منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

فصل

لو شك (١) (*) في وجوب شيء (*) أو حرمته

______________________________________________________

(أصالة البراءة)

(١) المراد بالشك في الوجوب الشك فيه مع العلم بعدم حرمته كالدعاء عند رؤية الهلال ، كما أن المراد بالشك في الحرمة الشك فيها مع العلم بعدم وجوبه كشرب التتن ، وأما مع العلم إجمالا بالوجوب أو الحرمة فيكون من دوران الأمر بين المحذورين ، وسيأتي البحث عنه.

__________________

(*) المراد بالشك المأخوذ موضوعا في الأصول العملية خلاف الحجة من العلم والعلمي ، لا خصوص المتساوي طرفاه ، فكان أبدال الشك بالاحتمال أولى ، لأنه أشمل منه ، وان كان إطلاق الشك على خلاف العلم الشامل للظن غير المعتبر والاحتمال المتساوي طرفاه شائعا أيضا.

(*) لا يخفى أن جمع الوجوب والحرمة في فصل وعدم عقد فصل لكل منهما على حدة ، وكذا جمع فقد النص وإجماله في عنوان عدم الحجة انما هو لأجل عدم الحاجة إلى ذلك بعد الاتحاد فيما هو الملاك وما هو العمدة

١٦١

ولم تنهض عليه (١) حجة جاز شرعا وعقلا ترك

______________________________________________________

ولا يخفى أن شيخنا الأعظم (قده) عقد لكل من الشبهة التحريمية والوجوبية مسائل ثلاث : الأولى : لما إذا كان منشأ الشك فيهما فقدان النص. الثانية : لما إذا كان منشؤه تعارض النصين. الثالثة : لما إذا كان منشؤه إجمال الدليل ، وأضاف لكل من الشبهة التحريمية والوجوبية مسألة لحكم الشك في الموضوع الخارجي. هذا ولكن المصنف طوي البحث عن الكل في فصل واحد ، وهذا أنسب ، لما ذكره في حاشيته على المتن من وحدة مناط البحث في الجميع فان المناط في الكل هو الشك في الحكم ، والاختلاف في منشئه لا يصحح عقد مطالب متعددة ، بل يكفيها عقد بحث واحد كما لا يخفى.

ثم ان المصنف لم يتعرض لجريان أصالة البراءة وعدمه فيما عدا الوجوب والحرمة من الاستحباب والإباحة والكراهة ، ولعله لما نبّه عليه الشيخ الأعظم (قده) في الموضع الأول وهو الشك في النوع الخاصّ من التكليف أعني الإلزام مع العلم بجنسه بقوله : «وهذا مبني على اختصاص التكليف بالإلزام واختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به ، فلو فرض شموله للمستحب والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام ، فلا حاجة إلى تعميم العنوان».

(١) أي : على شيء من الوجوب أو الحرمة.

__________________

من الدليل على المهم. واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة. وأما ما تعارض فيه النصان فهو خارج عن موارد الأصول العملية المقررة للشاك على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير ، كما أنه داخل فيما لا حجة فيه بناء على سقوط النصين عن الحجية ، وأما الشبهة الموضوعية ، فلا مساس لها بالمسائل الأصولية ، بل فقهية ، فلا وجه لبيان حكمها في الأصول الا استطرادا ، فلا تغفل.

١٦٢

الأول (١) وفعل الثاني ، وكان (٢) مأمونا من عقوبة مخالفته (٣) كان (٤) عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص (٥) أو إجماله واحتماله الكراهة (٦) أو الاستحباب (٧) ، أو تعارضه (٨) فيما لم يثبت بينهما (٩) ترجيح بناء (١٠) على التوقف في مسألة تعارض النصين

______________________________________________________

(١) أي : ما شك في وجوبه ، والمراد بفعل الثاني فعل ما شك في حرمته.

(٢) معطوف على «جاز» وهو بمنزلة التفريع على الجواز العقلي والشرعي.

(٣) أي : مخالفة الشيء المشكوك الوجوب أو الحرمة.

(٤) أي : سواء كان عدم نهوض ... إلخ.

(٥) المراد به مطلق الدليل لا خصوص الرواية.

(٦) بيان لإجمال النص ، وهذا يكون في صورة الشك في الحرمة ، كما إذا قال «لا تشرب التتن» مثلا ، واحتمل إرادة الكراهة من النهي.

(٧) وهذا يكون في صورة الشك في الوجوب ، كما إذا قال : «اغتسل للجمعة» واحتمل إرادة الاستحباب من الأمر.

(٨) أي : تعارض النص مع نصّ آخر.

(٩) يعني : بين النصين المتعارضين ، إذ لو ثبت بينهما ترجيح فالمتعين الأخذ بالراجح ، لأدلة الترجيح الظاهرة في وجوب الترجيح. ثم ان التوقف والرجوع إلى الأصل في صورة التكافؤ هو القول الشاذ ، وإلّا فعلى المشهور من التخيير لا تصل النوبة إلى الأصل ، لوجود الدليل وهو أحد المتعارضين.

(١٠) قيد لـ «جاز» يعني : أن الرجوع إلى الأصل في تعارض النصين مبني على التوقف في مسألة التعارض ، دون التخيير ، إذ بناء على التخيير لا بد من الأخذ بأحد المتعارضين دون الرجوع إلى الأصل.

١٦٣

فيما لم يكن ترجيح في البين (*) وأما بناء على التخيير ـ كما هو المشهور ـ فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها (١) ، لمكان (٢) وجود الحجة المعتبرة وهو أحد النصين فيها (٣) كما لا يخفى.

وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة :

أما الكتاب فبآيات (٤)

______________________________________________________

(١) من الأصول الأخر كالاستصحاب.

(٢) تعليل لقوله : «لا مجال» ووجهه واضح ، إذ الحجة على الواقع موجودة وان كانت مرددة بين شيئين.

(٣) أي : في مسألة تعارض النصين.

الاستدلال بالكتاب على البراءة

(٤) منها : قوله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها» (١) بإرادة الحكم الواقعي من الموصول والاعلام من الإيتاء ، قال في الفصول : «فان الإتيان لا يصدق في ما لا ينصب أمارة عليه» يعني : لا تكليف قبل البيان.

لكن لا ظهور للآية في ذلك أصلا ، إذ يحتمل فيها أيضا إرادة المال من الموصول وإرادة الدفع أو الإنفاق من نسبة التكليف إليه ، والمعنى : «أنه سبحانه لا يكلف نفسا إنفاقَ مالٍ إلّا ما أعطاها من المال» وهذا هو ظاهر الآية بملاحظة صدرها وذيلها : «لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا» فتدل ـ بمقتضى سياق

__________________

(*) الأولى أن يضاف إليه : «ولم نقل بالتخيير بينهما أو كان ترجيح ولم نقل بوجوبه» فمرجعية أصالة البراءة في تعارض النصين تختص بما إذا لم نقل بالتخيير في المتكافئين وبوجوب العمل بالراجح إذا كان أحدهما ذا مزية ورجحان.

__________________

(١) الطلاق ، الآية : ٧

١٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الآية المتقدمة عليها الواردة في حكم إنفاق الآباء على أزواجهم أيام الحمل ودفع الأجرة على الرضاع ـ على أنه يجب على الوالد دفع أجرة المثل إلى المرضعة ، ومن المعلوم أن هذا المدلول أجنبي بالمرة عن البراءة.

ويحتمل أيضا إرادة فعل المكلف من الموصول والإقدار من الإيتاء ، ومفاد الآية حينئذ نفي التكليف بغير المقدور كما استظهره أمين الإسلام في المجمع بقوله : «وفي هذا دلالة على أنه سبحانه لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه وما لا يطيقه» وجعل شيخنا الأعظم هذا الاحتمال أظهر وأشمل. ومع تسليم عدم أظهريته وعدم ظهورها في نفي التكليف بغير المقدور فمن المقطوع به أنها غير ظاهرة في الاحتمال الأول حتى تدل على البراءة.

ومنها : قوله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (١) بتقريب : أن إطاعة الحكم المجهول خارجة عن وسع المكلف في نظر عامة الناس.

وأنت خبير بأن ظاهر الآية نفي التكليف بغير المقدور ، ومن المعلوم أن هذا المضمون أجنبي عن البراءة ، إذ ليس الاحتياط بترك ما يحتمل التحريم من التكليف بغير المقدور ، إذ لو كان منه لم يقع النزاع بين الاخباري والأصولي في مسألة البراءة ، لأن عدم صحة التكليف بغير المقدور من الأمور المسلمة بينهم.

ومنها : قوله تعالى : «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» (٢) قال في الأوثق : «والمعنى : ليهلك من ضلّ بعد قيام الحجة عليه فتكون حياة الكافر وبقاؤه هلاكا له ، ويحيى من اهتدى بعد قيام الحجة عليه ، فيكون بقاء

__________________

(١) البقرة ، الآية : ٢٨٦ ،

(٢) الأنفال ، الآية : ٤٢

١٦٥

أظهرها (١) قوله تعالى : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (١).

______________________________________________________

من بقي على الإيمان حياة له ، وقوله : عن بينة أي بعد بيان وإعلام ، وقضية تخصيص الضلال والاهتداء بما بعد البيان هو عدم الوجوب والحرمة قبله» وقريب منه كلام الفصول.

ولكن دلالتها على المقصود مبنيّة على كون الهلاك بمعنى العذاب الأخروي والبينة في هذا الآية بمعنى مطلق الطريق الكاشف عن الواقع ، ويظهر بمراجعة بعض التفاسير أن المراد بالبينة خصوص المعجزة الدالة على صدق نبوة نبينا بما ظهر من انتصاره على المشركين في غزوة بدر كما يشهد به صدر الآية الشريفة «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ... إلخ» وأن المراد من التهلكة الموت أو القتل ومن الحياة الإسلام أو معناها الظاهر.

ومنها : قوله تعالى : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ» (٢) بتقريب : أن اليهود والمشركين حيث حرّموا على أنفسهم طائفة من الأنعام كالبحيرة والسائبة والحام وغيرها ، فنزلت الآية لتلقين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طريق الرد عليهم ، وأنه مع عدم وجود هذه المذكورات في جملة المحرمات يكون تحريمها تشريعا وافتراء عليه سبحانه وتعالى ، فما لم يرد نهي عن شيء فهو مباح وحلال. هذا.

ولكنك خبير بأن عدم وجد انه صلى‌الله‌عليه‌وآله دليل على الإباحة الواقعية ، وهذا أجنبي عما نحن فيه من إثبات الإباحة الظاهرية لما جهل حكمه الواقعي.

وهذا الإشكال بعينه وارد على الاستدلال بآية «وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم».

(١) وجه الأظهرية هو : أن همّ الأصولي تحصيل ما يؤمِّنه من العقاب على

__________________

(١) الإسراء ، الآية : ١٥.

(٢) الأنعام : الآية : ١٤٦.

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

مخالفة التكليف المجهول ، ومن تبعات ارتكاب الشبهات ، على ما تقتضيه الروايات الآمرة بالوقوف عند الشبهة التي استدل بها الأخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهات ، ولا ريب في ظهور هذه الآية الشريفة في نفي العذاب قبل تبليغ الأحكام ، وهذا الظهور مفقود في سائر الآيات كما عرفت. بل قد ظهر مما تقدم في تلك الآيات : أن تعبير المصنف (قده) بقوله : «أظهرها» مسامحة إذ لا ظهور لها في البراءة حتى تكون هذه الآية أظهر منها ، ومن أراد الوقوف عليها تفصيلا فليراجع حواشي الرسائل للآشتياني والأوثق والمصنف.

وكيف كان فالاستدلال بالآية الشريفة يتوقف على بيان أمور :

الأول : أن المراد ببعث الرسول تبليغ الأحكام وإيصالها إلى العباد ، لأن الغرض من بعثه ذلك ، فصح جعل بعثه كناية عن بيان الأحكام بذكر الملزوم وإرادة لازمه ، نظير صحة جعل الأذان كناية عن دخول الوقت في قول القائل : «إذا أذّن المؤذن فصلّ» إذ لو لم يجعل بعث الرسول كناية عن بيان الأحكام بأن كان المراد نفس الملزوم أعني بعث الرسول لم تكن الآية حجة على البراءة في الشبهات الحكمية ، لأن البعث حينئذ هو العلة للتعذيب ، وقد تحقق ، فلا بد فيها من الاحتياط حذرا عن التعذيب الّذي قد تحققت علته.

وبالجملة : فالاستدلال بالآية الشريفة يتوقف على كون المراد ببعث الرسول تبليغ الأحكام وبيانها للعباد ، لا مجرد بعثه بما هو بعث ، وعليه فلو بعث رسول ولكن لم يبين حكما من الأحكام فلا تعذيب على مخالفته أصلا كما لو فرض أنه لم يبعث رسول أصلا.

وما أفاده الشيخ (قده) في تقريب الاستدلال بالآية ناظر إلى هذا الأمر ، قال (قده) : «بناء أن بعث الرسول كناية عن بيان التكليف ، لأنه يكون به غالبا

١٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

كما في قولك : لا أبرح من هذا المكان حتى يؤذّن المؤذن كناية عن دخول الوقت».

الثاني : أنه تبارك وتعالى لم يقل : «لم نعذِّب» أو «ما عذبنا أحدا إلّا بعد بعث الرسول» ونحوهما مما يدل على الزمان ولا يدل على كون نفي التعذيب عادة وديدنا له عزوجل حتى يحتمل الحكاية عن ذلك بالنسبة إلى الأمم السالفة واختصاصه بهم ، ولا يشمل هذه الأمة المرحومة كي لا يصح لهم التمسك بالبراءة ، وانما قال : «ما كنّا» بصيغة الماضي من «كان» المنسلخ عن الزمان في هذا المورد ومثله ، كقوله تعالى : «وكان الله عليما حكيما» الدال على الثبوت والاستمرار ، فيدل هذا التعبير على استقرار عادته تعالى على عدم التعذيب قبل البيان وأن التعذيب قبله ينافي عدله وحكمته ، ولذا جرت عليه سنته تعالى ، فلا يختص بالأمم السالفة ولا بالعذاب الدنيوي.

وبالجملة : فليست الآية في مقام الاخبار عن خصوص عدم نزول العذاب الدنيوي على الأمم السابقة قبل بعث الرسل إليهم حتى يكون مفادها أجنبيا عن نفي العذاب الأخروي على التكليف الإلزامي المجهول بعد الفحص عنه وعدم الظفر بحجة عليه كما هو المقصود.

الثالث : ثبوت التلازم بين نفي فعلية التعذيب وبين نفي استحقاقه ، إذ لو لم تثبت الملازمة بينهما بأن كان نفي الفعلية لازما أعم من نفي الاستحقاق ومن ثبوته مع انتفاء فعليته منّة وتفضلا على العباد لم تدل الآية على البراءة ، لعدم دلالتها حينئذ على عدم الاستحقاق الّذي هو مبنى البراءة. وعليه فلا يؤمن فاعل محتمل التحريم وتارك محتمل الوجوب من العذاب الأخروي ، إذ المفروض أن نفي فعلية التعذيب لا ينفي استحقاقه.

١٦٨

وفيه (١) : أن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان

______________________________________________________

وبالجملة : فصحة التمسك بالآية الشريفة على البراءة مبنية على دلالتها على عدم حسن العقاب على التكاليف المجهولة ما لم تنهض عليها حجة وبيان.

الرابع : دلالة نفي التعذيب الدنيوي بالأولوية القطعية على نفي العذاب الأخروي ، لانقطاع الأول ودوام الثاني.

إذا عرفت هذه الأمور ، فيقال في تقريب الاستدلال : ما كان يحسن بنا العذاب على التكاليف المجهولة قبل إبلاغها وإقامة الحجة عليها ، وهذا هو المطلوب.

(١) حاصله : المناقشة في دلالة الآية الشريفة على البراءة بمنع ثالث الأمور المتقدمة وهو التلازم بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق ، وقد سبقه في هذه المناقشة صاحب الفصول في أدلة البراءة ، حيث قال : «ويشكل بعد التسليم بأن نفي التعذيب لا يدل على نفي الوجوب والتحريم ، لجواز الاستحقاق والعفو». توضيح وجه المنع : أن نفي الفعلية ليس لازما مساويا لنفي الاستحقاق حتى يدل نفيها على نفيه كما كان ذلك مبنى الاستدلال على البراءة ، بل نفي الفعلية أعم من كونه لعدم الاستحقاق أو لتفضله تبارك وتعالى على عباده مع استحقاقهم للتعذيب ، فلا يصح الاستدلال بالآية الشريفة على البراءة ، هذا.

وأما شيخنا الأعظم (قده) فقد ناقش في دلالة الآية الشريفة على البراءة بمنع ثاني الأمور المتقدمة ، وهو دلالتها على استقرار عادته تعالى على عدم التعذيب قبل البيان ، حيث قال : «وفيه : أن ظاهره الاخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فالمراد بالعذاب هو الدنيوي الواقع في الأمم السابقة» ومحصله : أن المراد بالعذاب هو الدنيوي الواقع في الأمم السابقة لا الأُخروي المترتب على مخالفة التكليف المجهول كما هو المقصود في البراءة ، فالآية في مقام

١٦٩

منة منه تعالى عباده مع استحقاقهم لذلك (١) (*)

______________________________________________________

الاخبار عن وقوع العذاب في الأمم الماضية ، وأنه كان بعد إتمام الحجة عليهم ببعث الرسل ، فقوله تعالى : «ما كنا» ليس منسلخا عن الزمان ، فالآية أجنبية عن البراءة ، فلا يصح الاستدلال بها عليها ، هذا.

والفرق بين المناقشتين : أن الشيخ (قده) ينكر انسلاخ «كُنّا» عن الزمان ويدعي دلالة الآية على الاخبار عن فعل الله سبحانه بالأمم الماضية ، والمصنف (قده) ينكر دلالة نفي فعلية التعذيب على نفي الاستحقاق ، والمفروض أن الاستدلال بالآية مبني على التلازم بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق.

(١) أي : للعذاب ، فلا يدل نفي الفعلية على نفي الاستحقاق حتى يصح الاستدلال بها على البراءة.

__________________

(*) فيه ما لا يخفى ، لعدم جريان عادته تبارك وتعالى على عدم التعذيب مع الاستحقاق منة وتفضلا عليهم ، ضرورة أنه عزوجل قد يعفو عن المذنبين وقد يعذبهم ، إذ ليس التعذيب مع الاستحقاق مخالفا للعدل والحكمة ، بل هو موافق لهما ، فالملائم لاستقرار ديدنه جلّ وعلا على نفي التعذيب هو عدم الاستحقاق ، لا التفضل والمنة ، فالآية تدل على البراءة ، لدلالتها على عدم الاستحقاق الكاشف عن عدم التكليف قبل البيان ، ولا تدل على نفي التعذيب الفعلي مع الاستحقاق كما في قوله تعالى : «وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم» الدال على نفي العذاب الفعلي مع الاستحقاق ، حيث انه كالصريح في نفي التعذيب الفعلي إكراما لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الاستحقاق ، إذ بدونه يستند عدم التعذيب إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع وهو إكرامه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا مورد لنفي العذاب إكراما وإعظاما لمقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا مع وجود المقتضي للتعذيب ، ففرق واضح بين هذه الآية وقوله تعالى : «وما كنا

١٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

معذبين» لدلالة الأولى على الاستحقاق بخلاف الثانية.

لا يقال : ان غرض المصنف (قده) من قوله : «لعله كان منة» إبداء الاحتمال الموجب لبطلان الاستدلال.

فانه يقال : نعم ، لكنه لا بد أن يكون الاحتمال في نفسه صحيحا ، ومن المعلوم عدم صحته كذلك ، لما مر آنفا من عدم استقرار عادته عظمت كبرياؤه على عدم التعذيب مع الاستحقاق تفضلا ومنة.

فالمتحصل : أن نفي التعذيب بقرينة «ما كنا» الدال على العادة يدل على التلازم بين نفي الفعلية وعدم الاستحقاق ، فالاستدلال بالآية على البراءة متين ، ولا يرد عليه إشكال المصنف.

كما لا يتوجه عليه ما أفاده الشيخ من ظهور الآية الشريفة في الاخبار عن وقوع التعذيب في الأمم السابقة بعد بعث الرسل ، وذلك لما فيه أوّلا من انسلاخ «ما كنا» ونحوه من الأفعال الماضية المنسوبة إليه سبحانه وتعالى عن الزمان ودلالتها على الاستمرار ولو لم نقل بانسلاخها عن الزمان ، بدعوى أن المنسلخ عنه هو خصوص صفات الذات كالعلم والقدرة ، وأما صفات الأفعال فلا موجب لسلخ الزمان عن الأفعال المضافة إليها كإرسال الرسل والتعذيب وغيرهما ، وذلك لظهور الآية بحسب السياق في بيان الضابط الكلي الّذي يقتضيه عدله تعالى شأنه ، وهو عدم المؤاخذة قبل البيان وإتمام الحجة ، وعليه فلا خصوصية لأمة دون أمة ، ولا عذاب دون عذاب.

وثانيا : بعد تسليم كون الآية اخبارا عن وقوع العذاب الدنيوي في الأمم

١٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

السالفة ـ من دلالتها على نفي العذاب الأخروي الّذي هو أشد بمراتب من العذاب الدنيوي قطعا ، فالتعذيب الأخروي على الحكم المجهول قبل إقامة الحجة والبيان عليه الّذي هو مورد البحث منفي جزما.

وبالجملة : فالإنصاف عدم قصور في دلالة الآية المباركة على البراءة ، وعدم ورود شيء من الإشكالات عليها.

نعم يرد عليه : أنه لا يستفاد من الآية الشريفة إلّا ما يقتضيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وهذا لا يجدي في قبال الخصم القائل بأن إيجاب بيان ، فهو وارد على القاعدة ، لكونه رافعا لموضوعها فلا تصلح الآية لا ثبات البراءة بحيث تعارض أدلة الاحتياط.

إلّا أن يقال : بما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس من إرادة نفي الملزوم ـ وهو إيجاب الاحتياط ـ من نفي اللازم وهو التعذيب ، حيث ان الاخبار عن نفيه في ظرف عدم البيان كناية عن عدم تشريع وجوب الاحتياط ، إذ مع تشريعه لا وجه لنفي التعذيب ، فالآية على هذا التقريب مساوقة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع ما لا يعلمون» من حيث الدلالة على ارتفاع الحكم المجهول ظاهرا في قبال من يدعي عدم ارتفاعه كذلك بإيجاب الاحتياط.

أقول : ما أفاده (قده) في نفسه متين ، لكنه خلاف ظاهر الآية الشريفة وهو عدم العقاب قبل البيان الّذي يحكم العقل بقبح العقاب قبله ، وهذا بخلاف حديث الرفع ، حيث ان الرفع أسند إلى الواقع المجهول ، ولمّا كان الرفع تشريعيا ، فلا بد من تعلقه بما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع ، ولمّا كان رفع التكليف المجهول واقعا مستلزما للتصويب ، فلا بد من رجوعه إلى إيجاب

١٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الاحتياط ، فالتكليف المرفوع ظاهرا هو هذا ، فيعارض حديث الرفع أدلة الاحتياط.

إلّا أن يدعى أن بعث الرسول كناية عن بيان الأحكام الواقعية ، فلا تعذيب قبل بيانها ، فان نهض الدليل على وجوب الاحتياط حينئذ وقع التعارض بين هذه الآية وأدلة القائلين بوجوب الاحتياط في الشبهات.

لكن فيه : أن بيان الأحكام الظاهرية أيضا وظيفة الرسل ، لأنها من شرائع الله تعالى ، بداهة أن بيان حكم الموضوع المشكوك حكمه كالحلية والطهارة أيضا من وظائفهم عليهم‌السلام.

والحاصل : أن الآية الشريفة سيقت لبيان ما يقتضيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فهي إرشاد إلى تلك القاعدة ، ولا تصلح لمعارضة أدلة الاحتياط الواردة عليها.

ثم ان هنا مباحث لا بأس بالإشارة إليها :

الأول : أن المحدثين استدلوا بهذه الآية على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع ، بتقريب حصر الآية سبب التعذيب في بعث الرسول ، فلا عقاب على ارتكاب القبيح العقلي الّذي لم ينهض دليل من الشرع على حرمته ، ولو كانت قاعدة الملازمة ثابتة لاستحق العقوبة على مخالفة المستقلات العقلية ، فهذه الآية دليل على عدم تمامية قاعدة الملازمة.

الثاني : أن الفاضل التوني (ره) جمع بين الاستدلال بهذه الآية الشريفة على البراءة وبين ردّ من استدل بها من المحدثين على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع. أما تقريب الاستدلال بها على البراءة ، وكذا تقريب استدلال

١٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المحدثين بها على عدم الملازمة بين حكم العقل والشرع فقد عرفتهما آنفا.

وأما ردّ الفاضل التوني (ره) لاستدلال المحدثين على نفي الملازمة ، فحاصله : أن الآية تنفي فعلية العذاب ، ونفي الفعلية أعم من نفي الاستحقاق ، والمفروض أن صحة الاستدلال على عدم الملازمة موقوفة على دلالة الآية على عدم الاستحقاق ، وهذه الدلالة مفقودة ، فلا تدل الآية على عدم استحقاق العقوبة على المستقلات العقلية كما هو مقصود المستدلين بها على عدم الملازمة ، فيمكن أن يكون في مخالفتها استحقاق العقوبة مع عدم فعليتها ، لتعقبه بالعفو والغفران ، كما ورد في الروايات : أن اجتناب المعاصي الموعد عليها بالنار يكفر ارتكاب ما لم يوعد عليه من المعاصي بالنار.

فملخص الرد : أن دلالة الآية على نفي الملازمة منوطة بدلالتها على نفى استحقاق العقوبة ، والمفروض عدم دلالتها على نفي الاستحقاق ، بل تدل على نفي الفعلية ، فلا مانع من استحقاقها على المستقلات العقلية مع العفو.

الثالث : أن المحقق القمي (قده) أورد على الفاضل التوني (ره) بأن الجمع بين استدلاله بهذه الآية على البراءة وبين ردّ المستدلين بها على عدم الملازمة جمع بين المتناقضين ، حيث ان الاستدلال بها على البراءة مبني على دلالتها على نفى الاستحقاق ، وردّ منكري الملازمة مبني على ثبوت الاستحقاق ، لأن مدعي القاعدة يدعي التلازم بين حكمي العقل والشرع المستلزم لثبوت استحقاق العقاب على مخالفة المستقلات العقلية ، كثبوت استحقاقه على مخالفة الأحكام الشرعية ، فمنكر القاعدة ينكر هذا الاستحقاق على مخالفة المستقلات العقلية.

فالآية الشريفة ان دلت على نفي الاستحقاق ، فلا وجه لردّ من أنكر الملازمة ،

١٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لأن نفي الاستحقاق من آثار عدم الملازمة ولوازمه ، فلا معنى لرد منكرها ، إذ لازم رد منكرها الاعتراف بثبوت الاستحقاق ، ولكن يتجه الاستدلال بالآية على البراءة. وان دلت على ثبوت الاستحقاق الّذي هو من لوازم ثبوت قاعدة الملازمة ، فلا وجه للاستدلال بها على البراءة.

وبالجملة : فثبوت الاستحقاق الّذي هو من لوازم الالتزام بقاعدة الملازمة وعدم الاستحقاق الّذي هو من لوازم البراءة متناقضان ، ويمتنع اجتماعهما.

الرابع : أنه قد دفع بعض إشكال التناقض المذكور بما حاصله : أن إشكال التناقض وارد على الفاضل التوني (ره) ان أراد الاستدلال بالآية الشريفة على البراءة والرد على منكري الملازمة حقيقة ، لعدم صلاحية الآية للدلالة على عدم الاستحقاق حتى تكون دليلا على البراءة ، وعلى ثبوت الاستحقاق حتى تكون برهانا على رد منكري الملازمة. وأما ان أراد البرهان الحقيقي بالنسبة إلى البراءة والجدلي بالإضافة إلى رد منكري الملازمة ، فلا تناقض كما هو واضح.

والتحقيق ما عرفت من أن الآية لا تدل إلّا على ما يقتضيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لما مر من أن نفي الفعلية انما هو لعدم المقتضي له ، لا لوجود المانع أو عدم الشرط ، فيدل على نفي الاستحقاق ، ومع ذلك لا يصح الاستدلال بالآية على نفي قاعدة الملازمة ، إذ المراد ببعث الرسول كما تقدم بيان الأحكام الشامل للبيان بالرسول الظاهري والباطني وهو العقل ، فلا تدل الآية على عدم استحقاق العقوبة على المستقلات العقلية حتى يصح الاستدلال بها على نفى الملازمة.

فالمتحصل من جميع ما ذكرنا : عدم صحة الاستدلال بالآية الشريفة على

١٧٥

ولو سلم (١) اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية

______________________________________________________

(١) لما أنكر المصنف (قده) الملازمة بين نفي الفعلية والاستحقاق الّذي هو مبنى الاستدلال بالآية على البراءة أشار إلى دفع ما ذكره شيخنا الأعظم (قده) من أن الآية الشريفة وان كانت ظاهرة في نفي الفعلية لا نفي الاستحقاق ، لكنه لا يضر بصحة الاستدلال بها على البراءة المنوطة بدلالتها على نفي الاستحقاق ، إذ الخصم وهو المحدث القائل بوجوب الاحتياط في الشبهات يعترف بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية ، فينتفي الاستحقاق بانتفاء الفعلية ، فإذا دلت الآية على نفي الفعلية ونفي الاستحقاق.

أما اعترافه بالملازمة فيظهر من دليله ، حيث انه يستدل بأخبار التثليث الدالة على أن ارتكاب الشبهة موجب للوقوع في الهلكة ، وظاهرها هو الهلكة الفعلية لا صرف الاستحقاق ، لما ورد فيها «ومن اقتحم الشبهات هلك من حيث لا يعلم» وعليه فإذا انتفت الفعلية بالآية انتفى الاستحقاق بمقتضى الملازمة التي يعترف بها الخصم ، هذا ما يرجع إلى توضيح ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في الرسائل ، وحيث انه (قده) قد تعرض لمباحث شريفة في ذيل الاستدلال بالآية الشريفة ولم تكن خالية عن الإجمال والمصنف قد أشار إلى بعضها ألجأنا ذلك إلى إيضاح تلك المباحث ببيانات واضحة في التعليقة كما عرفت.

وأما الدفع الّذي ذكره المصنف فهو يرجع إلى وجهين :

الأول : أن الاستدلال على البراءة بالآية الشريفة يكون حينئذ جدليّا لا حقيقيا حتى يجدي في إثبات المدعى. نعم يثبت الدعوى باعتقاد الخصم ، وهو لا ينفع

__________________

البراءة بحيث تعارض أدلة الاحتياط ، ولا على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع ، فلا مجال للمباحث الأربعة المتقدمة ، والله تعالى هو العالم.

١٧٦

لما (١) صح الاستدلال بها إلّا جدلا ، مع وضوح منعه (٢) ، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده (٣) بأعظم مما علم بحكمه ، وليس (٤) حال الوعيد بالعذاب فيه إلّا كالوعيد به فيه (٥) ، فافهم (٦).

______________________________________________________

الأصولي الّذي ينكر الملازمة بين نفي فعلية العذاب ونفي الاستحقاق كما لا يخفى.

الثاني : أنه لم يظهر وجه لاعتراف المحدثين بالملازمة ، حيث ان الشبهة لا تزيد على المعصية الحقيقية ، ومن المعلوم أن أدلة وجوب الاحتياط في المشتبهات ليست بأقوى من أدلة المحرمات المعلومة ، والخصم لا يدعي الملازمة بين الاستحقاق والفعلية في المعصية القطعية ، لإمكان تعقبها بالتوبة أو الشفاعة ، فكيف يدعيها في الشبهة؟

(١) هذا إشارة إلى الإشكال الأول ، وقد عرفت توضيحه. والقياس الجدلي ما يتألف من المشهورات والمسلمات.

(٢) أي : منع اعتراف الخصم بالملازمة ، وهو إشارة إلى الإشكال الثاني الّذي بيناه بقولنا : «الثاني أنه لم يظهر وجه لاعتراف المحدثين ... إلخ».

(٣) أي : عند الخصم وهو المحدث المنكر للبراءة.

(٤) الواو للحال ، يعني : والحال أن الوعيد بالعذاب فيما شك في وجوبه أو حرمته ليس إلّا كالوعيد بالعذاب فيما علم وجوبه أو حرمته ، وأن ارتكاب الشبهة ليس بأسوإ حالا من المعصية الحقيقية في عدم فعلية العذاب.

(٥) أي : بالعذاب فيما علم حكمه.

(٦) لعله إشارة إلى أن منشأ دعوى الملازمة ان كان أخبار التثليث الظاهرة في الهلكة الفعلية ، فلا بد من رفع اليد عن ظهورها ، وصرفه إلى الاستحقاق ، لما عرفت من أن الشبهة ليست أسوأ حالا من المعصية الحقيقية.

١٧٧

وأما السنة ، فروايات :

منها : حديث الرفع (*) حيث عد «ما لا يعلمون» من التسعة

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

(*) ينبغي التعرض لسند الحديث وان اشتهر توصيفه بالصحّة في جملة من الكتب كالفصول والرسائل وتقريرات المحققين النائيني والعراقي وغيرها ، قال شيخنا الأعظم (قده) : «المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسند صحيح في الخصال كما عن التوحيد» ولعل تخصيصه لصحة السند بما في الخصال للتنبيه على أنه كما روي مرفوعا في الكافي (١) كذلك روي مسندا في غيره مع أبدال «رفع» بـ «وضع عن أمتي ... إلخ» كما عن التوحيد.

ورواه الصدوق في باب التسعة من الخصال هكذا : «محمد بن أحمد بن يحيى العطار عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن سهل بن عبد الله عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمتي تسعة ...» والظاهر وقوع التصحيف فيه ، وأن الصحيح ـ كما عن التوحيد ـ أحمد بن محمد بن يحيى العطار ، فان المعدود من مشايخ الصدوق الملقب بالعطار هو أحمد بن محمد بن يحيى ، لا ما في الخصال ، ويؤيد ما ذكرناه أن صاحب الوسائل (٢) نقل الحديث عن الكتابين مبتدأ للسند به ، لا بما يظهر من نسخة الخصال المطبوعة باهتمام مكتبة الصدوق.

وكيف كان ، فلا كلام في وثاقة رواة الحديث إلّا أحمد بن محمد بن يحيى العطار ، وإطلاق «الصحيح» عليه يتوقف على ثبوت وثاقته ، فانه لم يعنون في كتب الرّجال المتقدمة ليظهر حاله ، نعم عدّه الشيخ في رجاله في باب من لم يرو عنهم عليهم‌السلام

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب ما رفع عن الأمة ، الحديث : ٢.

(٢) الوسائل ، ج ١١ ، كتاب الجهاد ، باب ٥٦ من أبواب جهاد النّفس ، الحديث : ١.

١٧٨

المرفوعة فيه ،

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مقتصرا على رواية التلعكبري عنه ، ولم يقع في أسناد كامل الزيارات حتى يشمله التوثيق العام الّذي استفاده غير واحد من عبارته. ومع ذلك فقد استدل على وثاقته بوجوه :

الأول : أنه من مشايخ الصدوق ، وقد اشتهر أن شيخوخة الإجازة تغني عن التوثيق ، قال في محكي الوجيزة : : «انه من مشايخ الإجازة وحكم الأصحاب بصحة حديثه».

ويتوجه عليه : أن شيخوخة الإجازة لا تكشف عن وثاقة الشيخ كما قرر في محله.

الثاني : توثيق الشهيد الثاني في الدراية والشيخ البهائي في المشرق ـ وان حكي عن الحبل المتين تضعيفه لسند الرواية المشتمل عليه ـ والسيد الداماد والمقدس الأردبيلي والسماهيجي وغيرهم له ، واعتماد صاحب المعالم على رواياته مع اقتصاره على العمل بالأخبار الصحاح كما يستفاد من اعتباره الإيمان والعدالة في الراوي مضافا إلى الإسلام والضبط (١) ، فيثبت حينئذ أن أحمد بن محمد عدل إمامي ضابط ، ويتم المطلوب.

ويتوجه عليه : أنه لم يظهر وجه اعتمادهم عليه ، ولعله لرواية الصدوق عنه وكفايته بنظرهم في إثبات وثاقة الرّجل مع أن المعتبر في التعديل كونه شهادة عن حس لا حدس.

الثالث : توثيق العلامة له ، حيث صحّح طريق الصدوق إلى عبد الرحمن ابن الحجاج وعبد الله بن أبي يعفور مع اشتمال كلا الطريقين على أحمد بن

__________________

(١) راجع معالم الأصول ، بحث الخبر الواحد.

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

محمد بن يحيى العطار ، وكذلك صحّح طريق الشيخ في التهذيب والاستبصار إلى محمد بن علي بن محبوب مع انحصار الطريق ، وطريقه إلى علي بن جعفر في التهذيب ووقوع أحمد في كلا الطريقين ، وتثبت وثاقة الرّجل حينئذ.

ويتوجه عليه : أنه اجتهاد منه ، وليس شهادة عن حس كما هو المطلوب في المقام.

وأما الإيراد عليه «بأن توثيق العلامة مبني على مسلكه وهو أصالة العدالة فيمن لم يرد فيه قدح ، ومن المعلوم أنه لا ينفع من لا يعتمد على هذا الأصل» فيتوجه عليه : أن اعتماد العلامة في تعديل الرّواة على أصالة العدالة غير ثابت ، بل الثابت خلافه ، إذ كلامه في كتابه نهاية الوصول (١) ظاهر بل صريح في خلاف هذه النسبة ، وأن العدالة عنده هي الملكة ، قال في بيان شرائط العمل بخبر الواحد : «البحث الثالث في العدالة وهي كيفية راسخة في النّفس تبعث على ملازمة التقوي والمروة ، وهي شرط في قبول الرواية» وذهب في البحث الرابع من مباحث الخبر إلى عدم قبول رواية المجهول ولزوم معرفة سيرته وكشف سريرته أو تزكية من عرف عدالته. وقال في المبحث الخامس : «في طريق معرفة العدالة وهي أمران الاختبار والتزكية» وعليه فليس في كلماته من أصالة العدالة عين ولا أثر حتى تكون هي المبنى لتوثيقاته ، بل الظاهر أنه أول من ذهب إلى كون العدالة هي الملكة ، كما يظهر من صلاة الجواهر (٢) حيث نقل عن ذخيرة الفاضل السبزواري : «لم أعثر على هذا التعريف ـ أي تعريف العدالة بالملكة ـ لغير العلامة».

__________________

(١) وهو كتاب مبسوط في علم الأصول لم يطبع إلى الآن فرغ من تأليفه عام ٧٠٤ ، وقد ظفرنا على ثلاث نسخ خطبة منه في قسم المخطوطات من مكتبة آية الله السيد المرعشي.

(٢) الجواهر ، ج ١٣ ، ص ٢٩٤).

١٨٠