منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبالجملة. فتوثيق العلامة للرجل سليم عن مناقشة بعض أعاظم العصر من ابتنائه على أصالة العدالة ، مستظهرا ذلك من كلامه في ترجمة أحمد بن إسماعيل : «ولم ينص علماؤنا عليه بتعديل ، ولم يرو فيه جرح ، فالأقوى قبول روايته مع سلامتها من المعارض» قال دام ظله : «هذا الكلام صريح في اعتماد العلامة على أصالة العدالة في كل إمامي لم يثبت فسقه».

ولكن يتوجه عليه أولا : أنه لا ظهور لقبول الرواية في كونه مستندا إلى هذا الأصل ، لقوة احتمال اعتماده على حسن الظاهر ، لأماريته عليها.

وثانيا : أن ابتناء قبول روايته على أصالة العدالة معارض بما ذكره العلامة في زيد الزراد وزيد النرسي من قوله : «ولما لم أجد لأصحابنا تعديلا فيهما ولا طعنا عليهما توقفت عن روايتهما» فانه لو اعتمد في التعديل على أصالة العدالة لم يكن لتوقفه هنا وجه أصلا.

فالمتحصل : أن توثيقات العلامة لم تكن مبتنية على هذا الأصل. ولكن يتوجه عليه (قده) إشكال آخر ، وهو : أنّه فسّر العدالة بالملكة ، وجعل طريق معرفتها الاختبار والتزكية ، فان اعتمد في قبول رواية أحمد بن إسماعيل على حسن الظاهر وكان أمارة عليها بنظره ، فلا بد من الالتزام بقبول رواية زيد الزراد وزيد النرسي أيضا. وان توقف ثبوتها على الاختبار أو التزكية كما هو صريح عبارته في نهاية الوصول لم يكن لقبول رواية أحمد بن إسماعيل أيضا وجه.

الرابع : اعتماد السيرافي وجمع من الأصحاب على روايته ، كما يظهر مما حكاه النجاشي عنه في ترجمة الحسين بن سعيد الأهوازي ، وأن له ثلاثين كتابا قال : «أخبرني بهذه الكتب غير واحد من أصحابنا من طرق مختلفة كثيرة

١٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فمنها ما كتب إليّ به أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن نوح السيرافي رحمه‌الله في جواب كتابي إليه ، والّذي سألت تعريفه من الطرق إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي رضي‌الله‌عنه .... إلى أن قال : فأمّا ما عليه أصحابنا والمعوّل عليه ما رواه عنهما أحمد بن محمد بن عيسى .... إلى أن قال : وأخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن يحيى العطار القمي ، قال : حدثنا أبي وعبد الله بن جعفر الحميري وسعد بن عبد الله جميعا عن أحمد بن محمد بن عيسى ...».

ولا ريب في ظهور هذا الكلام في اعتماد الأصحاب والسيرافي على ما رواه أحمد بن محمد بن يحيى العطار من كتب الحسين والحسن ابني سعيد الأهوازي خصوصا مع ملاحظة ما ورد في شأن السيرافي من التجليل ، قال النجاشي في حقه : «كان ثقة في حديثه متقِنا لما يرويه فقيها بصيرا بالحديث والرواية ، وهو أستاذنا وشيخنا ومن استفدنا منه ، وله كتب كثيرة» (١) وأنت ترى أن في توصيفه بالإتقان لما يرويه وبصيرته بالحديث دلالة على مهارته وتضلعه في نقد الأحاديث وتثبته في نقلها ، وهذا أمر زائد على مجرد الضبط المعتبر في الراوي المدلول عليه بأنه ثقة ، ومع هذا ، فلو كان في الرّجل شائبة الغمز هل كان يصح للسيرافي أن يعتمد في رواية كتب الحسين بن سعيد على رواية أحمد بن محمد بن يحيى لها ، بل كان عليه أن يقنع بقوله : «والّذي عليه أصحابنا» من دون تعقيبه بقوله : «والمعول عليه».

ولكن مع ذلك فقد ناقش بعض الأعاظم في دلالته على وثاقة الرّجل بقوله : «ويرده أولا : ما عرفت من أن اعتماد القدماء على رواية شخص لا يدل على

__________________

(١) رجال النجاشي ، ص ٤٤.

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

توثيقهم إياه ، وذلك لما عرفت من بناء ذلك على أصالة العدالة التي لا نبني عليها. وثانيا : أن ذلك انما يتم لو كان الطريق منحصرا برواية أحمد بن محمد ابن يحيى ، لكنه ليس كذلك ، بل ان تلك الكتب المعول عليها قد ثبتت بطريق آخر صحيح وهو الطريق الأول الّذي ينتهي إلى أحمد بن محمد بن عيسى ، ولعل ذكر طريق آخر انما هو لأجل التأييد».

وما أفاده دام ظله لا يخلو من غموض ، أما الأول ، فلأنه لم يثبت اعتماد القدماء بأجمعهم على أصالة العدالة وان ثبت ذلك من الشيخ وأضرابه ، وأما السيرافي وغيره من الأصحاب الذين اعتمدوا على روايات الرّجل فلم يثبت لنا تعويلهم على الأصل المذكور ، وما لم يحرز ذلك لا يتيسر طرح شهادتهم بمجرد احتماله مع كون ظاهر شهادتهم عن حس ، ولا أقل من الشك ، والمرجع بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة فيما لم يعلم أنه نشأ من الحدس وإعمال النّظر كما هو مبناه دام ظله على ما ذكره في المدخل ص ٥٥.

وأما الثاني ، فلان السيرافي عدّ الطريق الثاني إلى كتب الحسين بن سعيد على وزان الطريق الأول ، وهذا ظاهر في أن المعول عليه في رواية تلك الكتب هو كل واحد من الطريقين بالاستقلال ، وليس في كلامه ما يستشم منه أن الطريق الثاني ذكر تأييدا لا استنادا.

والإنصاف أنه لا قصور في دلالة كلام السيرافي على اعتبار أحمد واعتماد الأصحاب على رواياته وركونهم إليها ، وهذا المقدار كاف لنا في قبولها وان لم تتصف بالصحّة باصطلاح المتأخرين ، إذ استظهار عدالة الرّجل من العبارة المتقدمة مشكلة وان استظهرها ـ من مجموع ما تقدم ـ العلامة المامقاني (قده)

١٨٣

فالإلزام المجهول (١) (*) مما لا يعلمون ، فهو مرفوع

______________________________________________________

الاستدلال بالسنة على البراءة

١ ـ حديث الرفع

(١) هذا التقريب مبني على إرادة الحكم من الموصول لا الموضوع كما سيأتي تصريحه به.

__________________

بقوله : «وملخص المقال : أنا لا نتوقف بوجه في عدّ الرّجل من الثقات ، وعدّ حديثه صحيحا» (١).

والحاصل : أنه ينبغي التعبير عن حديث الرفع بالمعتبر لا بالصحيح كما هو المتداول عليه.

(*) وعليه فالرفع تعلق بنفس الإلزام المجهول الواقعي في مرحلة الظاهر خلافا لما يظهر من كلام الشيخ الأعظم (قده) حيث انه جعل المرفوع إيجاب الاحتياط. وأورد عليه بأنه خلاف ظاهر الحديث ، حيث ان ظاهره اسناد الرفع إلى نفس ما لا يعلم وهو الحكم الواقعي لا وجوب الاحتياط ، ومع إمكان التحفظ على الظاهر لا وجه لارتكاب خلافه وجعل المرفوع غير الحكم الواقعي. نعم رفع الحكم الواقعي يستلزم نفي وجوب الاحتياط.

ويمكن الجمع بين كلامي الشيخ والمصنف (قدهما) بأن معنى رفع الحكم المجهول الواقعي ظاهرا ـ أي حال الشك ـ رفع تحريكه ونفي صلاحيته للبعث والدعوة نحو المتعلق أو الزجر عنه ، وهذا عين نفي إيجاب الاحتياط ، إذ إيجابه يكشف عن كون الحكم الواقعي محرِّكا وباعثا أو زاجرا فعلا ، غاية الأمر أن محركيته حال الجهل به تكون بإيجاب الاحتياط ، وحال العلم به تكون بنفسه.

__________________

(١) تنقيح المقال ، ج ١ ، ص ٩٦.

١٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وان شئت فقل : ان رفع الحكم المجهول ظاهرا ليس معناه رفعه حقيقة حتى يلزم التصويب ، بل معناه رفع مرتبة محركيته المنوطة بوصوله إلى المكلف ، وأصالة البراءة ترفع هذه المرتبة بعد أن كان المقتضي لجعل ما يحرِّكه حال الجهل به موجودا كوجود المقتضي لأصل تشريعه. وعلى هذا فالمراد من رفع الإلزام المجهول كما عبر به المصنف ورفع إيجاب الاحتياط ـ كما عبر به الشيخ ـ واحد ، والاختلاف انما هو في التعبير فقط.

لكن هذا الجمع بين كلاميهما مبني على كون إيجاب الاحتياط نفس الحكم الواقعي ، ومتمم قصور محركيته على تقدير وجوده ، وحكما صوريا على تقدير عدمه. وأما بناء على مغايرة إيجاب الاحتياط للحكم الواقعي فلا يصح هذا الجمع ، ولا يلتئم كلامهما قدس‌سرهما.

وكيف كان فالاستدلال بهذا الحديث الشريف على البراءة مبني على إرادة الحكم من الموصول في «ما لا يعلمون» سواء كان منشأ الشك في الحكم فقد الحجة أم الأمور الخارجية حتى يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية معا ، أو إرادة ما يعم كلتا الشبهتين ، بأن يقال : رفع الموضوع الكلي فيما لا يعلمون أعم من رفعه بعنوانه الأولي الذاتي كشرب التتن ، ومن رفعه بعنوانه الثانوي الناشئ عن احتمال انطباقه على الموجود الخارجي كالخمر المحتمل انطباقه على المائع المردد بين الخمر والخل ، فان المرفوع حينئذ هو شرب الخمر المحتمل الانطباق على هذا المائع ، لا الخمر بعنوانه الأولي.

وبالجملة : فالموضوع الكلي المجهول مرفوع شرعا سواء أكان بعنوانه الأولي أم الثانوي ، ويسمى الأول بالشبهة الحكمية والثاني بالشبهة الموضوعية ومع

١٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إمكان إرادة كلتا الشبهتين من «رفع ما لا يعلمون» بلا تكلف ـ لا سيما مع كونه امتنانيا يناسبه التعميم ، وخصوصا بالتقريب الأول وهو إرادة الحكم من الموصول ـ لا وجه لاختصاصه بالشبهة الموضوعية ، بدعوى ظهور وصف الموضوع في كونه بحال نفسه لا بحال متعلقه وهو الحكم ، فلو كان الموصول الفعل الخارجي المجهول نفسه لا حكمه كالمائع الخارجي المجهول عنوانه كان الحديث مختصا بالشبهة الموضوعية وأجنبيا عن الشبهات الحكمية.

وربما يستشهد لهذه الدعوى بوجوه :

منها : وحدة السياق ، حيث ان المراد بالموصول في غير «ما لا يعلمون» هو الفعل الإكراهي والاضطراري ونحوهما ، إذ لا معنى لتعلق الإكراه والاضطرار بنفس الحكم ، فالمراد بالموصول في «ما لا يعلمون» أيضا هو الفعل لا الحكم فيختص بالشبهات الموضوعية.

وفيه أوّلا ما قيل من : أن وحدة السياق محفوظة ، لأن المراد بالموصول في الجميع هو الشيء المبهم الّذي ينطبق فيما عدا ما لا يعلمون على الأفعال ، وفيه على الحكم ، يعني : أن المرفوع هو الحكم سواء أكان الشك فيه ناشئا من فقد الدليل أم من الأمور الخارجية ، فالرفع في جميع الفقرات أسند إلى الشيء غاية الأمر أنه ينطبق في غير «ما لا يعلمون» من الاضطرار والإكراه وغيرهما على الأفعال ، وفي «ما لا يعلمون» على الحكم ، فوحدة السياق محفوظة.

وثانيا : أن وحدة السياق لا تزاحم الحمل على الحقيقة ، ولا تقدم عليه ، فإذا أسند فعل إلى أمور مجازا كما إذا قيل : «جرى الميزاب والنهر والمطر» فلا توجب وحدة السياق في اسناد الجريان إلى الميزاب والنهر مجازا مجازية اسناد

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الجريان إلى المطر أيضا ، بل مجرد إمكان الحمل على الحقيقة يمنع عن قرينية الظهور السياقي ، ومن المعلوم أن اسناد الرفع إلى الأفعال الاضطرارية والإكراهية وغيرهما مجازي ، لكونه إلى غير ما هو له ، وإسناده إلى الحكم فيما لا يعلمون حقيقي ، لكونه إلى ما هو له ، فلا بد من المصير إليه وعدم الاعتناء بوحدة السياق.

ودعوى وحدة الإسناد إلى التسعة ، وعدم إمكان اتصاف اسناد واحد بالحقيقي والمجازي ، فلا بد من إرادة الفعل فيما لا يعلمون كإرادته من سائر الفقرات حتى يتصف هذا الإسناد الواحد في الكل بوصف واحد وهو المجازية ، مندفعة بأن التسعة عنوان مشير إلى تلك الفقرات ، فيتعدد الرفع بتعددها ، فلا يلزم اتصاف اسناد واحد بالحقيقي والمجازي.

فالمتحصل : أن ظهور الرفع في «ما لا يعلمون» في رفع الحكم مطلقا ـ سواء أكان كليا كما في الشبهة الحكمية أم جزئيا كما في الشبهة الموضوعية ـ مما لا ينبغي إنكاره ، واسناد الرفع فيه حقيقي ، لكونه إلى ما هو له كما لا يخفى.

ومنها : أن ورود الحديث مورد الامتنان يقتضي أن يكون المرفوع مما فيه ثقل على المكلف ، ومن الظاهر أن الثقيل هو الفعل أو الترك ، إذ الحكم فعل المولى ولا ثقل فيه على المكلف ، فلا بد أن يكون المرفوع فيما لا يعلمون كسائر الفقرات هو الفعل لا الحكم.

وفيه : أن الثقل في إلزام المكلف بالفعل أو الترك ، إذ بدونه لا ثقل عليه ، فالموجب للثقل والضيق هو حكم الشارع ، فيصح اسناد الرفع إليه.

ومنها : أن الوضع والرفع متقابلان ومتواردان على مورد واحد ، ومن

١٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الظاهر أن الوضع يتعلق بالفعل ، حيث ان التكليف وضع الفعل أو الترك على عهدة المكلف في وعاء التشريع ، فالرفع أيضا يتعلق برفع الفعل عن عهدته لا الحكم. وعليه فالمرفوع فيما لا يعلمون هو الفعل.

وفيه : أن المرفوع حقيقة ما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع ، وذلك ليس إلّا الحكم الّذي هو من أفعاله الاختيارية ، فكل من الوضع والرفع يتعلق بنفس التكليف الّذي هو مجعول الشارع ، ولو أسند الرفع أو الوضع في الكلام إلى الفعل فلا بد من إرجاعه إلى الحكم ، ولذا يقال : انه إثبات الحكم بلسان إثبات الموضوع ، أو نفيه بلسان نفي الموضوع ، وأنه من النفي المركب ، ولو كان اسناد الرفع إلى الفعل إسنادا إلى ما هو له لم يكن للإرجاع المزبور وجه ، وكان النفي بسيطا لا مركبا ، فتقابل الوضع والرفع انما هو بالنسبة إلى الحكم ، فيتواردان عليه. وكون الفعل أو الترك في العهدة انما ينتزع عن تشريع الحكم. لا أن الفعل أو الترك بنفسه مجعول على عهدة المكلف.

وبالجملة : فهذا الوجه يؤيد بل يدل على أن المرفوع في «ما لا يعلمون» هو الحكم ، ولا يدل بوجه على إرادة الفعل من «ما لا يعلمون».

ولا فرق فيما ذكرنا من أن المرفوع نفس الحكم بين كون ظرف الرفع هو الإسلام في قبال الأديان السابقة ، وبين كونه ذمة الأُمّة الإسلامية في قبال الأُمم السابقة ، وذلك لأجنبية الظرف عن المظروف ، فلو كان الظرف ذمة المكلف لم يقتض ذلك كون متعلق الوضع والرفع فعل العبد كما قيل.

ومنها : أنه لا إشكال في شمول الحديث للشبهات الموضوعية ، فأريد الفعل من الموصول في «ما لا يعلمون» قطعا ، فلو أريد به الحكم أيضا لزم استعماله

١٨٨

فعلا (١) (*) وان كان ثابتا واقعا ، فلا مؤاخذة (٢) عليه قطعا.

______________________________________________________

(١) يعني : ظاهرا كما يستفاد من كلامه هنا «وان كان ثابتا واقعا» ومما أفاده في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بقوله : «فانقدح بما ذكرنا أنه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعليا ....» إذ لا معنى لرفعه واقعا لاستلزامه التصويب ، لتقيد الحكم الواقعي بالعلم حينئذ ، فالرفع يتعلق ببعض مراتب الحكم وهو مرتبة التنجز ، لا بجميعها يعني : حتى مرتبة الاقتضاء والإنشاء ، فالرفع هنا ظاهري ، بخلاف الاضطرار ، إذ الرفع فيه واقعي ، لارتفاع التكليف به واقعا.

(٢) أي : فلا مؤاخذة على الإلزام المجهول ، لترتب استحقاق المؤاخذة على مخالفة الحكم المنجز ، والمفروض انتفاء هذه المرتبة.

__________________

في معنيين وهو غير جائز.

وفيه ما عرفت من : أن المراد بالموصول هو نفس الحكم سواء أكان الشك فيه ناشئا من عدم الدليل أم من الأمور الخارجية ، فيراد من الموصول كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية من دون لزوم محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

فالمتحصل : أن الحديث الشريف يدل على البراءة ، وأن الاستدلال به عليها متين.

(*) لسيدنا الأستاذ (قده) كلام في هذا المقام قد أفاده في مجلس الدرس ، وحاصله : أن المرفوع في ما لا يعلمون كما يقتضيه وحدة السياق هو رفع الحكم الواقعي حقيقة كسائر الفقرات المذكورة في الحديث الشريف من دون لزوم محذور التصويب. توضيحه : أن كل تكليف سواء كان في الماليات أم غيرها ينحل إلى حكمين : وضعي وهو جعل متعلقه على عهدة المكلف وإشغال

١٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ذمته به ، وتكليفي وهو مطالبة متعلقه والتحريك نحوه ، ففي حرمة شرب الخمر ووجوب النفقة مثلا يجعل نفس الفعل والترك على العهدة ، وهذا المعنى هو المقصود من الوضع. وعليه فالمرفوع في «ما لا يعلمون» هو التكليف دون الوضع المزبور الّذي هو الحكم المشترك بين العالم والجاهل على ما قام عليه الإجماع والأخبار ، ولا يلزم منه محذور التصويب أصلا ، إذ المفروض عدم ارتفاع الحكم المشترك. والّذي يدل على ذلك أمور :

الأول : ظواهر أدلة البراءة ، إذ لا سبيل إلى إنكار ظهورها في الرفع الحقيقي كالرفع في سائر الفقرات ، كما لا سبيل إلى التصرف فيها وحملها على الرفع ظاهرا كما في المتن وغيره.

الثاني : استحالة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، لامتناع جعل حكمين مثلين أو ضدين لموضوع واحد ، وعدم إجداء تعدد الرتبة في جوازه ما لم يرجع إلى تعدد الموضوع كما فصل في محله ، فلا بد من كون المرفوع التكليف والثابت المشترك بين الكل هو الوضع.

الثالث : ما دلّ على وجوب قضاء الصلاة والصوم على من تركهما لنوم أو غفلة ، لسقوط الخطاب في حالتي الغفلة والنوم ، فلا موجب لقضائهما إلّا شغل الذّمّة.

فالمتحصل : أن لكل حكم جهتين تكليفا ووضعا ، والمرفوع بالبراءة حقيقة هو التكليف ، لأنه مترتب على العلم بالوضع ، فبدون العلم به لا تكليف حقيقة.

أقول : ويتوجه على ما أفاده قدس الله تعالى نفسه الطاهرة أوّلا : أن ملازمة كل تكليف لوضع غير ثابتة ، والأدلة الثلاثة المتقدمة لا تفي بإثباتها ، إذ في أولها :

١٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أن محذور التصويب كما يرتفع بجعل المرفوع التكليف الواقعي ، كذلك يرتفع بجعله إيجاب الاحتياط ، ولا مرجِّح للأول على الثاني. وتوهم أن اسناد الرفع في الأول حقيقي وفي الثاني مجازي ، فيرجح الأول عليه ، فاسد ، ضرورة أن الإسناد في كليهما حقيقي ، حيث ان المرفوع في كل منهما هو الحكم الشرعي خصوصا إذا قلنا ان إيجاب. الاحتياط هو نفس الحكم الواقعي ، فأدلة البراءة ترفعه في مرحلة التنجز ، وهذا مراد المصنف (قده) بقوله : «فالإلزام المجهول مما لا يعلمون فهو مرفوع فعلا».

وفي ثانيها : أن الاستحالة المزبورة ترتفع أيضا بما ذكر من جعل المرفوع إيجاب الاحتياط ، فالحكم الواقعي موجود في صقعه ، والمرفوع في حالة الجهل به هو تنجزه وباعثيته ، بل قد تقدم سابقا أن أدلة البراءة إرشاد إلى البراءة العقلية من دون دلالتها على تشريع حكم حتى نلتجئ إلى الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ، فلا موجب لجعل المرفوع نفس الحكم الواقعي بوجوده الإنشائي كما أفاده قدس‌سره.

وفي ثالثها : أن وجوب القضاء كما يحتمل أن يكون لأجل الوضع ، كذلك يحتمل أن يكون لتمامية الملاك ، ومع الاحتمال المصادم للظهور يبطل الاستدلال.

وثانيا : ـ بعد تسليم انحلال كل حكم إلى تكليف ووضع ـ أن لازم هذا المبنى انسداد باب البراءة في الشبهات الحكمية ، إذ المفروض ترتب الحكم على العلم بالوضع ترتب الحكم على موضوعه ، فنفس الجهل بالوضع يوجب القطع بعدم التكليف ، فلا شك فيه حتى ينفي بالبراءة. وان جرت البراءة في الوضع دون التكليف لزم التصويب ، إذ لازمه توقف الحكم المشترك بين

١٩١

لا يقال : ليست المؤاخذة (١) (*) من الآثار الشرعية

______________________________________________________

(١) غرضه : أن أصالة البراءة التي هي من الأصول العملية لا تنفي إلّا الآثار الشرعية ، ومن المعلوم أن المؤاخذة ليست منها ، ضرورة أن نفسها من الأمور التكوينية ، واستحقاقها من الأحكام العقلية ، فلا ترتفع المؤاخذة بإجراء البراءة

__________________

الكل وهو الوضع على العلم به ، وهو محال ، لأنه دور.

وثالثا : أنه يلزم على هذا المبنى انسداد باب وجوب تعلم الأحكام أيضا ، إذ المفروض أنها موقوفة على العلم بالوضع توقف الحكم على موضوعه ، وقد ثبت في محله عدم وجوب تحصيل الموضوع ، ومجرد العلم الإجمالي باشتغال الذّمّة بأفعال وتروك لا يجدي في إثبات وجوب التعلم ، لأنه علم إجمالي بالموضوع ، والمجدي هو العلم بالحكم.

إلّا أن يقال : ان العلم الإجمالي بالموضوع علم إجمالي بالحكم ، وهذا كاف في تنجيز الأحكام التكليفية المترتبة على الوضع ، وفي وجوب تعلمها.

أو يقال : ان التكليف ليس مترتبا على الوضع ترتب الحكم على موضوعه ، بل هما في رتبة واحدة ، ومعلولان لعلة ثالثة ، وحينئذ يكون الرجوع إلى الأدلة موجبا للعلم بكل من الوضع والتكليف ، وبه يندفع الإشكال الثاني وهو انسداد البراءة في الشبهات الحكمية ، والإشكال الثالث وهو انسداد باب وجوب تعلم الأحكام. نعم يبقى الإشكال الأول وهو عدم الدليل على انحلال كل حكم إلى تكليف ووضع ، ولا بد من مزيد التأمل وإمعان النّظر فيما أفاده رفع الله تعالى في الخلد مقامه.

(*) لا يخفى أن الإشكال في المؤاخذة من ناحيتين :

إحداهما : عدم كونها أثرا شرعيا حتى يصح جريان أصل البراءة التي هي من الأصول العملية فيها.

١٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لا بلا واسطة كما يقول به القائل بتعلق الرفع بنفس المؤاخذة ، ولا مع الواسطة كما يقول به القائل بتعلقه بها ، ورفعها تعبدا بسبب رفع الحكم الواقعي ظاهرا أو رفع إيجاب الاحتياط. وقد نبّه على هذا الإشكال شيخنا الأعظم ، قال : «فان قلت : على ما ذكرت يخرج أثر التكليف فيما لا يعلمون عن مورد الرواية ، لأن استحقاق العقاب أثر عقلي له مع أنه متفرع على المخالفة بقيد العمد ... وأما نفس المؤاخذة فليست من الآثار المجعولة الشرعية ... إلخ».

__________________

ثانيهما : أن المؤاخذة ليست من آثار التكليف المجهول حتى ترتفع برفعه بل هي من آثار التكليف الفعلي المنجز ، فلا عقاب عقلا على ما لم يتنجز.

ويندفع الإشكال من الناحية الأولى بما أفاده في المتن والهامش من أن رفع المؤاخذة ليس للتعبد برفع نفسها حتى لا يعقل التعبد به نفيا وإثباتا ، بل لنفي موضوعها وهو التكليف الفعلي الواقعي أو الظاهري ، فان استحقاقها مترتب على مخالفته بعد وصوله إلى المكلف ، فعدم الاستحقاق انما هو لعدم مخالفة التكليف الواصل ، سواء كان هناك تكليف واقعا ولم يصل إلى المكلف ولو بإيجاب الاحتياط أم لم يكن أصلا.

ويندفع الإشكال من الناحية الثانية بأن المؤاخذة وان لم تكن من آثار التكليف المجهول بما هو مجهول ، لكنها من آثار ما يقتضيه الواقع المجهول من إيجاب الاحتياط المصحح للمؤاخذة ، فهي أثر الأثر ، فرفع التكليف المجهول تعبدا رفع لأثره أعني إيجاب الاحتياط الّذي هو موضوع الاستحقاق.

وبالجملة : فلا مانع من رفع المؤاخذة بإجراء أصالة البراءة في التكليف المجهول.

لكن قد تقدم في مبحث التجري أن موضوع حكم العقل باستحقاق العقوبة

١٩٣

كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا ، فلا دلالة له (١) على ارتفاعها (*).

فانه يقال : انها (٢) وان لم تكن بنفسها أثرا شرعيا ،

______________________________________________________

(١) أي : فلا دلالة لحديث الرفع على ارتفاع المؤاخذة ، وقوله : «ظاهرا» قيد لـ «بارتفاع التكليف».

(٢) أي : المؤاخذة ، وتوضيح هذا الجواب : أن الآثار العقلية تثبت تارة لمجرى الأصل واقعا ، وأخرى لما هو أعم من الواقع والظاهر ، فان كانت من قبيل الأول فالأصل لا يثبتها ، وهذا ما اشتهر بينهم من أن الأصل لا يثبت الآثار غير الشرعية ، وان كانت من قبيل الثاني فالأصل يثبتها ، وقبح العقاب من هذا

__________________

هو الظلم على المولى والخروج عن رسوم العبودية ، وذلك يتحقق بمخالفة التكليف المنجز وهو الواصل إلى المكلف دون غير الواصل ، فانه ليس موضوعا لحكم العقل باستحقاق العقوبة على مخالفته ، فلا مؤاخذة على التكليف المجهول الأوّلي أو إيجاب الاحتياط.

وبالجملة : فجعل المرفوع المؤاخذة ثم الإشكال عليه والجواب عنه مما لا وجه له. فالأولى إجراء البراءة في إيجاب الاحتياط الّذي يقتضيه نفس التكليف المجهول أو ملاكه ، فان البراءة الشرعية تجري فيما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع وهو إيجاب الاحتياط ، ولا حاجة معه إلى تجشم رفع المؤاخذة بالبراءة الشرعية بعد كفاية البراءة العقلية وهي قبح العقاب بلا بيان لنفيها.

(*) مع أن ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهم في المقام ، والتحقيق في الجواب أن يقال : ـ مضافا إلى ما قلنا ـ ان الاستحقاق وان كان أثرا عقليا ، إلّا أن عدم الاستحقاق عقلا مترتب على عدم التكليف شرعا ولو ظاهرا ، تأمل تعرف.

١٩٤

إلّا أنها (١) مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه من (٢) إيجاب الاحتياط (*) شرعا ، فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه (٣) المستتبع [المتتبع] لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته (٤).

______________________________________________________

القبيل ، لترتبه على عدم الحكم مطلقا وان كان ظاهرا. ومثله حسن المؤاخذة فانه يترتب على ثبوت التكليف ولو ظاهرا.

فالنتيجة : أن أصالة البراءة النافية للتكليف ظاهرا تنفي استحقاق المؤاخذة كما ينتفي استحقاقها بعدم الحكم واقعا ، وقد أشار إلى عدم استحقاق العقاب بنفي التكليف ظاهرا شيخنا الأعظم (قده) بعد عبارته المتقدمة بقوله : «والحاصل : أن المرتفع فيما لا يعلمون وأشباهه مما لا يشمله أدلة التكليف هو إيجاب التحفظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي ، ويلزمه ارتفاع العقاب واستحقاقه ، فالمرتفع أوّلا وبالذات أمر مجعول يترتب عليه ارتفاع أمر غير مجعول ... إلخ».

(١) أي : المؤاخذة ، وضمير «عليه» راجع إلى التكليف المجهول.

(٢) بيان لـ «ما» الموصول ، وضميرا «أثره ، باقتضائه» راجعان إلى التكليف المجهول ، يعني : أن المؤاخذة من آثار إيجاب الاحتياط الّذي هو من آثار الحكم المجهول. وضمير «رفعه» راجع إلى التكليف المجهول.

(٣) أي : إيجاب الاحتياط ، يعني : أن الدليل على نفي التكليف المجهول دليل على نفي إيجاب الاحتياط ، لعدم ارتفاع الواقع بالجهل به ، فلا بد أن يكون المرفوع أثره ومقتضاه وهو إيجاب الاحتياط.

(٤) أي : مخالفة التكليف ، و «المستتبع» صفة لـ «عدم إيجابه» يعني : لمّا كان إيجاب الاحتياط علة للمؤاخذة فنفيه علة لعدمها ، وقد أشار المصنف إلى هذا في حاشيته على المقام فلاحظها.

__________________

(*) ربما يقال : ان جعل إيجاب الاحتياط من آثار التكليف المجهول

١٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومقتضياته حتى يكون التعبد برفعه تعبدا برفع إيجاب الاحتياط لا يخلو من الإشكال ، ضرورة أن المقتضي بجميع معانيه أجنبي عن المقام ، إذ لو كان بمعنى السبب فلان السبب الفاعلي لكل حكم هو الحاكم ، ولو كان بمعنى الغاية فلان مورده هو الفوائد التي يدعو تصورها إلى إيجاد ما يقوم بتلك الفوائد كالجلوس المترتب على السرير خارجا ، والداعي تصوره إلى إيجاد السرير ، ومن المعلوم أن التكليف المجهول ليس من الفوائد المترتبة على إيجاب الاحتياط حتى يكون تصوره داعيا إلى إيجابه. ولو كان بمعنى مطلق ما يترتب عليه الأثر الشامل لكل حكم يترتب على موضوعه ، فلان إيجاب الاحتياط ليس حكما متعلقا بالحكم الواقعي تعلق الحكم بموضوعه.

وبالجملة : فالسبب بجميع معانيه أجنبي عن التكليف المجهول.

فالأولى أن يقال : ان الملاك كما يدعو إلى تشريع الحكم الواقعي كذلك يدعو إلى ما يوجب وصول الحكم إلى المكلف ، إذ لا يستوفي الملاك بمجرد جعل التكليف ، بل لا بد في استيفائه من إيصال الحكم إلى المكلف ، فكل من التكليف المجهول وإيجاب الاحتياط مسبب عن الملاك ، فليس أحدهما ناشئا عن الآخر حتى يندرج في باب الاقتضاء.

أقول : لما كان الغرض من التكاليف احداث الداعي العقلي للمكلف ، ويتوقف ذلك على وصولها إليه ، ومن المعلوم أن وصولها إليه من صفات التكليف وكل موصوف يقتضي وصفه ، فبهذه العناية يصح أن يقال : ان التكليف المجهول يقتضي اتصافه بالمحركية المتوقفة على وصوله إلى المكلف ، ووصوله إليه في ظرف الجهل به منوط بنصب الطريق أو بإيجاب الاحتياط الّذي هو غيره

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مفهوما وعينه خارجا.

والحاصل : أن المجعول الشرعي يقتضي أن يوجد الداعي في المكلف إلى موافقته ، ولا يمكن أن يكون داعيا حال الجهل إلّا بنصب الطريق أو بإيجاب الاحتياط. وعليه فإيجاب أحدهما لأجل التنجيز مما يقتضيه التكليف بلحاظ احداث الداعي للعبد ، فالتنجز المنوط بالوصول إلى المكلف وان لم يكن من مراتب الحكم كما تقدم في بعض التعاليق ، لكنه من أوصافه ، وكل موصوف يقتضي وصفه ، فالحكم المجهول مقتض لوصفه وهو التنجز المتوقف على إيجاب الاحتياط ، فيصح رفعه برفع التكليف المجهول تعبدا ، لكونه من أوصافه.

وعليه فليس إيجاب الاحتياط مقدميا ولا إرشاديا ولا نفسيا ، حتى يرد على الأول أوّلا : أن الوجوب المقدمي معلول لوجوب ذي المقدمة ، فيتبعه ثبوتا وفعلية وتنجزا ، فلا يعقل أن يتنجز وجوب ذي المقدمة من قِبَله.

وثانيا : أن الاحتياط ليس مقدمة وجودية لما تعلق به التكليف ، بل هو عنوان له ، فلا اثنينية بينهما وجودا حتى ينطبق عليه عنوان المقدمة الوجودية فيجب بوجوبه.

وعلى الثاني : أن الإرشاد إلى ترتب استحقاق العقاب على مخالفة الواقع المجهول فرع تنجزه ، والمفروض أنه لا منجز له إلّا الأمر الإرشادي بالاحتياط.

وعلى الثالث أوّلا : أن مقتضى النفسيّة تنجز نفس وجوب الاحتياط بوصوله دون الواقع المجهول ، وهو خلف.

وثانيا : أنه يلزم اجتماع وجوبين نفسيين على واحد ، إذ الاحتياط في محتمل الوجوب انما هو بفعل الواجب ، وهو غير معقول.

١٩٧

لا يقال (١) : لا يكاد يكون إيجابه (٢) مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول بل (٣) على مخالفة [مخالفته] نفسه كما هو قضية إيجاب غيره (٤).

______________________________________________________

(١) توضيح الإشكال : أن رفع إيجاب الاحتياط لا يوجب رفع المؤاخذة على التكليف المجهول ، بل يوجب رفعها على نفسه ، لأن شأن الوجوب المولوي هو استحقاق المؤاخذة على مخالفته ، فوجوب الاحتياط لما كان علة لاستحقاق المؤاخذة على مخالفة نفسه كان رفع وجوبه علة لارتفاع المؤاخذة على نفس وجوب الاحتياط ، لا لارتفاع المؤاخذة على التكليف المجهول ، وحينئذ فلا يدل رفع إيجاب الاحتياط على رفع المؤاخذة على التكليف المجهول.

(٢) أي : إيجاب الاحتياط مستتبعا لاستحقاق المؤاخذة.

(٣) عطف على «مخالفة التكليف» يعني : بل يكون إيجاب الاحتياط مستتبعا لاستحقاق المؤاخذة على نفسه.

والحاصل : أن هنا حكمين : أحدهما الحكم الواقعي المجهول ، ثانيهما إيجاب الاحتياط في ظرف الجهل بالحكم الواقعي ، ومن المعلوم أن انتفاء المؤاخذة عن الثاني للجهل به لا يستلزم انتفاءها عن الأول ، وعليه فلا يصح مخالفة التكليف الواقعي المجهول.

(٤) أي : كما أن استحقاق المؤاخذة هو مقتضى مخالفة غير الاحتياط من الواجبات كالصلاة والصوم ونحوهما.

__________________

والحاصل : أن إيجاب الاحتياط متمم لقصور محركية التكليف المجهول وليس مغايرا له حقيقة بعد وحدة ملاكهما التي هي مناط وحدة الحكم وان تعدد الخطاب.

١٩٨

فانه يقال (١) : هذا (٢) إذا لم يكن إيجابه طريقيا (*) وإلّا فهو (٣) موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول كما هو الحال في غيره من

______________________________________________________

(١) توضيحه : أن الوجوب على قسمين : نفسي وطريقي ، واستحقاق العقوبة مختص بالأول دون الثاني ، إذ الوجوب الطريقي تابع للواقع ، فلا مؤاخذة عليه في نفسه ، وانما فائدته المؤاخذة على مخالفة الواقع عند الإصابة كما هو الحال في جميع الأوامر الطريقية عند الإصابة.

فتحصل : أن تشريع وجوب الاحتياط انما كان لأجل التحفظ على الواقع عند الجهل به ، فهو نظير الإيجاب الطريقي للأمارات بناء على القول به ، فان فائدته ليست إلّا تنجز الواقع عند الإصابة والعذر عند الخطأ ، ولا يترتب على نفس الطريق غير ما يترتب على موافقة الواقع ومخالفته ، فللمولى مؤاخذة العبد إذا خالف الواقع بترك الاحتياط فيه كصحة مؤاخذته على مخالفة الطريق المصيب.

(٢) أي : استتباع مخالفة وجوب الاحتياط للمؤاخذة على نفسه موقوف على القول بوجوبه نفسيا ، إذ عليه يلزم استحقاق المؤاخذة على مخالفته كلزومه على مخالفة سائر التكاليف النفسيّة. وأما إذا كان إيجاب الاحتياط طريقيا ، فلا يستحق المؤاخذة على مخالفة نفسه ، بل انما يستحقها على مخالفة ذي الطريق وهو التكليف المجهول ، وعليه فترتفع المؤاخذة من البين ببركة حديث الرفع الرافع لموضوع المؤاخذة أعني إيجاب الاحتياط.

(٣) أي : وان كان إيجاب الاحتياط طريقيا ، فهو موجب ... إلخ.

__________________

(*) كون إيجاب الاحتياط طريقيا لا يخلو من إشكال ، لأنه يعتبر الكشف الناقص في متعلق الإيجاب الطريقي كالأمارات ، وليس الاحتياط كاشفا عن الواقع ورافعا لحجابه ، فهو كالبراءة حكم على الشك الّذي لا يعقل أن يكون طريقا ، فالأولى أن

١٩٩

الإيجاب والتحريم (١) الطريقيين ، ضرورة (٢) أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به ، ويقال : لم أقدمت مع إيجابه؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ، كما يخرج بهما.

وقد انقدح بذلك (٣) أن رفع التكليف المجهول كان منّة على

______________________________________________________

(١) كوجوب الصلاة في الثوبين المشتبهين وحرمة التصرف في المال المشتبه. وضمير «غيره» راجع إلى إيجاب الاحتياط.

(٢) تعليل لقوله : «فهو موجب» توضيحه : أن إيجاب الاحتياط لتنجيز الواقع كالإيجاب والتحريم الطريقيين في صحة الاحتجاج والمؤاخذة وعدم كون العقاب معه عقابا بلا بيان ، بل مؤاخذة مع الحجة والبرهان ، فوزان إيجاب الاحتياط من حيث كونه حجة على الواقع وزان الإيجاب والتحريم الطريقيين ، فالتكليف بعد إيجاب الاحتياط وان لم يخرج وجدانا عن الاستتار ، بل هو باق على المجهولية ، لكنه خرج عن التكليف المجهول الّذي لم تقم عليه حجة وصار مما قام عليه البرهان. وضمير «انه» للشأن ، وضمير «بهما» في الموضعين راجع إلى الإيجاب والتحريم ، والضمير في «أن يحتج به ، إيجابه ، يخرج به» راجع إلى إيجاب الاحتياط.

(٣) أي : وقد ظهر بما ذكره من أن التكليف المجهول مقتض لإيجاب الاحتياط وهو مستتبع لاستحقاق المؤاخذة ورفعه علة لعدمه ... ، وغرضه : أن الحديث بعد أن كان واردا في مقام الامتنان ، ففي جعل المرفوع في «ما لا يعلمون» إيجاب الاحتياط منّة على العباد ، لأن رفعه يوجب السعة عليهم ، بخلاف إيجابه ، فانه يوجب الضيق والكلفة عليهم.

__________________

يقال : «إذا لم يكن إيجابه لتنجيز الواقع».

٢٠٠