منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يقبح العقاب على المخالفة بسبب إيجاب الاحتياط.

__________________

لقيام الملاك به ، وأخرى بما هو معرِّف ومشير إلى ما هو الموضوع لُبّا وبحسب الواقع ، فالأوّل كقوله : «صل الجمعة يومها» حيث ان موضوع الحكم صلاة الجمعة التي تقوم المصلحة بها ، ويكون وجوبها نفسيا ، لقيام الملاك بهذا العنوان. والثاني كقوله : «احتط لدينك» فان العنوان المأخوذ موضوعا معرِّف للأحكام الواقعية غير الواصلة إلى المكلف بعناوينها من وجوب الصلاة وحرمة شرب التتن ونحوهما ، وحينئذ فمع إمكان إيصال الحكم بعنوانه إلى المكلف لتحصيل الغرض القائم به ، فالأمر واضح. ومع تعذر إيصاله كذلك فلا مانع من إيصاله بإيجاب الاحتياط المنبعث عن نفس الغرض الواقعي القائم بصلاة الجمعة ، الداعي إلى تشريع وجوبها بذاتها ، ويكون هذا الإيجاب حافظا لمصلحة الواجب ، ومانعا من الوقوع في مفسدة تركه. وعليه فمنشأ مطلوبية الاحتياط هو التحفظ على الواقع بعد تعذر إيصاله إلى المكلف ، وهو معرف للتكاليف المجهولة ، ولا منافاة بين وجوبه المولوي النفسيّ ومعرِّفيته ، لتعلق الطلب به وانبعاث الأمر به عن الملاكات النّفس الأمرية الكامنة في المتعلقات.

وبالجملة : فليس الأمر بالاحتياط منبعثا عن الخطاب الواقعي ومتمما لقصور محركيته ، بل هو حكم مستقل في قبال الحكم الواقعي ناش من الغرض النّفس الأمري ، فهو متحد مع الحكم الواقعي رتبة وفي عرضه ، وكلاهما معلولان لعلة ثالثة وهو الملاك.

أقول : قد يختلج بالبال أن ما أفاده (قده) لا يخلو عن غموض ، أما منع كون الأمر بالاحتياط طريقيا ، فيتوجه عليه أوّلا : أن التنجيز هو جعل الواقع بمثابة يترتب على مخالفته العقوبة ، والظاهر أن المنجزية ـ وهي المصححية

٣٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لاستحقاق المؤاخذة على المخالفة ـ كالمعذِّرية ـ وهي المصححية للاعتذار ـ لم يتعلق بهما جعل شرعي ، بل هما اعتباران عقليان ينتزعان مما يكشف ذاتا عن الواقع كالعلم أو عَرضا كالطريق العلمي الكاشف عن الواقع بمعونة تتميم الكشف ، فحكم العقل بالتنجيز منوط بموضوعه وهو البيان الواصل من قبل المولى ، ومن المعلوم أن مفاد دليل اعتبار الأمارة ليس جعل المنجز ، بل إلغاء احتمال الخلاف ونحوه ، فمدلول «صدق العادل» هو إيصال الواقع إلى المكلف بخبر الثقة المستلزم لكون الخبر منجزا له وقاطعا للعذر الجهلي ، فمفاد أدلة الاحتياط أيضا جعل احتمال التكليف الإلزامي بعد الفحص بيانا شرعا على الواقع المحتمل ولو بعنوان آخر معرِّف له ، كبيانية الاحتمال عقلا قبل الفحص. وعليه فما يظهر من كلماته (قده) في مواضع من تعلق الجعل الشرعي بنفس التنجيز لا يخلو من مسامحة.

وثانيا : بعد تسليم إمكان جعل المنجز ، وعدم اختصاص التنجيز بما يكشف عن الواقع ذاتا ، أنه وان لم يتعلق الهيئة بما هو قابل للتنجيز مثل الخبر واليقين السابق في الاستصحاب والاحتمال في باب الاحتياط ، لكنه يمكن استكشاف جعل المنجزية إنّا من أدلة اعتبار الخبر والاستصحاب والاحتياط ، فانها تتوقف على اعتبار الشارع أوّلا وإبراز هذا الاعتبار ثانيا ، وما دل عليه مطابقة أو التزاما كاف في إثبات المقصود ، فان مثل قوله عليه‌السلام : «صدق العادل» أو «لا تنقض اليقين بالشك» أو «احتط» لو لم يكشف بالملازمة العرفية عن منجزية الخبر واليقين السابق والاحتمال لم يكن مصححا للمؤاخذة على مخالفة المؤدى واليقين السابق والاحتمال على تقدير مصادفة الواقع.

٣٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وعليه ، فما أفاده بقوله «: فما هو قابل لتعلق البعث الإنشائي به غير قابل للتنجز ولا للتنجيز وما هو قابل للمنجزية والمتنجزية وهو الاحتمال والتكليف غير قابل لتعلق البعث الإنشائي به» وان كان متينا في نفسه ، إلّا أنه لا سبيل إلى حصر الكاشف عن جعل المنجز في قابلية المادة لتعلق الطلب به ، بل يكفي ما دل عليه كناية وبالملازمة كما اعترف هو (قده) بذلك في أول بحث الأمارات بالنسبة إلى منجزية الأمر بتصديق العادل ، فليكن الأمر بالاحتياط دالا أيضا بالملازمة على منجزية الاحتمال ، فكما يكون قوله عليه‌السلام : «صدق العادل» إنشاء بداعي إيصال الواقع بخبر الثقة ، فكذلك قوله عليه‌السلام : «احتط» إنشاء بداعي جعل الاحتمال بيانا على الواقع المجهول ، فيكون منجزا.

فالنتيجة : أن تنجيز الواقع بأوامر الاحتياط ـ كما في المتن ـ صحيح ومعقول في نفسه ، إلّا أن في تسميته بالأمر الطريقي مسامحة ظاهرة ، كما تقدم في بعض التعاليق.

وأما ما أفاده (قده) من إثبات وجوب الاحتياط نفسيا ، فلا يخلو أيضا من غموض ، إذ فيه أولا : وجود القرينة الداخلية والخارجية على أن الأمر به للإرشاد ، أما الداخلية فهي أمور :

أحدها : قوله عليه‌السلام في أخباره : «احتط لدينك» و «خذ بالحائطة لدينك» ونحوهما ، فانها ظاهرة بل صريحة في أن الأمر به انما هو بداعي الإرشاد إلى حفظ الدين المراد به الأحكام الواقعية ، فالباعث على الأمر به ليس إلّا التحفظ عليها وعدم الابتلاء بمخالفتها الاحتمالية ، فهي من جهة ظهورها في الإرشاد لا تتفاوت مع أخبار الوقوف التي لا ريب في كون الأمر به إرشادا إلى

٣٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

التحرز عن العقوبة والمفسدة الواقعيتين.

ثانيها : قوله عليه‌السلام : «أخوك دينك» حيث ان التنزيل لو كان بلحاظ الوجوب الشرعي لكان اللازم تنزيل الدين منزلة من تجب إطاعته شرعا كالأب ونحوه لا الأخ الّذي ليس هو من حيث الأخوة واجب الإطاعة.

ثالثها : قوله عليه‌السلام : «فاحتط لدينك بما شئت» بتقريب : أن المشية غير ملائمة لوجوب الاحتياط ، وانما الملائم له «بما استطعت» بدل «بما شئت» فالمشية قرينة جلية على عدم إرادة الوجوب المولوي من الأمر بالاحتياط.

رابعها : قوله عليه‌السلام في المقبولة : «وهلك من حيث لا يعلم» ببيان أن الهلاكة ان كانت على مخالفة نفس الأمر بالاحتياط كان اللازم أن يقال : «وهلك من حيث يعلم» إذ المفروض العلم بوجوب الاحتياط ، ومن المعلوم قبح العقاب على المشتبه الّذي لم يتنجز فيه التكليف كالشبهة البدوية بعد الفحص ، فلا بد أن يراد ما تنجز فيه التكليف كالمقرونة والبدوية قبل الفحص ، فتدبر.

وأما القرينة الخارجية ، فهي : أن الاحتياط مما لا ريب في كونه من مراتب الإطاعة ، ومن المعلوم أن أوامر الإطاعة إرشادية لا مولوية ، فكل ما صدر من من الشرع في مراتب الامتثال يحمل على الإرشاد ، فقوله (قده) في آخر كلامه : «ولا قرينة عليه في خصوص أخبار الاحتياط» لا يخلو من الغموض.

وثانيا : أن فرض الأمر المولوي به يستلزم أحد محذورين على سبيل منع الخلو ، وهما تنجيز المنجز وإرادة المولوية والإرشادية من الأمر بالاحتياط في استعمال واحد ، وذلك لأن «الشبهة» المأخوذة موضوعا في أخبار الاحتياط تشمل إطلاقا أو تيقنا الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، وبناء على ما هو الحق

٣٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من منجزية العلم الإجمالي كالتفصيلي ، فان قلنا بشمول أخبار الاحتياط ـ الدالة على وجوبه النفسيّ ـ للشبهة المقرونة فلازمه تنجيز المعلوم بالإجمال ثانيا المستلزم لاستحقاق عقوبتين على المخالفة ، ومن المسلم أن المنجز لا يتنجز.

وان قلنا ـ فرارا عن هذا المحذور ـ بإخراج الشبهة المقرونة عن موضوع أخبار الاحتياط ، فهو ـ مضافا إلى كونه إخراجا لما هو المتيقن من مواردها ـ مستلزم لجعل الأمر بالاحتياط في الشبهة المقرونة والبدوية قبل الفحص إرشاديا وفي الشبهة البدوية بعد الفحص مولويا ، ومن الواضح امتناع إرادتهما معا منه في استعمال واحد.

ومما ذكرنا يظهر أن ما أفاده شيخنا الأعظم من دوران الأمر بالاحتياط بين الإرشاد والطلب المولوي المشترك بين الوجوب والندب بقوله (قده) في الجواب عن رواية الأمالي : «فبعدم دلالتها على الوجوب ، فيحمل على الإرشاد أو على الطلب المشترك بين الوجوب والندب» لا يخلو من غموض ، لما عرفت من أن أجلى أفراد الشبهة هي الشبهة المقرونة ، فان التزمنا بوجوبه المولوي لزم محذور تنجيز المنجز الّذي لا ريب في امتناعه. وان التزمنا باستحبابه المولوي لزم الترخيص في الارتكاب وقد استقل العقل بقبحه ، فيكون الحكم بالاستحباب شرعا مناقضا لهذا الحكم العقلي ، ومرجعه إلى وجوب الإطاعة وعدمه ، وعليه فمع استحالة إرادة كل من الوجوب والندب لا مجال لدعوى الحمل على الطلب الجامع بينهما.

فالمتحصل : أنه يتعين حمل ما دلّ على الاحتياط مطابقة كقوله : «احتط لدينك» أو التزاما ـ كأخبار الوقوف ـ على الإرشاد ، ولا مجال لدعوى الطلب

٣٤٥

والأصول (*) العملية (١) ، إلّا (٢) أنها تعارض بما هو أخص و [أو] أظهر

______________________________________________________

(١) يعني : ما يكون منها مثبتا للتكليف كالاستصحاب ، فانه في ظرف المخالفة ووجود الحكم واقعا يستحق المؤاخذة ، بل ومع عدم الحكم واقعا بناء على استحقاق المتجري للعقوبة.

(٢) الضمير راجع إلى أخبار الاحتياط المستفاد من قوله : «وما دل على وجوب الاحتياط» وهذا استدراك على قوله : «وان كان واردا» وإشارة إلى الجواب الثالث عن تلك الاخبار ، وقد ارتضاه المصنف (قده) ، وتوضيحه : أن أخبار الاحتياط ـ بناء على ظهورها في الوجوب المولوي ـ وان كانت واردة على قاعدة القبح ، لصلاحيتها للبيانية كما عرفت ، ولا يبقى معها موضوع للبراءة العقلية ، إلّا أنها معارضة بأخبار البراءة ، ويتعين تقديمها على أخبار الاحتياط ، لوجهين :

أحدهما : أخصية موضوع أخبار البراءة من موضوع أخبار الاحتياط ، ومن البديهي تقدم الخاصّ على العام. والآخر : أظهريتها في الدلالة على حلية المشتبه من دلالة تلك الاخبار على وجوب الاحتياط في الشبهات.

__________________

النفسيّ لا الوجوبيّ ولا الاستحبابي ، ولا الجامع بينهما.

(*) الصواب أن يقال : «وبعض الأصول العملية» كما عبر به في عبارته المتقدمة التي نقلناها عن الحاشية ، إذ الأمر المولوي الطريقي على فرض تسليمه في الأصول العملية لا يتعلق إلّا بالاستصحاب كما لا يخفى. كما أن عبارته في الحاشية «وبعض الأصول كالاستصحاب» لا تخلو أيضا عن المسامحة ، لأنها توهم أن هناك أصلا آخر غير الاستصحاب متعلقا للأمر المولوي الطريقي ، مع أنه ليس كذلك ، لانحصار ما يتعلق به الأمر الطريقي من الأصول العملية في الاستصحاب ، فحق العبارة أن تكون هكذا : «والاستصحاب من الأصول العملية».

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أما الوجه الأول ، فبيانه : أن ما دل على البراءة وحلية المشتبه ـ سواء دل على الحلية في خصوص الشبهة التحريمية مثل قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام» وقوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» أم دل بعمومها أو إطلاقها على الحلية في كل شبهة سواء الوجوبية منها والتحريمية كحديث الرفع والحجب والسعة ، حيث ان الموضوع فيها وهو «ما لا يعلم» و «المحجوب علمه» و «ما داموا لا يعلمون شيئا» شامل ظاهرا لكل شبهة ـ لا يشمل الشبهات قبل الفحص ، إذ لا خلاف بين الأصولي والمحدث في وجوب الاحتياط فيها ، وانما الخلاف بينهم في وجوبه فيها بعد الفحص ، وما دل على وجوب الاحتياط مثل قوله عليه‌السلام : «فعليكم بالاحتياط» يدل عليه مطلقا يعني قبل الفحص وبعده ، فيكون أعم مما دل على البراءة ، ولا ريب في وجوب تخصيص العام بالخاص ، فيخصص ما دل على وجوب الاحتياط بما دل على البراءة.

فالنتيجة : أنه يجب الاحتياط في كل شبهة الا في الشبهات البدوية بعد الفحص ، وهو المطلوب ، هذا وقد نقل شيخنا الأعظم هذا الجمع عن بعض وناقش فيه ، فراجع.

وأما الوجه الثاني ، فتقريبه : أنه ـ مع الغض عن أخصية موضوع أخبار البراءة من موضوع أخبار الاحتياط كما عرفت ، وتسليم أن الموضوع في كل منهما عنوان المشتبه والمجهول ـ يتعين تقديم أخبار البراءة عليها بمناط الأظهرية ، ضرورة أن دلالة أخبار الاحتياط على وجوب التوقف والاجتناب عن الشبهات مستندة إلى ظهور هيئة «افعل» في قولهم عليهم‌السلام : «احتط لدينك» في الوجوب ، ولا شك في عدم صراحة الصيغة فيه ، وهذا بخلاف أدلة البراءة ،

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فانها إمّا نصّ في حلية مشتبه الحكم مثل حديث الحل الوارد فيه «فهو حلال» الصريح بمقتضى المادة في حلية المشتبه ، وإمّا أظهر في البراءة مثل حديث الرفع والحجب والسعة ، فانها لو لم تكن نصا في الترخيص فلا أقل من كونها أظهر فيه من دلالة أخبار الاحتياط على وجوب التحرز عن المشتبه ، ومن المقرر في محله : تقدم الأظهر على الظاهر ، وعدم ملاحظة قواعد التعارض بينهما ، وعليه ، فتقدم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط بمناط الأظهرية في المحمول.

ثم ان ما ذكرناه في توضيح المتن من انحلال قوله : «بما هو أخص ... إلخ» إلى وجهين ـ أحدهما الأخصية ، والآخر الأظهرية ـ مبنيّ على أحد الاحتمالين فيما إذا كان العطف بالواو ، وهو كون المعطوف مغايرا للمعطوف عليه ، لأن الأصل في العطف المغايرة ، بأن يكون إشارة إلى أن كل واحد منهما وجه مستقل لتقدم أدلة البراءة على أدلة الاحتياط. والاحتمال الثاني أن يكون العطف تفسيريا ، فيكون إشارة إلى وجه واحد ، كما يحتمل ـ في صورة التغاير ـ أن يكون إشارة إلى وجه واحد أيضا ، بأن يراد به أن مجموع أدلة البراءة ـ لأخصية بعضها وأظهرية الآخر ـ مقدمة على أدلة الاحتياط.

وأما بناء على كون العطف بـ «أو» كما في بعض النسخ ، فظاهر العبارة أن تقديم أخبار البراءة على أدلة الاحتياط مستند إلى أحد الوجهين على سبيل منع الخلو ، يعني : أن أدلة البراءة قرينة على التصرف في أدلة الاحتياط ، فتقدم عليها إما لأن موضوعها أضيق من موضوع أدلة الاحتياط ، وإمّا لأنها بنفسها أظهر في الترخيص من أدلة الاحتياط في وجوب التحرز.

والأولى جعل العاطف «أو» فيكون التقديم مستندا إلى الجمع الموضوعي

٣٤٨

ضرورة (١) أن ما دل على حلية المشتبه أخص (٢) ، بل هو (٣) في الدلالة على الحلية نصّ ، وما دل (٤) على الاحتياط غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط (*).

______________________________________________________

أو الحكمي على سبيل منع الخلو.

(١) بيان لقوله : «أنها تعارض بما هو أخص وأظهر».

(٢) كما هو مقتضى حديث الحل ومرسلة الصدوق ، لكون موردهما الشبهة التحريمية.

(٣) الضمير راجع إلى «ما» الموصول ، يعني : أن الأخصية وان كانت ملازمة غالبا للأظهرية ، إلّا أن في المقام خصوصية تجعل أخبار البراءة نصّا في الترخيص ، وتلك الخصوصية عبارة عن كون الدال على البراءة هي المواد مثل «حلال ومطلق وسعة» ونحوها دون الهيئات ، فانه ليس شيء أوضح دلالة على الحلية والترخيص من مثل قوله عليه‌السلام : «فهو حلال» بخلاف الهيئات كما في أدلة الاحتياط ، فان هيئة «افعل» كما في مثل قوله عليه‌السلام «احتط لدينك» ليست أكثر من كونها ظاهرة في الوجوب.

(٤) عطف على «ما دل» ووجه ظهورها في وجوب الاحتياط ما عرفت من دلالة الهيئة عليه ، ومن المعلوم أن الهيئة ظاهرة في الوجوب وليست نصّا فيه ، فيمكن رفع اليد عنه بقرينة ما هو نصّ أو أظهر منه كما هو الحال في رفع اليد عما هو ظاهر في الوجوب بقرينة الاستحباب ، فتحمل أوامر الاحتياط على الفضل.

__________________

(*) لكن قد يرد عليه تارة بأن النسبة بين أخبار الاحتياط وبعض عمومات البراءة هي التباين ، لا الأخص مطلقا ولا من وجه ، وذلك لأن النسبة تلاحظ بين مدلول كل من الدليلين المتعارضين لا ما يراد من اللفظ بعد ملاحظة القرائن

٣٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المرادية ، ومن المعلوم أن موضوع كل من دليلي البراءة والاحتياط عام شامل للشبهة الموضوعية والحكمية مطلقا بدوية كانت أم مقرونة بالعلم الإجمالي ، والبدوية مطلقا أيضا يعني قبل الفحص وبعده ، لوضوح أن «ما لا يعلمون» «وما حجب» عام كعمومية «الشبهة» وتوهم عدم صدق الشبهة على البدوية قبل الفحص ، لكونها في معرض الزوال بالفحص ، فلا تشملها أدلة البراءة ، فتختص بالشبهة بعد الفحص ، فاسد ، إذ لازمه خروجها عن دائرة أدلة الاحتياط أيضا ، لوحدة الموضوع فيهما مع أنها مشمولة لها قطعا ، إذ لا ريب في وجوب الاحتياط قبل الفحص عند الكل.

وبالجملة : فالنسبة بين دليلي البراءة والاحتياط هي التباين.

وأخرى بأن الأخصية لا تنفع في رفع التنافي في خصوص المقام ، فان بعض أخبار البراءة وان كان أخص ، ولكن أخبار الاحتياط آبية عن التخصيص كما سيأتي اعتراف المصنف به ، فيتعين تقديم أخبار البراءة بمناط أظهريتها في حلية المشتبه.

وتحقيق المقام يقتضي بسطا في الكلام ، وملاحظة النسبة بين كل من أخبار البراءة والاحتياط بألسنتها المختلفة ، فنقول وبه نستعين :

أما حديث الرفع فان كان المراد به رفع التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر كما تقدم في كلام المصنف : «فهو مرفوع فعلا» فالتنافي بينه وبين أدلة الاحتياط كما تقدم في كلام المصنف : «فهو مرفوع فعلا» فالتنافي بينه وبين أدلة الاحتياط ظاهر ، لاقتضائه عدم فعلية التكاليف الواقعية ، واقتضاء تلك الاخبار فعليتها ووصولها إلى العبد بلسان جعل الاحتياط ، وهو حجة قاطعة للعذر ، ومن المعلوم أن رتبة النافي للفعلية والمثبت لها واحدة ، فلا ورود ولا حكومة بينهما ، وحينئذ

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فان تم أظهرية حديث الرفع في الترخيص من ظهور الأمر بالاحتياط في الوجوب قدم على دليل الاحتياط ، وإلّا فيتساقطان بالتعارض ، ويحكم بالترخيص عقلا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وان كان المراد جعل عدم التكليف الواقعي فعليا ظاهرا كما اختاره بعض المحققين (قده) بقوله : «نظرا إلى أن عدم فعلية التكليف بعدم المقتضي أو لوجود المانع غير مجعول ، بل المجعول الّذي له رفع ووضع شرعا هو الإيجاب إنشاء ، وعدمه إنشاء ، فقوله عليه‌السلام : رفع ما لا يعلمون ـ بمنزلة : لا يجب ما لا يعلم وجوبه ، ولا يحرم ما لا يعلم حرمته بنحو الجعل والإنشاء ، فهو وارد على أخبار الاحتياط ، لأن موضوع أخبار الاحتياط هو التكليف المجهول ودليل الرفع دليل على عدمه الواقعي فعلا» فلا موضوع كي يصير فعليا بالذات أو بالعرض.

لكن نقول : ان عدم فعلية التكليف المجهول وان لم يكن مجعولا ، بل كان لوجود المانع وهو الجهل به. وعدم نهوض حجة عليه ، لكنه يكفي في صحة نفي فعليته شرعا اقتضاؤه لا يجاب الاحتياط ، فرفع فعليته حينئذ رفع لما يقتضيه الجهل به من إيجاب الاحتياط ، فيبطل ورود مثل حديث الرفع على دليل الاحتياط ، بل هما متعارضان كما أشرنا إليه آنفا.

وكيف كان ، فان أريد بقوله (قده) : «فقوله عليه‌السلام : رفع ما لا يعلمون بمنزلة لا يجب ما لا يعلم وجوبه ولا يحرم ما لا يعلم حرمته» رفع الوجوب والحرمة واقعا وإخلاء لوح التشريع عنهما حال الجهل ، فهو مساوق للتصويب الّذي لا نقول به. وان أريد به رفعهما ظاهرا ـ وأن المرفوع لا مساس له بكرامة

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الواقع ـ فلا ورود في البين ، لاقتضاء الحديث عدم فعلية الإلزام المجهول ، واقتضاء دليل الاحتياط فعليته ، فتكون النسبة تباينية ، إذ المستفاد من أخبار الاحتياط ليس تكليفا نفسيا ظاهريا ، بل هو لزوم التحفظ على الواقع ، غايته وصوله حال الجهل بأخبار الاحتياط ، ولا بد من رفع التعارض بأظهرية حديث الرفع في التوسعة والترخيص من ظهور أخبار الاحتياط في التضييق والمنع.

وأما تقديم حديث الرفع بمناط أخصية موضوعه من موضوع أخبار الوقوف والاحتياط ، فبيانه : أنه ان أريد بالموصول الإلزام المجهول ـ كما عليه المصنف ـ فلا يعم الحديث الشبهة المقرونة ، لكون الإلزام فيها معلوما بناء على ما هو الحق من منجزية العلم الإجمالي كالتفصيلي ، فيختص الحديث بالشبهات البدوية مطلقا.

وان أريد به الفعل ـ كما اختاره بعض بلحاظ وحدة السياق ـ فيختص بالشبهة الموضوعية التي علم حكمها الكلي ولم يعلم عنوان هذا الفعل الخاصّ من أنه شرب الخل أو شرب الخمر مثلا ، وهذا يجري في الشبهة البدوية والمقرونة ، أما البدوية فلوضوح أن الشك في خمرية هذا المائع مستلزم للشك في صدق عنوان «شرب الخمر» عليه ، وهو مرفوع. وأما المقرونة بالنسبة إلى بعض الأطراف ، فلان انطباق المعلوم بالإجمال ـ وهو وجود الخمر ـ على كل واحد من الأطراف مشكوك ، فهو مرفوع.

وأما الشبهة الحكمية فإجراء البراءة فيها يحتاج إلى دليل آخر.

وأما حديث الحل ، فلا شبهة في كونه نصا في الترخيص ، فيقدم على أخبار الاحتياط بلحاظ كون غاية الحل العلم بحرمة ذلك المشتبه ، وهذه الغاية لا تتحقق

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالعلم بوجوب الاحتياط ، لعدم اقتضائه تبدل الجهل بالواقع بالعلم به وصيرورته معلوما ، فلا بد من التصرف في دليل الاحتياط بالحمل على الفضل أو على الطلب الجامع. فحديث الحل مقدم على كل حال إمّا لأخصية موضوعه وهو الشبهة التحريمية وإمّا لنصوصية محموله. إلّا أن الاستدلال به حينئذ غير مجد ، أما في الشبهة الموضوعية فلأنها مجرى البراءة باتفاق الكل. وأما في الشبهة الحكمية التحريمية فلما عرفت من الإشكال في تعميم أخبار الحل لها ، لقوة احتمال اختصاصها بالشبهات الموضوعية التي لا خلاف عند الكل في جريان البراءة فيها.

وأما حديث السعة ، فهو من ناحية الموضوع عام لا يختص بالشبهة التحريمية الموضوعية وان كان مورد السؤال في معتبرة السكوني ذلك ، لكن جوابه عليه‌السلام ضرب لقاعدة كلية ، فتشمل الوجوبية والتحريمية مطلقا ، ومن ناحية المحمول وهو «سعة» لو لم يكن نصا في الترخيص ، فلا أقل من كونه أظهر من أخبار الاحتياط الظاهرة في التضييق وهذا بلا فرق بين كون «ما» موصولة وظرفية ، وان كان الوارد في حديث السفرة متعينا في الثاني ، وحينئذ فالجهل بالشيء لا يتبدل إلّا بالعلم به بالخصوص لا بمثل إيجاب الاحتياط كما ادعاه شيخنا الأعظم (قده).

نعم قد يقال بتقدم أخبار الوقوف عليه لأخصية موضوعها وأظهريتها خصوصا بملاحظة التعليل.

لكن فيه : أن أخبار الوقوف للإرشاد ـ كما سيأتي التعرض له ـ فلا تلاحظ مع الحديث حتى يقال بتقدمها عليه. ولو سلم فنمنع أخصيتها منه ، بل النسبة بينهما عموم من وجه ، لأن أخبار التوقف عامة للشبهة البدوية والمقرونة وخاصة

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بالتحريمية ، والحديث عام للشبهات الوجوبية والتحريمية وخاص بالبدوية ، فلا يشمل المقرونة ، لأنها مما يعلمون ، فيقع التعارض في المجمع وهو الشبهة البدوية التحريمية سواء الحكمية والموضوعية ، والتقديم للحديث لأظهريته في الترخيص.

وأما حديث الحجب ـ فهو بعد تسليم دلالته على البراءة ـ ينفي اشتغال الذّمّة بما لا يعلم مطلقا ، ويعارض الاخبار الدالة على اشتغال الذّمّة بالمجهول ، ويتقدم عليها بالأظهرية ، ولكن يختص بالشبهات الحكمية غير المقرونة ، ولا يشمل المقرونة ، للعلم بالتكليف الكلي فيها ، كما لا يشمل الشبهة الموضوعية لظهور الموصول بقرينة اسناد الحجب إليه تعالى في خصوص الحكم الكلي.

وأما مرسلة الصدوق فيتعين تقديمها على أخبار الاحتياط ، لأخصية موضوعها وهو الشبهة التحريمية الناشئة من فقد النص ، ولأظهرية محمولها ـ أعني مطلق ـ في الترخيص من ظهور الأمر بالاحتياط في الوجوب. ومناقشة شيخنا الأعظم في أخصيته بقوله : «.... وما يبقى فان كان ظاهره الاختصاص بالشبهة الحكمية التحريمية مثل قوله عليه‌السلام : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، فيوجد في أدلة التوقف ما لا يكون أعم منه ، فان ما ورد فيه نهي معارض بما دل على الإباحة غير داخل في هذا الخبر ، ويشمله أخبار التوقف ، فإذا وجب التوقف هنا وجب فيما لا نصّ فيه بالإجماع المركب فتأمل».

مندفعة بما فيها أوّلا : ـ مضافا إلى منع الإجماع ، لمعارضته للإجماع على التخيير في المتعارضين وعدم وجوب الوقوف ، وكونه مدركيا على فرض تسليمه ـ

٣٥٤

مع (١) أن هناك قرائن دالة

______________________________________________________

(١) يعني : أن ما ذكرناه إلى هنا من تقديم أخبار البراءة على أدلة الاحتياط بمناط الأخصية أو الأظهرية انما هو مع تسليم دلالة أخبار الاحتياط على الطلب

__________________

من كون مورد أخبار الوقوف ـ مع اختصاص بعضها بزمن الحضور ـ هو ما ورد فيه أمر ونهي لا نهي وإباحة كما هو مفروض كلام الشيخ.

وثانيا : من معارضة أخبار الوقوف لأخبار التخيير ، وذهاب جمع إليه.

وثالثا : من أن النهي المأخوذ غاية للمطلق والحل هو النهي المعتبر ، لأنه الصالح لرفع الحلية ، فليس المراد وصول كل نهي ولو لم يكن معتبرا.

وعليه فتعم المرسلة بما لها من الغاية حلية كل فعل محتمل الحرمة سواء لم يصل فيه نهي أصلا كشرب التتن أم ورد فيه خبر ضعيف غير صالح للاعتماد عليه ، واسناد مؤداه إلى الشارع ، أم ورد فيه خبر معتبر مبتلى بمعارض يدل على الإباحة أو حكم آخر ، أم كان مجملا بحسب الهيئة أو المادة.

والحاصل : أن المرسلة شاملة لجميع الشبهات البدوية التحريمية ، لأن غاية الحل والإرسال فيها وصول النهي المعتبر بناء على كون الورود بمعنى الوصول.

وفي خصوص ما ورد فيه خبران أحدهما حاظر والآخر مبيح ، فان كان لأحدهما مزية أخذ به ، وفي المتكافئين اما أن نقول بالتوقف أو بالتخيير أو بالتساقط لو لم نستفد حكم المتعارضين من الاخبار العلاجية أصلا ، فان أخذنا بأخبار التخيير قيّدنا إطلاق المرسلة في مورد التعارض ، لوجود الحجة الرافعة لموضوع الأصل ، ولا مانع من العمل بالخبر المبيح ، فيكون مدلوله موافقا لمقتضى المرسلة وان كان الخبر متقدما عليه مرتبة ، لأنه أمارة على الواقع رافع لموضوع الأصل ، ولا مانع من العمل بالخبر المبيح ، فيكون مدلوله موافقا لمقتضى المرسلة وان كان الخبر متقدما عليه مرتبة ، لأنه أمارة على الواقع رافع لموضوع الأصل. وان لم نعمل بالأخبار العلاجية ، فإطلاق المرسلة الشمولي لصورة التعارض باق على حاله.

٣٥٥

على أنه (١)

______________________________________________________

المولوي حتى تصل النوبة إلى علاج المانع وهو تعارضها مع أدلة البراءة بتقديمها على أدلة الاحتياط بالجمع الدلالي ، ولكن لا مجال لهذا الجمع بعد قصور أخبار الاحتياط عن إثبات الطلب المولوي ولو الاستحبابي منه ، وذلك لوجود قرائن داخلية وخارجية دالة على أن الأمر به للإرشاد كما سيظهر.

(١) يعني : ما دل على وجوب الاحتياط. ثم ان سياق الكلام يقتضي جعل قوله : «مع أن ...» جوابا عن خصوص أخبار الاحتياط ، لأنه ذكره في ذيل الجواب عنها ، لكن بعض القرائن التي أقامها على كون الأمر به للإرشاد غير مختص بها ، بل يختص بعضها بأخبار الوقوف كما سيأتي ، وعليه فيمكن أن يكون نظره ـ وان كان خلاف ظاهر عبارته ـ الجواب عن مجموع أخبار الوقوف والاحتياط.

وكيف كان فهذه القرائن هي التي نبه عليها شيخنا الأعظم ، وهي بين ما يشترك فيها جميع الاخبار ، وبين ما تختص ببعضها ، وهي كثيرة.

الأولى : لزوم محذور تخصيص الأكثر لو لم يكن الأمر للإرشاد ، بيانه : أن موضوع الأمر بالتوقف والاحتياط هو الشبهة ، والأخذ بظاهره من الطلب المولوي اللزومي مستلزم لتخصيص الأكثر ، ضرورة أن عنوان «الشبهة» صادق على الشبهات مطلقا يعني الحكمية والموضوعية الوجوبية منهما والتحريمية ، وقد اتفق الفريقان على جريان البراءة في غير الحكمية التحريمية ، فيلزم حينئذ تخصيص الأكثر ، لخروج أكثر الشبهات عن موضوع الأمر بالتوقف والاحتياط وهي الشبهات الموضوعية مطلقا يعني الوجوبية منها والتحريمية ، والشبهات الحكمية الوجوبية ، ومن المعلوم أن تخصيص الأكثر مستهجن فلا يصار إليه. كما أن حمل الأمر بهما على الندب مستلزم لإخراج موارد وجوب الاحتياط

٣٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، فلا مناص عن حمله على الإرشاد المطلق ، فيكون إرشادا إلى وجوب الاحتياط في مورد وجوبه وهو الشبهة المقرونة ، وإلى استحبابه في غيرها.

وهذه القرينة ذكرها شيخنا الأعظم في موضعين : أحدهما في الجواب عن رواية الأمالي حيث جعل الأمر بالاحتياط فيها دائرا بين الإرشاد والطلب المولوي الجامع بين الوجوب والندب. وثانيهما في القرائن التي أقامها على أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر التثليث : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» للإرشاد.

الثانية : إباء سياقها عن التخصيص ، توضيحه : أنك قد عرفت آنفا عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية الوجوبية والموضوعية مطلقا ولو كان الأمر به مولويا ، وحينئذ فلو كان الأمر بالتوقف والاحتياط للطلب المولوي اللزومي ، فلا بد من ارتكاب التخصيص في تلك الاخبار بأن يقال : «لا خير في الاقتحام في الهلكة بارتكاب الشبهات إلّا إذا كانت الشبهة موضوعية مطلقا أو حكمية وجوبية» مع أن سياقها آب عن التخصيص ، وذلك لأن مقتضى تخصيصها بها أن في ارتكابها ـ يعني الشبهات الموضوعية والوجوبية ـ الخير ، وهذا لا معنى له. وعليه فحيث ان كلمة «خير» منسلخة هنا عن التفضيل كما عرفت فيتعين ـ بمقتضى هذا التعليل ـ الاجتناب عن جميع الشبهات ، إذ المعنى على تقدير الانسلاخ : أن الوقوع في الهلكة لا خير فيه أصلا ، بل الخير كله في الوقوف عند الشبهة وعدم الاقتحام فيها ، ولكن المحدثين لمّا اعترفوا بورود الترخيص في ارتكاب بعض الشبهات فلا مناص عن حمل الأمر في تلك الاخبار على الإرشاد حتى يتبع المرشد إليه في الوجوب والاستحباب. هذا في أخبار الوقوف.

٣٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذا قوله عليه‌السلام في خبر التثليث : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات» فان الشبهة الموضوعية التي تجري فيها أدلة البراءة ليست قسما رابعا ، لأن ظاهر الحديث حصر الأمور في ثلاثة أقسام : الحلال البيِّن والحرام البيِّن والشبهات ، ولا شك في اندراج الشبهة الموضوعية في القسم الثالث ، ومقتضاه الاحتياط فيها ، وقد التزم الكل بالبراءة فيها ، مع أنها ليست من الحلال البيِّن قطعا ، فلا يقال : «ومن ترك الشبهات إلّا الموضوعية نجا من المحرمات» لأن مقتضى الحصر الاقتصار على الحلال البيِّن فقط ، ولا مفرّ من هذا المحذور غير الحمل على الإرشاد.

وهذه القرينة ذكرها شيخنا الأعظم في الجواب عن أخبار التثليث.

الثالثة : ما أفاده الشيخ في إثبات أن الأمر بالاحتياط في خبر التثليث للإرشاد. وتوضيحه : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رتّب على ارتكاب الشبهات الوقوع في المحرمات والهلاك من حيث لا يعلم ، والمراد من الشبهة هنا جنسها لا استغراق أفرادها ، يعني : أن من ارتكب الشبهات ولو فردا واحدا منها يوشك أن يقع في المحرمات ويهلك من حيث لا يعلم ، لا أن مرتكب جميع الشبهات يقع في المحرمات ويهلك ، وذلك لأن الإمام عليه‌السلام في مقام بيان ما تردد بين الحلال والحرام والأمر بترك الخبر الشاذ الّذي ليس بمشهور ، لا في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع ، والمراد بالوقوع في المحرمات والهلاك من حيث لا يعلم الاشراف عليهما والمعرضية لهما بسبب ارتكاب الشبهات ، لا الوقوع والهلاك الفعليان ، وهما ـ يعني الاشراف والمعرضية ـ معنى مجازي للوقوع والهلكة ، والاشراف على الهلكة وان كان يترتب على ارتكاب الشبهة ، لكن لا دليل على حرمته قبل العلم به ، فلا بد من حمل الطلب على الإرشاد.

٣٥٨

للإرشاد (١) ،

______________________________________________________

الرابعة : بيان حكمة طلب التوقف ، وهذه قرينة استشهد بها الشيخ لكون الأمر بالتوقف في أخبار الوقوف للإرشاد ، وحاصله : أن قوله عليه‌السلام : «وقفوا عند الشبهة» ليس طلبا مولويا ـ أي إنشاء بداعي جعل الداعي ـ بل هو إنشاء بداعي الإرشاد إلى ما في ارتكاب الشبهة من الابتلاء بالهلكة وهي العقوبة الأخروية إذا كان التكليف قد تنجز كما في أطراف الشبهة المحصورة ، وغير العقوبة من المضار والمفاسد الأُخرى إذا لم يتنجز التكليف وورد الترخيص في الارتكاب ، فالمدار في وجوب التوقف وعدمه ملاحظة حكمة الطلب وأنها هل تقتضي لزوم الاحتراز عن الشبهة أم لا؟

الخامسة : ظهور قوله عليه‌السلام : «فمن ارتكب الشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» في ترتب الهلكة على ارتكاب الشبهة لا على مخالفة الأمر بالتوقف ، فهذا الظهور قرينة على عدم ترتب العقوبة على مخالفة نفس الأمر بالتوقف ، وحيث لا عقوبة على مخالفة الأمر لم يكن مولويا ، فيكون للإرشاد لا محالة. قال الشيخ الأعظم (قده) : «ولا يترتب على مخالفته عقاب غير ما يترتب على ارتكاب الشبهة أحيانا من الهلاك المحتمل فيها ....» ومن المعلوم أن الأمر الّذي لا يستحق العقاب على مخالفته ليس مولويا ، بل هو إرشادي.

هذه جملة من القرائن التي تستفاد من مجموع كلمات الشيخ الأعظم وقد أشار في المتن إلى بعضها كما سيظهر.

(١) أي : للإرشاد المطلق الجامع بين الوجوب والاستحباب ، فان كان المحتمل عقوبة كان الأمر إرشادا إلى وجوب الاحتياط ، وان كان المحتمل مفسدة أخرى كان إرشادا إلى استحبابه كما في الشبهة الموضوعية التي هي مورد جريان

٣٥٩

فيختلف (١) إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه. ويؤيده (٢) (*) أنه (٣) لو لم يكن للإرشاد لَوَجب (٤) [يوجب] تخصيصه لا محالة ببعض (٥) الشبهات إجماعا ، مع أنه (٦) آب عن التخصيص قطعا.

______________________________________________________

الأصل المرخِّص كما في موثقة مسعدة بن زياد المتقدمة ، فقوله عليه‌السلام : «وقفوا» تابع ـ في الوجوب والاستحباب ـ للمرشد إليه.

(١) الضمير المستتر راجع إلى الأمر المستفاد من قوله : وما دل على الاحتياط.

(٢) أي : ويؤيد كون الأمر بالاحتياط للإرشاد أنه ... ، وهذا إشارة إلى إحدى قرائن الإرشاد ، وقد تقدم بقولنا : الثانية إباء سياقها عن التخصيص ... إلخ.

(٣) الضمير للشأن ، وضميرا «يكن ، تخصيصه» راجعان إلى الأمر بالاحتياط المستفاد من قوله : «ما دل».

(٤) جواب الشرط ، والمعنى واضح ، وبناء على نسخة «يوجب» بكسر الجيم يكون هو الجواب له ، والضمير المستتر فيه راجعا إلى عدم كون الأمر للإرشاد المدلول عليه بـ «لو لم يكن».

(٥) وهي الشبهة الموضوعية مطلقا والحكمية الوجوبية ، وقوله : «إجماعا» متعلق بـ «لوجب تخصيصه».

(٦) يعني : مع أن ما دلّ على الاحتياط آب عن التخصيص قطعا ، لما سيذكره بقوله : «كيف لا يكون».

__________________

(*) التعبير بالتأييد لا يخلو من مسامحة ، لظهوره في أن الآباء عن التخصيص مؤيِّد لكون الأمر به إرشاديا لا قرينة مستقلة ، مع أنه من قرائن الإرشاد لو لم يكن أقواها ، فكان الأولى أن يقال : «ومنها ـ أي ومن القرائن ـ أنه لو لم يكن للإرشاد ...».

٣٦٠