منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وذلك لأن المقصود بالضرر ـ الّذي هو موضوع القاعدة ـ إمّا العقوبة الأخروية وإما الضرر الدنيوي.

أما على الثاني فوجوب الاحتراز عن المضار الدنيوية المترتبة على الأفعال لا كلية له حتى تثبت كبرى القاعدة ، لما سيأتي في كلام المصنف.

وأما على الأول ، فاما أن يستقل العقل بقبح العقاب بلا بيان ، واما أن لا يستقل به ، فان استقل به فالمقام ـ وهو احتمال العقوبة في الشبهة الحكمية بعد الفحص ـ لا يكون صغرى للقاعدة المذكورة أعني قاعدة وجوب الدفع ، اما لعدم صحته أو لعدم ثبوته ، وذلك لأن الملازمة بين التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته ان كانت بين مخالفة التكليف بوجوده الواقعي مطلقا ـ يعني سواء تنجز أم لم يتنجز ـ وبين استحقاق العقوبة ، فاحتمال العقوبة في مخالفة الحكم الواقعي المحتمل وان كان حينئذ ثابتا ويكون صغرى للقاعدة المذكورة ، ولا بد من الاحتياط رعاية للقاعدة ، لكنه غير صحيح. وان كانت بين مخالفة التكليف لا بوجوده الواقعي بل بوجوده التنجزي أي الّذي قامت عليه الحجة وبين استحقاق العقوبة ـ كما هو الحق بشهادة جواز الاقتحام في بعض الشبهات ولو في خصوص الموضوعية منها بلا إشكال ـ فلا يثبت احتمال للعقاب مع فرض عدم وصول بيان إلى المكلف حتى يكون صغرى لقاعدة الدفع.

والوجه فيه واضح ، فان التلازم بين احتمال التكليف واحتمال العقوبة فرع التلازم بين نفس المحتملين أعني مخالفة التكليف بوجوده الواقعي واستحقاق العقوبة عليها ، وحيث انه لا تلازم بين المحتملين ، لما عرفت من جواز الاقتحام في بعض الشبهات ولو في خصوص الموضوعية منها ، فلا تلازم بين الاحتمالين أيضا.

٣٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

وببيان أوضح : أن قاعدة دفع الضرر المحتمل مؤلفة من صغرى وهي قولنا : «احتمال الحرمة يوجب احتمال العقوبة» وكبرى وهي قولنا : «وكل ما يوجب احتمال العقوبة يجب دفعه ، فاحتمال الحرمة يجب دفعه» ومع العلم بعدم العقاب فيما نحن فيه ـ بمقتضى حكم العقل بقبحه بدون البيان الواصل إلى المكلف ـ لا تتحقق صغرى القاعدة حتى تنضم إليها كبراها وهي وجوب الدفع ليتم القياس وينتج المطلوب وهو وجوب دفع عقوبة مخالفة التكليف المحتمل. ومجرد حكم العقل بالكبرى ـ وهي وجوب دفع العقاب المحتمل ـ لا يكفي في إثبات الصغرى أعني احتمال العقوبة ، وذلك لأن الكبريات الكلية لا تحرز صغرياتها في شيء من الموارد ، بل لا بد من إحرازها من الخارج حتى يصح تطبيق كبرياتها عليها. وفي المقام كذلك ، فان الكبرى ـ أعني وجوب دفع العقاب المحتمل ـ لا تتكفل لإثبات الصغرى أعني احتمال العقاب ، بل لا بد من إحراز الصغرى من الخارج حتى تنطبق عليها الكبرى ، ولا يمكن إثباتها بنفس الكبرى ، للزوم الدور ، وذلك لأن الصغرى تتوقف حينئذ على الكبرى ، والمفروض أن الكبرى أيضا متوقفة على الصغرى وهو الدور.

والوجه فيه واضح ، فان وجوب دفع العقاب المحتمل متأخر رتبة عن احتمال العقاب ، لأن احتمال العقاب موضوع له ، فما لم يثبت لم يجب دفعه ، وهو ـ يعني احتمال العقاب ـ متأخر عن ثبوت بيانية هذا الاحتمال ، فيكون وجوب دفع احتمال العقاب متوقفا على احتمال العقاب ، واحتماله متوقفا على ثبوت بيانية هذا الاحتمال ، فينتج أن وجوب الدفع متوقف على ثبوت بيانية هذا الاحتمال ، فلو أريد إثبات بيانية هذا الاحتمال بوجوب دفع احتمال العقاب كان ثبوت البيان متوقفا على وجوب الدفع ، فيكون وجوب الدفع متوقفا على

٣٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب الدفع.

وببيان أوضح : لو أردنا إثبات احتمال العقاب بوجوب دفعه ، فلا بد أن يكون وجوب الدفع مقدم على احتمال العقاب حتى يثبت احتمال العقاب به ، وبما أن احتمال العقاب موضوع لوجوب الدفع ـ لأن وجوب دفع العقاب فرع احتماله ـ فهو مقدم على وجوب الدفع ، فالنتيجة أن وجوب الدفع مقدم على احتمال العقاب ، واحتمال العقاب مقدم على وجوب الدفع ، فوجوب الدفع مقدم على وجوب الدفع ، أو فقل : احتمال العقاب ـ لكونه موضوعا لوجوب الدفع ـ مقدم على وجوب الدفع ، ووجوب الدفع لكونه مثبتا لاحتمال العقاب مقدم على احتمال العقاب ، فاحتمال العقاب مقدم على احتمال العقاب ، وهذا هو الدور الباطل.

وعليه فيختص جريان قاعدة الدفع بالشبهات البدوية قبل الفحص حيث يكون نفس احتمال العقاب منجزا ومحققا لصغرى القاعدة وموضوعها وهو العقاب المحتمل ، ولا تجري في الشبهات البدوية بعد الفحص كما هو مطلوب المستدل.

وبتقرير آخر نقول : ان في المقام ـ وهو الشبهة البدوية بعد الفحص ـ قياسين أحدهما ينتج البراءة والثاني ينتج وجوب الاحتياط. أما الأول فهو : أن العقاب على التكليف المحتمل ـ بعد الفحص عنه بقدر الوسع واليأس منه ـ عقاب بلا بيان ، والعقاب بلا بيان قبيح ، فينتج أن العقاب على التكليف المحتمل قبيح ، وإذا كان قبيحا امتنع صدوره عن المولى ، لامتناع صدور القبيح عنه.

وأما الثاني فهو : أن العقاب على فعل محتمل الحرمة ضرر محتمل ، وكل ضرر محتمل يجب دفعه عقلا ، فينتج أن العقاب على فعل محتمل الحرمة يجب دفعه

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عقلا ، ولا يندفع إلّا بالاجتناب عنه ، ولا يتحقق الاجتناب عنه إلّا بترك الفعل المحتمل الحرمة ، فيجب تركه.

والقياس الأول مؤلف من صغرى وجدانية وكبرى برهانية ، فتكون النتيجة قطعية لا محالة ، وليس القياس الثاني كذلك ، فان صغراه ـ وهي احتمال العقاب على فعل محتمل الحرمة ـ ليست وجدانية ، بل تتوقف على أحد أمور كوجود البيان ولو في مرحلة الظاهر ، أو تقصير المكلف في الفحص عنه ، أو عدم كون العقاب بلا بيان قبيحا أو غير ذلك ، والمفروض المسلّم عدم تحقق شيء من هذه الأمور ، فينتفي احتمال العقاب ، فلا يتم القياس حتى ينتج المطلوب وهو وجوب الاحتياط ، وهذا بخلاف القياس الأول ، فان صغراه ـ كما تقدم ـ كانت فعلية وجدانية ، وكبراه برهانية عقلية ، فلذا كان تاما منتجا للمطلوب وهو جريان البراءة.

وبهذا البيان ظهر ورود قاعدة القبح على قاعدة الدفع ، إذ مع القطع بعدم العقاب ـ كما هو مقتضى القياس الأول ـ لا يبقى مجال لقاعدة الدفع ، ضرورة ارتفاع موضوع صغراه بسبب القطع بعدم العقاب كما هو واضح.

وبما ذكرنا من ارتفاع موضوع قاعدة الدفع تكوينا بسبب القطع بعدم العقاب ظهر أن المراد بقول المصنف (قده) : «فلا يكون مجال هاهنا ... إلخ» هو خروج الشبهة البدوية بعد الفحص عن كبرى قاعدة الدفع حقيقة وتخصصا لا تعبدا ، فخروجها عن القاعدة نظير خروج زيد الجاهل عن عموم «أكرم العلماء» تكويني لا تعبدي كخروج زيد العالم عنه تخصيصا ، وليس المراد بعدم المجال ورود قاعدة القبح على قاعدة الدفع بمعناه المصطلح وهو انتفاء موضوع الدليل المورود حقيقة بسبب ورود الدليل الوارد بعناية التعبد ، كارتفاع «اللابيان»

٣٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الموضوع لقاعدة القبح حقيقة بورود أمارة غير علمية جعلها الشارع حجة ، وذلك لأن كلتا قاعدتي القبح والدفع عقلية ولا تعبد في البين أصلا. مضافا إلى أن مقتضى إرادة الورود المصطلح من العبارة المتقدمة هو تمامية قاعدة الدفع في نفسها ، غاية الأمر أن قاعدة القبح مقدمة عليها ورافعة لموضوعها ، وهذا ينافي ما سيصرح به من عدم كون قاعدة وجوب الدفع بيانا في حد ذاتها (*).

هذا كله بناء على استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وأما بناء على عدم استقلاله به وحكمه بصحة المؤاخذة على المجهول ، فلزوم امتثال التكليف المجهول ورعاية الواقع المحتمل لا يتوقف على التشبث بقاعدة وجوب دفع الضرر ، ضرورة أن احتمال الحكم حينئذ مساوق لحسن المؤاخذة عليه ، فيكون استحقاق المؤاخذة عند احتمال الحكم ثابتا لا محتملا حتى يحتاج في دفعه إلى التمسك بقاعدة الدفع ، إذ المفروض استقلال العقل بصحة المؤاخذة على المجهول وعدم استقلاله بتوقفها على البيان أو توقفه فيه ، فإذا احتمل أن التكليف الواقعي في شرب التتن مثلا هو الحرمة لَزم الاجتناب عنه ، لتنجز الواقع بنفس الاحتمال مع عدم مؤمن لارتكابه ، فان تنجز الواقع يصحح العقوبة حتى إذا لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فتصح المؤاخذة في صورة الإصابة ، لوجود المنجز ، بل في صورة المخالفة أيضا بناء على ما هو الحق من استحقاق المتجري للعقوبة.

والحاصل : أنه ـ بناء على أن المناط في استحقاق العقوبة هو مخالفة التكليف الإلزامي المحتمل مع عدم وجود المؤمِّن ـ يلزم الاجتناب بمجرد احتمال الحرمة ، لتنجز الواقع بنفس الاحتمال المصحح لاستحقاق العقوبة ،

__________________

(*) ويشهد لما ذكرناه من التوجيه أمران : أحدهما : تصريحه الآتي بقوله :

٣٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فللمولى المؤاخذة على مجرد مخالفة هذا الاحتمال وان لم يكن في الواقع حكم أصلا ، إذ احتمال التكليف حينئذ بنفسه موضوع لوجوب الدفع ، ولا وجه لترتب استحقاقها على مخالفة قاعدة وجوب الدفع.

نعم بناء على ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في دفع دعوى ورود قاعدة وجوب الدفع على قاعدة القبح بقوله : «.... بأن الحكم المذكور ـ يعني وجوب دفع الضرر المحتمل ـ على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وانما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وان لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمت عوقب على مخالفتها وان لم يكن تكليف في الواقع ، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده ، فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة بل قاعدة القبح واردة عليها ، لأنها فرع احتمال الضرر أعني العقاب ، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ... إلخ» يكون استحقاق العقوبة مترتبا على مخالفة قاعدة وجوب الدفع ، لعدم تنجز الواقع بمجرد احتماله. لكنه خلاف الحق ـ حسبما عرفت ـ هذا إذا كانت قاعدة وجوب الدفع حكما عقليا استقلاليا.

وأما إذا كانت حكما عقليا إرشاديا ـ أي إرشادا إلى العقوبة المحتملة ـ فلا وجه لاستحقاق العقوبة على المخالفة ، إذ الحكم الإرشادي تابع للمرشد إليه ، فان كان التكليف ثابتا واقعا عوقب على مخالفته ، وإلّا فلا يعاقب عليها ، فحكم العقل هنا نظير أوامر الطبيب والأمر بالإطاعة ، فانه لا يستحق عند المخالفة

__________________

«فلا يكون مجال هاهنا ...» الدال على عدم كون قاعدة الدفع بيانا على الإلزام المجهول. ثانيهما : كلامه في حاشية الرسائل عند الإشكال على الشيخ الأعظم

٣٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

إلّا عقوبة واحدة ، لا عقوبتين إحداهما على مخالفة الحكم الواقعي ، وثانيتهما على مخالفة الأمر الإرشادي ، هذا.

ومما ذكرنا ظهر أيضا أن قوله : «كما أنه مع احتماله ... إلخ» تعريض بما أفاده الشيخ الأعظم من كون القاعدة حكما ظاهريا ، إذ قد عرفت أنه ليس كذلك ، بل هو حكم عقلي استقلالي أو إرشادي لا يترتب على موافقته أو مخالفته سوى ما يترتب على المرشد إليه. وقد نبّه المصنف على هذا الإشكال ببيان أوضح في حاشية الرسائل ، حيث قال : «ومن هنا ظهر عدم الحاجة في إثبات لزوم الاحتياط فيما احتمل فيه العقاب على من همه الفرار عنه إلى البناء على وجوب دفع الضرر المحتمل ، كما أن وجوبه لا يجدي في إبداء احتماله إذا لم يكن هناك لولاه كما لا يخفى ... إلى أن قال : فان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل حسب ما اعترف به (قده) في تنبيهات الشبهة المحصورة ليس إلّا حكما إرشاديا لأجل الفرار عن نفس الضرر لا عن ملاك آخر يوجب التحرز عن احتماله بنفسه كما يظهر من مراجعة الوجدان وملاحظة أن حكمه بوجوب دفع الضرر المقطوع ليس إلّا بملاك التحفظ على نفس الضرر ، وبداهة أن حكمه هاهنا معه من واد واحد».

__________________

قال في حاشيته التالية لكلامه المتقدم في التوضيح ما لفظه : «وأن وجوب دفع الضرر المحتمل لا يحتاج إليه في رفع قبح المؤاخذة فيما إذا قام فيه احتمالها لولاه ، ولا يجدي في قيامه فيما لم يقم لولاه ، ولهذا يكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على هذه القاعدة».

٣٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لكن مراده بالورود في آخر كلامه ليس معناه المصطلح بقرينة عبارتيه المتقدمتين ، وصريح كلامه في المتن ، حيث انه أسقط قاعدة الدفع عن البيانية بالكلية ، وأنها لا تجدي في إبداء احتمال العقوبة فيما لم يتنجز الحكم بدليل آخر ، فلعل التعبير به للمماشاة مع الشيخ الأعظم (قده) حيث صرح بورود هذه على تلك.

ومنه يظهر أنه لا وجه للإيراد عليه بأن مقتضى ظاهر كلامه هنا وتصريحه بالورود في الحاشية تمامية قاعدة الدفع في نفسها وأنها بيان ، لكن ورود قاعدة القبح مانع من جريانها في الشبهة البدوية بعد الفحص ، إذ الورود كالحكومة فرع تمامية الدليل المحكوم أو المورود ، ولذا تنتهي النوبة إلى علاج المانع بتقديم الوارد والحاكم ، ومع تماميته في نفسه يشكل جريان قاعدة القبح ، لاستلزامه الدور أيضا ، وتقريره كما في حاشية بعض المدققين أن يقال : ان جريان قاعدة قبح العقاب فرع موضوعها وهو عدم البيان ، وهو موقوف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر ، وعدم بيانيتها موقوف على عدم موضوعها ، وعدم موضوعها موقوف على جريان قاعدة قبح العقاب الموقوفة على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر ، فعدم بيانيتها أيضا موقوفة على عدم بيانيتها ، فكما أن بيانيتها دورية كذلك عدمها.

والوجه في عدم ورود الإشكال على كلام المصنف ما عرفته من عدم كون قاعدة الدفع بيانا بنظره حتى تصل النوبة إلى توهم توقف جريان كل منهما على الدور.

٣٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وكيف كان فالتحقيق في تمامية القاعدة وكونها مصححة للمؤاخذة على مخالفة التكليف الواقعي المجهول يستدعي النّظر في موضوع كل منهما ومحموله ، فموضوع قاعدة القبح «عدم البيان» ومحمولها قبح العقاب من المعاقب الحكيم. وموضوع الأخرى العقاب المحتمل ، ومحمولها الوجوب ، وبيانية قاعدة الدفع منوطة بالنظر في محتملات الوجوب ، إذ على بعضها تصلح للبيانية ، وعلى بعضها الآخر لا تصلح كما سيظهر ، فنقول وبه نستعين : ان وجوب الدفع اما شرعي نفسي أو غيري أو طريقي ، واما فطري ، واما عقلي إرشادي. والظاهر عدم كونه نفسيا ، إذ ضابطه ـ وهو الوجوب المنبعث عن مصلحة في المتعلق يوجب استحقاق المثوبة على موافقته والعقوبة على مخالفته كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما ـ لا ينطبق عليه ، إذ فيه أوّلا : أنه ليس احتمال التكليف من العناوين الموجبة لملاك ملزم يقتضي تشريع حكم إلزاميّ يوجب استحقاق العقوبة على مخالفته حتى يجب دفعها ، وإلّا لزم التصويب أو التسبيب.

وثانيا : أنه بعد تسليمه لا يكون وجوب الدفع أيضا شرعيا نفسيا ، لوقوعه حينئذ في سلسلة معلولات الأحكام ، فيكون عقليا كحكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية ، ولذا يحمل الأمر بالإطاعة والنهي عن المعصية على الإرشاد إلى ما يحكم به العقل ولا يحملان على الشرعي المولوي.

وثالثا : أن غرض المستدل بقاعدة دفع الضرر المحتمل انما هو تنجيز الحكم الإلزامي الواقعي المجهول ، ورفع قبح المؤاخذة على مخالفته ، وليس غرضه إثبات استحقاق العقوبة بهذه القاعدة على مخالفة التكليف المحتمل بما هو

٣٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كذلك وان لم يكن في مورده إلزام واقعا حتى يقال : ان وجوب الدفع نفسي وان احتمله الشيخ (قده) في أخبار الاحتياط كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، بل استظهره هنا أيضا في عبارته التي نقلناها في التوضيح ، فان دلالتها على إرادة الوجوب النفسيّ بقرينة قوله (قده) : «فلو تمت عوقب على مخالفتها» في غاية الوضوح ، كما وُجّه به أيضا في حاشية المحقق الآشتياني (قده) حيث قال : «لا معنى لها ـ أي للقاعدة ـ إلّا بجعلها حكما ظاهريا وطلبا نفسيا» لكن الشيخ (قده) عدل عن الوجوب النفسيّ في الشبهة المحصورة إلى كونه حكما عقليا إرشاديا ، هذا.

وقد ظهر مما ذكرنا : أن قاعدة دفع الضرر المحتمل على تقدير الوجوب النفسيّ لا تصلح لتنجيز الواقع ، لعدم ارتباطها به حينئذ ، وانما هي قاعدة ظاهرية كما أفاده الشيخ (قده) وقد أشرنا آنفا إلى أن المستدل بها جعلها بيانا على الواقع ومنجزة له.

فالمتحصل : أنه لا وجه لجعل وجوب دفع الضرر المحتمل شرعيا نفسيا.

كما لا وجه لجعله وجوبا غيريا ، إذ ليس هنا واجب نفسي يترشح منه وجوب غيري ـ بناء على وجوب المقدمة شرعا ـ على دفع الضرر حتى يصير واجبا مقدميا ويتوقف عليه امتثال الواجب النفسيّ حتى يجب دفع الضرر المحتمل مقدمة لامتثاله ، بل الأمر بالعكس ، لتوقف نفي استحقاقه على امتثال التكليف الواصل.

كما لا وجه لجعل وجوب الدفع طريقيا ، حيث ان الوجوب الطريقي

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ـ وهو المُنشأ بداعي تنجيز الواقع والمَنشأ لاستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف الواقعي في صورة الإصابة كما في التعبد بخبر الثقة ـ لا ينطبق على وجوب الدفع ، إذ استحقاق العقوبة مفروض في موضوع القاعدة ، فلو ترتب على وجوب الدفع لزم تنجز المنجز ، وهو محال ، لكونه من تحصيل الحاصل. ولزم أيضا استحقاق عقوبتين على مخالفة تكليف واحد ، وهو محال على الحكيم.

فما في بعض الكلمات من أن وجوب الدفع طريقيا لغو لا يخلو من غموض.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أنه لا وجه لكون وجوب دفع الضرر المحتمل في قاعدته شرعيا مولويا بأنحائه الثلاثة من النفسيّ والغيري والطريقي.

وحيث ان استحقاق العقوبة مفروض في موضوعها ، فلا محالة تختص القاعدة بموردين : أحدهما : الحكم الواقعي الواصل إلى المكلف المنجز في حقه ، كما في العلم الإجمالي بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف. ثانيهما : الحكم الواقعي الّذي هو في معرض الوصول كالشبهة البدوية قبل الفحص. وأما بعده فحيث انه لم يصل حكم المولى وخطابه بنحو من الأنحاء إلى المكلف ، فلا حكم للعقل بمجرد احتمال وجود الملاك اللازم الاستيفاء بوجوب الامتثال ، لعدم احتمال العقاب مع عدم إيجابه الاحتياط ، إذ لو كان الغرض مهما بحيث لا يرضى المولى بتفويته لأوجبه.

وأما الاستناد في لزوم رعاية الاحتمال إلى حق الطاعة الثابت للمولى الحقيقي على العبد ، فغير موجه ، إذ لم يثبت حق للمولى على العبد حتى بالنسبة إلى الغرض المحتمل مع بذل العبد وسعه في الفحص عما يدل عليه وعدم

٣١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الظفر به لو لم نقل باستقرار سيرة العقلاء وديدنهم على تقبيح مؤاخذته له كما اعترف به شيخنا الأعظم في الاستشهاد المتقدم في التوضيح.

وذلك واضح ، فان مدار الإطاعة والعصيان بنظرهم انما هو التكليف الواصل لا وجوده الواقعي ، لعدم ترتب الانبعاث والانزجار على الحكم غير الواصل ، فلا ملازمة بين احتمالي التكليف والعقاب.

فالمتحصل : أن احتمال التكليف بعد الفحص وعدم الظفر بدليل عليه ليس من مراتب وصوله كالعلم به أو قيام العلمي عليه حتى يكون مساوقا لاحتمال العقاب ، فالجاهل القاصر معذور بمقتضى ارتكاز العقلاء ، ولو فرض لزوم رعاية التكليف المحتمل كان على الشارع بيانه مع بنائهم على عدم رعاية الاحتمال.

وقد تحصل : أنه يدور الأمر بين كون وجوب دفع الضرر المحتمل عقليا إرشاديا كما صرح به شيخنا الأعظم في ثاني تنبيهات الشبهة المحصورة بقوله : «لأن حكم العقل بوجوب دفع الضرر بمعنى العقاب المحتمل بل المقطوع حكم إرشادي» وفطريا كما اختاره سيدنا الأستاذ قدس‌سره في المستمسك.

وعلى كل منهما يختص مورد القاعدة بما أحرز موضوعها من الخارج كما عرفت ولذا لا توارد ولا تنافي بينها وبين قاعدة القبح أصلا ، لعدم جريان كل منهما في مورد الآخر ، فقاعدة الدفع تختص بما تنجز فيه التكليف أو أمكن تنجزه ، ولا موضوع لها في الشبهة البدوية بعد الفحص ، وقاعدة القبح تجري في هذه ، ولا موضوع لها في أطراف العلم الإجمالي وفي البدوية قبل الفحص ، لوجود البيان في الأول وإمكان الظفر به في الثاني.

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومنه ظهر أنه لا تعارض بين القاعدتين ، فان كل واحدة منهما حكم عقلي عملي قطعي ، ولا معنى للتعارض بين القطعيين ، بل كل ما يتراءى منه التعارض فليس منه حقيقة بل أحدهما رافع لموضوع الآخر.

نعم قد يناقش في كون الوجوب عقليا إرشاديا بما في حاشية بعض المدققين (قده) من قوله : «وأما كونها حكما عقليا عمليا ، فحيث ان العاقلة لا بعث لها ولا زجر لها ، بل شأنها محض التعقل كما مر تفصيله في مبحث الظن وغيره ، ومنه تعرف أنه لا معنى لحكم العقل الإرشادي ، فان الإرشادية في قبال المولوية من شئون الأمر ، وإذ لا بعث ولا زجر فلا معنى لإرشادية الحكم العقلي ، فلا محالة ليس معنى الحكم العقلي إلّا إذعان العقل بقبح الإقدام على الضرر بملاك التحسين والتقبيح العقلائيين».

أقول : المستفاد من كلامه (قده) اعتبار قيدين في الإرشادية : أحدهما : كون الإرشاد بالأمر ، والآخر كون المرشد هو الشارع. وان شئت فقل : ان الإرشادية كالمولوية من وظائف الشارع وخصائصه ، وان الأمر ينقسم إلى المولوي والإرشادي ، فليس لغير الشارع الإرشاد ، كما أنه لا يكون الإرشاد بغير الأمر.

وأنت خبير بما في كليهما ، إذ في الأول أن الإرشادية التي هي عبارة عن الاخبار عما في الشيء من النّفع والضر والصلاح والفساد من الأمور العرفية التي لا تختص بلفظ خاص ، بل تتحقق الإرشادية بكل ما يحكي عن صلاح الشيء وفساده ولو كان فعلا أو كتابة ، ولا تختص بصيغة الأمر ، بل الغالب في المبرز غيرها كإخبار الطبيب وغيره من أهل الخبرة بما في الأشياء من المنافع والمضار والمصالح والمفاسد.

٣١٣

مخالفته ، فلا يكون مجال هاهنا (١) لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهم أنها (٢) تكون بيانا. كما أنه (٣) مع احتماله لا حاجة (٤) إلى

______________________________________________________

(١) أي : في الشبهة البدوية بعد الفحص ، إذ لا احتمال للعقوبة كما عرفت.

(٢) أي : قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

(٣) الضمير للشأن ، وضمير «احتماله» راجع إلى الضرر المراد به العقوبة.

(٤) وجه عدم الحاجة ما عرفته بقولنا : «ضرورة أن احتمال الحكم حينئذ مساوق لحسن المؤاخذة عليه ، فيكون استحقاق المؤاخذة عند احتمال الحكم ثابتا لا محتملا».

__________________

وفي الثاني : أن الثابت كونه من خصائص الشارع هو إعمال المولوية والسيادة ، لأنه المولى الحقيقي المتصرف في النفوس ، وأما الإرشادية التي حقيقتها الهداية إلى المصالح والمفاسد ، فلا وجه لاختصاصها بالشارع ، بل كل من يرشد ويهدي إلى مصلحة شيء أو مفسدته يصدق عليه المرشد كما يصدق على دلالته عليهما عنوان الإرشاد. فعليه يراد بحكم العقل إرشادا تحسين الإقدام أو تقبيحه على شيء لما أدركه فيه من الصلاح والفساد كما أفاده ، وهذا مما لا يقبل الإنكار.

ونظير هذا الحكم العقلي ما يصفه الطبيب للمريض من المنافع والمضار التي تكون في الأغذية والأدوية. نعم في تسمية هذه الدلالة بالحكم مسامحة.

والحاصل : أنه لا مانع من صحة حكم العقل إرشادا كما أفاده شيخنا الأعظم فالامر الإرشادي هو البعث الإنشائي أو الزجر كذلك بداعي الإرشاد إلى الصلاح أو الفساد من دون أن يترتب على موافقته ومخالفته غير ما في نفس الفعل من الصلاح والفساد.

٣١٤

القاعدة ، بل في صورة المصادفة استحق (١) العقوبة على المخالفة ولو (٢) قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.

وأما (٣) ضرر غير العقوبة ، فهو وان كان محتملا ، إلّا أن المتيقن

______________________________________________________

(١) الأولى أن يقال : «يستحق العقوبة».

(٢) وصلية ، وقيد لقوله : «استحق» يعني : إذا احتمل الضرر الأخروي في شرب مائع خاص فشربه وكان حراما واقعا ، فانه يستحق العقوبة على مخالفة هذا التكليف الإلزامي أعني الحرمة حتى إذا لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فان وجوب دفعه ـ بحكم العقل ـ إرشاد إلى عدم الوقوع في مخالفة الحكم الواقعي ، وليس وجوبا مولويا ، ومن المعلوم أن ذلك الضرر يترتب على الفعل لو فرض حرمته واقعا كترتب الضرر الدنيوي على شرب ذلك المائع سواء قلنا بوجوب دفع الضرر المحتمل أم لم نقل به.

(٣) معطوف على قوله : «لا احتمال لضرر العقوبة ... إلخ» يعني : وأما إذا أريد بالضرر الضرر الدنيوي دون العقوبة الأخروية فهو وان كان محتملا عند ارتكاب الشبهة التحريمية ، ولا يرتفع احتماله بقبح العقاب بلا بيان ، لكنه لا يجب دفعه ، وقد أجاب عن توهم وجوب دفعه بوجهين أشار إلى أولهما بقوله : «إلّا أن المتيقن ... إلخ» وتوضيحه : أن ما لا يكون ترتبه على التكليف مشروطا بتنجز التكليف ووصوله إلى المكلف بل يترتب على وجود الحكم واقعا ولو لم يصل إليه ، لا ينفك احتمال التكليف التحريمي عن احتمال الضرر ، وهذا الضرر وان لم يمكن التخلص عنه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لكونه أجنبيا عنها بعد فرض الضرر أمرا غير العقوبة الأخروية ، لكن لا مجال أيضا للتشبث بقاعدة وجوب الدفع لإثبات لزوم الاجتناب عنه ، وذلك لأن شمول الكبرى ـ وهي وجوب دفع الضرر ـ للضرر الدنيوي المحتمل ممنوع ، بل لا دليل على

٣١٥

منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع (١) شرعا ولا عقلا ، ضرورة (٢) عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا (٣) وجوازه شرعا (٤).

مع أن (٥) احتمال الحرمة أو الوجوب

______________________________________________________

لزوم التحرز عن الضرر الدنيوي المعلوم فضلا عن محتمله ، إذ لا قبح عقلا في تحمل بعض المضار الدنيوية لبعض الدواعي العقلائية ، فان العقلاء مع علمهم بالضرر يصرفون الأموال ويتحملون المشاق لأجل تحصيل العلم أو كسب المال بالتجارة ، وليست الغاية معلومة الحصول لهم ، بل ربما لا تكون مظنونة أيضا.

وأما احتمال الضرر فلا ينفك عن كثير من أفعالهم وهم لا يعتنون به أصلا.

وأما تحمل الضرر المعلوم أو المحتمل شرعا فلا منع فيه ، بل قد يستحب في بعض الموارد ، وقد يجب في موارد أخرى.

(١) كما حكي اعتراف الخصم به ، وضميرا «منه ، محتمله» راجعان إلى الضرر غير العقوبة.

(٢) تعليل لعدم وجوب دفع الضرر الدنيوي عقلا ، وقوله : «وجوازه شرعا» عطف على «عدم القبح» وضمير «جوازه» راجع إلى «تحمل بعض المضار».

(٣) كبذل المال لتحصيل الاعتبار ونحوه.

(٤) كجواز إتلاف النّفس لإقامة الدين وشعائره ، وجواز بذل المال لشراء الماء للطهارة والساتر في الصلاة ـ إذا كان البائع مجحفا ـ ووجوبه إذا لم يكن مجحفا ، إذ المحرّم شرعا المستفاد من مثل قوله تعالى : «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» هو الإلقاء في التهلكة دون مطلق الضرر.

(٥) هذا هو الوجه الثاني ، وتوضيحه : أن الأحكام الشرعية وان كانت تابعة

٣١٦

لا يلازم (*) احتمال المضرة وان كان ملازما لاحتمال المفسدة

______________________________________________________

للملاكات النّفس الأمرية من المصالح والمفاسد الكامنة في أفعال المكلفين ، ومن المعلوم عدم إناطة ترتبها عليها بالعلم بالاحكام ، للملازمة بين التكليف وملاكه مطلقا علم به أم لا ، فاحتمال التكليف الوجوبيّ أو التحريمي ملازم لاحتمال المصلحة أو المفسدة ، إلّا أنه لا كبرى لوجوب دفع الضرر المحتمل في المقام أعني الضرر غير العقوبة ، لتوقف الملازمة ـ بين احتمال الوجوب أو الحرمة وبين وجوب دفع الضرر المحتمل غير العقوبة ـ على تبعية الحكم الشرعي للمصلحة أو المفسدة بمعنى النّفع أو الضرر الدنيويين ، وهذه التبعية غير ثابتة ، انما الثابت تبعيته للمصالح والمفاسد الواقعية التي هي العلل للأحكام الشرعية ، وهي التي توجب حسن الفعل أو قبحه ، ولا ربط لها بالمنافع والمضار العائدتين إلى المكلف ، يعني : أن المصالح والمفاسد الواقعية انما توجبان حسن الفعل أو قبحه من دون لزوم ضرر على فاعله أو نفع عائد إليه.

وبالجملة : فاحتمال الحرمة وان كان ملازما لاحتمال المفسدة ، لكنه لا يلازم الضرر بالفاعل حتى يكون موردا لقاعدة وجوب الدفع ويجبَ ترك محتمل الحرمة تحرزا عن الضرر ، بل ربما كان ترك الحرام تحرزا عن المفسدة مستلزما للضرر على التارك كما في ترك البيع الربوي تحرزا عن مفسدته ، فانه موجب لذهاب المنفعة المالية على المتحرز. كما أن احتمال الوجوب وان كان ملازما لاحتمال المصلحة ، لكنه لا يلازم المنفعة حتى يجب فعل محتمل الوجوب استيفاء للمنفعة ، بل ربما كان فعل الواجب استيفاء للمصلحة موجبا للضرر على الفاعل كما في أداء الزكاة استيفاء لمصلحتها ، فان فيه ضررا ماليا على الدافع بناء

__________________

(*) الأولى سوق العبارة هكذا : «لا يلازم احتمال المضرة أو المنفعة وان كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة ، لوضوح .... إلخ».

٣١٧

أو ترك المصلحة ، لوضوح (١) أن المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الأحكام (٢) ، وقد استقل العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات مصالح [المصالح] وقبح ما كان ذات مفاسد [المفاسد] ليست (٣) براجعة إلى المنافع والمضار ،

______________________________________________________

على كونه مالكا لتمام المال الزكوي وخروج حصة الفقراء من ملكه ، لا مالكا لما عدا مقدار الزكاة ، وإلّا لم يكن دفعه ضررا عليه كما هو واضح. وعليه فاحتمال الحرمة بالنسبة إلى الضرر الدنيوي غير واجب الدفع ، فلا تتم كبرى قاعدة وجوب الدفع حتى يجب الاجتناب عن كل محتمل الحرمة.

(١) تعليل لقوله : «لا يلازم احتمال المضرة» وقد عرفت توضيحه.

(٢) يعني : بناء على مذهب العدلية القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

(٣) خبر «أن المصالح» يعني : أن المصالح والمفاسد الكامنة في أفعال المكلفين ليست دائما من المنافع والمضار القائمة بالافعال حتى يجب امتثال محتمل التكليف استيفاء للمنفعة أو دفعا للضرر ، بل قد تكون منها وقد لا تكون ، وذلك لأن المصلحة عبارة عن خصوصيات موجودة في الأشياء تحسِّنها وتوجب محبوبيتها تكوينا أو تشريعا ، والمفسدة عبارة عن خصوصيات موجودة في الأشياء تقبِّحها وتوجب كراهتها تكوينا أو تشريعا ، والنّفع ما يتوصل به الإنسان إلى مطلوبه ، والوصول إلى المطلوب خير ، فالنفع هو الخير ، والضرر ضده ، والنسبة بين المصلحة والمنفعة عموم من وجه ، لاجتماعهما في الصوم النافع للبدن ، وافتراق المصلحة عن المنفعة في أداء الزكاة والخمس مثلا ، إذ فيه المصلحة دون المنفعة ، وافتراق المنفعة عن المصلحة في الرّبا مثلا ، إذ فيه المنفعة دون المصلحة. وكذا بين المفسدة والضرر ، لاجتماعهما في شرب المسكر المضر بالبدن ، وافتراق المفسدة

٣١٨

وكثيرا ما يكون (١) محتمل التكليف مأمون الضرر. نعم (٢) ربما يكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا.

______________________________________________________

عن الضرر في غصب المال أو الحق ، إذ فيه المفسدة دون الضرر ، وافتراق الضرر عن المفسدة في دفع مثل الزكاة والخمس ، إذ فيه الضرر دون المفسدة كما هو واضح.

وبالجملة : فاحتمال التكليف التحريمي وان كان ملازما لاحتمال المفسدة ، لكنه لا يلازم احتمال الضرر حتى يكون موردا لقاعدة وجوب الدفع ويجب الاجتناب عنه ، بل كثيرا ما يكون محتمل الحرمة مأمون الضرر كما سيتعرض له في المتن.

(١) غرضه تثبيت ما تقدم من أن احتمال التكليف التحريمي لا يلازم احتمال الضرر حتى يكون من موارد القاعدة ، يعني : أن هناك موارد كثيرة جدا يحتمل فيها التكليف التحريمي مع العلم بانتفاء الضرر الدنيوي ، بل قد يعلم بالحرمة ويعلم بعدم الضرر كما في كثير من المحرمات كالزناء والنّظر إلى الأجنبية ـ بناء على عدم كون الحد والتعزير ضررا دنيويا ـ وكيف كان فمع العلم بعدم الضرر حتى مع العلم بالحرمة في كثير من الموارد كيف يمكن دعوى أن احتمال الحرمة يجب دفعه ، لأنه يلازم الضرر ودفع الضرر المحتمل واجب؟

(٢) استدراك على قوله : «ليست براجعة إلى المنافع والمضار» يعني : أنه قد يتفق كون مناط حكم العقل أو الشرع هو النّفع أو الضرر الموجود في الفعل ، لكن ذلك قاصر عن إثبات الملازمة ، لما عرفت من عدم كونهما غالبا مناطين للحكم حتى يكون احتمال الحرمة مساوقا لاحتمال المفسدة ، فالملاك في خيار الغبن ووجوب التيمم مع خوف الضرر باستعمال الماء هو الضرر لئلا يتضرر المغبون والمتطهر ، ولكن لا سبيل إلى إحراز الملاك في كثير من

٣١٩

ان قلت (١):

______________________________________________________

الأحكام حتى يلازم احتمال الحرمة احتمال الضرر الدنيوي كي يجب دفعه.

وقد تحصل من جميع ما ذكر حول قاعدة وجوب الدفع : أن المراد بالضرر ان كان هو العقاب فلا موضوع للقاعدة في الشبهة الحكمية البدوية بعد الفحص ، لانتفاء العقاب قطعا بقاعدة القبح. وان كان غير العقوبة الأخروية ، فلا يجب دفعه بعد ثبوت جوازه لبعض الأغراض العقلائية سواء أريد به الضرر الدنيوي أم المفسدة ، كما عرفت تفصيله.

وبالجملة : لا مجال للقاعدة في الشبهات الحكمية ، لأنه على تقدير لا صغرى لها ، وعلى تقديرين لا كبرى لها.

ثم ان شيخنا الأعظم (قده) أجاب عن قاعدة الدفع ـ بناء على إرادة غير الضرر الأخروي ـ بوجه آخر وناقش فيه المصنف في حاشيته ، فراجع.

(١) غرض المستشكل : تقديم قاعدة أخرى ـ غير وجوب دفع الضرر المحتمل ـ على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وهي حكم العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته كقبحه على ما علم مفسدته ، توضيحه : أن احتمال التكليف التحريمي وان لم يستلزم احتمال العقاب الأخروي والضرر الدنيوي كما تقدم ، إلّا أنه بناء على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للملاكات ، لا ينفك احتمال الحرمة عن احتمال المفسدة ـ ولو النوعية منها ـ لاقتضاء التلازم بين المحتملين ـ وهما الحرمة والمفسدة بمقتضى تبعية الأحكام للملاكات ـ للتلازم بين الاحتمالين ، وبعد إحراز الصغرى ـ وهي احتمال المفسدة ـ تصل النوبة إلى الكبرى التي استدل بها شيخ الطائفة على كون الأشياء قبل الشرع على الوقف ، وهي : قبح الإقدام على المفسدة المحتملة كقبح الإقدام على المفسدة المعلومة ، فيؤلف القياس هكذا : «احتمال الحرمة ملازم لاحتمال المفسدة ، واحتمال المفسدة

٣٢٠