منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

نعم (١) ، ولكن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن [من] مفسدته ، وأنه (٢) كالإقدام على ما علم مفسدته ، كما استدل به شيخ الطائفة قدس‌سره على أن الأشياء على الحظر أو الوقف (*).

قلت : استقلاله بذلك (٣) ممنوع ، والسند شهادة الوجدان

______________________________________________________

كالعلم بها يجب دفعه ، فاحتمال الحرمة يجب دفعه» فتكون هذه الكبرى بيانا للمشكوك وصالحا لرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

(١) أي : وان كان مخالفة ما اشتبه حكمه الشرعي غير مستلزمة للعقوبة ولا للضرر الدنيوي كما تقدم ، ولكن العقل ... إلخ.

(٢) معطوف على «قبح» وضميره راجع إلى الإقدام ، أي : وبأن الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته كالإقدام ... إلخ ، وضمير «به» راجع إلى استقلال العقل.

(٣) يعني : بقبح الإقدام على محتمل المفسدة ، وأنه كالإقدام على معلوم المفسدة ، وهذا جواب الإشكال وتوضيحه : أن ما ذكر من الحكم العقلي ممنوع ، لشهادة الوجدان وجريان ديدن العقلاء وعادتهم على عدم التحرز عن محتمل المفسدة ولزوم التحرز عن معلومها ، فانهم يركبون أمواج البحار ويقتحمون أهوال البراري والقفار للتجارة وغيرها مع احتمال الغرق وغيره من الأخطار لا مع العلم به ، مضافا إلى اذن الشارع في الإقدام على المفسدة المحتملة في الشبهات الموضوعية بمثل قوله عليه‌السلام : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» فلو كان الاذن في الإقدام عليها قبيحا كقبح الإقدام على المفسدة المعلومة لم يأذن فيه ، لأن الاذن في الإقدام على القبيح قبيح ، ويمتنع

__________________

(*) استدلال شيخ الطائفة بهذا الحكم العقلي انما هو على الوقف لا عليه أو على الحظر ، وقد تقدمت عبارته في بعض التعاليق ، في صفحة ٢٩٥ ، فراجع.

٣٢١

ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان ، حيث انهم لا يحترزون مما [عما] لا تؤمن مفسدته ، ولا يعاملون معه (١) معاملة ما علم مفسدته ، كيف (٢) وقد أذن الشارع بالإقدام عليه ، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح ، فتأمل (٣).

______________________________________________________

صدور القبيح عن الحكيم تعالى ، فصدور الاذن فيه منه تعالى يشهد بعدم قبحه ، فلا أصل للقاعدة المذكورة.

(١) أي : مع ما لا تؤمن مفسدته.

(٢) يعني : كيف يكون الإقدام على محتمل المفسدة قبيحا؟ والحال أن الشارع قد أذن في الإقدام عليه ، مع قضاء الضرورة بامتناع صدور الاذن في ارتكاب القبيح منه.

(٣) لعله إشارة إلى : أن اذن الشارع في ارتكاب محتمل المفسدة لا يكون شاهدا على عدم قبح ارتكابه ، إذ من الممكن اذنه في ارتكاب محتمل المفسدة مع بقائه على قبحه ، غاية الأمر أن اذنه فيه سبب لتدارك قبحه ولو بالمصلحة التسهيلية أو كاشف عن وجود المزاحم الأهم أو المساوي.

أو إشارة إلى : أن التخلص بإذن الشارع في الشبهة الموضوعية عن قبح الإقدام على ما لا يؤمن مفسدته يُخرجنا عن التمسك بالدليل العقلي على البراءة ويُحوِجنا في الجواب عن تلك القاعدة إلى الترخيص الشرعي.

أو إشارة إلى : منع الصغرى المتقدم بقوله : «مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة» وأن غير المؤاخذة من المفاسد ـ التي هي مناطات النواهي الشرعية ـ ليست من المضار الدنيوية التي لا يحكم العقل بلزوم الاحتراز عنها ، بل لو اطلع عليها العقل ـ كما إذا أعلمه الشارع بها ـ حكم بوجوب الاجتناب عنها أيضا كالضرر الأخروي بناء على الملازمة بين حكمي العقل والشرع.

٣٢٢

واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة بالأدلة الثلاثة (١).

أما الكتاب ، فبالآيات (٢) الناهية عن القول بغير العلم ، وعن الإلقاء في التهلكة ، والآمرة (٣) بالتقوى.

______________________________________________________

أدلة المحدثين على وجوب الاحتياط

١ ـ الاستدلال بالكتاب

(١) يعني : الكتاب والسنة والعقل.

(٢) يعني : استدل بطوائف ثلاث من الآيات كما في الفصول والرسائل أيضا.

الأولى : الآيات الناهية عن القول بغير العلم ، كقوله تعالى : «ولا تقف ما ليس لك به علم» وقوله تعالى : «وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون».

الثانية : الآيات الناهية عن الإلقاء في التهلكة ، كقوله تعالى : «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».

الثالثة : الآيات الآمرة بالتقوى ، كقوله تعالى : «واتقوا الله حق تقاته» و «جاهدوا في الله حق جهاده» ونحوهما.

(٣) معطوف على «الناهية» تقريب الاستدلال بهذه الطوائف : أن الحكم بالإباحة فيما يحتمل حرمته مع عدم نهوض حجة عليها افتراء على الشارع ، وقول عليه بغير علم ، وإلقاء للنفس في التهلكة ومخالفة للتقوى ، ولا ريب في أن الافتراء على الشارع وإلقاء النّفس في التهلكة ومخالفة التقوي حرام ، فالحكم بالإباحة فيما يحتمل حرمته مع عدم نهوض حجة عليها حرام ، فلا بد من الاحتياط في المشتبه وهو المطلوب.

٣٢٣

والجواب : أن القول بالإباحة (١) شرعا وبالأمن من العقوبة

______________________________________________________

هذا بناء على تفسير التقوي المأمور بها بما يشمل ترك محتمل الحرمة وفعل محتمل الوجوب مع عدم قيام حجة عليهما ، فحينئذ يكون ترك محتمل الوجوب وفعل محتمل الحرمة منافيا للتقوى ، وأما بناء على تفسيرها بخصوص فعل الواجبات المعلومة وترك المحرمات المعلومة ، فلا يتم الاستدلال بها.

إلّا أن يدعي المحدثون معلومية وجوب الاحتياط في المشتبه ، فيكون مخالفته حينئذ مخالفة للتقوى أيضا ، لكنه خلاف الفرض ، لأنهم يريدون إثبات وجوبه بهذه الآية ، فإذا كان وجوبه معلوما لم يحتج إلى إثباته بها. اللهم إلّا أن يدعوا معلومية وجوبه بغير هذه الآية ـ يعني آية التقوي ـ ويكون غرضهم من الاستدلال بهذه الآية أن ترك العمل بهذا الواجب مخالفة للتقوى ، نظير الصلاة مثلا فان وجوبها ثابت بغير آية التقوي ، ويستدل بهذه الآية على أن ترك هذا الواجب المعلوم وجوبه مخالف للتقوى ، هذا.

وزاد شيخنا الأعظم على الآيات المتقدمة طائفة أخرى ، قال (قده) : «ونحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط : فاتقوا الله ما استطعتم ... وقوله تعالى : فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول» فراجع.

(١) توضيحه : أن شيئا من الخطابات التي تضمنتها الآيات الشريفة المتقدمة لا يتوجه على من يقول بالبراءة استنادا إلى الدليل العقلي والنقلي المتقدمين ، إذ ليس القول بالبراءة في المشتبه حينئذ قولا بغير العلم ، ولا موجبا للوقوع في التهلكة بمعنى العقوبة ، ولا منافيا للتقوى.

وبالجملة : بعد دلالة الدليل العقلي والنقلي على البراءة لا يكون فعل محتمل الحرمة موجبا للتهلكة ، ولا مخالفا للتقوى. وأما احتمال العقوبة فلا موجب له أيضا ، بل المعلوم عدمها ، لما عرفت غير مرة من عدم الملازمة بين الحكم

٣٢٤

عقلا ليس قولا بغير علم ، لما (١) دل على الإباحة من النقل (٢) وعلى البراءة من حكم العقل (٣) ، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا ، ولا فيه (٤) مخالفة التقوي كما لا يخفى.

وأما الاخبار ، فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة معلّلا (٥)

______________________________________________________

بوجوده الواقعي ـ وان لم يتنجز ـ وبين استحقاق العقوبة عليه ، فاحتمال الحرمة حينئذ وان كان موجودا لكنه لا يوجب التوقف في العمل.

هذا وقد تبع المصنف شيخنا الأعظم (قدهما) في هذا الجواب ، وقد سبقهما إليه صاحب الفصول ، حيث قال : «والجواب : أن مقتضى الأدلة المذكورة حرمة الحكم والفتوى من غير علم ، ونحن نقول أيضا بمقتضاها ، حيث نمنع من الحكم بما لا علم لنا به ، لكن ندعي علمنا بإباحة ما لا علم لنا بحكمه الواقعي والبراءة عنه ، للأدلة التي سبق ذكرها ...».

(١) متعلق بقوله : «ليس».

(٢) مثل حديثي الرفع والحل ، وكلمة «من» بيان للموصول في «لما دل».

(٣) بقبح العقاب بلا بيان ، وضمير «معهما» راجع إلى حكم العقل والنقل.

(٤) أي : ولا في اقتحام الشبهة مخالفة التقوي.

(٥) غرضه : أن الأخبار الآمرة بالتوقف على طائفتين :

إحداهما : الاخبار الدالة على مطلوبية التوقف مطابقة ، لاشتمالها على مادة الوقوف ، وهذه الطائفة بين ما علّل فيه الأمر بالتوقف عند الشبهة بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة وبين ما لم يعلل فيه به ، أما المعللة فهي عدة روايات

منها : قوله عليه‌السلام في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة بعد تكافؤ المرجحات

٣٢٥

في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة

______________________________________________________

في الخبرين المتعارضين : «فأرجه حتى تلقى إمامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (١).

ومنها : قوله عليه‌السلام في موثقة مسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة ، يقول : إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم ، وما أشبه ذلك ، فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٢).

وتقريب الاستدلال بهذه الاخبار المعللة على وجوب الوقوف عند الشبهات منوط ببيان أمور :

الأول : أن كلمة «خير» وان كانت من صيغ التفضيل ، لكنها منسلخة هنا عن التفضيل ومتمحضة في التعيين ، إذ لا خير في الاقتحام في الهلكة المترتبة على ترك الوقوف عند الشبهات حتى يكون الخير في الوقوف عندها أكثر منه ، نظير «الأحبية» الواردة في قول الإمام الصادق في مرسلة (٣) داود بن الحصين : «والله أفطر يوما من شهر رمضان أحب إليّ من أن يضرب عنقي» فان قتله عليه‌السلام بسبب ترك الإفطار للتقية الواجبة ليس محبوبا حتى يكون الإفطار أحبّ منه ، وليست الأحبية هنا كالأحبية الواردة في الصلاة المعادة جماعة بمثل قول الصادق عليه‌السلام في رواية أبي بصير «يختار الله أحبهما إليه» (٤) لدلالتها

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ص ٧٥ الحديث : ١

(٢) الوسائل ، ج ١٤ ، الباب ١٥٧ من أبواب مقدمات النكاح وآدابه صلى‌الله‌عليه‌وآله ١٩٣ ، الحديث : ٢

(٣) الوسائل ، ج ٧ ، الباب ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ص ٩٥ الحديث : ٤ ونحوه غيره.

(٤) الوسائل ، ج ٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة ، ص ٤٥٦ الحديث : ١٠

٣٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ بقرينة إضافة «أفعل» التفضيل إلى الضمير الراجع إلى المفضل والمفضل عليه مع قطع النّظر عن القرائن الخارجية ـ على أن المفضل عليه وهو الصلاة الفرادى محبوب أيضا.

الثاني : أن حسن تعليل الحكم منوط بعموم العلة وكليتها ، فلا يحسن التعليل بما يكون جزئيا ومختصا بالمورد.

الثالث : أنه لا بد من السنخية بين العلة والمعلول ، كما هو واضح ، فلا يصح تعليل الحكم الوجوبيّ بعلة مستحبة والحكم التحريمي بعلة جائزة ، لعدم السنخية بين العلة والمعلول.

إذا عرفت ما ذكرناه تعرف ظهور المقبولة والموثقة وما بمضمونهما في مدعى المحدثين وهو وجوب الاحتياط والتوقف في كل شبهة ، سواء أريد بالوقوف التوقف في الفتوى والعمل ـ كما هو مقتضى إطلاق المقبولة ـ أم أريد به خصوص التوقف في العمل كما هو ظاهر الموثقة. وجه ظهورهما في الوجوب : أنه عليه‌السلام علّل النهي ـ عن نكاح المرأة المرددة بين كونها أجنبية وأختا رضاعية ـ بأن الوقوف عند الشبهة خير من الوقوع في الهلكة ، فلو لم يكن الوقوف في مورد الموثقة واجبا لم يصح تعليل النهي ـ في قوله عليه‌السلام : «لا تجامعوا في النكاح عند الشبهة» الظاهر في الحرمة ـ به ، لعدم السنخية حينئذ بين العلة وهي الوقوف غير الواجب حسب الفرض وبين المعلل وهو حرمة الجمع في النكاح ، وقد عرفت اعتبار السنخية بينهما ، فكأنه عليه‌السلام قال : «يحرم الجمع في النكاح عند الشبهة ، وحيث يحرم الجمع فيجب التوقف فيه ، لأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» ويستفاد من هذا التعليل وجوب التوقف في كل شبهة وان لم تكن في مورد

٣٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

النكاح ، لما عرفت أيضا من عدم حسن تعليل الحكم بما يكون جزئيا مختصا بمورد خاص.

هذا غاية توضيح تقريب الاستدلال بالأخبار المعللة على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية.

وأما الأخبار الآمرة بالتوقف مطابقة مجردة عن التعليل المذكور فهي كثيرة :

منها : ما رواه (١) جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام في وصية له لأصحابه قال : «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده ، وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا».

ومنها : رواية (٢) عبد الله بن جندب عن الرضا عليه‌السلام : «ان هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترهم بالشبهة ، ولبّس عليهم أمر دينهم ... إلى أن قال : ولم يكن ذلك لهم ولا عليهم بل كان الفرض عليهم والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحير ، وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه ...».

ومنها : ما رواه الميثمي (٣) عن الرضا عليه‌السلام في اختلاف الأحاديث قال : «وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا».

ودلالة هذه الطائفة على وجوب التوقف عند الشبهة واضحة ، لدلالتها

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ص ١٢٣ الحديث : ٤٣

(٢) المصدر المتقدم ، الحديث : ٤٩ ص ١٢٥.

(٣) المصدر المتقدم ، الحديث : ٣١ ص ١٢١.

٣٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

على حرمة الاقتحام فيما فيه المعرضية للعقوبة ، وليس المراد من حرمة الاقتحام حرمة إلقاء النّفس في الهلكة القطعية ، لوضوح أنه لا قطع بالعقوبة في ارتكاب المشتبه ، ومع عدم القطع بها يكون التمسك بهذه الروايات في ارتكاب المشتبه تمسكا بالدليل في الشبهة المصداقية ، وهو غير جائز ، بل المراد حرمة الاقتحام في الهلكة المحتملة ، وهذه الروايات تدل عليها كما هو المطلوب.

ثانيتهما : الأخبار الدالة على وجوب التوقف التزاما ، وهي ـ كما قيل ـ الاخبار غير المشتملة على مادة الوقوف كالآمرة بالسكوت والكف والتثبت ونحوها ، وهي كثيرة

فمنها : موثقة (١) حمزة بن طيار : «أنه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه عليه‌السلام ، حتى إذا بلغ موضعا منها قال له : كفّ واسكت ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : انه لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون الا الكفّ عنه والتثبت والرّد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق ، قال الله تعالى : فاسألوا أهل الذّكر ان كنتم لا تعلمون».

ومنها : حسنة (٢) هشام بن سالم ـ بل صحيحته على الأقوى ـ قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما حق الله على خلقه ، قال : أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه».

ومنها : مرسلة (٣) موسى بن بكر بن داب ، قال : قال أبو جعفر لزيد بن علي : «ان

__________________

(١) المصدر المتقدم ، الحديث ٣ ص ١١٢.

(٢) المصدر المتقدم ، الحديث ٤ ص ١١٢.

(٣) المصدر المتقدم ، الحديث ١٠ ص ١١٤.

٣٢٩

من الاخبار (١) الكثيرة الدالة عليه (٢) مطابقة أو التزاما (٣) (*)

______________________________________________________

الله أحل حلالا وحرم حراما ... إلى أن قال : فان كنت على بينة من ربك ويقين من أمرك ، وتبيان من شأنك ، فشأنك ، وإلّا فلا ترومنّ أمرا أنت منه في شك وشبهة».

ومنها : رواية (١) سليم بن قيس الهلالي : «ان عليّ بن الحسين عليه‌السلام قال لأبان أبي عياش : يا أخا عبد قيس : ان وضح لك أمر فاقبله ، وإلّا فاسكت تسلم وردّ علمه إلى الله ، فانك في أوسع مما بين السماء والأرض».

(١) بيان للموصول في قوله : «فبما دل».

(٢) أي : على وجوب التوقف مطابقة وهي الاخبار المشتملة على مادة «الوقوف» سواء المعللة منها وغيرها.

(٣) وهي كما تقدم الاخبار الآمرة بالكف والتثبت عند الشبهة كموثقة حمزة بن طيار المتقدمة ، وقد ذكرنا في التعليقة أن التعبير عن دلالتها بالالتزام لا يخلو عن مسامحة ، فراجع.

__________________

(*) التعبير بالالتزام لا يخلو من مسامحة ، لأن الدلالة الالتزامية المصطلحة هي دلالة اللفظ على الخارج اللازم عقلا أو عرفا ، كدلالة الشمس على الضوء وهذا المعنى أجنبي عن الروايات الآمرة بالكف والتثبت والرّد إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ، إذ لو أريد به الالتزام النفسانيّ ، ففيه أن التوقف في العمل ليس من لوازمه العقلية أو العرفية حتى تكون الدلالة عليه من الدلالة الالتزامية المصطلحة. ولو أريد به نفس التوقف في مقام العمل ، ففيه : أنه حينئذ مرادف للوقوف ، لا أنه لازم له ، فتكون من الروايات الدالة عليه مطابقة لا التزاما كما في بعض الحواشي ، فتأمل جيدا.

__________________

(١) المصدر المتقدم الحديث : ٣٥.

٣٣٠

وبما (١) دل على وجوب الاحتياط من الاخبار الواردة بألسنة مختلفة.

______________________________________________________

(١) معطوف على «بما» في «فبما دل» وهذا إشارة إلى طائفة أخرى من الاخبار تدل على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية ، والظاهر : أن مراده (قده) من الألسنة المختلفة هو دلالتها على وجوبه مطابقة والتزاما ، فالأوّل هو ما اشتمل منها على مادة الاحتياط بهيئات مختلفة مثل «احتط» و «فعليكم بالاحتياط» و «خذ بالحائطة لدينك» ونحوها ، وهي عدة روايات :

منها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال : لا ، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد ، قلت : ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» (١) قال في الحدائق (٢) في تقريب الاستدلال بها على الاحتياط : «وهذه الرواية قد دلت على وجوب الاحتياط في بعض جزئيات الحكم الشرعي مع الجهل به وعدم إمكان السؤال ، وذلك لأن ظاهر الرواية أن السائل عالم بأصل وجوب الجزاء ، وانما الشك في موضعه بكونه عليهما معا جزاء واحدا ، أو على كل منهما جزاء بانفراده».

ومنها : ما رواه عبد الله بن وضاح ـ وقد عبر عنها الشيخ الأعظم (قده) بالموثقة على الأقوى ـ «أنه كتب إلى العبد الصالح عليه‌السلام يسأله عن وقت المغرب والإفطار ، فكتب إليه : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك» (٣) ودلالته على المطلوب واضحة ، لأن قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ١ ص ١١١

(٢) ج ١ ص ٧٣.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث : ٣٧ ص ١٢٢.

٣٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

«وتأخذ بالحائطة لدينك» جملة خبرية أريد بها الإنشاء ، فتدل على وجوب الاحتياط فيما لم يعلم حكمه الشرعي.

ومنها : ما رواه المفيد الثاني ـ ابن الشيخ (قدهما) ـ في أماليه مسندا عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري عن الرضا عليه‌السلام : «أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (١)

ومنها : ما رواه الشهيد الثاني عن عنوان البصري عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما‌السلام يقول فيه : «سل العلماء ما جهلت وإيّاك أن تسألهم تعنتا وتجربة ، وإياك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس» (٢). ونحوها غيرها.

والثاني ـ وهو ما دل على وجوب الاحتياط التزاما ـ مثل ما ورد في خبر التثليث في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله عليه‌السلام : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيِّن وحرام بيِّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».

وتقريبه : أن الإمام عليه‌السلام استدل بهذه الجملة على وجوب طرح الخبر الشاذ ، لأن فيه الريب ـ لا أنه مما لا ريب في بطلانه ـ ووجوب ذلك موقوف على لزوم الاحتياط والاجتناب عن الشبهات ، وإلّا فلا يتجه الاستدلال على وجوب طرح الخبر الشاذ مع عدم كون الاحتراز عن موارد

__________________

(١) المصدر المتقدم ، الحديث : ٤١ ص ١٢٣.

(٢) المصدر المتقدم ، الحديث : ٥٤ ص ١٢٧.

٣٣٢

والجواب : أنه (١) لا مهلكة في الشبهة البدوية مع

______________________________________________________

الشبهة واجبا.

ومثل ما ورد من النهي عن القول ـ يعني الإفتاء ـ بغير علم ، فيدل بالالتزام على وجوب الاحتراز عن المشتبه عملا وعدم جواز الاقتحام فيه.

(١) شَرَع أوّلا في الجواب عن أخبار التوقف المتضمنة للتعليل ، وحاصله : أن هذه الروايات أجنبية عن إثبات وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص ، بيان ذلك : أن هذه الروايات مشتملة (على موضوع) وهو الهلكة المراد بها ـ بقرينة بعضها كمقبولة عمر بن حنظلة ـ العقوبة ، إذ النهي الظاهر في التحريم لا يكون إلّا عما هو حرام ، والحرمة توجب استحقاق العقوبة لا الهلكة الدنيوية كما هو واضح. (وعلى محمول) وهو وجوب التوقف المستفاد من الأمر به بمثل قوله عليه‌السلام : «قفوا عند الشبهة» وقوله : «فان الوقوف خير ... إلخ» بالتقريب المتقدم ، ولا ريب في أن نسبة المحمول إلى الموضوع كنسبة المعلول إلى العلة في تأخره عنها رتبة ، فلا بد حينئذ من وجود العقوبة قبل الأمر بالتوقف حتى ينبعث عنها الأمر به ، وهذا يختص بما إذا أحرز من الخارج ما يصحح العقوبة عليه ، وهو منحصر في الشبهة البدوية قبل الفحص ، والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

وأما في المقام ، فبما أن المقصود إجراء البراءة بعد الفحص واليأس من الدليل ، لِما دلّ من الدليل العقلي والنقلي على جريانها بعد إحراز عدم البيان فلا مانع من إجراء البراءة. ولا يمكن إثبات البيان بنفس أخبار التوقف ، لأنه مستلزم للدور كما تقدم نظيره في أدلة البراءة.

تقريب الدور : أن وجوب التوقف متوقف على الهلكة ، لأنه معلول لها ، والهلكة متوقفة على البيان ، لقبح العقاب بدونه ، فلو توقف البيان على وجوب

٣٣٣

دلالة النقل (١) على الإباحة ، وحكم العقل بالبراءة ، كما عرفت (٢).

وما دلّ على (٣) وجوب الاحتياط

______________________________________________________

التوقف كان وجوب التوقف متوقفا على وجوب التوقف ، وهو الدور.

(١) كأحاديث الرفع والحل والسعة الدالة على أن ما لم يعلم حرمته مباح ظاهرا.

(٢) يعني : في أدلة البراءة.

(٣) هذا جواب عن أخبار الاحتياط مطلقا سواء دلت على الاحتياط مطابقة أم التزاما ، فتشمل أخبار التوقف التي لم تعلل بالعلة المزبورة أيضا. وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب وما نقله عن شيخنا الأعظم يرجع إلى وجوه ثلاثة :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «لو سلم وتوضيحه : أن أوامر الاحتياط مثل «وقفوا عند الشبهة» و «عليكم بالكف والتثبت» و «لا ورع كالوقوف عند الشبهة» و «خذ بالحائطة لدينك» و «وعليكم بالاحتياط» ونحوها مما تقدم بيانه من الطوائف المختلفة وان كانت ظاهرة بدوا في الوجوب المولوي المستلزم لترتب المثوبة على موافقته والعقوبة على مخالفته ، لكنها تُصرف عن هذا الظهور إلى الإرشاد أو الطلب المولوي الجامع بين الوجوب والندب كما سنبينه. ويمكن أن يريد المصنف بقوله : «لو سلم الإشارة إلى ما أفاده شيخنا الأعظم حول أخبار الوقوف والاحتياط من عدم استفادة أكثر من الاستحباب من بعضها ، ولزوم حمل الأمر في بعضها الآخر على الطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب ، أو الحمل على الإرشاد كما سيأتي بيانه.

أما ما لا يستفاد منه أكثر من الاستحباب ، فمثل قوله عليه‌السلام في مرفوعة أبي شعيب : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» (١) وقوله عليه‌السلام : «لا ورع

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ١١٨ الحديث ٢٤.

٣٣٤

لو سلم (١) وان كان واردا على حكم العقل ، فانه (٢) كفى بيانا على

______________________________________________________

كالوقوف عند الشبهة» (١) وقوله عليه‌السلام : «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك» (٢) ونحوها.

وأما ما لا بد من حمله على الطلب الجامع ، فمثل قوله عليه‌السلام : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٣) وقوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (٤) ونحوهما ، فان حمل هذه على الوجوب مستلزم لارتكاب التخصيص بإخراج الشبهات الوجوبية والموضوعية عنها ، لاعتراف المحدثين بعدم وجوب الاحتياط فيها ، مع أن سياقها آب عن التخصيص ، وحملُها على الاستحباب مستلزم لإخراج موارد وجوب الاحتياط مما تنجز فيه التكليف ودار المكلف به بين أطراف محصورة. وعليه فيتعين إرادة مطلق الرجحان المانع من النقيض في بعض الموارد وغير المانع عنه في بعضها الآخر هذا. ولكن مع الغض عما تقدم والبناء على الأخذ بظواهر أوامر الاحتياط في الوجوب المولوي يكون ما دلّ على وجوبه واردا على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ورافعا لموضوعه ، لوجود البيان الظاهري المصحح للعقوبة على مخالفته.

(١) يعني : لو سلم دلالتها على الوجوب ولم يناقش فيها بدعوى وجود قرائن تدل على أن الأمر فيها للاستحباب أو الإرشاد كما سيأتي بيانه.

(٢) تعليل للورود على حكم العقل ، يعني : فان ما دلّ على وجوب الاحتياط

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١١٧ ، الحديث : ٢٠

(٢) الوسائل ج ١٨ ص ١١٨ ، الحديث ٢٢.

(٣) الوسائل ج ١٨ ص ١١٥ ، الحديث ١٣.

(٤) الوسائل ج ١٨ ص ١٢٣ ، الحديث ٤١.

٣٣٥

العقوبة على مخالفة التكليف المجهول.

ولا يصغى إلى ما قيل (١) : من «أن إيجاب الاحتياط ان كان

______________________________________________________

كاف في البيانية على التكليف المحتمل ، لتنجزه به.

(١) هذا هو الجواب الثاني عن أخبار التوقف والاحتياط ، والقائل هو شيخنا الأعظم ، وقد أفاده في الجواب عن خصوص أخبار الوقوف ، فانه (قده) بعد أن أجاب عن تلك الاخبار ـ بحمل الأمر على الطلب المشترك بين الوجوب والندب ـ أورد على نفسه إشكالا حاصله استكشاف وجوب الاحتياط شرعا ، وسيأتي توضيحه عند تعرض المصنف له ، ثم أجاب عنه بقوله : «قلت : إيجاب الاحتياط ان كان مقدمة للتحرز عن العقاب الواقعي ، فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول ، وهو قبيح كما اعترف به. وان كان حكما ظاهريا نفسيا فالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته لا مخالفة الواقع ، وصريح الاخبار إرادة الهلكة الموجودة على تقدير الحرمة الواقعية».

وتوضيحه : أن إيجاب الاحتياط شرعا ان كان لأجل التحرز عن العقاب على الحكم الواقعي المجهول كان معنى ذلك ثبوت العقاب على الواقع المجهول في صورة مخالفة الاحتياط. والوجه فيه واضح ، فان إيجاب الاحتياط لا يرفع الجهل بالواقع ، بل هو باق بعد إيجابه ، فيكون العقاب عليه قبيحا ، ضرورة أن المناط في قبح العقاب هو الجهل بالواقع ، وهو بعدُ باق ولم يرتفع بإيجاب الاحتياط ، فيكون العقاب عليه عقابا على المجهول ، وهو قبيح عقلا كما اعترف به المستشكل نفسه.

وان كان إيجاب الاحتياط نفسيا ، لوجود ملاك في نفس الاحتراز عن الشبهة ومع الغض عن الحكم الواقعي المجهول ، فاللازم ترتب العقاب على مخالفته لا مخالفة الواقع ، وهذا المعنى وان كان صحيحا في نفسه ، إلّا أنه غير مقصود

٣٣٦

مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول ، فهو قبيح (١). وان كان نفسيا فالعقاب على مخالفته الواقع (٢) لا على مخالفة الواقع (٣) وذلك (٤) لما عرفت

______________________________________________________

للمحدثين ، حث انهم التزموا بدلالة أخبار التوقف والاحتياط في الشبهات لأجل الاحتراز عن الهلكة المحتملة المترتبة على الاقتحام في الشبهات ، لا لأجل الاحتراز عن مخالفة الاحتياط. وهذا البيان ظاهر في عدم مطلوبية الاحتياط في نفسه ، بل الغرض منه التحفظ على الأحكام الواقعية.

والحاصل : أنه ـ مع بطلان كل من الاحتمالين في استفادة وجوب الاحتياط شرعا من الاخبار المتقدمة ـ لا محيص عن حملها على الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الاجتناب عن الضرر المحتمل ، ومن المعلوم أنه مع قصور المقتضي فيها ـ وهو الأمر بالتوقف والاحتياط ـ عن إفادة الوجوب المولوي لا تصل النوبة إلى معارضتها مع أدلة البراءة الظاهرة في الترخيص في مشتبه الحكم ، هذا غاية توضيح كلام شيخنا الأعظم وسيأتي بيان مناقشة المصنف فيه.

(١) إذ لا يرتفع بإيجاب الاحتياط شرعا ما هو مناط قبح العقاب على الحكم الواقعي المجهول وهو الجهل به كحرمة شرب التتن ، فالعقاب عليه عقاب بلا بيان ، وضمير «فهو» راجع إلى ترتب العقاب على المجهول المستفاد من سياق الكلام.

(٢) لكونه حينئذ ذا مصلحة في نفسه مع الغض عن الواقع مثل حصول ملكة التقوي له ، كما ربما يستفاد ذلك من مثل قوله عليه‌السلام : «فهو لما استبان له من الإثم أترك» وضمير «مخالفته» راجع إلى «إيجاب الاحتياط».

(٣) مع أن مقصود المحدثين ـ كما عرفت ـ كون مخالفة الاحتياط موجبة للوقوع في الهلكة من ناحية التكليف المحتمل ، لا على مخالفة نفس الاحتياط بما هو.

(٤) تعليل لقوله : «ولا يصغى» يعني : أن وجه عدم الإصغاء إلى ما قيل ما عرفت

٣٣٧

من أن إيجابه يكون طريقيا (١) (*)

______________________________________________________

من أن إيجابه ... إلخ ، فهو رد لجواب الشيخ الأعظم (قده) عما أورده على نفسه من الإشكال المتقدم ، وقد تقدم توضيح الإشكال مع جوابه ، توضيح هذا الرد : أن الأمر المولوي بالاحتياط ـ على فرض تسليم وجوبه شرعا ـ لا ينحصر في القسمين الباطلين أعني النفسيّ والمقدمي ليبطل وجوب الاحتياط ، وتجري أدلة البراءة بلا معارض ، بل هناك قسم آخر منه ـ كما صرح به المصنف في حاشية الرسائل وسيأتي نقل عبارته ـ وهو الوجوب الطريقي بمعنى إيجاب الاحتياط بداعي تنجيز الحكم الواقعي المجهول ، كسائر الوجوبات التي تضمنتها أدلة الطرق والأمارات والأصول ، فالغرض من إنشاء وجوب الاحتياط حينئذ إقامة الحجة على التكليف الواقعي المجهول بحيث توجب تنجزه وحفظه حال الجهل به ، لاهتمام الشارع بمصلحته ، وحينئذ فإذا خالفه واتفق مصادفته للواقع استحق العقوبة على ذلك ، لصدق العصيان عليه بعد تنجزه على المكلف بإيجاب الاحتياط ، فالعقاب حينئذ على الواقع المجهول عقاب مع البيان ، غاية الأمر أنه بيان تعبدي لا وجداني ، كاستحقاق المؤاخذة على مخالفة الأحكام الواقعية التي تتنجز بالطرق المعتبرة كخبر الثقة. وعليه ، فمقتضى ما عرفت ورود أدلة إيجاب الاحتياط على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لصلاحيتها للبيانية. فلا بد لإبطال إيجابه من التماس وجه آخر كما سيأتي.

(١) وقد أوضح الإيجاب الطريقي في حاشية الرسائل بقوله : «الأمر بالاحتياط يكون طورا آخر من الأوامر المولوية غير النفسيّ والغيري ، ويكون من قبيل الأمر بالطرق والأمارات وبعض الأصول كالاستصحاب ، فكما يكون الطريق

__________________

(*) هكذا أورد على كلام الشيخ الأعظم (قده) في حاشية الرسائل أيضا

٣٣٨

وهو (١) عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة ،

______________________________________________________

أو الأصل المأمور بسلوكهما يوجب تنجز التكليف غير المعلوم في موردهما لو كان ، مع أن الأمر بسلوكهما ليس بنفسي ولا بغيري ، كذلك الأمر بالاحتياط فهل يحكم العقل الحاكم بقبح العقاب بلا بيان بقبح العقاب مع إيجاب الاحتياط كما يحكم به بدونه؟ حاشا ثم حاشا».

(١) هذا الضمير وضميرا «إيجابه ، به» راجعة إلى الإيجاب الطريقي.

__________________

وأضاف هناك الاستشهاد بموارد ثلاثة من عبارات الرسائل تدل بالالتزام على أن الأمر بالاحتياط طريقي أيضا عند الشيخ ، فكان الأولى جعل احتمال الأمر الطريقي أحد الاحتمالات في الجواب عن الإشكال ، وعدم دوران الأمر به بين النفسيّ والغيري ، فراجع الحاشية.

وكيف كان ، ففي تصوير الأمر الطريقي بالاحتياط إشكال ، وقد جزم بعض المدققين (قده) بالمنع عنه وإثبات الوجوب النفسيّ له ، ولا بأس بالتعرض له.

أما المنع عن وجوبه الطريقي ، فلما أفاده بقوله : «لكنك قد عرفت في مبحث جعل الطريق : أن الإنشاء بهذا الداعي لا يخلو عن إشكال هو : أن الإنشاء بأيّ داع كان هو مصداق ذلك الداعي بالإضافة إلى ما يرد عليه مفاد الهيئة ، فالإنشاء بداعي البعث إلى الصلاة مصداق حقيقة للبعث نحو الصلاة ، وبداعي الامتحان مصداق للامتحان بالمادة التي تعلقت به الهيئة ، وهكذا ، ومن الواضح أن القابل للتنجز هو التكليف وللتنجيز هو الخبر أو أمارة أخرى أو اليقين السابق في الاستصحاب أو احتمال التكليف في باب الاحتياط ، وما تعلق به مفاد الهيئة الموصوف بأنه تنجزي نفس مادة الاحتياط ، فما هو قابل لتعلق البعث الإنشائي به غير قابل للتنجز ولا للتنجيز ، وما هو قابل للمنجزية والمتنجزية وهو الاحتمال والتكليف غير

٣٣٩

كما هو (١) الحال في أوامر الطرق والأمارات

______________________________________________________

(١) أي : كما يصح الاحتجاج من المولى على عبده على مخالفة الواقع بسبب الأمر بسلوك الطرق والأصول المثبتة ، ولا يقبح المؤاخذة عليها ، فكذا

__________________

قابل لتعلق البعث الإنشائي به ، فالإيجاب بداعي تنجيز التكليف الواقعي في جميع الموارد غير معقول» (١)

وأما إثبات وجوبه المولوي النفسيّ ، فلما أفاده بقوله : «فلا مناص من جعل الأمر بالاحتياط هنا وجعل الأمر بتصديق العادل في الاخبار لمن يريد تنجيز الواقع بهما من جعلهما نفسيين لا بمعنى كون الاحتياط بما هو ، أو التصديق بما هو مطلوبا في حد ذاته ، بل بنحو المعرفية للواجب الواقعي ، فالغرض المترتب من فعل صلاة الجمعة يدعو إلى إيجاب صلاة الجمعة بعنوانها ، ومع عدم وصوله بعنوانها إلى المكلف يدعو ذلك الغرض إلى إيجابها بعنوان آخر كعنوان تصديق العادل أو عنوان الاحتياط ، فلا إيجاب حقيقي إلّا الإيجاب بالعنوان الواصل بلسان أنه الواقع ، فوصوله حقيقة وصول الواقع عرضا وتنجز الواقع عرضا وهو إنشاء بداعي جعل الداعي منبعثا عن ذلك الغرض الواقعي الباعث على الإيجاب الواقعي ، ولذا يكون مقصورا على صورة موافقة الخبر ومصادفة الاحتمال ، وعليه فظهور الأمر بالاحتياط في معناه الحقيقي وهو الإنشاء بداعي جعل الداعي محفوظ ، ولا تصل النوبة إلى الإرشاد إلّا مع القرينة ، ولا قرينة عليه في خصوص أخبار الاحتياط ...» (٢) ومحصله : أن موضوع الحكم الشرعي يؤخذ تارة بما هو مطلوب نفسي

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ص ١٧٩.

(٢) المصدر ، ص ١٩٨ ، وله كلام آخر بمعناه صلى‌الله‌عليه‌وآله ١٧٩.

٣٤٠