منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

«للاخبار الكثيرة في ذلك ، مثل قوله عليه‌السلام : كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» ولكن الروايات الواردة بهذا المضمون في جوامع الاخبار تغاير ما نقله الشيخ والمصنف قدس‌سرهما.

فمنها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١) وقريب منها سائر روايات الباب.

نعم احتمل شيخنا المحقق العراقي : أن ما ذكره الشيخ هو مضمون رواية عبد الله بن سليمان عن الصادق عليه‌السلام : «كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة» (٢).

وكيف كان ، فتقريب الاستدلال بما في المتن على البراءة أن يقال : ان قوله عليه‌السلام : «حتى تعرف» قيد للموضوع ـ وهو شيء ـ ومعناه : أن كل شيء مشكوك الحل والحرمة حلال ، سواء كان منشأ الشك فقد النص أم إجماله أم تعارضه أم اشتباه الأمور الخارجية ، وعليه فشرب التتن المشكوك حكمه من حيث الحل والحرمة حلال ، وكذا شرب المائع المردد بين الخل والخمر.

هذا بيان إجمالي للاستدلال بهذا الحديث على البراءة ، ولمّا كان ظاهره بقرينة قوله : «بعينه» ـ الّذي هو قيد احترازي عن معرفة الحرام لا بعينه ـ اختصاصه بالشبهات الموضوعية أي التي كان الجهل بحرمتها ناشئا من الجهل بعناوينها مع العلم بأصل الحرمة ، وأن الإمام عليه‌السلام بصدد بيان حكم الحرام الّذي علم حرمته ، لكنه لم يعلم هو معيّنا ، لا بيان حكم نفس الحرمة إذا كانت مشكوكة ، فلا يشمل

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ٥٩ ، الحديث : ١ ، وفي الفقيه إضافة «يكون» قبل «فيه».

(٢) الوسائل ، ج ١٧ ، باب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث : ٢.

٢٤١

أنه حرام بعينه» (*) حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا

______________________________________________________

الحديث الشبهات الحكمية ، إذ الشك في حرمة شرب التتن مثلا ليس من أفراد الشك في الحرمة بعينها ، وانما هو شك في أصل الحرمة.

كما أن ظاهر الحديث أيضا بقرينة قوله : «حتى تعرف الحرام» اختصاصه بالشبهات التحريمية ، وأن الحكم بحلية الشيء مختص بما إذا تردد حكمه بين الحرمة وغير الوجوب ، فلا يشمل الشبهات الوجوبية يعني ما إذا تردد حكمه بين الوجوب وغير الحرمة.

وبالجملة : فلمّا كان ظاهر الحديث اختصاصه بالشبهات الموضوعية التحريمية تصدى المصنف لتعميمه أوّلا للشبهات الحكمية التحريمية ثم للشبهات الوجوبية.

أما التعميم الأول فهو الّذي أشار إليه بقوله : «مطلقا ولو كان ... إلخ» وتوضيحه : أن الحديث يدل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا يعني سواء كان عدم العلم بحرمته ناشئا من عدم العلم بعنوانه وأنه من أفراد المحلل ، أو من أفراد المحرم مع العلم بأصل الحرمة كالمائع المردد بين الخل والخمر مع العلم بأصل حرمة الخمر ، أم ناشئا من عدم الدليل على الحرمة أم من تعارض ما دل على حرمته مع ما دل على حليته أم غير ذلك ، ويجمع الكل عدم العلم بالحرمة مهما كان منشؤه.

ولعل المصنف (قده) اقتبس هذا التعميم من كلام السيد الصدر (قده) في شرح الوافية ، حيث قال ـ فيما حكى عنه الشيخ الأعظم ـ «فصار الحاصل : أن ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما فهو حلال» هذا وأما التعميم الثاني فسيأتي.

__________________

(*) الاستدلال بهذا الحديث لإثبات الإباحة الشرعية الظاهرية منوط بأمور :

٢٤٢

ولو كان (١) من جهة عدم الدليل على حرمته ،

______________________________________________________

(١) بيان للإطلاق ، يعني : ولو كان عدم العلم بحرمته من جهة عدم الدليل عليها ، وهذا هو التعميم الأول ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : أما التعميم الأول فهو الّذي ... إلخ.

__________________

الأول : ترادف لفظي «الحلال والمباح» وذلك غير ثابت ، لشيوع استعمال الحلال فيما يقابل الحرام من الأحكام الثلاثة ، فيراد بالحلال حينئذ معناه اللغوي وهو الإرسال وعدم المنع من ارتكابه سواء كان مباحا بالمعنى الأخص كما هو المقصود هنا أم مستحبا أم مكروها ، فإرادة الإباحة بمعناها الأخص من لفظ الحلال موقوفة على قرينة وهي مفقودة.

الثاني : شمول الحديث للشبهة الحكمية والموضوعية معا ، وهو أيضا غير ثابت ، بل الثابت خلافه ، لاختصاص هذا المضمون في الروايات بالشبهة الموضوعية وعدم الظفر في جوامع الأحاديث برواية مطلقة دالة على حلية كل شيء مشكوك الحل والحرمة بدون التطبيق على الشبهة الموضوعية كما اعترف به بعض الأعاظم (قده) وان كان ظاهر كلام الشيخ الأعظم في أول المسألة الرابعة في الشبهة الموضوعية التحريمية وصريحه في الاستدلال على البراءة بالأخبار وجود الرواية المزبورة مجردة عن التطبيق المذكور ، والمصنف (قده) نقلها أيضا كذلك. لكنها على فرض وجودها من الشواذ التي لا يمكن الاستناد إليها.

الثالث : أن الإباحة الشرعية الظاهرية من الحكم الظاهري الّذي تقدم في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري امتناع الالتزام به.

وعليه فالمراد بالحلال هو ما لا منع من ارتكابه ، لعدم تنجز الحكم الواقعي المجهول ، فالعقل بمقتضى حكمه بقبح العقاب بلا بيان يرخصه في الارتكاب.

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أن دلالة الحديث على الإباحة الشرعية الظاهرية منوطة بالالتزام بالحكم الظاهري الّذي قد مرّ حاله سابقا.

ثم ان ما في المتن يحتمل أن يكون صدر رواية مسعدة بناء على النسخة الخالية عن ضمير الفصل ، ولكنه بقرينة ما في ذيله من الأمثلة المذكورة مختص بالشبهة الموضوعية كسائر روايات الباب ، لأن قوله عليه‌السلام : «وذلك مثل الثوب» كالصريح في تطبيق الصدر عليها ، بل يمكن منع صلاحيته لإثبات قاعدة الحل حتى في الشبهات الموضوعية أيضا ، لأجنبية الأمثلة عن قاعدة الحل الموجبة لإجمال الصدر كما هو واضح ، وعليه فالإشكال في هذه الرواية من جهتين : إحداهما من ناحية عدم التوفيق بين الصدر والأمثلة ، والأخرى من جهة وجود قرائن وجب اختصاص الصدر بالشبهة الموضوعية ، فينبغي التكلم هنا في مقامين :

الأول : في التوفيق بين الصدر وما في الذيل من الأمثلة ، وقد ذكروا له وجوها :

الأول : ما أفاده المصنف (قده) في حاشية الرسائل بقوله : «لكن يمكن أن يقال : انه ليس ذكرها للمثال ، بل انما ذكرت تنظيرا لتقريب أصالة الإباحة في الأذهان ، وأنها ليست بعادمة النظير في الشريعة المقدسة ، فقد حكم بملكية الثوب والعبد مع الشك فيها بمجرد اليد ، وبصحة العقد على الامرأة التي شك أنها من المحارم بالنسب والرضاع بمجرد أصالة عدمهما» وهذا التوجيه وان كان مبيِّنا للصدر ورافعا لإجماله ومصحِّحا للاستدلال بعمومه حينئذ للشبهة الحكمية أيضا ، لكن أصل هذا الحمل لا قرينة عليه ، لأن قوله عليه‌السلام : «وذلك مثل الثوب» كالصريح في تطبيق الصدر على الذيل وجعله من مصاديق قاعدة

٢٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحل.

وبالجملة : ظهور الحديث في صغروية الأمثلة المذكورة في ذيله لقاعدة الحل مما لا ينكر.

لكن يشكل أيضا كونها أمثلة لها بأنها وان كانت من الشبهات الموضوعية لكن الأصل الجاري فيها ليس هو أصالة الحل كما هو ظاهر ، فلا بد من الالتزام اما بإجمال الحديث واما بكون المستفاد منه قاعدة اليد كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

إلّا أن يقال : ان نفس حكومة الأصول الجارية في الأمثلة على أصالة الحل قرينة على عدم تطبيق قاعدة الحل على الأمثلة ، وعليه فتوجيه المصنف (قده) في حاشية الرسائل وجيه ، ولا يعارضه ظهور قوله عليه‌السلام : «وذلك» في تطبيق الصدر على الذيل ، لأقوائية ظهور الذيل منه ، وعليه يكون الصدر في مقام ضرب قاعدة كلية في جميع الشبهات من الموضوعية والحكمية ، فالاستدلال به على البراءة في كلتا الشبهتين في محله. إلّا أن يستشكل في عمومه للشبهة الحكمية بكلمة «بعينه» الظاهرة في اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية ، فتدبر.

الثاني : ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) من «أن التنافي بين الصدر والأمثلة انما هو مع البناء على كون الصدر إنشاء للحلية في الأمثلة المزبورة ، وأما بناء على كونه حاكيا عن إنشاءات الحلية في الموارد المزبورة بعنوانات مختلفة من نحو اليد والسوق والاستصحاب ونحوها من العناوين التي منها عنوان مشكوك الحل والحرمة فلا يرد إشكال ، إذ المقصود حينئذ بيان عدم الاعتناء بالشك في الحرمة في هذه الموارد لمكان جعل الحلية الظاهرية فيها

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بعنوانات مختلفة ، غير أنه جمع الكل ببيان واحد» (١).

ويرد عليه ـ مضافا إلى أن شأن الشارع إنشاء الأحكام وتشريعها وان كان بلسان الاخبار لا الاخبار والحكاية عنها ـ أن لازمه خلوّ الحديث عن مورد يثبت له الحل بعنوان كونه مشكوك الحل والحرمة. توضيحه : أنه بناء على ما أفاده (قده) من كون الصدر حاكيا عن الحلية الثابتة في الموارد المتعددة بعناوين مختلفة كاليد والسوق والاستصحاب والمشكوك بما هو مشكوك يلزم أن لا يذكر الإمام عليه‌السلام موردا لقاعدة الحل ، ضرورة أن مستند الحل في الأمثلة المذكورة إما قاعدة اليد وإما الإقرار وإما الاستصحاب ، وليس الحل في شيء منها مستندا إلى قاعدة الحل ، بأن يكون الحل ثابتا فيه بعنوان مشكوك الحل والحرمة ، ومع عدم ذكر مثال لها في تلك الأمثلة كيف يصح حمل الصدر على الحكاية عن الحلية المترتبة على العناوين المختلفة التي منها مشكوك الحكم؟ إذ يلزم حينئذ خلوّ الحديث عن مورد لحلية المشكوك بما هو مشكوك الحكم ، مع أن الصدر متكفل للحلية بهذا العنوان.

وبالجملة : فحمل صدر الرواية على الاخبار والحكاية بلا موجب.

نعم يمكن أن يقال : ان الرواية في مقام إنشاء الحل لكل شيء لم يعلم حرمته سواء كان عدم العلم موضوعا للحكم بالحلية ، أم موردا له بأن لوحظ عدم العلم حاكيا عما يكون موضوعا وموردا له ، وحينئذ ينطبق الصدر على جميع الأمثلة التي تجري قاعدة اليد في بعضها ، والاستصحاب في الآخر ، وغيرهما في سائرها ، فالمشار إليه في قوله : «وذلك» هو الحل المجعول للشيء الّذي

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ص ٢٤٣.

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لم يعلم حرمته ، هذا. لكن يبقى الإشكال في عدم ذكر مثال لقاعدة الحل على حاله ، مضافا إلى الإشكال في جعل الشك موضوعا وموردا بلحاظ واحد ، كما لا يخفى.

الثالث : ما أفاده الفقيه الهمداني (قده) في حاشيته على الرسائل من أن : «غرضه عليه‌السلام : بيان أن الموضوعات التي يبتلي بها المكلف جميعها من المشتبهات التي لا يعلم واقعها ، ومع ذلك لا ينبغي الاعتناء بالشك في شيء منها ما لم يعلم كونه حراما بطريق علمي أو ما يقوم مقامه من بينة ونحوها ، فهذه الأمثلة بملاحظة كونها موردا لقاعدة اليد وأصالة الصحة تندرج في موضوع هذه القاعدة الكلية التي بيّنها الإمام عليه‌السلام ، وهي عدم الاعتناء بالشك في الحرمة ما لم تثبت ، وعند الإغماض عن هذين الأصلين تكون هذه الموارد مما قام على حرمتها ما هو مثل البينة وهو الأصول الموضوعية الثابت اعتبارها بالأدلة الشرعية ، فلاحظ وتدبر» (١)

ولكنه كسابقيه لا يخلو من مناقشة ، إذ الصدر وان كان إنشاء لا اخبارا ، ولكن استفادة تشريع قاعدة الحل بهذه الكلية التي أفادها ممنوعة ، ضرورة أن الحلية قد شرعت في مثال الثوب باليد وفي العبد بالإقرار أو يد سيده الأول ، وفي سائر الأمثلة بأمور أجنبية عن قاعدة الحل كالاستصحاب ، وعدم كون اعتبار الاستصحاب واليد مستندا إلى هذه الكلية ، بل إلى ما دل عليها بالخصوص.

مضافا إلى امتناع استفادة القاعدة الكلية من الصدر من جهة أخرى أشرنا إليها آنفا ، وهي امتناع الإهمال في مقام الثبوت والجعل ، فان الشك يلاحظ

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٦٨. ١.

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

موضوعا في أصالة الحل وموردا في قاعدتي اليد والإقرار ، ولا جامع بين اللحاظين. كما أن الشك في الاستصحاب وان كان موجودا وجدانا ، لكنه معدوم تعبدا ، لأن مفاد مثل «لا تنقض» كما سيجيء إن شاء الله تعالى في محله هو البناء العملي على المتيقن السابق وإلغاء الشك تعبدا ، ومن المعلوم أن الحكم على الشك بمعنى اعتبار بقائه حال الحكم عليه كما في غير الاستصحاب من الأصول مغاير لاعتبار عدمه حاله كما في الاستصحاب ، إذ لا جامع بين اعتبار البقاء والعدم ، فتدبر.

ويحتمل أن يكون الصدر دليلا على اعتبار قاعدة اليد ، بتقريب : أن قوله عليه‌السلام : «لك» ظرف مستقر صفة للشيء ، و «حلال» خبر «كل شيء» والمعنى : أن كل شيء يكون تحت يدك واستيلائك فهو حلال ما لم ينكشف الخلاف علما أو تعبدا ، فالاستيلاء سبب محلّل ، ولذا يحكم بإباحة تصرف مالك الدار فيما وجده فيها مع عدم علمه بكونه من أمواله. ويشهد لهذا بعض الأمثلة المذكورة في الرواية. والنسخة المشتملة على ضمير الفصل ـ أي «هو لك» ـ أظهر فيما ادعيناه. ولكن عويصة التطبيق تمنع عن الالتزام به ، إذ لا ربط لبعض الأمثلة المحكوم عليه بالحل بقاعدة اليد ، وتوجب إجمال الصدر ، فما في رسائل شيخنا الأعظم (قده) من صلاحية الصدر والذيل لإثبات قاعدة الحل مع اعترافه بعدم ارتباط الأمثلة بها لا يخلو من خفاء ، إذ مع جعل الأمثلة تطبيقا للصدر ـ لا تنظيرا له كما ذهب إليه المصنف ـ فلا محالة يسقط عن الظهور ، فلاحظ.

ولعل ما تقدم من توجيه المصنف أظهر ، حيث جعل الصدر مستقلا لبيان قاعدة

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحل ، والأمثلة غير موجبة لإجماله ، لأنها حينئذ نظائره لا أمثلته ، إذ المفروض عدم تطبيق الصدر عليها ، وقد تقدم ما يؤيد ذلك بل يدل عليه ، فلاحظ.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني : في وجود قرائن على اختصاص مفاد الصدر بالشبهة الموضوعية لو سلم ظهوره في إثبات الحلية الظاهرية للمشكوك :

أولاها : قوله عليه‌السلام : «بعينه» وحمله على كونه تأكيدا للمعرفة والعلم كما لعله ظاهر الرسائل خلاف الظاهر ، والعجب من المنصف (قده) أنه مع إنكاره لهذا الحمل في فوائده (١) وجعل كلمة «بعينه» حالا من ضمير «انه» الراجع إلى الشيء ليكون من قيود الموضوع وموجبا لقوة ظهور الحديث في خصوص الشبهة الموضوعية استدل به في المتن على أصالة الحل في كلتا الشبهتين.

ثانيتها : ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) من «أن القدر المتيقن في مقام التخاطب هو الشبهة الموضوعية ، ومعه لا يبقى عموم لقوله عليه‌السلام : كل شيء لك حلال للشبهة الحكمية» وهذا متين. ولا يرد عليه ما يدعى من اختصاص ذلك بما إذا كان العموم إطلاقيا ، والمفروض أن دلالة «كل» على العموم وضعية ، فعموم الحديث باق على حاله بلا إشكال. وذلك لأن القدر المتيقن لو كان كالقرينة الحافة بالكلام بحيث يصح للمتكلم الاعتماد عليه في بيان مرامه كان صالحا لتقييد المطلق وتخصيص العام من دون فرق في ذلك بين كون الشمول وضعيا وإطلاقيا ، فلو قال : «قلِّد الفقهاء» مثلا وكان المتيقن ممن يجب تقليده هو خصوص عدولهم صح الاعتماد عليه في تخصيصهم بالعدول.

__________________

(١) المطبوعة مع حاشية الرسائل ص ٣١٦.

٢٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ثالثها : أن قوله عليه‌السلام : «أو تقوم به البينة» قرينة على اختصاص القاعدة بالشبهة الموضوعية ، إذ لا يعتبر في رفع اليد عن أصالة الحل في الشبهة الحكمية قيام البينة أو حصول العلم بالحكم ، بل يكفي قيام الحجة عليه مهما كانت. والمناقشة فيه بما في تقريرات بعض الأعاظم مد ظله من «أن البينة ليست بمعناها المصطلح بل بمعناها اللغوي وهو ما يتبين به الشيء ، فيكون المراد منها مطلق الدليل كما هو المقصود من قوله تعالى : أو لو كنت على بينة من ربي ، فلا قرينية لقوله عليه‌السلام : أو تقوم به البينة على إرادة خصوص الشبهات الموضوعية ، إذ المراد حينئذ : أن الأشياء كلها على الإباحة حتى تستبين أي تتفحص وتستكشف أنت حرمتها ، أو تظهر حرمتها بقيام دليل من الخارج بلا تفحص واستكشاف ، ولا يلزم تخصيص في الموثقة على هذا المعنى ، لأن البينة المصطلحة والإقرار وحكم الحاكم والاستصحاب وغيرها من الأدلة كلها داخلة في البينة بهذا المعنى» (١) مندفعة أوّلا : بأن ما أفيد من «حصول العلم تارة بالتفحص والاستكشاف وأخرى بقيام دليل من الخارج» مبني على كون «تستبين» بصيغة الخطاب ، ولم نظفر عليه بعد المراجعة إلى مصادر الحديث كالكافي والتهذيب والوافي والوسائل (٢) فالظاهر أنه بصيغة الغائب كما هو المعروف ، فيكون المراد بالغاية حصول العلم بأي سبب كان أو قيام البينة.

وثانيا : بأنه ان أريد بالبينة معناها اللغوي ـ وهو ما يبين الشيء ـ لزم

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٢٧٤.

(٢) الكافي ، ج ٥ ص ٣١٣ ، التهذيب ، ج ٧ ص ٢٢٦ ، الوافي ج ٣ ، ص ١٤. الوسائل ، ج ١٢ ص ٦٠ ، والكل متفق على ما هو الموجود في الوسائل.

٢٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

اتحاد المعطوف والمعطوف عليه ، وكون غاية الحل شيئا واحدا وهو العلم ، لأن مقتضى اشتراك «البينة» و «يستبين» مادة هو اعتبار انكشاف الواقع في في البينة بالعلم ، فكأنه قيل : الأشياء على هذا حتى يعلم غير هذا أو يقوم به العلم ، ومن المعلوم لغويته ومنافاته لما يقتضيه العطف من المغايرة ، وأجنبية العطف التفسيري عن المقام أيضا ، لوضوح أظهرية «يستبين» من «البينة» فصون كلام الحكيم عن اللغوية ، وظهور العطف في المغايرة خصوصا مع كون العاطف كلمة (أو) يقتضيان رفع اليد عن معناها اللغوي ، وحملها امّا على مطلق الدليل كما في التقرير المزبور ، وإما على معناها المصطلح عليه وهو شهادة رجلين عدلين ، ولو لم يكن هذا أظهر من الأول فلا أقل من مساواته له ، وهي توجب إجمال الذيل ، فلا ينعقد للصدر عموم حتى يستدل به على قاعدة الحل في كلتا الشبهتين ، بل المتيقن حينئذ هو الشبهات الموضوعية.

لكن الحق عدم وصول النوبة إلى الإجمال ، لأن الظاهر من لفظ «البينة» هو شهادة رجلين عدلين بحيث تتبادر منها عند الإطلاق كما يدل عليه النصوص الواردة في باب الإشهاد على الطلاق والنكاح والحدود

فمنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قال : «جاء رجل إلى عليّ عليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين اني طلقت امر أتي ، قال عليه‌السلام : ألك بينة؟ قال : لا ، قال : اغرب» (١) فان أمره عليه‌السلام بالبعد عنه الدال على عدم وقوع الطلاق بدون البينة وعدم سؤال الرّجل عن معنى البينة يدل على وضوح معناها عند الرّجل. وقد حكى محمد بن مسلم فعل

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ، الباب ١٠ من أبواب مقدمات الطلاق ، الحديث ١ ، ٧ و ١٣.

٢٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أمير المؤمنين عليه‌السلام بدون اسناده إلى المعصوم عليه‌السلام في حديث آخر ، وفيه : «فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أشهدت رجلين ذوي عدل كما أمرك الله ، فقال : لا فقال : اذهب فان طلاقك ليس بشيء».

ومنها : رواية العياشي في تفسيره عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان عمر بن رياح زعم أنك قلت : لإطلاق إلّا ببينة ، فقال : ما أنا قلته بل الله تبارك وتعالى يقوله».

ومنها : ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «انما جعلت البينة في النكاح من أجل المواريث» (١) ونحوها روايات أخرى من نفس الباب.

ودلالة هذه الروايات خصوصا الصحيحة ورواية العياشي على أن المراد بالبينة والمرتكز منها في الأذهان في عهد صدور الروايات هو خصوص شهادة العدلين مما لا ريب فيها ، وليست هذه الدلالة مستندة إلى قرينة ، وذلك لوضوح عدمها.

ولا ينافي هذا الانصراف إطلاق البينة على الشهود الأربعة في حد الزنا ، مثل ما ورد في خبر الحسين بن خالد عن أبي الحسن عليه‌السلام في ردّ المرجوم الهارب من الحفيرة ، قال عليه‌السلام : «ان كان هو المقرّ على نفسه ثم هرب من الحفيرة بعد ما يصيبه شيء من الحجارة لم يرد ، وان كان انما قامت عليه البينة وهو يجحد ثم هرب رُدّ وهو صاغر حتى يقام عليه الحد» (٢) حيث ان

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٤ ، الباب ٤٣ من أبواب مقدمات النكاح وآدابه الحديث ٦.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١٥ من أبواب حد الزنا ، الحديث ١.

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المراد بالبينة فيها هو شهادة العدلين بشرط انضمام شهادة عدلين آخرين ، لا أنها أطلقت على شهادة أربع بما أنها بعض أفرادها حتى ينافي ما ذكرناه من انصرافها في عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى خصوص شهادة العدلين. هذا لو لم نقل بكون اللام فيها للعهد ، وإلّا فلا حاجة إلى التوجيه المزبور ، إذ المراد بها هو البينة المعهودة على الزنا التي هي شهادة أربع رجال ، فلم يبق لها إطلاق من أول الأمر كي يوجه بما تقدم.

وبالجملة : فإرادة غير العدلين من البينة بسبب القرينة لا تنافي إطلاقها على العدلين بلا قرينة.

وأما الاستشهاد بالآية الشريفة على أنها بمعناها اللغوي ، فهو وان كان صحيحا في نفسه ، إذ البينة فيها بمعنى العلم ، لارتباطه بالأصول الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها حصول العلم ، فهي فيها بمعناها اللغوي ، ولكن المدعى أنها ليست في عهد صدور الروايات بهذا المعنى ، وقد عرفت ظهورها في خصوص المعنى المصطلح عليه.

رابعتها : ما أفاده بعض المدققين (قده) من اقتضاء التطبيق على الأمثلة لاختصاص الصدر بالشبهة الموضوعية ، وليس ذلك من تخصيص الوارد بالمورد ، بل التطبيق بنفسه قرينة على الاختصاص ، لكونه من القرينة المتصلة الحافة بالكلام المانعة من انعقاد ظهور للكلام في العموم.

وهو متين بعد الفراغ من حل معضلة التطبيق ، إذ المفروض عدم انطباق الصدر على شيء من الأمثلة كما عرفت في المقام الأول ، فلا انطباق للصدر على الأمثلة حتى تكون قرينة على الاختصاص.

٢٥٣

وبعدم (١) الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط

______________________________________________________

(١) متعلق بقوله : «يتم المطلوب» وهذا إشارة إلى التعميم الثاني للشبهات الوجوبية وتطبيقه عليها أيضا بعد ما كان ظاهرا في الشبهات التحريمية ، كما عرفت ، وقد أفاد هذا التعميم بوجهين هذا أولهما ، وحاصله : دعوى عدم الفصل بين الشبهات التحريمية والشبهات الوجوبية في الحكم ، ومعنى ذلك أن كل من قال بجريان البراءة وعدم وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية قال بجريانها وعدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية أيضا ، فبضميمة عدم الفصل المعبر عنه بالإجماع المركب أيضا إلى حديث الحل ـ الدال على البراءة في الشبهات التحريمية ـ يتم المطلوب ، وهو عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات ، وذلك لأن المحدثين انما قالوا بوجوب الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية ، دون الوجوبية ، لذهابهم إلى عدم وجوب الاحتياط فيها فإذا ثبت بأدلة البراءة عدم وجوبه في الشبهات التحريمية أيضا تم المطلوب ، وهو عدم وجوب الاحتياط في الشبهات مطلقا ، أما التحريمية فبأدلة البراءة ، وأما الوجوبية فباعتراف المحدثين أنفسهم به. واحتمال العكس ـ وهو وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية دون التحريمية ـ لا قائل به حتى نحتاج في إبطاله إلى إقامة الدليل أيضا.

وبالجملة : فحديث الحل بضميمة عدم الفصل كاف في إثبات عدم وجوب الاحتياط في الشبهات مطلقا.

__________________

نعم لو كان التطبيق في المقام صحيحا أمكن دعوى الاختصاص كما قيل في اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة دون مقدمات الاجزاء بقرينة تطبيق الإمام عليه‌السلام لها على الأجزاء المعنونة استقلالا كالتكبير والقراءة والركوع والسجود ، وعدم شمولها لمقدمات الأفعال كالهوي والنهوض.

٢٥٤

فيه (١) وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتم المطلوب (٢) (*). مع (٣) إمكان أن يقال : ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال ، تأمل (٤).

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمير «إباحته» راجعان إلى ما لم يعلم حرمته ، وقوله : «وعدم» عطف تفسير لـ «إباحته».

(٢) وهو عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات.

(٣) هذا هو الوجه الثاني ، وحاصله : إدراج الشبهة الوجوبية تحت مدلول الحديث من دون حاجة إلى دعوى عدم الفصل وتطبيقه عليها ، وتوضيحه : أن الشيء إذا كان فعله واجبا قطعا كان تركه حراما قطعا ، وإذا كان فعله محتمل الوجوب كان تركه محتمل الحرمة لا معلوم الحرمة كما قد يتوهم أنه مقتضى أدلة الاحتياط حتى يجب فعله كما هو قول بعض المحدثين ، وحينئذ فالشيء المحتمل الوجوب يكون تركه محتمل الحرمة يعني مرددا بين الحرمة وغير الوجوب ، فيدخل تحت حديث الحل ، وبهذه العناية يشمل الحديث الشبهة الوجوبية أيضا ، وبه يثبت حِل تركه ويتم المطلوب.

(٤) إشارة إلى ضعف الوجه الأخير ، لعدم وجود جامع بين الفعل والترك أوّلا ، وعدم انحلال كل حكم إلى حكمين ثانيا ، فان الفعل إذا كان واجبا لم يكن تركه حراما شرعا بحيث يكون وجوبه منحلا إلى حكمين ، لبطلان الانحلال.

__________________

(*) بل لا يتم المطلوب ، لوجود القول بالفصل ، حيث ان القائلين بالبراءة في الشبهة التحريمية ذهب جمع منهم إلى وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، لما حكاه شيخنا الأعظم في الشبهة الوجوبية عن المحقق في المعارج بقوله : «العمل بالاحتياط غير لازم وصار آخرون إلى لزومه وفصل آخرون» وقد مثل

٢٥٥

ومنها (١) : قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (*)

______________________________________________________

(٤ ـ حديث السعة)

(١) أي : ومن الروايات ، وقد استدل المصنف بهذا الحديث على البراءة مطلقا ، بتقريب : أنه يدل على السعة والترخيص من ناحية الحكم الواقعي المجهول ، سواء جعلنا «ما» موصولة أم ظرفية ، أما على الأول ، فلظهوره في التوسعة من قِبَل الحكم المجهول من الوجوب والحرمة ، والضمير العائد إلى الموصول محذوف ، والمعنى : «الناس في سعة الحكم الواقعي الّذي لا يعلمونه» فالضيق الناشئ من التكليف الواقعي المجهول ولو كان لأجل وجوب الاحتياط منفي ، فلو دلّ دليل على وجوب الاحتياط في التكليف الإلزامي المجهول كان هذا الحديث معارضا له ، فوزانه وزان حديث الرفع المتقدم في نفيه لإيجاب الاحتياط فيقع التعارض بينه وبين أدلة المحدثين على وجوب الاحتياط ، للتنافي بين ما ينفى الضيق حال الجهل وبين ما يثبته كذلك ، ولا تقدم لأدلته على هذا الحديث.

وأما على الثاني ـ أي جعل «ما» ظرفية ـ فدلالة الحديث ظاهرة أيضا ، لدلالته على أن المكلف في سعة ما دام جاهلا ، وحيث انه لا بد للسعة من متعلق فليس متعلقها الموسّع فيه الا الحكم الواقعي المجهول مطلقا سواء كان وجوبا

__________________

له بتطهير الإناء من ولوغ الكلب الّذي هو من قبيل الشبهة الوجوبية. كما أن كثيرا من المحدثين القائلين بالاحتياط في الشبهة التحريمية الناشئة من فقد النص ذهبوا إلى البراءة في الشبهة الوجوبية ، لما ذكره الشيخ الأعظم في أول الشبهة الوجوبية بقوله : «المعروف من الأخباريين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البراءة».

(*) الحديث بهذا المتن موافق لما في رسائل شيخنا الأعظم (قده) ولم

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أم حرمة ، فالمكلف في سعة منه ما دام لا يعلم به ، فإذا علم به خرج عن هذه السعة ، فالمأخوذ غاية لهذه السعة هو العلم بخصوص ذلك الحكم الواقعي المجهول الّذي كان في الجهل به سعة على المكلف ، إذ لا معنى لجعل العلم المطلق أو المهمل ـ أي العلم بشيء ما ـ غاية للسعة. وعليه فالحديث وان لم يذكر فيه ضمير لفظا ، لكنه مقدر قطعا راجع إلى ما يستفاد من الحديث ـ بدلالة الاقتضاء ـ من الحكم الواقعي المجهول الّذي جعل العلم به غاية للسعة.

هذا غاية توضيح ما أفاده المصنف من فقه الحديث بناء على جعل «ما» ظرفية. لكن مقتضى ما ذكر في المتن من لفظ الحديث سوق تفسيره هكذا : «فهم في سعة ما لا يعلمونه ، أو في سعة ما داموا لا يعلمون شيئا أي حكما من الوجوب أو الحرمة».

وكيف كان ، فالمتحصل من فقه الحديث تمامية الاستدلال به على البراءة في الشبهات الوجوبية والتحريمية ، لدلالته على السعة فيهما ما دام الشك باقيا مهما كان منشؤه ، ولا يرفع هذه السعة إلّا العلم بخصوص ذلك الحكم الواقعي المجهول الّذي جعل العلم به غاية للسعة ، وحينئذ فلو علمنا بوجوب الاحتياط لم يكن هذا العلم رافعا للسعة ، لعدم حصول العلم بنفس الحكم المجهول من مجرد العلم بإيجاب الاحتياط ، فيقع التعارض بين حديث السعة وأدلة الاحتياط ، لكنه يندفع بما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال شيخنا الأعظم : «فان كلمة ـ ما ـ اما موصول أضيف إليها السعة ، واما مصدرية ظرفية ، وعلى التقديرين يثبت المطلوب».

__________________

أقف على هذا النص بعد الفحص عنه في مظانه ، بل نقل في كتب الأصحاب بألفاظ أخرى ، ففي القوانين : «الناس في سعة مما لم يعلموا» وفي ثالثة مقدمات الحدائق : «الناس في سعة ما لم يعلموا» وهو محكي الضوابط والمناهج أيضا

٢٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والمروي في المستدرك (١) عن عوالي اللئالي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ظفرت عليه في كتب الحديث مما يقرب منه لفظا ويوافقه معنى هو رواية السفرة المروية أيضا بألفاظ ثلاثة ، ففي معتبرة السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «ان أمير المؤمنين عليه‌السلام : سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يقوّم ما فيها ثم يؤكل ، لأنه يفسد وليس له بقاء ، فان جاء طالبها غرموا له الثمن ، قيل له : يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي ، فقال : هم في سعة حتى يعلموا» (٢).

وروي هذا الحديث في الجعفريات ونوادر الراوندي مع اختلاف يسير في متنه ففي الأول : «هم في سعة من أكلها ما لم يعلموا حتى يعلموا» وفي الثاني : «هم في سعة من أكلها ما لم يعلموا» (٣). ومغايرة العبارات الثلاث المتقدمة لما في كتب الأصحاب واضحة ، فلا وجه للنزاع في أن «ما» موصولة أو ظرفية بعد عدم وجودها فيما أسند من هذا الحديث كما في العبارة الأولى ، أو وجودها مع تعين كونها ظرفية كما في العبارتين الأخيرتين.

وكيف كان ، فدلالة الحديث على البراءة ظاهرة ، لظهوره في الرخصة والسعة من ناحية الحكم الواقعي المجهول ما لم تنهض عليه حجة.

__________________

(١) المستدرك ، ج ٣ ، كتاب الحدود والتعزيرات ص ٢١٨.

(٢) الوسائل ، كتاب الطهارة ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات الحديث : ١١ ص ٧٧٣ ، ورواه في ج ١٧ باب ٢٣ من كتاب اللقطة ص ٣٧٢.

(٣) المستدرك ، ج ١ ، كتاب الطهارة ، باب ٣٤ من أبواب النجاسات ، الحديث ٣ و ٤ ، ص ١٦٥.

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وعلى هذا فالصحيح أن يقال : ان موضوع حديث السعة هو الحكم الّذي لم تقم حجة عليه ، وهذا الموضوع بنفسه قد حكم عليه بالاحتياط ، لقوله عليه‌السلام : «وقفوا عند الشبهة» فان كان الاحتياط منجزا للواقع ومتمما لقصور محركية الخطاب الأولي فهو وارد على السعة ، لوصول الواقع بنفسه إلى المكلف ببركة عنوان ثانوي طار عليه بمثل «احتط» الّذي جعله الشارع منجزا له.

وان كان وجوبه نفسيا بأن يكون الحكم الفعلي لمحتمل الحرمة وجوب الاحتياط ، وقع التعارض بينه وبين الحديث ، لتوارد دليلي السعة والاحتياط على عنوان واحد وهو محتمل الحرمة ، ومن المعلوم وقوع التنافي بينهما ، والمرجع حينئذ قواعد التعارض.

هكذا ينبغي تحرير المقام ، ومنه يظهر غموض ما أفاده المصنف بقوله : «فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله» لابتنائه على كون الغاية في حديث السعة هو العلم الوجداني بالواقع ، فما لم يعلم به فهو في سعة ، ويقع التعارض بينه وبين ما يدل على وجوب الاحتياط طريقيا ، لعدم افادته العلم بالواقع كما هو ظاهر. لكن لا ريب في أن العلم في الحديث بمعنى المنجز للواقع والحجة عليه ، ولذا ينتفي موضوع البراءة بقيام أمارة غير علمية على الحكم الواقعي ، لكونها بيانا عليه. فالمراد بالعلم في الحديث هو الحجة القاطعة للعذر الجهلي ، ومع تنجز الحكم الواقعي بدليل الاحتياط ينتفي موضوع البراءة ، ويرتفع الترخيص في ترك الواقع ويتبدل بلزوم رعايته.

كما أن ما أفاده من ورود دليل الاحتياط ـ على القول بوجوبه النفسيّ ـ على

٢٥٩

فهم في سعة (١) ما لم يعلم ، أو ما دام لم يعلم (٢) وجوبه أو حرمته ، ومن الواضح (٣) أنه لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا ،

______________________________________________________

(١) بالإضافة إلى الموصول ، وقد تقدم تقريبه بقولنا : أما على الأول ... إلخ.

(٢) بناء على قراءة «سعة» بالتنوين وجعل «ما» ظرفية ، وقد تقدم تقريبه أيضا بقولنا : وأما على الثاني ... إلخ.

(٣) هذا تتميم للاستدلال بالحديث على المدعى ، يعني : أن حديث السعة ينفي وجوب الاحتياط المدلول عليه بمثل قوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك» لظهوره في الترخيص من ناحية الإلزام المجهول ، فهو معارض لأدلة الاحتياط ، ولا وجه لتقديم أدلته على هذا الحديث ورودا أو حكومة

__________________

الحديث غير ظاهر ، بل هما متعارضان ، فيعامل معهما معاملة التعارض ، لما عرفت من وحدة موضوعهما وهو الحكم الإلزامي المحتمل ، ولا تقدم لأحدهما على الآخر ، ومجرد العلم بوجوب الاحتياط لا يوجب تقدمه على الحديث بعد ما كان صريحا في التوسعة والترخيص في الشبهة.

وما أفيد في توجيه الورود من قوله : «فالتكليف الواقعي وان كان مما لا يعلم ، إلّا أن التكليف الفعلي بعنوان آخر معلوم ، فإذا علم ولو بعنوان من العناوين الطارية خرج عن كونه مما لا يعلمون ، فيكون دليل الاحتياط الموجب للعلم بالتكليف بعنوان آخر رافعا لموضوع دليل البراءة حقيقة» غير مفيد ، إذ موضوع التكليف الفعلي الظاهري الاحتياطي هو المشتبه ، وهذا بنفسه موضوع أيضا للسعة ، والعلم بوجوب الاحتياط لا يجعل المجهول معلوما.

وأما التزامنا بالورود على القول بالوجوب الطريقي ، فلتنجز الواقع بالأمر بالاحتياط ، ووصوله إلى المكلف بعنوان عرضي ، وهو يكفي في رفع موضوع دليل البراءة ، إذ الواصل هو الواقع وان كان بلباس آخر أعني إيجاب الاحتياط.

٢٦٠