منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله ، غاية الأمر أنه لا بد أن يؤتى به (١) على نحو لو كان (٢) مأمورا به لكان مقربا بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر (٣) أو احتمال كونه (٤) محبوبا له تعالى ، فيقع (٥) حينئذ على تقدير الأمر به امتثالا لأمره تعالى ، وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه تبارك وتعالى ويستحق الثواب على كل حال ، امّا على الطاعة [الإطاعة] أو الانقياد (٦).

______________________________________________________

(١) يعني : بما احتمل وجوبه.

(٢) اسم «كان» ضمير راجع إلى «ما احتمل وجوبه» والضمائر المذكورة من قوله : «ما احتمل وجوبه» إلى قوله : «فيقع الأمر به» كلها راجعة إليه.

(٣) كما استظهره صاحب الجواهر ، قال (قده) بعد كلام له فيما يرتبط بالنية في الصلاة ما لفظه : «وعلى كل حال فلا إشكال في اعتبار قصد الامتثال والتعيين على الوجه الّذي ذكرناه ، والظاهر أن الأول هو مراد الأصحاب بنية القربة التي لا خلاف معتد به في وجوبها» (١) ، وضمير «به» في الموضعين راجع إلى الفعل.

(٤) أي : كون الفعل المحتمل الوجوب ، وهذا إشارة إلى عدم انحصار نية القربة في الأمر ، بل مطلق إضافته إليه تعالى ـ كقصد المحبوبية ـ من القربة المطلوبة في العبادة.

(٥) أي : فيقع الفعل المحتمل الوجوب حين الإتيان به بالنحو المذكور أعني : «أنه لو كان مأمورا به لكان مقربا» امتثالا له تعالى على تقدير الأمر به ، وانقيادا له عزوجل على تقدير عدمه.

(٦) الّذي هو في حكم الإطاعة الحقيقية ، ثم ان هذا وما قبله مفسّر لقوله : «على كل حال».

__________________

(١) الجواهر ، ج ٩ ص ١٥٦

٥٠١

وقد انقدح بذلك (١) : أنه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى

______________________________________________________

(١) يعني : وقد ظهر مما ذكرنا ـ من عدم دخل قصد القربة في المتعلق وانما هو دخيل عقلا في حصول غرض المولى من الأمر ـ أنه لا حاجة في جريان الاحتياط في العبادات إلى تعلق أمر بها حتى يقصد ، كأن يقول المولى : «احتط في العبادة لمجرد خلل موهوم فيها» فيكفي في جريان الاحتياط فيها نفس الأمر المحتمل ، يعني : أن احتمال بقاء الأمر بالصلاة كاف في مشروعية الاحتياط وقضائها ، بل لو علم تعلق أمر بها لم يكن من الاحتياط في شيء ، بل كان إطاعة حقيقية ، لتقوم الاحتياط باحتمال الأمر ، فمع العلم به لا احتياط ، ويكون ذلك الأمر تكليفا نفسيا وجوبيا أو استحبابيا كما تقدم الكلام فيه.

والحاصل : أن قوام الاحتياط هو الإتيان بالفعل برجاء مطلوبيته وموافقته للأمر الواقعي المحتمل ، فإذا ورد أمر من الشارع بفعل مشكوك المطلوبية ـ بهذا العنوان ـ لم يكن الإتيان به احتياطا بل كان إطاعة جزمية لأمر معلوم ، فيقصد ذلك الأمر المعلوم الوارد على عنوان «محتمل المطلوبية».

والظاهر أن غرض المصنف التعريض بكلام شيخنا الأعظم ، حيث انه قدس‌سره بعد ما وجّه الاحتياط في العبادة بما تقدم مفصلا قال : «ثم ان منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبرا ضعيفا ، فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط وإثبات أن الأمر فيها للاستحباب الشرعي دون الإرشاد العقلي ، لورود بعض الاخبار باستحباب فعل كل ما يحتمل فيه الثواب كصحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن (١) ...» وحاصله : أنه لو لم تصلح أوامر الاحتياط لإثبات مشروعيته في الفعل الدائر بين كونه واجبا أنه لو لم تصلح أوامر الاحتياط لإثبات مشروعيته في الفعل الدائر بين كونه واجبا عباديا ومباحا ، فأخبار «من بلغ» تصلح لإثبات استحباب نفس العمل الّذي قام على استحبابه خبر ضعيف ، كالدعاء عند رؤية الهلال ، فان الرواية الفاقدة

__________________

(١) المحاسن ، ج ١ ، ص ٢٥

٥٠٢

تعلق أمر بها ، بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشيء (١) ، بل كسائر ما علم (٢) وجوبه أو استحبابه (٣) منها كما لا يخفى.

______________________________________________________

لشرائط الحجية وان لم تصلح لإثبات استحبابه ، إلّا أنه يتحقق ـ بهذا الخبر الضعيف ـ موضوع أخبار «من بلغ» وهو البلوغ ، فيثبت استحبابه ببركة هذه الاخبار المعتبرة ، وبعد العلم بالأمر المستفاد منها يجري الاحتياط في العبادة.

هذا ما استظهره شيخنا الأعظم في بادئ الرّأي من تلك الاخبار وان ناقش فيه بعد ذلك بأن ثبوت الأجر غير ملازم للاستحباب وليس بكاشف عن الأمر لاحتمال كونه على الانقياد. ولكن المصنف (قده) أورد عليه بأنه مع تسليم دلالة أخبار «من بلغ» على استحباب الفعل الّذي ورد الثواب عليه في خبر ضعيف ـ والغض عن المناقشة المتقدمة ـ لم يكن الإتيان بذلك الفعل بداعي أمره المستفاد من هذه الاخبار من الاحتياط أصلا ، بل هو من الإطاعة الحقيقية ، لفرض العلم بالأمر حينئذ دون احتماله المقوم للاحتياط.

وبما ذكرناه ظهر وجه ارتباط البحث عن مفاد أخبار «من بلغ» بمسألة الاحتياط في العبادة ، وأن إشكال الاحتياط كما يمكن حله بالتصرف في معنى الاحتياط وإرادة معنى مجازي منه ـ كما عليه الشيخ ـ كذلك هل يمكن حله بتعلق الأمر المولوي المستفاد من أخبار «من بلغ» بكل فعل دل على استحبابه رواية ضعيفة أم لا؟

(١) لتقوم الاحتياط بإتيان العمل برجاء وجود الأمر الواقعي.

(٢) المراد به الفعل المعلوم وجوبه ، حيث يقصد ذلك الأمر ، وليس من الاحتياط في شيء ، بل من الإطاعة الحقيقية كالصلوات اليومية وغيرها من الواجبات المعلومة.

(٣) كصلاة الليل والنوافل المرتبة وغسل الجمعة وكثير من المستحبات

٥٠٣

فظهر (١) أنه لو قيل (٢) بدلالة أخبار «من بلغه ثواب» على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف لما (٣) كان يجدي في

______________________________________________________

التي هي من ضروريات المذهب بل الدين ، ويقصد ذلك الأمر الاستحبابي المعلوم ، وضمير «منها» راجع إلى العبادة.

(١) متفرع على ما أفاده من عدم الحاجة في جريان الاحتياط في العبادة إلى العلم بالأمر ، بل مع العلم به لا يكون من الاحتياط أصلا. وهذا جواب خامس عن إشكال الاحتياط في العبادة ، وقد عرفت توضيحه ونعيد محصله وهو : أنه بناء على دلالة أخبار «من بلغ» على استحباب العمل البالغ عليه الثواب ـ كما استظهره شيخنا الأعظم في مطلع كلامه ـ يكون ذلك العمل المشكوك وجوبه مستحبا إذا كان منشأ الشك في وجوبه خبرا ضعيفا ، لصدق بلوغ الثواب على العمل الّذي دلت رواية ضعيفة على وجوبه أو استحبابه ، ومع صيرورته ببركة تلك الاخبار مستحبا وذا أمر ، فإذا قصد ذلك الأمر وقع الفعل المأتي عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب من ناحية عدم التمكن من نية القربة المعتبرة في العبادة ، إذ المفروض حصول التمكن من قصد القربة بالأمر المستفاد من أخبار «من بلغ».

(٢) القائل شيخنا الأعظم (قده) وقد تقدم كلامه آنفا.

(٣) جواب «لو قيل» ورد له ، وتوضيحه : أنه إذا تعلق الأمر المستفاد من أخبار «من بلغ» بعمل كالدعاء عند رؤية الهلال كان العمل مأمورا به جزما ، فيكون الإتيان به إطاعة حقيقية لقصد امتثال ذلك الأمر حين العمل ، فلا يكون الإتيان به حينئذ من باب الاحتياط المتقوم بداعي احتمال تعلق الأمر به واقعا ، بل هو إطاعة علمية تفصيلية.

٥٠٤

جريانه في خصوص ما دلّ على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف ، بل كان (١) عليه مستحبا كسائر ما دل الدليل على استحبابه (٢).

لا يقال (٣) : هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الّذي

______________________________________________________

فالأخبار الكثيرة الدالة على ترتب الثواب على العمل الّذي دل خبر ضعيف على وجوبه أو استحبابه على تقدير دلالتها على الاستحباب لا تجدي في دفع إشكال جريان الاحتياط في العبادة عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ، لصيرورة العمل بسبب تلك الاخبار مستحبا نفسيا كسائر المستحبات النفسيّة ، فالإتيان به بقصد استحبابه إطاعة حقيقية لا احتياطية.

فالمتحصل : أن الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ» يوجب استحباب العمل البالغ عليه الثواب بخبر ضعيف كسائر المستحبات ، وهو أجنبي عن الاحتياط الّذي هو مورد البحث ، ولا يستفاد من تلك الاخبار استحباب العمل الّذي شك في استحبابه من غير ناحية الخبر الضعيف كالشهرة مثلا.

(١) اسم «كان» ضمير راجع إلى الموصول في «ما دل» المراد به العمل الّذي قام على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف ، وضمير «عليه» راجع إلى «هذا القول» المستفاد من الكلام ، يعني : بل كان ما دل على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف على هذا المعنى ـ أعني استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب ـ مستحبا نفسيا كسائر المستحبات النفسيّة ، ولا مساس له حينئذ بالاحتياط المتقوم باحتمال الأمر.

(٢) الضمير راجع إلى الموصول في «ما دل» المراد به العمل الّذي دل الدليل على استحبابه كنوافل الليل وزيارة المعصومين عليهم‌السلام.

(٣) هذا إشكال على ما أفاده من عدم كون الأمر المستفاد من أخبار «من بلغ» مجديا في إمكان الاحتياط ، تقريبه : أن المستشكل زعم أن عدم اندفاع الإشكال

٥٠٥

بلغ عليه الثواب بعنوانه (١) ، وأما لو دل (٢) على استحبابه لا بهذا العنوان (٣) بل بعنوان أنه محتمل الثواب لكانت دالة على استحباب الإتيان

______________________________________________________

بالاستحباب المدلول عليه بأخبار «من بلغ» مبني على تعلق هذا الأمر الاستحبابي بالعمل الّذي دل الخبر الضعيف على استحبابه بعنوان بلوغ الثواب عليه ، لصيرورته حينئذ مستحبا نفسيا كسائر المستحبات النفسيّة التي يثبت استحبابها بدليل معتبر ، ومن المعلوم أنه لا ربط له حينئذ بالاحتياط المحرز للواقع ، وأما إذا كان المستفاد من تلك الاخبار أمرا بما هو محتمل الواقع ـ كنفس أوامر الاحتياط بناء على مولويتها ـ كان كافيا في إمكان التقرب بالعبادة المشكوكة ، لصيرورته مستحبا شرعيا ، لأنه ـ على هذا التقدير ـ يصير نفس المحتمل بما هو محتمل مستحبا نفسيا يصح نية التقرب بأمره.

ويرشد إلى هذا المعنى قوله عليه‌السلام في بعض تلك الأخبار : «التماس ذلك الثواب» أو «طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث ان ترتب الثواب على ذلك الفعل منوط بالإتيان به بداعي احتمال مطلوبيته للشارع ، فليس العمل بنفسه مستحبا ، بل هو مع الإتيان به برجاء محبوبيته ، فتعلق الأمر النفسيّ بالعمل برجاء الأمر به ، فيقصد ذلك الأمر ويتحقق مشروعية الاحتياط في العبادة.

(١) يعني : بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي وهو كونه محتمل الثواب.

(٢) هذا جواب سادس عن إشكال الاحتياط في العبادة ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «وأما إذا كان المستفاد من تلك الاخبار ... إلخ» والصواب «دلت» لرجوع الضمير المستتر فيه إلى «أخبار من بلغ».

(٣) أي : لا بعنوانه الأوّلي بل بعنوانه الثانوي وهو كونه محتمل الثواب.

٥٠٦

به بعنوان الاحتياط كأوامر (١) الاحتياط لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الإرشادي.

فانه يقال (٢) : ان الأمر بعنوان الاحتياط ولو كان مولويا لكان توصليا ، مع (٣) أنه لو كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط

______________________________________________________

(١) في استحباب الفعل بعنوان الاحتياط لا بعنوان الأوّلي بناء على مولوية الأمر المتعلق بالاحتياط لا إرشاديته.

(٢) محصل ما أجاب به عن الإشكال المزبور وجهان :

الأول : ما أفاده بقوله : «ان الأمر بعنوان» وتوضيحه : أن أوامر الاحتياط ـ على تقدير مولويتها ـ توصلية ، إذ لا دليل على تعبديتها ، فتسقط بمجرد موافقتها ، ولا يتوقف سقوطها على قصد التقرب بها كما هو شأن الأوامر العبادية ، وعليه فالأمر التوصلي كالأمر الإرشادي لا يصحح قصد القربة مع وضوح اعتباره في العبادة (*).

(٣) هذا هو الجواب الثاني عن الإشكال ، وحاصله : أنه لا يصح قصد التقرب بأوامر الاحتياط حتى مع تسليم كونها عبادية ، للزوم الدور ، ضرورة أن الاحتياط حينئذ يتوقف على الأمر به حتى يجوز الاحتياط بقصد الأمر به ، والأمر بالاحتياط يتوقف على وجود الاحتياط قبل الأمر به ، لكون الأمر عارضا عليه ، والعارض يستدعي تقدم المعروض عليه ، فالأمر يستدعي تقدم الاحتياط عليه ، فالنتيجة : أن الاحتياط

__________________

(*) لكن لا محذور في قصد التقرب بالأمر التوصلي ، فان كل واجب أو مستحب توصلي يصح نية التقرب بأمره ، ويصير به ذلك الواجب أو المستحب عبادة ، غاية الأمر أن سقوط الأمر التوصلي لا يتوقف على قصده كما هو شأن الأمر العبادي ، وعليه فلا إشكال في إمكان قصد التقرب بأوامر الاحتياط التوصلية نعم لا ملزم بقصد التقرب بها ، فتدبر.

٥٠٧

ومجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه (١) آنفا.

ثم (٢) انه لا يبعد دلالة

______________________________________________________

يتوقف على نفسه ، وهو الدور.

(١) يعني : إلى عدم كونه مصححا للاحتياط ، لاستلزامه الدور ، ومراده بقوله : «آنفا» ما أفاده في أوائل هذا التنبيه ، حيث قال : بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه.

مفاد أخبار من بلغ

(٢) بعد أن ناقش المصنف (قده) في الاستدلال بأخبار «من بلغ» على تعلق الأمر المولوي بالاحتياط ، عطف عنان الكلام إلى ما يمكن أن يستفاد من تلك الاخبار في أنفسها من الوجوه والمحتملات كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ولا يخفى أن البحث عن دلالة هذه الاخبار انما هو بعد البناء على حجيتها إمّا لتواترها معنى كما نفي البعد عنه شيخنا الأعظم في رسالة قاعدة التسامح في أدلة السنن بقوله في مقام عدّ الأدلة على القاعدة : «الثالث : الاخبار المستفيضة التي لا يبعد دعوى تواترها معنى» وإمّا لصحة بعضها أو حسنه كما سيأتي ، وإما لعمل المشهور بها ، لما أفاده في تلك الرسالة أيضا بقوله : «وهذه الاخبار مع صحة بعضها غنية عن ملاحظة سندها ، لتعاضدها وتلقيها بالقبول بين الفحول».

وكيف كان فمحتملات هذه الاخبار ثلاثة :

الأول : أن يكون مفادها حكما أصوليا وهو حجية الاخبار الضعيفة الدالة على استحباب بعض الأفعال ، فإذا دل خبر ضعيف السند على استحباب بعض الأفعال كأعمال يوم النيروز وترتب الثواب عليها ، كان ذلك الخبر الضعيف ـ ببركة هذه الاخبار ـ حجة وصح الحكم بمضمونه نظرا إلى حجية سنده.

٥٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : أن يكون مفادها حكما فقهيا وهو استحباب العمل الّذي بلغ الثواب عليه ، فإذا بلغنا في رواية ثواب على عمل صح الحكم باستحباب ذلك العمل مع قطع النّظر عن سندها ، وهذا الاحتمال الثاني أيضا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون موضوع هذا الحكم الفقهي أعني الاستحباب هو العمل بعنوانه الأوّلي لا بعنوانه الثانوي ـ وهو كونه مما بلغ عليه الثواب بحيث يكون بلوغ الثواب عليه دخيلا في موضوع الحكم وجهة تقييدية لترتب الحكم عليه ، بل يكون بلوغ الثواب جهة تعليلية له ـ فإذا بلغ ثواب على عمل كان ذلك العمل بعنوانه مستحبا من المستحبات ، فالمستحب حينئذ هو نفس العمل.

ثانيهما : أن يكون موضوعه العمل بوصف كونه مما بلغ عليه الثواب ، بحيث يكون بلوغ الثواب عليه دخيلا في موضوع الحكم وجهة تقييدية لترتبه عليه ، فالمستحب هو العمل المأتي به برجاء الثواب عليه لا نفس العمل بما هو.

والفرق بين هذين الوجهين : أنه على الأوّل يكون الأمر المستفاد من تلك الأخبار متعلقا بنفس العمل ، ولذا يكون العمل بنفسه مستحبا ، فإذا قام خبر ضعيف السند على ترتب الثواب على الدعاء عند رؤية الهلال مثلا جاز الإفتاء باستحبابه بعنوانه الأوّلي كسائر المستحبات التي وردت الروايات المعتبرة باستحبابها ، غاية الأمر أن استحباب الدعاء عند رؤية الهلال في هذا الخبر الضعيف يكون مستندا إلى أخبار «من بلغ» لا إلى الخبر الدال عليه ، لأنه ضعيف السند حسب الفرض ، واستحباب المستحبات الأخرى الواردة في الروايات المعتبرة يكون مستندا إلى نفس تلك الأخبار الخاصة المتضمنة لها ، لاعتبارها في أنفسها. وكيف كان فلا يكون الاحتياط بالإتيان بالدعاء عند رؤية الهلال مأمورا به بالأمر المولوي حتى يكون نفس الاحتياط مستحبا.

٥٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى الثاني يكون متعلقا بالاحتياط وهو الإتيان بالعمل برجاء الثواب عليه ، فيكون الاحتياط هو المأمور به بالأمر المولوي دون نفس العمل ، ففي مثال الدعاء عند رؤية الهلال لا يجوز الإفتاء باستحبابه ، بل يفتى باستحباب الاحتياط بالإتيان به برجاء الثواب ، فموضوع الاستحباب على الأول هو نفس العمل ، وعلى الثاني هو الاحتياط.

فالمتحصل مما ذكرنا : أن محتملات أخبار «من بلغ» ثلاثة :

الأول : أن يكون مفادها حجية الخبر الضعيف.

الثاني : أن يكون مفادها استحباب نفس العمل الّذي بلغ عليه الثواب.

الثالث : استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب بوصف أنه كذلك. هذا ما يمكن أن يستفاد ثبوتا من أخبار «من بلغ» وظاهر المشهور ـ على ما يظهر من فتاواهم باستحباب بعض الأعمال بمجرد ورود خبر ضعيف دال على ترتب الثواب عليه ـ هو الاحتمال الأوّل ، واستظهر المصنف (قده) من صحيحة هشام المذكورة في المتن الاحتمال الثاني ، نظرا إلى ظهورها في ترتب الثواب على نفس العمل ، لا العمل بوصف كونه مما بلغ عليه الثواب ، وأن المستفاد منها هو استحباب نفس العمل بعنوانه الأوّلي لا بعنوان كونه مما بلغ عليه الثواب.

وأما شيخنا الأعظم (قده) فانه ـ بعد ما استظهر من صحيحة هشام ونحوها الاحتمال الثاني كما عرفت من عبارته المتقدمة ـ ذكر كلاما ربما يظهر منه استظهاره الاحتمال الثالث من تلك الاخبار أعني استحباب العمل بوصف كونه مما بلغ عليه الثواب ، فالمستفاد منها عنده هو استحباب الاحتياط.

وعليه فالشيخ والمصنف (قدهما) متفقان على أن المستفاد من أخبار «من بلغ» حكم فرعي وهو الاستحباب ، لا أصولي وهو حجية الخبر الضعيف

٥١٠

بعض تلك الاخبار (١) على استحباب ما بلغ عليه الثواب ، فان (٢) صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب ، فعمله كان أجر ذلك له وان كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله» (١) ظاهرة (٣) في أن الأجر كان مترتبا على نفس العمل الّذي بلغه عنه [منه] صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه ذو ثواب.

______________________________________________________

في المندوبات ، ومختلفان في متعلقه أعني المستحب ، فاستظهر الشيخ (قده) أنه هو العمل بعنوان الرجاء والانقياد بحيث يكون لهما دخل في المتعلق ، والمصنف أنه ذات العمل ، وأن «الرجاء» كما في بعض تلك الاخبار ، و «التماس الثواب» كما في بعضها الآخر خارجان عن متعلق الطلب الاستحبابي ، وانما هما داعيان لإيجاد العمل في الخارج ، ومن المعلوم أن الداعي ليس داخلا في متعلق الطلب.

(١) كصحيحة هشام المذكورة في المتن.

(٢) بيان لقوله : «لا يبعد» واستظهار لترتب الثواب على العمل بعنوانه الأوّلي.

(٣) خبر «فان» والضمير الظاهر في «بلغه» راجع إلى الموصول في قوله : «من بلغه» المراد به العامل ، وضمير «عنه» راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضمير «أنه ذو ثواب» راجع إلى العمل ، وجملته فاعل «بلغه» ووجه الظهور : أن هذه الصحيحة تدل على ترتب الثواب الموعود الوارد في خبر ضعيف على نفس العمل ، ولا يستحقه العبد بحكم العقل إلّا بكونه مطيعا ، ولا إطاعة إلّا مع تعلق الأمر بالمأتي به. وعليه فالإخبار بالثواب

__________________

(١) هذه الصحيحة وسائر أخبار «من بلغ» مذكورة في باب ١٨ من أبواب مقدمات العبادات من الوسائل.

٥١١

وكون (١) العمل متفرّعا على البلوغ

______________________________________________________

على نفس العمل إخبار عن تعلق الأمر المولوي بذلك العمل ، وهو معنى الاستحباب.

(١) هذا إشارة إلى ما استفاده شيخنا الأعظم من أخبار «من بلغ» فانه (قده) بعد أن استظهر استحباب العمل ـ الّذي دل خبر ضعيف على استحبابه ـ من هذه ، الاخبار أورد على نفسه بوجوه ثلاثة أجاب عن اثنين منها ، وقوّى أوّلها ـ وهو أن ثبوت الأجر لا يثبت الاستحباب (*) ـ ثم قال : «وأما الإيراد الأول فالإنصاف أنه لا يخلو عن وجه ، لأن الظاهر من هذه الاخبار كون العمل متفرعا على البلوغ وكونه الداعي على العمل. ويؤيده تقييد العمل في غير واحد من تلك الاخبار بطلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتماس الثواب الموعود ، ومن المعلوم أن العقل مستقل باستحقاق هذا العامل المدح والثواب».

وتوضيحه : أن المستفاد من سياق أخبار «من بلغ» هو كونها بيانا لما يستقل به العقل من استحقاق من يعمل بداعي احتمال المطلوبية للثواب حتى إذا تبين مخالفة ما رجاه للواقع ، وعدم تعلق الطلب بالفعل المحتمل مطلوبيته ، وهذه الاخبار ظاهرة في هذا المعنى كما لا يخفى على من لاحظها. أما صحيحة هشام وحسنته ، فلدلالة فاء التفريع ـ في قوله عليه‌السلام في الأولى : «فعمله»

__________________

(*) يظهر من صاحب الحدائق في الدرر النجفية : أن هذا الإشكال من شيخه العلامة الشيخ سليمان البحراني أورده على من يستفيد التساهل في أدلة السنن من هذه الاخبار ، قال : «وعندي فيه نظر ، إذ الأحاديث المذكورة انما تضمنت ترتيب الثواب على العمل ، وذلك لا يقتضي طلب الشارع له لا وجوبا ولا استحبابا ...» (١).

__________________

(١) الدرر النجفية ، ص ٢٢٧

٥١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي الثانية : «فصنعه» وكذا في قوله عليه‌السلام : «فعمل به» الوارد في خبر صفوان ـ على اعتبار كون انبعاث المكلف نحو الفعل ناشئا من بلوغ الثواب وسماعه كما هو مقتضى الترتب المستفاد من الفاء ، ولا معنى لتأثير البلوغ والسماع في الفعل إلّا إذا كان ما يورثه من القطع والظن والاحتمال لتأثير البلوغ والسماع في الفعل إلّا إذا ما يورثه من القطع والظن والاحتمال داعيا إلى العمل ، وعليه يكون قصد رجاء الثواب دخيلا في تحقق الجزاء وهو قوله عليه‌السلام : «كان أجر ذلك له» أو «كان له» أو «كان له أجر ذلك» ونحوه مما يدل على ترتب الثواب على الفعل المحتمل مطلوبيته.

وأما خبرا محمد بن مروان ـ وفي أولهما : «ففعل ذلك طلب قول النبي» وفي ثانيهما «ففعله التماس ذلك الثواب أوتيه» ومثلهما رواية جابر المروية عن طرق العامة وفيها «فأخذها وعمل بما فيها إيمانا بالله ورجاء ثوابه» ـ فدلالتهما على المقصود أظهر لو لم يكونا صريحين فيه ، فان المحرّك نحو العمل ليس إلّا ابتغاء الأجر الموعود ، وقد رتب الجزاء ـ وهو «أوتيه» وما بمعناه ـ على خصوص الفعل الّذي كان قصد الثواب مقارنا لنفس العمل ، فلم يترتب الجزاء على الفعل الصادر بأي داع حتى يثبت استحباب ذات الفعل ، بل انما كان من آثار العمل المقيد برجاء المطلوبية.

ومنه يتضح أنه لو نوقش في دلالة الصحيحة والحسنة على المدعى بمنع ظهور الفاء في «فعمله» في الترتب ـ لاحتمال كونها عاطفة كما في «من سمع الأذان فبادر إلى المسجد كان له كذا» فكأنه قال : «من سمع الأذان وبادر ...» فلا ترتب في البين ـ كان في ظهور خبري محمد بن مروان كفاية لإثبات المدعى ، فيقيد إطلاق الصحيحة بهما كما سيظهر. هذا توضيح ما أفاده شيخنا الأعظم في تقرير الإشكال في كل من الرسائل ورسالة قاعدة التسامح ،

٥١٣

وكونه (١) الداعي إلى العمل غير (٢) موجب لأن يكون الثواب انما يكون (٣) مترتبا عليه فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط

______________________________________________________

وانتظر لتوضيح إيراد المصنف عليه.

(١) عطف تفسيري ، أي : وكون البلوغ داعيا إلى العمل على ما يقتضيه تفريع العمل على بلوغ الثواب وسماعه في قوله عليه‌السلام : «فعمله» كما تقدم توضيحه.

(٢) خبر «وكون العمل» وجواب عن كلام شيخنا الأعظم ، وهذه المناقشة تختص بما استدل به الشيخ من ظهور الفاء في «فعمله» في صحيحة هشام في كون داعي المكلف ومحرّكه نحو العمل هو ابتغاء الثواب. وأما خبرا محمد ابن مروان المشتملان على «طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله و «التماس ذلك الثواب» فسيأتي الكلام عنهما. وحاصل ما أفاده المصنف حول الصحيحة هو : أن فاء التفريع وان اقتضى صدور العمل بداعي التماس الثواب بحيث لولاه لما وجود في الخارج ، لكون عباداتنا نحن من قبيل عبادة الأجراء. لكن الداعي جهة تعليلية للعمل وخارج عن حقيقته ، وليس جهة تقييدية حتى يكون قصد رجاء الثواب جزءا من موضوع حكم الشارع بإعطاء الثواب على العمل ، فلا يوجب الداعي المزبور وجها وعنوانا للعمل ، وانما الموجب له هو الجهة التقييدية المفقودة في المقام ، فالثواب في أخبار «من بلغ» مترتب على نفس العمل فيثبت حينئذ استحباب نفس الفعل الّذي دل خبر ضعيف على أنه ذو ثواب.

(٣) خبر «لأن يكون» وضميرا «عليه ، أنه» راجعان إلى العمل المراد به هنا هو العمل بعنوانه الثانوي بقرينة قوله : «فيما إذا أتى برجاء ...» و «بعنوان الاحتياط» تفسير للرجاء ، والأولى سوق العبارة هكذا : «غير موجب لترتب الثواب على العمل في خصوص ما إذا أتى ...».

٥١٤

بداهة (١) أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها وعنوانا يؤتى به (٢) بذاك الوجه والعنوان.

وإتيان (٣) العمل بداعي «طلب قول النبي» كما قيّد به (٤) في بعض

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «غير موجب» وقد عرفت توضيحه بقولنا : «لكن الداعي جهة تعليلية للعمل ... إلخ».

(٢) أي : يؤتى بالعمل بعنوان ترتب الثواب عليه بحيث يكون هذا العنوان دخيلا في الموضوع ، فالأولى سوق العبارة هكذا : «وجها وعنوانا يتوقف الثواب على الإتيان بالعمل بذلك الوجه والعنوان» وضمير «له» راجع إلى «العمل» أيضا.

(٣) هذا إشارة إلى ما أيّد به الشيخ الأعظم كلامه بقوله : «ويؤيده تقييد العمل ...» وقد تقدم توضيحه بقولنا : «وأما خبرا محمد بن مروان ... فدلالتهما على المقصود أظهر لو لم يكونا صريحين فيه ...» وحاصل التأييد : أنه يمكن تقييد إطلاق «فعمله» في صحيحة هشام بما ورد في خبر محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ذلك الثواب وان كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» من ترتب الثواب على المأتي به بداعي الوصول إلى الثواب الموعود ، فموضوع الثواب ليس ذات العمل كيف ما وقع ، بل العمل المأتي به رجاء للأجر ، فلم يثبت استحباب نفس الفعل كما يدعيه المصنف ، بل الثابت استحباب الاحتياط.

(٤) أي : بداعي طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونائب فاعل «قيّد» ضمير مستتر فيه راجع إلى «الإتيان» والمراد ببعض الاخبار هو خبر محمد بن مروان المذكور آنفا ، يعني : أن خبر محمد بن مروان قيّد فيه الإتيان بما إذا كان مقرونا

٥١٥

الاخبار (١) وان كان انقيادا ، إلّا أن (٢) الثواب في الصحيحة (٣) انما رتّب على نفس العمل. ولا موجب (٤) لتقييدها به ،

______________________________________________________

بقصد الثواب الموعود.

(١) ومثله خبره الآخر ، قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : من بلغه ثواب من الله على عمل ، فعمل ذلك العمل [ففعله] التماس ذلك الثواب أوتيه وان لم يكن الحديث كما بلغه» حيث انه يدل على كون الثواب للانقياد لا لاستحباب نفس العمل.

(٢) هذا رد للتأييد المتقدم في كلام الشيخ الأعظم ، وتوضيح الرد : أن الثواب الموعود وان رتّب في خبر محمد بن مروان على الانقياد كما أفاده الشيخ ، لكنه رتب في الصحيحة على نفس الفعل بعنوانه الأوّلي ، لخلوّه عن قيد «طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقوله عليه‌السلام فيها : «فعمله» نظير قوله عليه‌السلام : «من سرّح لحيته فله كذا» الظاهر في ترتب الثواب على نفس الفعل وهو تسريح اللحية ، لا الفعل المقيد بكونه بداعي طلب الثواب الموعود. ولا يجب تقييد الصحيحة بخبر محمد بن مروان لما سيظهر.

(٣) وكذا في حسنة هشام ـ بل صحيحته على الأقوى ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له وان لم يكن كما [على ما] بلغه» وكذا خبر صفوان ، وقد رتب الثواب على نفس الفعل ، لا بقيد ابتغاء الثواب الموعود.

(٤) أي : ولا موجب لتقييد الصحيحة ببعض الأخبار ، وغرضه من هذا الكلام دفع توهم ، وحاصل التوهم : أن الصحيحة وان كانت مطلقة ، لكنه لا بد من تقييد إطلاقها بمدلول أول خبري محمد بن مروان ، بيان ذلك : أن الصحيحة ظاهرة في ترتب الثواب على العمل الّذي ورد الثواب عليه في الخبر

٥١٦

لعدم (١) المنافاة بينهما ، بل (٢) لو أتى به كذلك أو التماسا للثواب الموعود كما قيّد به في بعضها الآخر لأوتي الأجر والثواب على نفس

______________________________________________________

الضعيف سواء أتي به بداعي ذلك الثواب أم لا ، وخبر محمد بن مروان ظاهر في ترتب الثواب على خصوص العمل المأتي به بداعي طلب قول النبي لا مطلق العمل كيف ما وقع ، ومن المعلوم أنه لا بد من تقييد المطلق بالمقيد إذا كان الحكم الّذي تضمنه المقيد نفس ما دل عليه الخطاب المطلق ، فلا بد من تقييد الصحيحة بخبر محمد بن مروان ، هذا.

وقد دفع المصنف هذا التوهم بقوله : «ولا موجب لتقييدها به» وتوضيحه : أن الصحيحة والخبر وان اختلفا إطلاقا وتقييدا ، إلّا أنه لا وجه للتقييد ، لعدم وجود ضابطه ، وهو التنافي بين المطلق والمقيد بحيث لا يمكن الجمع بينهما بأن يكونا مختلفين في النفي والإثبات ، كأن يقول : «ان ظاهرت فأعتق رقبة ، وان ظاهرت فلا تعتق رقبة كافرة» أو كانا مثبتين مع إحراز أن المطلوب منهما صرف الوجود ، كقوله : «ان أفطرت فأعتق رقبة ، وان أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة» حيث انهما يتعارضان في عتق الكافرة ، لاقتضاء دليل المطلق الاجزاء ، واقتضاء دليل التقييد العدم ، فيتعين حمل المطلق على المقيد ، الموجب لتعين عتق الرقبة المؤمنة وعدم إجزاء عتق غيرها ، ومن المعلوم أنه لا تنافي هنا بين الصحيحة وبين ما يشتمل على الالتماس والطلب ، حيث ان «البلوغ» ليس قيدا للموضوع حتى يتحقق التنافي ، وانما هو داع إلى إيجاد العمل في الخارج ، والداعي لا يكون قيدا لمتعلق الخطاب.

(١) تعليل لـ «ولا موجب» وضمير «بينهما» راجع إلى الصحيحة وبعض الأخبار.

(٢) اضراب على قوله : «ولا موجب لتقييدها به» وحاصله : أن طلب قول

٥١٧

العمل (*) لا بما هو احتياط وانقياد (١) ، فيكشف (٢) (**) عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة ، فيكون وزانه (٣) وزان «من سرّح لحيته» أو

______________________________________________________

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحوه ـ مضافا إلى عدم صلاحيته لتقييد موضوع الثواب ـ لا يصلح قصده أيضا لترتب الثواب عليه ويكون لغوا. وضمير «به» راجع إلى العمل وقوله : «كذلك» يعني : بداعي طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقوله : «أو التماسا» معطوف على «كذلك».

(١) حتى يثبت ما ادعاه المستشكل بقوله : «وأما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان».

(٢) يعني : أن ترتب الأجر على نفس العمل يكشف عن مطلوبية ذات العمل بعنوانه الأوّلي لا بعنوان الاحتياط ، فيكون العمل البالغ عليه الثواب مستحبا شرعيا بالعنوان الأوّلي كسائر المستحبات الشرعية كالصلاة والصوم المندوبين ، والإتيان به إطاعة حقيقية لأمر مولوي.

(٣) يعني : وزان هذا العمل المأتي به بداعي الثواب وزان قوله : «من

__________________

(*) لا يخلو من الغموض بعد وضوح كون الثواب مترتبا على قصد الفاعل إطاعة أو انقيادا ، فان لم يقصد الأمر المتعلق بنفس العمل كما عليه المصنف وقصد الاحتياط فلا وجه لعدم ترتب الثواب عليه ، كما لا وجه لترتب الثواب على نفس العمل مع عدم قصد أمره الاستحبابي المتعلق به.

والحاصل : أن إلغاء قيدية طلب الثواب ونحوه يوجب عدم ترتب الثواب على قصده ، فان نية القربة ليست شرطا في الواجبات التوصلية ، لكن قصدها يوجب الثواب.

(**) دعوى الكشف مبنية على كون نفس العمل مستحبا مع إتيانه بقصد أمره ، والمفروض أن المبنى غير مسلم فالكشف المترتب عليه أيضا مثله.

٥١٨

«من صلى أو صام فله كذا» ولعله (١) لذلك أفتى المشهور بالاستحباب ، فافهم وتأمل (٢) (*).

______________________________________________________

سرح» في ترتب الثواب على نفس العمل وهو تسريح اللحية بما هو هو ، لا بعنوان بلوغ الثواب عليه.

(١) الضمير للشأن ، يعني : لعله لما ذكرنا ـ من أن المستفاد من أخبار «من بلغ» استحباب نفس العمل ، وترتب الأجر والثواب عليه بعنوانه الأوّلي لا بعنوان أنه مما بلغ عليه الثواب ـ أفتى المشهور باستحباب كثير من الأفعال التي قامت الاخبار الضعاف على استحبابها.

(٢) لعله إشارة إلى احتمال أن يكون نظر المشهور ـ في استحباب نفس العمل من حيث هو ـ إلى أن المستفاد من أخبار «من بلغ» حجية الخبر الضعيف في المستحبات ، فتخصص عموم أدلة حجية خبر الواحد ، إذ مفادها حينئذ هو اعتبار الخبر الضعيف في المندوبات وعدم اعتبار شرائط الحجية فيها ، وهذا هو المراد بقاعدة التسامح في أدلة السنن. هذا ما يرجع إلى توضيح المتن ، وان شئت الوقوف على تفصيل الكلام حول أخبار «من بلغ» فلاحظ ما ذكرناه في التعليقة.

__________________

(*) ينبغي التكلم فيما يتعلق بأخبار من بلغ في مقامي الثبوت والإثبات. أما المقام الأول فمحصله : أن الوجوه المحتملة في أخبار «من بلغ» ستة : اثنان منها مترتبان على الإرشاد إلى ترتب الثواب الموعود على العمل من دون تعرض لحكمه ، وأربعة منها مترتبة على التشريع والإنشاء.

أما الأوّلان فهما الإخبار عن ترتب الثواب الموعود على العمل مطلقا أو مقيدا ببلوغ الثواب فيه. وبعبارة أخرى : ترتب الثواب على نفس العمل أو على العمل المأتي به بداعي رجاء الثواب عليه ، والمسألة على هذين الوجهين كلامية.

٥١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأما الأربعة ، فأوّلها حجية الخبر الضعيف الفاقد لشرائط حجية خبر الواحد في المستحبات كما هو المشهور بين الأصحاب ، قال شيخنا الأعظم (قده) في رسالته المعمولة في هذه المسألة المطبوعة مستقلة ومنضمة مع حاشية أوثق الوسائل ما لفظه : «المشهور بين أصحابنا والعامة التسامح في أدلة السنن بمعنى عدم اعتبار ما ذكروه من الشروط للعمل بأخبار الآحاد من الإسلام والعدالة والضبط في الروايات الدالة على السنن فعلا أو تركا» خلافا لبعضهم كالعلامة وسيد المدارك ، والمسألة على هذا الاحتمال أصولية ، وهي حجية الخبر الضعيف في المستحبات.

وثانيها : استحباب ذات العمل الّذي بلغ عليه الثواب ، وهو لازم حجية الخبر الضعيف الدال عليه.

وثالثها : استحباب العمل مقيدا بعنوان بلوغ الثواب عليه بناء منهم على كونه من الجهات التقييدية والعناوين الثانوية المغيرة لأحكام العناوين الأولية كالضرر والحرج ، فلا يكون العمل حينئذ مستحبا إلّا ببلوغ الثواب عليه ، فقبل العثور على الخبر المبلّغ للثواب لا يحكم باستحبابه وان كان ذلك الخبر موجودا واقعا ، فليس البلوغ ملحوظا طريقا إلى الواقع حتى يحكم باستحباب ذاته وان لم يعثر المكلف على ذلك الخبر ، وانما يلحظ جزءا لموضوع الحكم باستحبابه ، والمسألة على هذين الوجهين فقهية ، والخبر الضعيف محقق لموضوع الاستحباب ، لا أنه دليل على الاستحباب.

ورابعها : استحباب الانقياد وهو إتيان العمل برجاء ترتب الثواب عليه بناء على إمكان تعلق الأمر المولوي به ، وإلّا فيحمل أمره على الإرشاد إلى حسنه

٥٢٠