب الثواب عليه ، فيستكشف من ذلك كونه لأجل الإطاعة المترتبة على الأمر المولوي ، وظاهر الصحيحة هو هذا الوجه ، لترتب الثواب فيها على نفس العمل كترتبه على نفس تسريح اللحية في «من سرح لحيته فله كذا».

وبالجملة : فمن ترتب الثواب على نفس العمل يستكشف كونه لأجل انطباق عنوان الإطاعة المتوقفة على الأمر المولوي الاستحبابي عليه.

وفيه : أن الاستكشاف المزبور منوط بعدم قرينة أو ما يصلح للقرينية

٥٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على خلافه ، ومعها لا مجال للاستكشاف المذكور ، واحتفاف الكلام بالفاء ظاهر في كون العمل متفرعا على البلوغ ، والعمل المنبعث عن رجاء إدراك الثواب هو الانقياد الممتنع تعلق الأمر المولوي به والمترتب على نفسه الثواب ، ولا موجب لرفع اليد عن هذا الظهور ، ومعه لا مجال لاستكشاف الأمر المولوي بنفس العمل والالتزام بترتب الثواب عليه حتى يكون وزانه وزان «من سرح لحيته» فاستظهار استحباب نفس العمل من مثل «من سرح لحيته» في محله ، إذ لا مانع منه ، بخلاف ما نحن فيه ، لوجوده فيه وهو ظهور الفاء فيما عرفت.

ومنع دلالة الفاء على التأثير والسببية كما في رسالة شيخنا الأنصاري (قده) بما لفظه : «بل هي عاطفة على نحو قوله : من سمع الأذان فبادر إلى المسجد كان له كذا» خلاف الاصطلاح ، لعدم التقابل بين السببية والعطف ، بل العاطفة تارة تكون للسببية وأخرى لغيرها ، ففي حرف الفاء من كتاب مغني اللبيب : «الفاء على ثلاثة أوجه : الأول : أن تكون عاطفة ، وتفيد ثلاثة أمور ... إلى أن قال : الأمر الثالث السببية ، وذلك غالب في العاطفة جملة أو صفة ، فالأوّل نحو فوكزه موسى فقضى عليه ، ونحو فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، والثاني نحو لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون» فالعاطفية لا تمنع عن السببية والتأثير ، بل الغالب عليها في عطف الجملة على مثلها كما تقدم في عبارة المغني هو السببية ، فإرادة غيرها من الفاء خلاف الغلبة ومنوطة بالقرينة.

وبالجملة : فجملتا «فعمله» و «فصنعه» في صحيحة هشام وحسنته لم تستعملا في الإنشاء حتى يستفاد منهما حجية الخبر الضعيف في المستحبات كما نسب إلى

٥٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المشهور ، ونفي البعد عنه المحقق النائيني (قده) كما في التقريرات ، وقد حكي أنه رفع مقامه اختار في الدورة السابقة استحباب العمل ، وأن المستفاد من أخبار «من بلغ» قاعدة فقهية ، وفي بعض مجالس أنسه مال إلى أن المستفاد منها الاخبار عن ترتب الثواب الموعود على العمل.

وكيف كان فقد عرفت أن هذا الاحتمال هو أقرب الاحتمالات وأوجهها ، وعلى هذا لا يرد على أخبار «من بلغ» إشكال معارضتها لأدلة حجية خبر الواحد حتى يجاب عن تارة بما عن الشيخ (قده) : من اختصاص أدلة حجية أخبار الآحاد من الإجماع وآية النبأ بالواجبات والمحرمات وعدم شمولها للمستحبات. وذلك لعدم الإجماع على عدم حجية الخبر الضعيف في المستحبات ، بل المشهور حجيته فيها. ولاختصاص التعليل بقوله تعالى : «لئلا تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» بالواجبات والمحرمات ، وعدم دلالته على عدم حجية خبر الفاسق في سائر الموارد ، فلو دلت أخبار «من بلغ» على حجية الخبر الضعيف في المستحبات لم يكن هذا التعليل معارضا لها.

وأخرى بما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من وجهين : أحدهما حكومة أخبار «من بلغ» على أدلة حجية خبر الواحد ، لأنها ناظرة إلى أن مورد شرائط حجية أخبار الآحاد انما هو غير الأخبار الواردة في المستحبات ، وأما هي فلا يعتبر فيها تلك الشرائط.

ثانيهما : عدم بقاء مورد لأخبار «من بلغ» ان لم تقدم على أدلة حجية خبر الواحد.

وهذه الأجوبة لا تخلو عن مناقشات ، لكن لا يهمنا التعرض لها ، إذ

٥٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا موضوع للإشكال ، لتوقفه على دلالة أخبار «من بلغ» على حجية الخبر الضعيف في المستحبات ، وقد عرفت عدم ثبوتها ، وأن أظهر الاحتمالات فيها هو الإرشاد إلى ترتب الثواب الموعود على العمل المتفرع على البلوغ ، فلا دلالة فيها على إنشاء حكم مطلقا ، لا أصولي ولا فقهي ، فلا تعارض بين أخبار «من بلغ» وبين أدلة حجية خبر الواحد حتى يحتاج إلى العلاج بما أفاده العلمان الشيخ والميرزا قدس‌سرهما.

تذنيب : لا يخفى أنه يتفرع على النزاع فيما يستفاد من أخبار «من بلغ» من الإرشاد أو الاستحباب أمور :

منها : جواز نيّة الاستحباب على الثاني دون الأول ، إذ بناء على الإرشاد إلى الثواب لا دليل على استحباب العمل شرعا ، فقصده حينئذ تشريع محرم.

وعليه فجواز نية استحباب الصلوات المذكورة في بعض كتب الأدعية الواردة بكيفيات خاصة بروايات ضعيفة مع مثوبات خاصة لكل ليلة من ليالي شهري رجب وشعبان منوط بدلالة أخبار «من بلغ» على استحباب العمل أو على حجية الخبر الضعيف في المستحبات ، وبدون دلالتها على ذلك لا بد من الإتيان بتلك الصلوات رجاء.

ومنها : جواز أخذ البلل من مسترسل اللحية للمسح بناء على استحباب غسله ، لأنه من الماء المستعمل في الوضوء. وأما بناء على الإرشاد إلى ترتب الثواب على غسله وعدم استفادة استحباب العمل من أخبار «من بلغ» فلا يجوز ، لعدم ثبوت استحباب غسله. ولكن عن شيخنا الأنصاري (قده) عدم الجواز وان قيل باستحباب غسله شرعا ، فننتفي هذه الثمرة لخصوصية في هذا الفرع

٥٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والوجه في عدم الجواز ما حكي عن كتاب طهارته زيد في علو مقامه من «عدم الدليل على جواز المسح بكل بلل من الماء المستعمل في الوضوء وجوبا وندبا بل المتيقن بلل المغسول بالأصالة كاللحية الداخلة في حد الوجه».

والظاهر أن هذا الوجه منقول بالمعنى ، فان ما عثرنا عليه في كتاب الطهارة من العبارة التي يستفاد منها هذا الوجه هو ما ذكره الشيخ (قده) ذيل قول المصنف : «ولو جف ما على يده أخذ من لحيته ... إلخ» بقوله «... بل يحتمل أن يجوز المسح بالماء المستعمل لأصل الوضوء ولو من باب المقدمة الوجودية أو العلمية ، فيؤخذ من جزء الرّأس الّذي غسل مقدمة ومن المواضع التي حكم المحكوم بوجوب غسلها بقاعدة الاحتياط ، بل ومن المواضع التي حكم باستحباب غسلها بمجرد خبر ضعيف أو فتوى فقيه تسامحا ، لأنه يكون من أجزاء الفرد المندوب باعتبار اشتماله على هذا الجزء. لكن في جميع ذلك نظر ، بل لا يبعد وجوب الاقتصار على ما ثبت بالدليل كونه من مواضع الغسل أصالة» (١).

وكيف كان فهذا الوجه متين ، لأن كلمة «اللحية» في مرسل خلف بن حماد : «ان كان في لحيته بلل فليمسح به» (٢) وكذا في خبر مالك بن أعين : «فان كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه» (٣) وان كانت مطلقة ، لشمولها للمسترسل وغيره ، لكن الخبرين ضعيفان سندا ، بل ودلالة ، لأن الكلام قد سيق لبيان جواز أخذ البلل من اللحية في قبال الأخذ من سائر الأعضاء من دون نظر إلى استرسال اللحية وعدمه ، فتأمل.

__________________

(١) كتاب الطهارة ، ص ١١٧

(٢) الوسائل ج ١ الباب ٢١ من أبواب الوضوء الحديث ٢ ، ص ٢٨٧

(٣) الوسائل ج ١ الباب ٢١ من أبواب الوضوء الحديث ٢ و ٧ ، ص ٢٨٨

٥٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأما ما أفاده المصنف (قده) في وجه المنع عن أخذ البلل من مسترسل اللحية في تعليقته على براءة الرسائل : «من أن المسح لا بد من أن يكون ببلل الوضوء ، ولا يصح ببلل ما ليس منه وان كان مستحبا فيه» ففيه : أن غسل المسترسل ان كان مستحبا فهو جزء الفرد ، لا أن يكون مستحبا نفسيا في الوضوء بحيث يعد الوضوء ظرفا له ، لأنه خلاف ظاهر الأمر بشيء في مركب ، حيث ان ظاهره كونه جزءا أو شرطا لا مطلوبا نفسيا جعل المركب ظرفا له ، فان الأمر وان كان بطبعه ظاهرا في كون متعلقه مطلوبا نفسيا ، لكنه انقلب هذا الظهور الأوّلي إلى الظهور الثانوي ، وهو الإرشاد إلى الجزئية والشرطية كما ثبت في محله ، كانقلاب ظهور النهي في المبغوضية النفسيّة إلى المانعية في النهي عن شيء في شيء كالنهي عن لبس الحرير وما لا يؤكل في الصلاة.

ومنها : ترتب الآثار الوضعيّة على المستحبات الشرعية بناء على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب دون الإرشاد إلى إعطاء الثواب ، كجملة من الأغسال والأدعية التي ورد فيها أجر جزيل بروايات ضعيفة ، فانه بناء على استحبابها بأخبار «من بلغ» يترتب عليها ارتفاع الحدث الأصغر ، وكذا الوضوءات الواردة في موارد خاصة مع ثواب جزيل بروايات غير معتبرة ، فانها ـ بناء على استحبابها والقول بارتفاع الحدث الأصغر بكل وضوء مستحب يأتي به المحدث ـ يرتفع بها الحدث ، بخلاف البناء على استفادة الإرشاد إلى إعطاء الثواب الموعود من أخبار «من بلغ» فانه لا يرتفع الحدث بتلك الوضوءات كما لا يخفى.

وليعلم أن ترتيب الآثار التكليفية والوضعيّة الثابتة للمطلوبات الشرعية

٥٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على المورد بناء على استحبابه مشروط بعدم كون تلك الآثار آثارا للمستحب بعنوانه الأوّلي ، إذ لو كانت كذلك لم تترتب عليه إذا كان استحبابه بعنوانه الثانوي كبلوغ الثواب ، إلّا إذا كان البلوغ واسطة ثبوتية لا عروضية ، فإذا فرض كون غسل الجمعة بعنوانه رافعا للحدث ، وثبت استحبابه بأخبار «من بلغ» بعنوان عرضي وهو البلوغ لم يترتب عليه ارتفاع الحدث كما لا يخفى.

ثم ان هنا أمورا ينبغي التنبيه على جملة منها :

الأول : أنه هل يلحق بالخبر الضعيف فتوى الفقيه برجحان فعل أم لا؟ فيه وجهان ، بل قولان ، من صدق بلوغ الثواب بفتواه ، لدلالة الرجحان التزاما على الثواب. ومن أن البلوغ في عصر صدور الروايات لمّا كان بالنقل عن المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، فهو منصرف إلى خصوص الإخبار عن حس ، فالإخبار الحدسي الّذي منه الفتوى خارج عن منصرف الأدلة.

الحق أن يقال : ان المستفاد من أخبار «من بلغ» ان كان هو الإخبار عن إعطاء الثواب كان البلوغ عاما لكل من الحسي والحدسي ، لأن مناط البلوغ حينئذ هو الاحتمال المقوم للانقياد ، ولا يعتد بالانصراف المزبور. وان كان المستفاد منها حجية الخبر الضعيف اختص بالرواية ، ولا يشمل الفتوى التي هي خبر حدسي. وقد عرفت أن أظهر الاحتمالات هو الإرشاد إلى ترتب الثواب الموعد ، فيشمل البلوغ كلّا من الخبر الحسي والحدسي ، لإيجاد كل منهما الاحتمال المقوم للانقياد.

نعم لو فرض كشف الفتوى عن الرواية صدق عليها البلوغ ، فعلى القول بدلالة أخبار «من بلغ» على حجية الخبر الضعيف في المستحبات أو استحباب

٥٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العمل لا بأس بالفتوى بالاستحباب.

لا يقال : انه كيف تكون فتوى فقيه حجة على فقيه آخر؟

فانه يقال أوّلا : ان الحجة هي الرواية المحكية بالفتوى لا نفس الفتوى.

وثانيا : ان مستند الاستحباب هي أخبار «من بلغ» والفتوى انما تحقق الموضوع وهو البلوغ الشامل للمطابقي والالتزامي ، والبلوغ بالأحاديث التي تضمنتها كتب العامة ، فتشمل أخبار «من بلغ» الصلوات والأدعية المأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بطرقهم في شهر رمضان وغيره من الأزمنة.

الثاني : أنه نسب إلى المشهور إلحاق الكراهة بالاستحباب في التسامح في دليلها ، والوجه في ذلك إما قاعدة الاحتياط ، وإما دعوى استحباب ترك المكروه وشمول العمل في أخبار الباب للفعل والترك ، وأعمية البلوغ من الدلالة المطابقية والالتزامية ، حيث ان الخبر الضعيف القائم على الكراهة يدل مطابقة على كراهة الفعل والتزاما على استحباب الترك.

وإما تنقيح المناط بتقريب : أن الغرض عدم كون الأحكام غير الإلزامية كالإلزامية في التوقف على ورود رواية معتبرة بها. أو بتقريب : أن مورد الأخبار وان كان هو الفعل ، إلّا أن ظاهرها هو الترغيب في تحصيل الثواب البالغ من حيث انه ثواب بالغ ، لا لخصوصية فيما يثاب عليه حتى يقتصر على ثواب الفعل ، وعليه فلا بأس بإلحاق الكراهة بالاستحباب كما عن المشهور.

لكن الجميع مخدوش ، إذ في الأول : أن قاعدة الاحتياط تقتضي التوقف في الفتوى وعدم الحكم بالكراهة استنادا إلى الخبر الضعيف ، ولا تقتضي الحكم بالكراهة أصلا. نعم مقتضاها الترك عملا ، وهو غير المدعى.

٥٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وفي الثاني : أن انحلال الكراهة إلى حكمين استحباب وكراهة خلاف التحقيق الّذي ثبت في محله. ودعوى شمول العمل للترك كشموله للفعل كما ترى ، فلا يصار إليه بلا دليل. والبلوغ وان كان أعم من الدلالة المطابقية والالتزامية لكن أعميته هنا منوطة بانحلال الكراهة إلى حكمين ، وقد مرت الإشارة آنفا إلى عدمه.

وفي الثالث : أن الحجة هي القطع بالمناط ، ودون تحصيله خرط القتاد ، فان غاية ما يمكن تحصيله هو الظن بالمناط ، إذ لا موجب للقطع بعدم دخل خصوصية الفعل وحمله على المثال ، ومن المعلوم أن الظن لا يغني من الحق شيئا.

وكذا كون الغرض عدم التسوية بين الأحكام الإلزامية وغيرها ، فان تحصيل القطع بذلك مع قبح التشريع والافتراء كما ترى.

وبالجملة : فدعوى تنقيح المناط القطعي بكلا التقريبين المزبورين غير مسموعة وان اختار التقريب الثاني بعض أعاظم المحشين (قده) ولذا ذهب إلى مذهب المشهور من كون الكراهة كالاستحباب في ثبوتها بالخبر الضعيف ، وجريان قاعدة التسامح فيها كجريانها في الاستحباب. لكن قد عرفت أنه لا مجال للقاعدة في المستحبات فضلا عن المكروهات.

الثالث : أن الظاهر شمول أخبار «من بلغ» للخبر الضعيف مطلقا وان كان موهوم الصدور فضلا عن مشكوكه ، لإطلاق البلوغ المؤيد بما في بعض أخباره من «طلب قول النبي» و «التماس ذلك الثواب» و «رجاء ثوابه» الشامل لاحتمال الصدق ، فما لم يعلم كذب الخبر يصدق عليه البلوغ. كما أن الظاهر شمول الثواب وهو النّفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال لكل من الأجر

٥٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الدنيوي والأخروي ، فالروايات الضعاف التي تدل على ترتب سعة الرزق وطول العمر ونحوهما على بعض الأدعية أو الصلوات أو الختوم توجب صدق بلوغ الثواب عليها ، فتشملها أخبار «من بلغ» ولا يصغى إلى دعوى انصراف الثواب إلى خصوص الأخروي ، فانه بدوي يزول بالتأمل ، خصوصا بعد ملاحظة ما ورد في كثير من الواجبات والمندوبات من المصالح والمنافع الدنيوية المترتبة عليها. وعليه فيحكم باستحباب العمل البالغ فيه الأجر الدنيوي بناء على استفادته من أخبار «من بلغ» وبترتب الثواب الموعود انقيادا بناء على استفادة الإرشاد منها.

الرابع : لا تبعد دعوى شمول أخبار «من بلغ» لفضائل المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ومصائبهم وبعض الموضوعات الخارجية ، كما إذا قام خبر ضعيف على صدور معجزات من المعصومين عليهم‌السلام كأمر بعضهم عليه‌السلام تمثال أسد بافتراس عدو الله تعالى ، أو على أن الموضع الخاصّ مدفن نبي من الأنبياء ، أو رأس الإمام المظلوم سيد الشهداء عليه‌السلام ، أو مقام عبادة معصوم كمقامات مسجدي الكوفة والسهلة أو غيرهما ، أو مسجدية مكان أو غير ذلك.

توضيح ذلك : أنه ـ بعد أعمية بلوغ الثواب من الدلالة المطابقية والالتزامية وأعمية العمل من الفعل والقول ـ تشمل أخبار «من بلغ» كلّا من الشبهات الحكمية والموضوعية ، فلا فرق بين قيام خبر ضعيف على ثواب خاص على دعاء مخصوص أو صلاة أو زيارة معصوم ، وبين قيامه على كون مكان معين مسجدا أو مقام معصوم أو مدفنه كمدفن هود وصالح على نبينا وآله وعليهما‌السلام في المكان المعروف الآن في وادي السلام من أرض الغري ، فان الإخبار بهذه

٥٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الموضوعات يدل التزاما على ترتب الثواب على الصلاة في المكان الّذي قام الخبر الضعيف على مسجديته ، وعلى زيارة المعصوم في المحل الّذي قام الخبر الضعيف على كونه مدفنه عليه‌السلام. وقد مرّ أن البلوغ يصدق على كل من الدلالة المطابقية والالتزامية.

فعلى القول بدلالة أخبار «من بلغ» على حجية الرواية الضعيفة في المستحبات أو استحباب العمل يحكم باستحباب زيارة المعصوم عليه‌السلام واستحباب الصلاة في المكان الّذي دل الخبر الضعيف على مسجديته أو مدفنيته لمعصوم ، واستحباب نقل الفضائل التي دلّ خبر ضعيف عليها ، ولا يترتب على تلك الموضوعات الثابتة بروايات ضعيفة إلّا استحباب العمل المتعلق بها دون أحكام أخر ، فلا يحكم بحرمة تنجيس المكان الّذي قام خبر ضعيف على مسجديته ، ولا وجوب تطهيره ولا حرمة مكث الجنب فيه ، ولا غير ذلك من أحكام المساجد. وكذا لا يحكم بحرمة التقدم على قبر المعصوم أو كراهته بقيام رواية ضعيفة على كون مكان معين مدفنه عليه‌السلام ، بل الثابت بها استحباب خصوص زيارته المطلقة والحضور عنده ، فلا يثبت بها أيضا استحباب زيارته بالكيفية الخاصة لمن حضر قبره الشريف ، لأن ثبوت ذلك كله منوط بكون ذلك المكان مدفنه ، والرواية الضعيفة قاصرة عن إثباته.

وغاية ما يمكن أن يدعى دلالة أخبار «من بلغ» عليه هو استحباب العمل المتعلق به دون غيره من الأحكام والخصوصيات المترتبة على ثبوت الموضوع كما لا يخفى.

وعلى القول بعدم دلالة أخبار «من بلغ» إلّا على ترتب الثواب دون استحباب

٥٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العمل ، فلا يترتب عليه إلّا الثواب الموعود.

ثم انه يكفي دليلا على هذا التنبيه صحيحة هشام وحسنته المتقدمتان ، لوضوح صدق البلوغ على كل من الدلالة المطابقية والالتزامية ، وان نوقش في صدق السماع كما في الحسنة على الدلالة الالتزامية بدعوى اختصاصه بالنطق وعدم شموله للوازم المعنى المطابقي وملزوماته ، ففي الصحيحة كفاية. ولوضوح صدق العمل على كل من القول والفعل اللذين كلاهما من أفعال الجوارح ، فان العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء كما في رسالة شيخنا الأعظم (قده) في مسألة التسامح. ودعوى انصرافه إلى خصوص العمل الصادر مما عدا اللسان من الجوارح غير مسموعة.

ولا يخفى أنه مع وفاء صحيحة هشام المتقدمة بالمقصود لا وجه للتمسك بالنبوي ورواية ابن طاوس كما في الرسالة المشار إليها ، لعدم ثبوت اعتبارهما. وكذا في التشبث بإجماع الذكرى المعتضد بحكاية ذلك عن الأكثر.

ثم انه بناء على دلالة أخبار «من بلغ» على حجية الخبر الضعيف في المستحبات أو استحباب نفس العمل لا مانع من الاخبار باستحبابه ، لعدم صدق عنوان محرم كالكذب المخبري والافتراء والقول بغير العلم عليه وان صدق عليه الكذب الخبري واقعا ، إذ المدار في الحسن والقبح العقليين على الصدق والكذب المخبريين لا الخبريين اللذين لا حكم لهما عقلا ولا شرعا. نعم لو لم تدل أخبار «من بلغ» على ذلك كان الإخبار قبيحا ، فالفضيلة أو المصيبة التي قام عليها خبر ضعيف لا يخرج ذكرهما لضياء القلوب وبكاء العيون عن محذور الافتراء ، لعدم قيام الحجة عليهما حتى يعتقد ناقلهما بصدقهما ، فمحذور القبح العقلي والحرمة الشرعية مانع

٥٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عن جواز نقلهما.

وما دلّ على رجحان الإعانة على البرّ والتقوي ورجحان الإبكاء على سيد الشهداء عليه الصلاة والسلام لا يصلح لرفع هذا المحذور ، لوضوح تقيدهما بالسبب المباح الّذي لا يحرز بدليلي رجحان الإعانة أو الإبكاء ، حيث ان الدليل لا يشمل ما شك في موضوعيته له فضلا عما إذا أحرز عدمها ، كحرمة الغناء في المراثي والأدعية ، وتلاوة القرآن ، واستعمال آلات الملاهي لإجابة المؤمن التي هي من المستحبات الأكيدة ، فان دليل رجحانهما لا يثبت إباحة السبب ولا يرفع قبح الكذب المخبري ، فارتفاع هذا المحذور منوط بدلالة أخبار «من بلغ» على حجية الخبر الضعيف الدال على تلك الفضيلة أو المصيبة ، أو على استحباب نقلها ، لوضوح خروج الفضيلة أو المصيبة بسبب قيام الحجة عليهما عن حيّز الكذب المخبري القبيح عقلا والمحرم شرعا ، فلا بد من حمل كلام الشهيد الثاني (قده) : «جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ وفضائل الأعمال» على ما ذكر من دلالة أخبار «من بلغ» على حجية الخبر الضعيف أو استحباب العمل الّذي هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب كما في رسالة شيخنا الأعظم ، وإلا ففيه المحذور المتقدم ، والتخلص عنه منوط بالنقل عن الكتاب المتضمن لها أو الإسناد إلى مؤلفه.

الخامس : في حكم الفعل الّذي ورد باستحبابه رواية ضعيفة وبعدمه دليل معتبر من رواية أو غيرها ، فعلى ما استظهرناه من أخبار «من بلغ» من كونها إرشادا إلى ترتب الثواب الموعود على العمل لا إشكال ، لجواز اجتماع الاحتمال مع الحجة التعبدية على الخلاف ، فيلتزم بترتب الثواب على العمل وان قامت

٥٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحجة التعبدية على عدم استحبابه ، إذ لا منافاة بين ما قامت الحجة غير العلمية على عدم استحبابه وبين ترتب الثواب عليه لأجل البلوغ الصادق مع الاحتمال المقوم للانقياد.

وأما بناء على دلالة أخبار «من بلغ» على حجية الخبر الضعيف في المستحبات ، فان كان البلوغ جهة تقييدية ، فلا تعارض بين أخبار «من بلغ» وبين مدلول الخبر الصحيح ، لأن مقتضى الطريقية دلالة الخبر الصحيح على عدم استحباب العمل ذاتا ، وهو يجتمع مع استحبابه بعنوان بلوغ الثواب عليه المترتب على الاحتمال. وان كان البلوغ جهة تعليلية وقع التعارض بينهما ، حيث ان ذات العمل مستحب بمقتضى أخبار «من بلغ» وغير مستحب بمقتضى الخبر الصحيح ، لأن كلّا من الخبرين ينفي احتمال خلافه الموجود في الآخر فالخبر الضعيف المثبت للاستحباب ينفي احتمال خلافه ، كما أن الخبر المعتبر ينفي احتمال الاستحباب.

وكذا الحال فيما إذا كان مفاد أخبار «من بلغ» استحباب العمل ، فانه يجري فيه الوجهان المبنيان على الجهة التقييدية والتعليلية.

هذا إذا لوحظت أخبار «من بلغ» مع مدلول الخبر الصحيح. وأما إذا لوحظت مع أدلة حجية الخبر الصحيح ، فالظاهر عدم التعارض بينهما ، إذ دليل حجية الخبر الصحيح على الطريقية ينزل المؤدى منزلة الواقع ، ويلغي احتمال خلافه وهو الاستحباب ، حيث انه المحتمل المخالف لمضمونه ، وأخبار «من بلغ» تثبت حجية الخبر الضعيف الّذي مدلوله استحباب العمل بعنوان البلوغ ، فلا منافاة بين ثبوت الاستحباب له بهذا العنوان وبين نفيه عنه بعنوانه الأوّلي.

٥٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

نعم بناء على تعليلية البلوغ لا تقييديته يقع التعارض بين أدلة حجية الخبر الصحيح وأخبار «من بلغ» لورود النفي والإثبات على مورد واحد وهو الاستحباب بالعنوان الأوّلي. وكذا يتعارض مدلولا الخبرين الصحيح والضعيف مع الغض عن اعتبارهما ، لكن لا أثر لهذا التعارض كما لا يخفى.

ومما ذكرنا يظهر غموض ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في رسالة التسامح «من وقوع التعارض بين أخبار ـ من بلغ ـ وأدلة ذلك الدليل المعتبر ، بتقريب : أن كلّا منهما يقتضي إلغاء احتمال خلاف مورد الآخر ، فيلزم استحباب العمل البالغ عليه الثواب وعدمه ، ومقتضى القاعدة التساقط والرجوع إلى الأصل».

وجه الغموض : ما مرّ آنفا من اختلاف مورد النفي والإثبات ، إذ مورد أخبار «من بلغ» استحباب العمل بعنوان البلوغ ، ومورد أدلة ذلك الدليل المعتبر نفى استحباب العمل بعنوانه الأوّلي ، ومن المعلوم عدم التنافي بينهما. نعم بناء على تعليلية جهة البلوغ لا تقييديتها يلزم التعارض ، لوحدة مورد النفي والإثبات حينئذ.

السادس : نسب إلى المشهور حمل رواية ضعيفة وردت بوجوب شيء على الاستحباب ، ومرادهم بالحمل ـ كما في رسالة شيخنا الأعظم (قده) نقلا عن صريح شارح الدروس ـ هو أن يؤخذ بمضمونه من حيث الثواب دون العقاب لإلغاء دلالتها على اللزوم وتنزيلها منزلة المعدوم. وكأنه ناظر إلى تركب معنى الوجوب وعدم ثبوت أحد جزأيه وهو المنع من الترك وبقاء الجزء الآخر وهو أصل الطلب الدال على الثواب. وبعبارة أخرى : الرواية الضعيفة أوجبت بلوغ أمرين إلى المكلف : أحدهما الوجوب وهو غير قابل للثبوت ، والآخر

٥٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثواب وهو قابل للثبوت ، فالرواية بهذه الحيثية مشمولة لأخبار من بلغ.

وفيه أوّلا : عدم ثبوت تركب الوجوب كما ثبت في محله.

وثانيا : أن مقتضى عدم شمول دليل حجية الخبر للرواية الضعيفة سقوطها عن الاعتبار رأسا ، والحمل على الاستحباب لا بد أن يكون للجمع بين الدليلين لا بين الدليل وغيره. وبعبارة أخرى : التصرف في الظهور فرع تسلم الصدور فإذا انهدم أساس الصدور وحكم بعدمه ، فلا موضوع للجمع الدلالي الّذي مرجعه إلى التصرف في أصالة الظهور.

وثالثا : أن الثواب البالغ انما ثبت للمحدود بالحد الوجوبيّ لا الاستحبابي ولم يعلم بقاؤه بعد ارتفاع الحد الوجوبيّ ، لاحتمال تقومه به الموجب لارتفاعه بانتفاء الوجوب ، وهذا واضح جدا بناء على بساطة الوجوب وعدم تركبه من طلب الفعل والمنع من الترك.

وبالجملة : يمكن أن يكون الإشكال من جهتين : إحداهما : اختصاص أخبار «من بلغ» ولو من باب القدر المتيقن بالثواب الثابت للمحدود بالحد الاستحبابي لا مطلق الثواب.

ثانيتهما : أنه مع الغض عن الجهة الأولى لا دليل على بقاء الثواب بعد ارتفاع الوجوب ، ولا مجال لاستصحابه مع تقومه بالوجوب ولو احتمالا.

فالمتحصل : أنه لم يظهر وجه وجيه لحمل الخبر الضعيف الوارد بوجوب شيء على الاستحباب سواء أكان الوجوب بسيطا أم مركبا. ومنه يظهر حال الرواية الضعيفة الدالة على الحرمة المحمولة على الكراهة.

٥٤٠