منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

لما (١) أشرنا إليه من أن الأمور الاعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها (*) ، فلا (٢) إلجاء فيها أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم ، بخلاف الفروع العملية

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم الوجوب لا عدم الجواز ، وحاصله : ما تقدم من أنه مع انسداد باب العلم في الأمور الاعتقادية لا موجب للتنزل إلى الظن فيها ، لإمكان عقد القلب على ما هو واقعها ، وعليه فلا استقلال للعقل بحجية الظن في الاعتقاديات. وهذا بخلاف الأمور العملية ، فان امتثال الأحكام الفرعية موقوف على العلم بمطابقة العمل لمتعلق الحكم ، أو الاحتياط ، والثاني غير واجب أو غير جائز. وقد أشار إلى ذلك بقوله : «فلا يتحمل الا لما هو الواقع ولا ينقاد إلّا له ، لا لما هو مظنونه ، وهذا بخلاف العمليات ، فلا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد».

(٢) هذا قرينة على أن قوله : «لما أشرنا» علة لعدم وجوب تحصيل الظن لا لعدم جوازه ، لأن الإلجاء يوجب حجية الظن ، وهو مفقود هنا ، إذ ليس في مرحلة العمل حتى يتعذر التوقف فيه ويتعين العمل بالعلم ان أمكن تحصيله أو بالظن مع تعذره ، لكونه أقرب إلى الواقع من غيره مع فرض عدم جواز إجراء الأصول النافية ، لاستلزامه الخروج عن الدين ، ولا الاحتياط لعدم وجوبه أو عدم جوازه ، وهذا السبب لجواز العمل بالظن مفقود هنا ، وبانتفائه بالنسبة إلى الأصول الاعتقادية ينتفي المسبب وهو حجية الظن فيها.

__________________

(*) الأولى تذكير الضمير ، لرجوعه إلى الموصول في «بما» المراد به الشيء الّذي هو واقع تلك الأمور الاعتقادية ، فالأولى سوق العبارة هكذا : يمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد له.

١٢١

كما لا يخفى. وكذلك (١) لا دلالة من النقل على وجوبه فيما يجب معرفته مع الإمكان شرعا (٢) ، بل الأدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن دليل على عدم جوازه (*) أيضا (٣).

وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا (٤) أن القاصر

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «لا استقلال للعقل» يعني : كما أنه لا استقلال للعقل بلزوم تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم بالاعتقاديات ، كذلك لا دلالة للنقل على وجوب تحصيل الظن عند تعذر العلم فيما يجب معرفته عن علم مع الإمكان ، بل في النقل ما يدل على عدم الجواز ، وهو ما دلّ على النهي عن متابعة الظن ، فانه اما مختص بأصول الدين واما عام ، وعلى التقديرين يثبت المقصود وهو النهي عن اتباع الظن في الأصول ، غاية الأمر أن الأثر الشرعي تارة يترتب على العمل الجوانحي وهو الاعتقاد كما هو المطلوب في أصول العقائد ، وأخرى على العمل الجوارحي كما هو المطلوب في الفروع ، وهذا الاختلاف غير قادح في شمول الدليل وعمومه.

(٢) قيد لـ «وجوبه» وضمير «وجوبه» راجع إلى تحصيل الظن ، و «مع الإمكان» قيد لـ «يجب» يعني : لا يدل النقل على وجوب تحصيل الظن شرعا كما لا يدل العقل على وجوبه.

(٣) يعني : كما كان العقل دالا على عدم جواز تحصيل الظن كما تقدم في قوله : «لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه بل بعدم جوازه».

(٤) وهو قوله : «ومع العجز عنه كان معذورا ان كان عن قصور لغفلته ... إلخ».

__________________

(*) إلّا أن يقال : ان الأدلة الناهية عن اتباع الظن ناظرة إلى عدم جواز متابعته بالاعتقاد بمؤداه لا إلى تحصيله ، فلا يكون تحصيله كما هو مفروض البحث منهيا عنه.

١٢٢

يكون (١) في الاعتقاديات للغفلة ، أو عدم الاستعداد للاجتهاد (٢) فيها ، لعدم (٣) وضوح الأمر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلّا عن تقصير

______________________________________________________

وغرضه بيان وجود القاصر في الخارج ، ولعل إعادته مع بنائه على مراعاة الإيجاز لأجل الإشارة إلى بعض صور القاصر من حيث المعذورية وعدمها ، إذ القاصر على قسمين : أحدهما أن يكون غافلا محضا.

الثاني : أن يكون ملتفتا مع قصوره عن الوصول إلى الواقع لعدم استعداده ، وهذا على وجوه : أحدها : أن يكون منقادا لما يحتمله واقعا.

ثانيها : أن لا يكون منقادا ولا معاندا له.

ثالثها : أن يكون معاندا لما يحتمله حقا في الواقع.

لا إشكال في المعذورية في القسم الأول وهو كونه غافلا محضا ، وكذا في الوجه الأول من القسم الثاني ، وهو كونه منقادا لما يحتمله واقعا ، وأما الوجهان الأخيران منه فالظاهر عدم كونه معذورا ، خصوصا الأخير وهو المعاند لما يحتمله ، هذا. وقد تقدم كلام الشيخ (قده) في التصديق بوجود القاصر والاستدلال عليه بالوجدان ، فلاحظ.

(١) بمعنى يوجد ، فـ «يكون» تامة ، وفاعله ضمير مستتر راجع إلى القاصر ، يعني : أن القاصر يوجد في الاعتقاديات. وقوله : «للغفلة» علة لوجود القاصر.

(٢) متعلق بـ «الاستعداد» يعني : أو لعدم استعداده للبحث والفحص في الاعتقاديات عن الحق لينقاد له.

(٣) علة لوجود القاصر في الاعتقاديات لعدم الاستعداد ، وحاصله : أن الاعتقاديات ليست في كمال الوضوح حتى يكون الجهل بها عن تقصير فقط ولا يتصور فيها الجهل القصوري ، بل قد يكون الجهل ـ بسبب عدم وضوح الأمر ـ عن قصور وقد يكون عن تقصير ، فقوله : «لا يكون» صفة لـ «مثابة».

١٢٣

كما لا يخفى ، فيكون (١) معذورا عقلا (*).

ولا يصغى إلى (٢) ما ربما قيل بعدم وجود القاصر فيها ، لكنه (٣) انما يكون معذورا غير معاقب على عدم معرفة الحق إذا لم يكن يعانده بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله (٤).

______________________________________________________

(١) نتيجة لما ذكرناه من استناد الجهل بالأصول الاعتقادية ـ لعدم استعداده ـ إلى القصور دون التقصير ، فيكون هذا الجاهل القاصر معذورا عقلا.

(٢) إشارة إلى ما نسب إلى بعض بل إلى المشهور من عدم وجود القاصر ، وقد عرفت الإشارة إليه سابقا ، وضمير «فيها» راجع إلى الاعتقاديات.

(٣) استدراك على قوله : «فيكون معذورا عقلا» وضميره راجع إلى الجاهل القاصر ، يعني : أن معذورية الجاهل القاصر انما هي في بعض صوره وهو القسم الأول والوجه الأول من القسم الثاني كما تقدم.

(٤) الضمائر الأربعة راجعة إلى الحق.

__________________

(*) ولا ينافي ذلك عدم استحقاقه درجة ، بل استحقاقه دركة لنقصانه بسبب فقدانه للإيمان به تعالى أو برسوله ، أو لعدم معرفة أوليائه ، ضرورة أن نقصان الإنسان لذلك يوجب بُعده عن ساحة جلاله تعالى ، وهو يستتبع لا محالة دركة من الدركات ، فلا إشكال فيما هو ظاهر بعض الآيات والروايات من خلود الكافر مطلقا ولو كان قاصرا ، فقصوره انما ينفعه في رفع المؤاخذة عنه بما يتبعها من الدركات ، لا فيما يستتبعه نقصان ذاته ودنوّ نفسه وخساسته ، فإذا انتهى إلى اقتضاء الذات لذلك فلا مجال للسؤال عنه بِلمَ ذلك ، فافهم.

١٢٤

هذا بعض الكلام مما يناسب (١) المقام. وأما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والإسلام فهو مع عدم مناسبته (٢) خارج (٣) عن وضع الرسالة.

الثاني : الظن (٤) الّذي لم يقم على حجيته دليل هل يجبر به ضعف

______________________________________________________

(١) من حيث البحث عن حجية الظن في الأصول وعدمها ، لأنه المناسب للأصول.

(٢) وجه عدم المناسبة : أن البحث عن كفر الجاهل وإسلامه من المباحث الفقهية من جهة ، والكلامية من جهة أخرى ، وعلى كل حال ليس بحثا أصوليا فلا يناسب ذكره في المقام ، لكن شيخنا الأعظم عقد الموضع الثالث ـ من البحث عن غير القادر على تحصيل العلم بالاعتقاديات ـ للبحث عن إسلام العاجز وكفره ، فلاحظ.

(٣) لبنائه على نهاية الإيجاز.

جبر السند والدلالة بالظن غير المعتبر

(٤) هذا هو الأمر الثاني من الأمرين اللذين ذكرهما في الخاتمة استطرادا وقد عقده لبيان حكم الظن غير المعتبر من حيث كونه جابرا لضعف سند رواية أو كاسرا لصحته أو قوته ، أو مرجحا لدلالة رواية على دلالة رواية أخرى حال التعارض ، وقد جعل البحث فيه في مقامين :

الأول : في الظن غير المعتبر الّذي يكون عدم اعتباره بمقتضى الأصل الأوّلي المقتضي لحرمة العمل بالظن ، من دون قيام دليل على حجيته لا بالخصوص ولا بدليل الانسداد كالشهرة في الفتوى والأولوية الظنية والاستقراء إذا فرضنا فيها ذلك.

١٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : في الظن غير المعتبر الّذي يكون عدم اعتباره للدليل على عدم حجيته بالخصوص كالقياس.

أما المقام الأول فقد اختلفوا فيه ، وأن هذا الظن غير المعتبر هل يكون جابرا لضعف الرواية أو دلالتها بحيث يوجب حجية الرواية سندا أو دلالة ، أو يكون موهِنا لهما كما إذا كان الخبر صحيحا مثلا ، ولكن قام الظن غير المعتبر على خلافه ، فهل هذا الظن موهِن لصحته وكاسر لسورة (*) حجيته ، أو يكون مرجِّحا لأحد المتعارضين إذا كان على طبق أحدهما أم لا يكون كذلك؟

ومجمل ما أفاده المصنف في المقام : أن المعيار في الجبر بهذا الظن غير المعتبر هو كونه موجبا لاندراج ما يوافقه من الخبر مثلا تحت دليل الحجية ، فان أوجب اندراجَه في دليل الحجية كان جابرا له ، وإلّا فلا ، فإذا كان هناك خبر ليس بنفسه مظنون الصدور ، وفرضنا أن موضوع دليل الاعتبار هو الخبر المظنون الصدور مطلقا يعني سواء حصل الظن بالصدور من نفس السند لوثاقة الرّواة ، أم من غير السند كالظن غير المعتبر المبحوث عنه في المقام الموافق للخبر المذكور كانت موافقة هذا الظن لهذا الخبر جابرة لضعف سنده ، لأنها موجبة لاندراج الخبر المذكور تحت موضوع دليل الاعتبار ، وإذا كان هناك خبر ضعيف ـ لعدم كون جميع رواته عدو لا ـ وفرضنا أن موضوع دليل الاعتبار هو خبر العادل أي الّذي يكون جميع رواته عدولا لم تكن موافقة الظن غير المعتبر للخبر المذكور جابرة لضعف سنده ، وموجبة لاندراجه في موضوع دليل الاعتبار وهو خبر العادل ، لعدم كون جميع رواته عدو لا حسب الفرض.

__________________

(*) تفسير للموهن ، وهذا التعبير لبعض الأصوليين تشبيها للحجية ببلدة لها سورة أي حائط ضخم مرتفع يمنع عن نفوذ الأغيار في البلدة.

١٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذا ترجيح مضمون أحد الخبرين المتعارضين على الآخر ، فان المعيار أيضا في ترجيح أحدهما ـ لأجل موافقته لهذا الظن غير المعتبر ـ على الآخر هو هو اندراج ما يوافقه تحت دليل الحجية ، فان أوجبت موافقته للظن المذكور دخوله تحت دليل الحجية كانت مرجحة له ، وإلّا فلا ، هذا ، وترجيح مضمون أحد الخبرين المتعارضين على الآخر يتصور على وجهين :

أحدهما : أن يتعارض الخبران من جميع الجهات ، إلّا أن أحدهما موافق لظن غير معتبر كالشهرة الفتوائية إذا فرضناها ظنا غير معتبر.

ثانيهما : أن يتعارض الخبران من جميع الجهات أيضا سوى أن أحدهما أرجح من الآخر من حيث الظهور ، والآخر المرجوح موافق لظن غير معتبر كالشهرة الفتوائية المذكورة ، كما إذا ورد في أحد الخبرين «لا تبل تحت شجرة مثمرة» فانه ظاهر في الحرمة ، وورد في الآخر «لا ينبغي أن تبول تحت شجرة مثمرة» فانه ظاهر في الكراهة ، ولا ريب في أن الجمع العرفي يقضي بتقديم ظهور «لا تبل» على ظهور «لا ينبغي» لأقوائية ظهور «لا تبل» في الدلالة على الحرمة من ظهور «لا ينبغي» في الكراهة ، فإذا وجدت الشهرة الفتوائية على وفق أحد الخبرين المتعارضين في الوجه الأول ، أو وجدت على الكراهة في مثال الوجه الثاني ، فهذه الشهرة الفتوائية انما توجب رجحان ما يوافقها من الخبرين المتعارضين ، أو رجحان الخبر المرجوح منهما في المثال المذكور إذا أوجبت اندراجهما تحت دليل الحجية ، وإلّا لم توجب رجحان شيء منهما.

كما أن المعيار في الوهن بهذا الظن غير المعتبر هو خروج ما يخالفه من الخبر المعتبر مثلا عن دليل الاعتبار والحجية ، فان أوجبت مخالفته لهذا الظن غير المعتبر خروجه عن موضوع دليل الاعتبار كان هذا الظن موهنا له ، وإلّا فلا.

١٢٧

السند أو الدلالة بحيث صار حجة (١) ما لولاه لما كان بحجة ، أو يوهن (٢)

______________________________________________________

هذا مجمل القول في المقام الأول ، وسيأتي تفصيل ذلك كله وبيان ما هو الحق المختار للمصنف فيه بقوله : «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر ... إلخ».

وقد تعرض الشيخ الأعظم (قده) لهذا المبحث مفصلا في الأمر السادس ، حيث قال : «إذا بنينا على عدم حجية ظن أو على عدم حجية الظن المطلق فهل يترتب عليه آثار أخر غير الحجية بالاستقلال مثل كونه جابرا لضعف سند أو قصور دلالة أو كونه موهنا لحجة أخرى ، أو كونه مرجحا لأحد المتعارضين على الآخر ، ومجمل القول في ذلك أنه كما يكون الأصل في الظن عدم الحجية كذلك الأصل فيه عدم ترتب الآثار المذكورة من الجبر والوهن والترجيح». ثم شرع في تفصيل ذلك وعقد مقامات ثلاثة للبحث عنه ، فلاحظ.

(١) خبر «صار» و «ما» الموصول اسمه ، والضمير راجع إلى الظن الّذي لم يقم على حجيته دليل ، يعني : أن الظن الّذي لم يثبت حجيته لا بدليل خاص ولا بدليل الانسداد ـ كالشهرة في الفتوى مثلا ـ هل يوجب اعتبار ما ليس بحجة كالخبر الضعيف الّذي لو لا موافقة هذا الظن غير المعتبر لم يكن في نفسه حجة أم لا يوجب اعتباره؟

(٢) عطف على «يجبر» أي : أو هل يوهن الظن القوي ـ كالحاصل من خبر الثقة ـ بالظن الّذي لم يقم على حجيته دليل ، فيسقط عن الحجية بسبب مخالفة هذا الظن غير المعتبر له ، وضميرا «به ، لولاه» راجعان إلى الظن غير المعتبر ، و «ما» الموصول نائب عن فاعل «يوهن» والمراد بالموصول الظن القوي ، وضمير «خلافه» راجع إلى هذا الموصول النائب عن الفاعل ، يعني : لو لا هذا الظن غير المعتبر على خلاف ذلك الظن القوي لكان الظن القوي حجة ، و «على خلافه» ظرف مستقر حال من الضمير الراجع إلى الظن الّذي لم يقم على حجيته

١٢٨

به ما لولاه على خلافه لكان حجة ، أو يرجّح (١) به أحد المتعارضين بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لأحدهما ، أو كان (٢) للآخر منهما أم لا؟

ومجمل القول في ذلك (٣) : أن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته هو الدخول بذلك (٤) تحت دليل الحجية أو

______________________________________________________

دليل.

(١) عطف على «يجبر» و «أحد» نائب فاعل له ، وضميرا «به ، لولاه» راجعان إلى الظن الّذي لم يقم دليل على اعتباره ، وضمير «وفقه» راجع إلى أحد المتعارضين ، و «بحيث» متعلق بـ «يرجح» يعني : أو هل يرجح أحد المتعارضين ـ بسبب موافقة الظن غير المعتبر له ـ على معارضه الآخر أم لا؟

(٢) عطف على «لما كان» والضمير المستتر فيه راجع إلى الترجيح ، يعني : أو هل يرجح بالظن غير المعتبر أحد المتعارضين بحيث لو لا موافقة هذا الظن غير المعتبر له كان الترجيح للمعارض الآخر الّذي لم يوافقه هذا الظن. وبعبارة أخرى : لو كان أحد المتعارضين راجحا على الآخر وكان الظن غير المعتبر موافقا للآخر المرجوح ، فهل توجب موافقته لهذا الآخر المرجوح رجحان هذا المرجوح على ذلك المعارض الراجح أم لا توجب رجحانه؟ وقد تقدم توضيح هذا بقولنا : «ثانيهما : أن يتعارض الخبران من جميع الجهات أيضا سوى أن أحدهما أرجح من الآخر ... إلخ».

(٣) أي : فيما ذكر من الأمور الثلاثة من الجبر والوهن والترجيح ، وقد عرفت حاصل مرامه بقولنا : ومجمل ما أفاده المصنف (قده) في المقام ... إلخ.

(٤) أي : بسبب الجبران أو الرجحان ، وضمير «بموافقته» راجع إلى الظن غير المعتبر.

١٢٩

المرجحية الراجعة (١) إلى دليل الحجية. كما أن (٢) العبرة في الوهن انما هو الخروج بالمخالفة (٣) عن تحت دليل الحجية ، فلا يبعد (٤)

______________________________________________________

(١) صفة «المرجحية» يعني : أن المناط في حصول رجحان شيء بسبب الظن غير المعتبر هو اندراج ذلك الشيء لأجل رجحانه بهذا الظن ـ لو بنينا على رجحانه به ـ تحت دليل المرجحية ، ومعنى قوله : «الراجعة إلى دليل الحجية» أن مرجع دليل المرجِّحية إلى دليل الحجية ، بمعنى : أن دليل الحجية هو منشأ اعتباره وحجيته ، ذلك لأن دليل الترجيح هو الّذي يجعل ما اشتمل على المرجِّح حجة بحيث لو لا هذا الدليل لما كان حجة ، فحجيته هي التي تجعله مرجحا ، وحينئذ فالموافق الظن غير المعتبر انما يرجح به إذا اندرج ـ برجحانه به ـ تحت دليل المرجحية المستندة إلى دليل الحجية.

(٢) يعني : كما أن المناط في كون الظن غير المعتبر موهنا لشيء يكون حجة ـ لو لا هذا الظن المعتبر على خلافه ـ هو خروج ذلك الشيء بسبب مخالفة هذا الظن غير المعتبر له عن موضوع دليل الحجية ، كما إذا فرض أن موضوع دليل الحجية هو الخبر المظنون الصدور ، وكان هناك خبر مظنون الصدور وكان مخالفا لظن غير معتبر بحيث أو جبت مخالفته لهذا الظن غير المعتبر الشك في صدوره ، فلا ريب في خروجه حينئذ عن موضوع دليل الحجية ، وهذا معنى كون الظن غير المعتبر موهنا له.

(٣) الباء للسببية ، وهو مع قوله : «عن تحت» متعلقان بالخروج ، والمراد بالمخالفة مخالفة الموهون ـ وهو الخبر الصحيح مثلا ـ للموهن وهو الظن المشكوك الاعتبار ، كإعراض المشهور عنه الموهن للظن الحاصل بصدوره من صحة السند.

(٤) هذا نتيجة ما ذكره من المعيار في الجبر وغيره ومتفرع عليه ، وحاصله :

١٣٠

جبر ضعف السند في الخبر (١) بالظن بصدوره (٢) أو بصحة مضمونه (٣) ودخوله بذلك تحت ما دلّ على حجية ما يوثق ، فراجع أدلة اعتبارها (٤).

______________________________________________________

أن الظن غير المعتبر إذا كان موجبا للظن بالصدور أو صحة المضمون بمعنى مطابقة مضمونه للواقع كان ذلك موجبا لاندراج الخبر الموافق له تحت أدلة اعتبار الخبر الموثوق به.

(١) متعلق بـ «السند» يعني : جبر ضعف سند الخبر ، وقوله : «بالظن» متعلق بـ «جبر» وقوله : «بصدوره» متعلق بـ «الظن» وضمائر «بصدوره ، مضمونه ، دخوله» راجعة إلى الخبر ، وقوله : «بذلك» إشارة إلى جبر ضعف السند ، وضمير «به» راجع إلى الموصول في «ما يوثق» المراد به الخبر ، وضمير «اعتبارها» راجع إلى الخبر ، فالصواب تذكيره وان احتمل رجوعه إلى الأمارات المستفادة من سوق العبارة.

(٢) كالظن الحاصل من عمل الأصحاب برواية ضعيفة سندا.

(٣) كما تقدم في الظن الحاصل من الشهرة الموافق لأحد الخبرين المتعارضين.

(٤) الوجوه المحتملة في أدلة الحجية ثلاثة : الأول : أن يكون موضوعها الخبر المظنون صدوره بنفس السند ، لكون رواته ثقات مثلا.

الثاني : أن يكون موضوعها الخبر المظنون الصدور وان كان الظن بصدوره مستندا إلى غير السند كعمل الأصحاب به واستنادهم إليه الموجب للظن بصدوره.

الثالث : أن يكون موضوعها ما هو أعم من ذلك ومن مظنون المطابقة ، يعني : أن الحجة هي الخبر المظنون الصدور ـ بأي واحد من النحوين المزبورين ـ أو مظنون الصحة أي مظنون المطابقة للواقع مع فرض كون نفس الخبر ضعيفا سندا ولو حصل الظن بالصحّة من الخارج كالشهرة الفتوائية مع عدم العلم باستنادهم إلى هذا الخبر الضعيف.

١٣١

وعدم (١) جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد ، لاختصاص (٢) دليل

______________________________________________________

ولأجل هذه الاحتمالات اختلفت المباني ، فمن يعتمد على الأول لا يجبر بالظن المزبور الخبر الّذي لا يكون مظنون الصدور بنفس السند كما إذا كان بعض رواته ضعيفا أو مهملا أو مجهولا ، لأنه لا يدخل بالظن المزبور تحت أدلة الاعتبار. ومن يعتمد على الأخيرين يجبره بذلك ، فيسهل الأمر حينئذ في بعض الروايات الضعيفة السند إذا كانت موافقة لفتوى المشهور ، كبعض أخبار دعائم الإسلام والفقه الرضوي ، ولكن على الاحتمال الأول لا يجدي مطابقة فتوى المشهور لها. قال شيخنا الأعظم : «إلّا أن يدعى أن الظاهر اشتراط حجية ذلك الخبر بإفادته للظن بالصدور لا مجرد كونه مظنون الصدور ولو حصل الظن بصدوره من غير سنده. وبالجملة : فالمتبع هو ما يفهم من دليل حجية المجبور».

ثم ان الظاهر اعتماد المصنف على الاحتمال الأخير بقرينة قوله المتقدم : «فلا يبعد جبر ... إلخ».

(١) معطوف على «جبر ضعف السند» يعني : ولا يبعد عدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد الحاصل من الظن الخارجي لا من ظاهر اللفظ.

(٢) هذا وجه عدم الجبر ، توضيحه : أن دليل الحجية مختص بحجية ظهور اللفظ في تعيين المراد ، بمعنى : أن الظن بالمراد ان استند إلى ظهور اللفظ فذلك حجة بمقتضى أدلة اعتبار الظهورات ، وان استند إلى غيره من الظن الحاصل من أمارة خارجية كما هو المبحوث عنه في المقام ، فلا دليل على اعتباره ، فليس الظن بالمراد جابرا لضعف الدلالة ، إذ لا يندرج بذلك في حيِّز دليل الحجية ، وقد عرفت أن المعيار في الجبر هو شمول دليل الحجية له ، مثلا دلالة قوله عليه‌السلام : «في الغنم السائمة زكاة» على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة ضعيفة ، لقوة احتمال عدم حجية مفهوم الوصف ، فإذا قامت الشهرة

١٣٢

الحجية بحجية الظهور في تعيين المراد ، والظن من أمارة خارجية به لا يوجب (١) ظهور اللفظ فيه كما هو ظاهر ، الا فيما (٢) أوجب القطع ولو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه لو لا (٣) عروض انتفائه.

وعدم (٤) وهن السند بالظن بعدم صدوره ،

______________________________________________________

الفتوائية على عدم وجوبها في المعلوفة يظن بذلك إرادة عدم وجوبها من قوله عليه‌السلام : «في الغنم السائمة زكاة» لكن هذا الظن بمراد الشارع لم ينشأ من ظهور اللفظ فيه ، بل من الخارج وهو الشهرة ، فلا ينجبر ضعف دلالة القول المزبور بالظن المذكور ، فلا يكون مجرد الظن بالمراد ولو من غير ظهور اللفظ موضوعا للحجية حتى يكون الظن الخارجي بالمراد موجبا لشمول دليل الاعتبار له. قال شيخنا الأعظم بعد عبارته المتقدمة : «ومن هنا لا ينبغي التأمل في عدم انجبار قصور الدلالة بالظن المطلق ، لأن المعتبر في باب الدلالات هو ظهور الألفاظ نوعا في دلالتها ، لا مجرد الظن بمطابقة مدلولها للواقع ولو من الخارج ... إلخ».

(١) خبر «والظن» وضميرا «به ، فيه» راجعان إلى المراد.

(٢) استثناء من «لا يوجب» ولكنه لا يناسب المقام ، إذ القطع باحتفاف الكلام بما يوجب الظهور يخرجه عن صيرورة المراد مظنونا بالظن غير المعتبر الّذي هو محل البحث ، وكيف كان فقوله : «أوجب القطع» يعني القطع بالمراد ، وضمير «باحتفافه» راجع إلى اللفظ ، وهو متعلق بـ «أوجب» وقوله : «بما» متعلق بـ «احتفافه» وضمير «لظهوره» راجع إلى اللفظ ، وضمير «فيه» إلى المراد.

(٣) قيد لقوله : «موجبا» وضمير «انتفائه» راجع إلى الموصول في «بما» المراد به ما يوجب ظهور اللفظ في المراد.

(٤) معطوف على «جبر ضعف السند» يعني : وكذا لا يبعد عدم وهن السند

١٣٣

وكذا (١) عدم وهن دلالته مع ظهوره الا (٢) فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره فيما (٣) فيه ظاهر [ظاهرا]

______________________________________________________

بالظن غير المعتبر بعدم صدوره ، وكذا عدم وهن دلالته بهذا الظن.

وحاصل مرامه : أن الظن غير المعتبر لا يوهن السند ولا الظهور ، لعدم تقيد إطلاق أدلة اعتبارهما بعدم قيام الظن على خلافهما ، فلا يكون الظن غير المعتبر موهنا لهما إلّا إذا كشف الظن عن ثبوت خلل في السند ، أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهور اللفظ فيما يكون اللفظ ظاهرا فيه فعلا (*).

(١) يعني : وكذا لا يبعد عدم وهن دلالته بالظن غير المعتبر ، وضمائر «صدوره ، دلالته ، ظهوره» راجعة إلى الخبر.

(٢) أي : الا فيما كشف الموهن ـ بالكسر ـ وهو الظن غير المعتبر بسبب أمارة معتبرة من علم أو علمي عن ثبوت ... إلخ ، ولا إشكال في الوهن حينئذ لكنه خارج عن موضوع البحث وهو وهن السند والظهور بالظن غير المعتبر ، فالاستثناء منقطع.

(٣) المراد بالموصول المعنى الّذي يكون اللفظ ظاهرا فيه فعلا ، وضمير «ظهوره» راجع إلى اللفظ ، والصناعة تقتضي رفع الظاهر ـ كما في بعض النسخ ـ لا نصبه كما في بعضها الآخر ، وذلك لأن كلمة «ظاهر» خبر لمبتدإ محذوف أعني الضمير الّذي هو صدر صلة الموصول ، فتكون العبارة هكذا «فيما هو

__________________

(*) لكن لا يخفى أن ما ذكره في عدم وهن السند بالظن الموجب للظن بعدم الصدور ينافي قوله : «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر» لأن المدار في الحجية ان كان هو الظن بالصدور أو المطابقة للواقع ، فالظن الرافع لهما يوجب الوهن لا محالة ، لارتفاع مناط الحجية به ، فلاحظ.

١٣٤

لو لا (١) تلك القرينة ، لعدم (٢) اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة ، ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره أو ظن بعدم إرادة ظهوره (٣).

وأما (٤) الترجيح بالظن فهو فرع دليل على الترجيح به بعد سقوط

______________________________________________________

ظاهر» وضمير «هو» راجع إلى اللفظ. ويمكن تصحيح نصب «الظاهر» بأن يكون خبرا لمحذوف تقديره «فيما يكون اللفظ فيه ظاهرا» لكن الأول أولى.

(١) قيد لقوله : «انعقاد ظهوره» يعني : أن الظهور ينعقد لو لا تلك القرينة.

(٢) علة لعدم وهن السند والدلالة بالظن غير المعتبر ، توضيحه : أن إطلاق دليلي اعتبار خبر الثقة والظهور يقتضي عدم وهن السند والظهور بقيام ظن غير معتبر على عدم صدور الخبر ، أو عدم إرادة ظهوره.

(٣) هذا الضمير وضمير «صدوره» راجعان إلى «خبر» و «بما» متعلق بـ «اختصاص».

(٤) معطوف على قوله : «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر ... إلخ» والأولى سوق العبارة هكذا «والترجيح بالظن فرع الدليل على الترجيح به ... إلخ» إذ لم يذكر لفظ «أما» قبل ذلك ليعطف عليه بلفظ «أما» هنا ، وكيف كان فهو شروع في بيان الترجيح بالظن غير المعتبر وعدمه. وتوضيح ما أفاده فيه هو عدم كون الظن غير المعتبر مرجِّحا لأحد المتعارضين ، لعدم الدليل على الترجيح به بعد كون المرجحية ـ كالحجية ـ منوطة بقيام دليل عليها ، فالأمارتان المتعارضتان بعد تساقطهما وعدم حجية واحدة منهما ـ بناء على الطريقية ـ لا تكون إحداهما بالخصوص حجة إلّا بالدليل ، فجعل إحداهما بالخصوص حجة بسبب موافقة ظن غير معتبر لها موقوف على دليل على الترجيح بذلك الظن غير المعتبر ، ولم يثبت ذلك وان استدل له بوجوه أشار في المتن إلى جملة منها وسيأتي بيانها.

١٣٥

الأمارتين بالتعارض من البين (١) ، وعدم (٢) حجية واحد منهما بخصوصه وعنوانه وان بقي أحدهما بلا عنوان على حجيته (٣) ولم يقم (٤) دليل بالخصوص على الترجيح به وإن ادعى شيخنا العلامة أعلى الله مقامه استفادته (٥) من الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة

______________________________________________________

(١) كما هو مقتضى الأصل الأولي في تعارض الأمارات بناء على الطريقية وكلمة «بعد» ظرف لقوله : «على الترجيح به» وضمير «به» راجع إلى الظن غير المعتبر.

(٢) عطف تفسيري لسقوط المتعارضين ، وغرضه : أن الروايتين المتعارضتين يسقط كل منهما بالتعارض عن الحجية ، ولا تبقى إحداهما بالخصوص على الحجية وان بقيت إحداهما لا بعينها على الحجية لنفي الثالث ، كما إذا دلّ أحد الخبرين على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وآخر على استحبابه ، فانهما يتساقطان بالتعارض في مدلولهما المطابقي ، ولكنهما يشتركان في نفي الثالث أعني ما عدا الوجوب والاستحباب من الأحكام.

(٣) أي : حجية أحدهما بلا عنوان ، والصواب تأنيث الضمائر في «بخصوصه ، عنوانه ، حجيته» وكذا تأنيث «واحد» و «أحدهما» لأن المراد بها الأمارة.

(٤) الواو للحال ، فكأنه قال : وأما الترجيح بالظن فهو فرع دليل على الترجيح به والحال أنه لم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به يعني بالظن غير المعتبر.

(٥) أي : استفادة الترجيح بالظن غير المعتبر من الاخبار. وهذا هو الوجه الأول مما استدل به على الترجيح بالظن غير المعتبر ، وقد تعرض لتفصيله الشيخ الأعظم (قده) في باب التعادل والترجيح ، وقال هنا : «وكيف كان فالذي يمكن أن يستدل به للترجيح بمطلق الظن الخارجي وجوه ... إلى أن قال :

١٣٦

على ما يأتي تفصيله (١) في التعادل والترجيح [والتراجيح]. ومقدمات الانسداد (٢) في الأحكام انما (٣) توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة لا الترجيح به ما لم توجب الظن بأحدهما (٤) (*).

______________________________________________________

الثالث : ما يظهر من الاخبار من أن المناط في الترجيح كون أحد الخبرين أقرب مطابقة للواقع سواء كان لمرجح داخلي كالأعدلية مثلا أو لمرجح خارجي كمطابقته لأمارة توجب كون مضمونه أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر ، مثل ما دل على الترجيح بالأصدقية في الحديث ... إلخ» وحاصله : التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى كل ما يوجب أقربية أحد المتعارضين إلى الواقع من الآخر ، أو أقوائيته منه ، ويأتي في التعادل والترجيح تفصيله إن شاء الله تعالى.

(١) أي : تفصيل ما ذكر من استفادة الترجيح بالمرجحات غير المنصوصة.

(٢) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي استدل بها على الترجيح بالظن غير المعتبر ، وحاصله : أن مقدمات الانسداد الجارية في الأحكام الكلية توجب الترجيح بالظن غير المعتبر ، فان نتيجتها حجية الظن مطلقا سواء تعلق بالحكم أم بالحجة أم بالترجيح ، فالظن بالترجيح أيضا حجة.

(٣) خبر «ومقدمات» وجواب عنه ، وحاصله : أن الظن الانسدادي انما يكون حجة إذا تعلق بالحكم كالوجوب والحرمة ، أو بالطريق كالظن بحجية الإجماع المنقول أو بهما معا ، على الخلاف السابق ، والظن بالترجيح خارج عن كليهما.

وبالجملة : فمقدمات الانسداد لا توجب حجية الترجيح بالظن ما لم توجب الظن بالحكم أو الطريق.

(٤) أي : بالحكم أو بالحجة ، لكن الترجيح به حينئذ ليس ترجيحا بالظن

__________________

(*) إلّا أن يوجب الظن غير المعتبر ظنا بالحكم أو بالحجية ، فان موافقة

١٣٧

ومقدماته (١) في خصوص الترجيح لو جرت (٢)

______________________________________________________

من حيث هو ظن ، بل ترجيح بالحكم أو الطريق المظنونين.

(١) أي : ومقدمات الانسداد ، وهذا هو الوجه الثالث ، وتوضيحه : أنه يمكن إجراء مقدمات الانسداد في خصوص المرجحات لتنتج حجية الظن في مقام الترجيح ، بأن يقال : انا نعلم إجمالا بمرجحات للروايات في الشريعة المقدسة ، وباب العلم والعلمي بها منسد ، ولا يجوز إهمالها للعلم الإجمالي المزبور ، ولا يمكن التعرض لها بالاحتياط لعدم إمكانه ، حيث انه يدور الأمر بين المحذورين لحجية الراجح وعدم حجية المرجوح ، ولا يمكن الاحتياط فيهما ، ولا يجوز الرجوع إلى الأصل ، إذ مقتضاه عدم الحجية ، وهو ينافي العلم الإجمالي المزبور بوجودها ، ومقتضى قبح ترجيح المرجوح على الراجح هو العمل بالظن ، ونتيجة ذلك حجية الظن في مقام الترجيح. ويستفاد هذا الوجه من عبارة شيخنا الأعظم حيث قال : «وحاصل هذه المقدمات ثبوت التكليف بالترجيح وانتفاء المرجح اليقيني ، وانتفاء ما دل الشرع على كونه مرجحا ، فينحصر العمل في الظن بالمرجح ، فكلما ظن بأنه مرجح في نظر الشارع وجب الترجيح به ..».

(٢) أجاب المصنف عن هذا الوجه الثالث أوّلا بما أشار إليه بقوله : «لو جرت» من عدم تسليم جريان مقدمات الانسداد في خصوص الترجيح ، ولعله لأجل عدم العلم الإجمالي بعد كون المرجحات المنصوصة بمقدار المعلوم بالإجمال.

__________________

أحد الخبرين المتعارضين مثلا لهذا الظن توجب الظن بحجيته ، فيندرج في الظن بالطريق الّذي هو نتيجة دليل الانسداد ، وبذلك يتحقق ترجيح أحدهما على الآخر قهرا ، فالظن بالترجيح لا يقصر عن الظن بالحكم الناشئ من قول اللغوي في إيجابه للحجية.

١٣٨

انما توجب (١) حجية الظن في تعيين المرجِّح (٢) ، لا أنه مرجح ، الا (٣)

______________________________________________________

وثانيا : بأن مصب المقدمات المذكورة هو المرجحات المعلومة إجمالا ـ بعد الفراغ عن مرجحيتها ـ فالمعتبر بالانسداد هو الظن بمتعيّن المرجّح ، لا الظن بأن هذا الشيء مرجح ، فمقدمات الانسداد انما تنتج حجية الظن بتعين تلك المرجحات المعلومة إجمالا ، فإذا ظن بأن الشهرة الفتوائية مثلا مرجحة الخبر كان هذا الظن حجة بدليل الانسداد ، ويثبت به مرجحية الشهرة للخبر المبتلى بالمعارض ، ولا تنتج حجية الظن بأن هذا الشيء مرجح كما هو المطلوب قال في حاشية الرسائل مستشكلا على كلام الشيخ المتقدم بيانه ، ولزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة والرجوع إلى إطلاقات التخيير مع فقدها ما لفظه : «ومعارضة أخبار الترجيح بعضها مع بعض ... لا يوجب التعدي عنها إلى غيرها والتنزل إلى الظن بمرجحية الشيء ، بل يوجب التنزل إلى الظن في تعيين الراجح والمرجوح والمقدم والمؤخر منهما كما لا يخفى».

نعم إذا ظن بمقدمات الانسداد أن الظن بنفسه مرجح ـ كما أنه معين للمرجح المعلوم إجمالا كونه مرجحا ـ كان هذا الظن حجة ، وأنى لنا إثبات ذلك.

(١) خبر «ومقدماته» وهذا إشارة إلى الجواب الثاني الّذي أوضحناه بقولنا : «بأن مصب المقدمات المذكورة ... إلخ».

(٢) أي : الّذي هو من المرجحات المعلومة إجمالا.

(٣) استثناء من قوله : «لا أنه مرجح» المعطوف على قوله : «تعيين» وقد تقدم توضيحه بقولنا : «نعم إذا ظن ... إلخ» وضمير «أنه» في الموضعين راجع إلى الظن ، وقوله : «أيضا» يعني : كما أنه معين للمرجح المعلوم إجمالا كونه مرجحا.

١٣٩

إذا ظن أنه (١) أيضا (٢) مرجح ، فتأمل جيدا (٣).

هذا (٤) فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل.

______________________________________________________

(١) كما إذا علم إجمالا بمرجحية أمور ، وحصل الظن ـ بمقدمات الانسداد ـ بأن منها الشهرة في الرواية ، فهذا الظن الانسدادي معين للمرجح أعني الشهرة فإذا حصل الظن بأن هذه الشهرة المستندة إلى الظن الانسدادي بنفسها مرجحة لأحد الخبرين المتعارضين جاز الترجيح بها.

والحاصل : أن مقدمات الانسداد لو جرت في المرجحات ـ كجريانها في الأحكام ـ أنتجت أمرين : أحدهما حجية الظن في تعيين المرجح ، والآخر حجية الظن بمرجحية الأقربية مثلا.

(٢) أي : كحجية الظن بالمرجح.

(٣) لعله إشارة إلى : أن دليل الانسداد قاصر عن إثبات حجية الظن في الأحكام الشرعية فضلا عن حجيته في تعيين المرجحات عند التعارض ، إذ لم يثبت وجوب الترجيح بها حتى يكون انسداد باب العلم بها كانسداد باب العلم بالاحكام موجبا للأخذ ٠ بالظن ، لإمكان حمل الأمر بالترجيح ـ كما سيأتي في باب التعادل والترجيح ـ على الاستحباب كما اختاره المصنف وجماعة ، فلا يبقى مجال للتمسك بمقدمات الانسداد. ولو سلم جريانها في نفس الأحكام ، فلا موجب لجريانها في المرجحات ، لإمكان الاحتياط أو الرجوع إلى الأصل العملي في مورد الشك. هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لحكم الظن الّذي لم يقم على عدم اعتباره دليل خاص ، بل كان عدم اعتباره لأجل عدم الدليل على حجيته الموجب لاندراجه تحت الأصل الدال على عدم حجية الظن وحرمة العمل به.

(٤) أي : ما ذكرناه من الوهن والجبر والترجيح كان متعلقا بالظن الّذي لم يثبت اعتباره بدليل خاص.

١٤٠