منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فعلى القول بتنجز المعلوم بالإجمال بحدوث العلم إلى الأبد ، فالعلم الإجمالي باق على تنجيزه ، ولا يرفع العلم التفصيليّ أثره. وعلى القول بإناطة تنجز المعلوم بالإجمال بوجود العلم في كل آن ، لعدم كون حجيته تعبدية يجري عليهما حين حدوث العلم التفصيليّ حكم التقارن ، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز ، ويختص وجوب الاجتناب بالمعلوم تفصيلا ، فلو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، ثم علم تفصيلا بنجاسة أحدهما المعين لم يجب الاجتناب إلّا عن ذلك المعين ، إذ لا منجز لوجوب الاجتناب عن الطرف الآخر على تقدير نجاسته واقعا.

ثم انه لا فرق في انحلال العلم الإجمالي حكما بالعلم التفصيليّ بين اتفاق التكليفين المعلومين إجمالا وتفصيلا صنفا كالنجاسة ، وبين اختلافهما كذلك كالنجاسة والغصبية ، فإذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين وعلم بغصبية أحدهما المعين وجب الاجتناب عن المغصوب بترك الشرب والوضوء وسائر التصرفات المحرمة في مال الغير بدون اذنه ، وجاز التصرف في الإناء الآخر بالشرب والوضوء ، لأن المدار في التنجز هو العلم بالتكليف الفعلي المفقود في الطرف الآخر المشكوك فيه.

نعم يعتبر في الانحلال الحكمي أن لا يتعرض العلم التفصيليّ لتعيين المعلوم بالإجمال ، إذ لو كان متعرضا له كما إذا علم تفصيلا بأن النجس المعلوم إجمالا الصالح للانطباق على الإناء الأبيض والأحمر هو خصوص الأبيض ، فلا إشكال في انحلال العلم الإجمالي حينئذ حقيقة بالعلم التفصيليّ اللاحق ، دون السابق والمقارن ، لأنهما مانعان عن حصول العلم الإجمالي رأسا ، فيشترط في الانحلال الحكمي قيام العلم التفصيليّ على ثبوت الحكم في بعض الأطراف من دون

٣٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

تعرض لتعيين المعلوم بالإجمال. هذا إذا كان العلمان حقيقيين.

أما إذا كانا تنزيليين ، كما إذا قامت بينة على نجاسة أحد الإناءين وأخرى على أن النجس هو الأبيض مثلا ، أو كان الإجمالي حقيقيا والتفصيليّ تنزيليا كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين وقامت بينة على أن النجس هو الإناء الأحمر ، فدليل حجية البينة يجعل تعبدا موضوعها بدلا عن النجس المردد والثابت بالبينة أو العلم الإجمالي ، لأنه مقتضى حكومته على دليل حجية البينة الأخرى. وعليه فلا يجب الاجتناب عن الآخر ، فالعلم الإجمالي مع البينة وان كان باقيا ، لكنه لا أثر له في وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر.

وإذا كان الإجمالي تنزيليا والتفصيليّ حقيقيا كما إذا قامت بينة على نجاسة أحدهما إجمالا ، وعلم تفصيلا بأن النجس هو الإناء الأبيض مثلا ، فلا مجال لحجية البينة حينئذ في وجوب الاجتناب عن الآخر ، للعلم بعدم انطباق النجس المردد الثابت بالبينة عليه.

فقد ظهر : أن الانحلال الحقيقي في موردين : أحدهما : أن يكون العلمان حقيقيين ، والآخر أن يكون العلم الإجمالي الأول تنزيليا والثاني تفصيليا حقيقيا مع تعرض العلم التفصيليّ لتعيين المعلوم إجمالا.

كما ظهر أيضا أن جعل البدل في موردين : أحدهما : كون العلمين تنزيليين ، والآخر كون الإجمالي حقيقيا والتفصيليّ تنزيليا. والمراد بجعل البدل هو التصرف في ناحية الفراغ عما اشتغلت به الذّمّة باكتفاء الشارع بما جعله مصداقا للمعلوم بالإجمال وبدلا عنه في مقام الخروج عن عهدة التكليف ، ومن المعلوم مغايرته للانحلال الّذي هو عبارة عن منع تأثير العلم الإجمالي في تنجيز معلومه

٣٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإشغال الذّمّة به.

فتلخص مما ذكرناه أمران :

الأول : أن الانحلال في جميع موارده حكمي إلّا في العلم التفصيليّ اللاحق المتعرض لتعيين المعلوم بالإجمال ، دون العلم التفصيليّ المقارن والسابق ، لأنهما يمنعان عن حصول العلم الإجمالي.

الثاني : أن جعل البدل غير الانحلال ، لأن الانحلال يمنع عن تنجيز العلم الإجمالي وتأثيره في معلومه المطلق القابل للانطباق على كل واحد من أطرافه ، ويثبت التكليف في طرف معين ، وجعل البدل هو جعل المفرّغ عما اشتغلت به الذّمّة ، فالانحلال في مقام إثبات التكليف ، وجعل البدل في مقام إسقاطه بعد الفراغ عن ثبوته. ولا يختص جعل البدل بالتكاليف الثابتة بالعلم الإجمالي ، بل يجري في التكاليف الثابتة بالعلم التفصيليّ أيضا كموارد الأصول الجارية في وادي الفراغ كما لا يخفى.

ثم انه بعد بيان بعض ما يتعلق بالانحلال يقع الكلام في تطبيقه على المقام فنقول وبه نستعين : لا ينبغي الإشكال في عدم تأثير العلم الإجمالي في تنجيز معلومه ، بل هو منفي حقيقة بالالتفات إلى العلم بصدور روايات متضمنة لأحكام إلزامية بمقدار المعلوم بالإجمال ، لانتفائه بعد عزل الروايات عن أطرافه حقيقة ، بشهادة تبدل القضية المنفصلة المانعة الخلوّ اللازمة للعلم الإجمالي وتبدلها بقضيتين حمليتين إحداهما معلومة ، والأخرى مشكوكة ، إذ يصح أن يقال : التكاليف في الروايات معلومة وفي غيرها من الأمارات والوقائع المشتبهة مشكوكة ، ولا يصح أن يقال : التكاليف إمّا في الروايات وإمّا في غيرها ، فلو كانت منتشرة في

٣٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الجميع لصدقت هذه القضية المنفصلة.

نعم يقع الكلام في تقريب الانحلال مع اختلاف الأقوال في كيفية حجية الاخبار ، فعلى القول الصحيح من حجيتها ببناء العقلاء يتضح حال الانحلال ، وأنه حقيقي ان كان لسان دليل اعتبارها تعيين الواقعيات في مؤدياتها كما هو ظاهر بعض الاخبار الإرجاعية ، مثل ما دل على أن «العمري وابنه عنّي يؤديان» بداهة أنه كالصريح في كون مؤدى خبره هو الواقع ، وذلك لأن المعلوم إجمالا وهي الأحكام الواقعية ينطبق حقيقة على الروايات الصادرة. وحكمي ان كان لسانه أن مؤدياتها أحكام إلهيّة ، نظير العلم التفصيليّ بثبوت الحكم لطرف معين من أطراف العلم الإجمالي من دون تعرض لتطبيق المعلوم بالإجمال عليه.

وعلى القول بحجيتها تعبدا من باب تتميم الكشف أو وجوب العمل بها كما عن شيخنا الأعظم (قده) يكون الانحلال حكميا أيضا ، لأن الصورة العلمية الإجمالية باقية ، غاية الأمر أن بعض الأطراف تنجز بمنجز تعبدي ، نظير قيام بينة على تعلق تكليف بطرف معين من أطراف العلم الإجمالي.

وكذا الحال على القول بكون المجعول في الروايات هي المنجزية والمعذرية ، وعلى القول بالسببية وكون مؤديات الأمارات أحكاما فعلية ناشئة من قيام الأمارات عليها الموجب لحدوث ملاكات فيها تستتبع أحكاما فعلية ، لاشتراك هذين المسلكين في تنجز بعض أطراف العلم الإجمالي ، وسقوط تأثيره في معلومه المطلق القابل للانطباق على جميع الأطراف.

فتلخص مما ذكرنا : أن العلم الإجمالي ينحل بالظفر بالروايات المتكفلة للأحكام الإلزامية بمقدار المعلوم بالإجمال من غير فرق في ذلك بين الأقوال في حجية

٣٨٤

إجمالا (*) بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة (١) أو أزيد (٢) ،

______________________________________________________

(١) بالعلم الإجمالي الكبير الحاصل بمجرد الالتفات إلى الشريعة المقدسة.

(٢) عطف على «بمقدار» يعني : أن مؤديات الطرق وموارد الأصول المثبتة ربما تكون أزيد من أطراف العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات في المشتبهات.

__________________

الروايات إلّا في كيفية الانحلال كما عرفت ، فان قيام الأمارات المعتبرة على الأحكام يكشف عن تنجز التكليف في بعض الأطراف من أول الأمر قبل حصول العلم الإجمالي.

بل يمكن إنكار العلم الإجمالي ، ودعوى أن العلم بالاحكام انما نشأ عن الظفر بالأمارات المعتبرة ، فلا علم بها قبل العثور عليها حتى يبحث عن أصل انحلاله ، أو كيفيته ، فيسقط البحث عن العلم الإجمالي في المقام وانحلاله من أصله ، فتأمل جيدا.

(*) الأولى تبديله بـ «تفصيلا» بقرينة تصريحه بذلك في موضعين من كلامه ، أحدهما قوله : «إلى علم تفصيلي وشك بدوي» وثانيهما في عبارته الآتية في «ان قلت» مضافا إلى أنه صرح به في حاشية الرسائل مستشكلا على شيخنا الأعظم ، بقوله : «إلّا إذا انقلب الإجمالي بالتفصيلي وانطبق ما علم إجمالا بما علم تفصيلا» وهذا هو الصحيح ، لأن المدعى انحلال العلم الإجمالي إلى تفصيلي وشك بدوي بعد الظفر بالطرق والأصول المثبتة ، لا انحلاله بالعلم الإجمالي بمؤديات الطرق والأصول ، فانه خارج عن مفروض كلامه وهو الانحلال إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، إذ لازمه وجود أمر آخر موجب لانحلال العلم الإجمالي بالمؤديات إلى أحكام معلومة تفصيلا.

٣٨٥

وحينئذ (١) لا علم بتكاليف أخرى غير التكاليف الفعلية في موارد (*) [الموارد] المثبتة من (٢) الطرق والأصول العملية.

ان قلت (٣):

______________________________________________________

(١) أي : وحين العلم بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة للتكاليف لا علم ...

(٢) بيان لـ «المثبتة».

(٣) هذا إشكال على الانحلال لوجود مانع منه ، وتوضيحه : أن العلم بكثير من التكاليف الإلزامية التي تضمنتها الطرق والأصول العملية وان كان حاصلا ، لكنه لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الكبير بالاحكام ، لأنه قد أثّر في التنجيز بمجرد حدوثه واجدا للشرائط ، ولزوم رعاية جانب التكاليف المحتملة في المشتبهات التي ليست مؤديات للأمارات والأصول المثبتة بالاحتياط فيها ، ولا موجب لرفع اليد عنه فيها بمجرد قيام الطرق على مقدار من الأحكام ، لتوقف الفراغ اليقيني من التكاليف المعلومة إجمالا على ترك المشتبهات ، فالعلم الإجمالي وان لم يبقَ بنفسه بعد قيام الطرق والأصول ، لكن أثره وهو التنجيز باق على حاله. فلا بد في المقام من التفصيل بين كون العلم بمؤديات الأمارات وموارد الأصول سابقا على العلم الإجمالي بالاحكام ومقارنا له وبين كونه لا حقا له ، فانه في صورة تقدمه أو مقارنته يمنع من تأثير العلم الإجمالي الكبير في تنجيز التكاليف ، ولا يلزم رعاية الاحتياط في الشبهات ، وفي صورة لحوقه له وتأخره عن العلم الإجمالي الكبير لا يؤثر في انحلاله ، بل يلزم رعاية الاحتياط في سائر الأطراف أيضا. فالمقام ـ من جهة التنجيز وعدم الانحلال ـ نظير ما ذكره شيخنا الأعظم في خامس تنبيهات الشبهة المحصورة من أن الاضطرار إلى بعض الأطراف ان كان قبل العلم الإجمالي أو مقارنا له منع من تنجيزه بالنسبة إلى ما لا اضطرار

__________________

(*) كان الأولى أن يقال : التكاليف الفعلية المثبتة بالطرق والأصول ... إلخ.

٣٨٦

نعم (١) ، لكنه إذا لم يكن العلم بها (٢) مسبوقا بالعلم بالتكاليف [بالواجبات].

______________________________________________________

إليه ، وان كان بعده لم يمنع عنه ، فيتعين رعاية الاحتياط في سائر الأطراف.

والحاصل : أن العلم الإجمالي بوجود التكاليف في الشريعة المقدسة لما كان سابقا على العلم بمؤديات الطرق وموارد الأصول لم ينحل به ، بل تجب رعاية الاحتياط فيها (*)

(١) يعني : أن العلم بالاحكام التي هي مؤديات الطرق وموارد الأصول وان كان موجبا لانحلال العلم الإجمالي بالاحكام ، ولكن هذا الانحلال ليس مطلقا ، بل هو مشروط بما إذا لم يكن العلم بالتكاليف التي تضمنتها الطرق والأصول مسبوقا بالعلم الإجمالي بالتكاليف. والمفروض سبق العلم الإجمالي بها على العلم بما في الأمارات ، فلا ينحل به.

(٢) أي : بالتكاليف التي هي مؤديات أمارات وأصول معتبرة.

__________________

(*) ثم ان الظاهر أن ما أورده المصنف هنا بقوله : «ان قلت» تعريض بكلام شيخنا الأعظم ، فانه بعد أن ذكر الانحلال من جهة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على مؤديات الطرق ، صرح بأنه لا فرق في الاقتصار على المؤديات بين العلم بها قبل العلم الإجمالي وبعده ، قال (قده) بعد عبارته المتقدمة في ذيل الجواب عن الدليل العقلي : «سواء كان ذلك الدليل سابقا على العلم الإجمالي كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين تفصيلا فوقع قذرة في أحدهما المجهول ، فانه لا يجب الاجتناب عن الآخر ، لأن حرمة أحدهما معلومة تفصيلا ، أم كان لا حقا كما في مثال الغنم المذكور ، فان العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيليّ بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبينة» وحاصله : أنه لا عبرة بالعلم الإجمالي بالتكليف بين أطراف محصورة مع العلم التفصيليّ بالتكليف في بعض الأطراف ، سواء كان العلم

٣٨٧

قلت (١) : انما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق

______________________________________________________

(١) هذا جواب الإشكال ، ومحصله : إثبات الانحلال بملاك الانطباق ، وتوضيحه : أن سبق العلم الإجمالي على التفصيليّ وان كان مسلما ، إذ يحصل هذا العلم الإجمالي للمكلف بمجرد التفاته إلى الشريعة المقدسة ، والعلم التفصيليّ بالاحكام متأخر عنه ، حيث لا يحصل إلّا بعد المراجعة إلى الأمارات والأصول ، لكن مجرد هذا السبق غير قادح في انحلاله بالتفصيلي اللاحق ، وانما يقدح

__________________

التفصيليّ قبل الإجمالي أم بعده ، والوجه في سقوطه عن التأثير هو : أن التنجيز حكم عقلي مترتب على موضوعه وهو العلم الإجمالي الواجد لشرائط التنجيز ومع ارتفاع نفس العلم الإجمالي وزواله عن صقع النّفس لا معنى لبقاء حكمه وهو التنجيز.

هذا وقد أورد عليه المصنف هنا وفي حاشية الرسائل بالمنع من إطلاق حكمه بسقوط العلم عن التأثير ، واختصاصه بما إذا كان العلم التفصيليّ بالتكليف في هذا الطرف الخاصّ أو الاضطرار إليه أو خروجه عن الابتلاء ونحو ذلك قبل العلم الإجمالي. وأما إذا كان بعده كما هو المفروض فالعلم الإجمالي ـ وهو تردد التكليف بين الأطراف على نحو القضية الحقيقية ـ وان لم يبق بنفسه ، ولكن أثره وهو التنجز باق ، فيجب مراعاة التكليف في سائر الأطراف ، وعلل هذا الوجوب في حاشية الرسائل بقوله : «وذلك لأن العلم الإجمالي بعد تأثيره في التنجز والاشتغال لا عبرة ببقائه وارتفاعه في لزوم تحصيل الفراغ اليقيني من ذاك التكليف ولذا لو فقد بعض الأطراف أو اضطر إليه أو خرج عن مورد الابتلاء كان باقيها على ما كان عليه من وجوب مراعاة جانب التكليف المحتمل فيه بطروّ واحدها كما سيصرح به في الشبهة المحصورة. نعم لو كان طروّ أحدها أو التكليف ببعضها قبل العلم الإجمالي لكان مانعا من أصل تأثيره».

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه إذا كان هذا المعلوم التفصيليّ اللاحق تكليفا حادثا مغايرا للمعلوم الإجمالي السابق ، فان في المقام بحسب وحدة سبب التكليفين وتعدده صورتين تفترقان حكما.

الأولى : أن يعلم إجمالا في الساعة الأولى مثلا بإصابة قطرة دم بأحد الإناءين ، ثم يعلم تفصيلا في الساعة الثانية بوقوع تلك القطرة في الإناء الأبيض. ومنه ما إذا علم إجمالا بحرمة شاة لسبب ما في قطيع غنم ، وشهدت البينة بحرمة شاة معينة لنفس ذلك السبب ، فان العلم الإجمالي حينئذ ينحل من جهة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل أو بما شهدت البينة به ، ولا يختلف الحال في الانحلال هنا بين سبق المعلوم بالتفصيل أو بشهادة البينة على العلم الإجمالي أو مقارنتهما له أو لحوقهما به ، فيكون التكليف في الطرف الآخر مشكوكا فيه ، فيجري الأصل النافي فيه بلا معارض.

الثانية : أن يعلم في الساعة الأولى بإصابة الدم بأحد الإناءين إجمالا ثم يعلم في الساعة الثانية بوقوع قطرة من البول في الإناء الأبيض ، ولا مجال للانحلال هنا ، لمغايرة سبب المعلوم بالإجمال لسبب المعلوم بالتفصيل واقتضاء كل من العلمين تكليفا يمتاز عن الآخر مثل اعتبار التعدد في تطهير المتنجس بالبول وكفاية المرة للمتنجس بالدم.

والمقام من قبيل الصورة الأولى ، ضرورة أن الأحكام المعلومة تفصيلا بمراجعة الطرق والأمارات المعتبرة ليست مغايرة للتكاليف المعلومة إجمالا ، بل هي منطبقة عليها ، لأن الأمارات حاكية عن الأحكام الواقعية التي علم بها إجمالا قبل مراجعة الطرق أو الظفر بها ، وبعد اتحاد المعلومين ينتقل المعلوم بالإجمال إلى المعلوم بالتفصيل ويرتفع أثر العلم الإجمالي السابق ـ وهو التنجيز

٣٨٩

حادثا [آخر] (١) ، وأما إذا لم يكن كذلك (٢) بل مما ينطبق [انطبق] عليه ما علم أوّلا ، فلا محالة قد انحل العلم الإجمالي إلى التفصيليّ والشك البدوي.

ان قلت (٣) : انما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار

______________________________________________________

بانطباق ما علم إجمالا على ما علم تفصيلا ، ولا بد من تحصيل الفراغ اليقيني من هذا المقدار بالخصوص ، لصيرورته معلوما بالتفصيل ، ويصير التكليف في سائر الشبهات بدويا ، ولا يجب مراعاة التكليف المحتمل فيها ، لسلامة الأصول النافية للتكليف الجارية فيها من المعارضة.

وهذا الجواب ـ وهو الانحلال بملاك الانطباق ـ ذكره في حاشية الرسائل وأجاب به عن الإشكال الوارد على كلام شيخنا الأعظم (قده).

(١) كما عرفت في مثال الصورة الثانية وهي ما إذا علم إجمالا بإصابة الدم بأحد الإناءين ، ثم علم تفصيلا بوقوع البول في أحدهما المعين ، فانه لا موجب للانحلال.

(٢) أي : لم يكن اللاحق حادثا آخر ـ يعني تكليفا جديدا ـ بل كان متحدا مع السابق ، والسابق منطبقا عليه كما عرفت في الصورة الأولى من مثال قطرة الدم والشاة في قطيع غنم ، وقوله : «فلا محالة» جواب «وأما إذا لم يكن».

(٣) هذا إشكال على ما ذكره من انطباق المعلوم الأول على مؤديات الطرق وانحلال العلم الإجمالي إلى التفصيليّ والشك البدوي ، وتوضيحه : أن الانطباق المذكور منوط باعتبار الأمارات من باب الموضوعية بأن تكون مؤدياتها أحكاما واقعية فعلية ـ كما هو مقتضى حجية الطرق بنحو السببية ـ فانه يعلم حينئذ ثبوت التكاليف تفصيلا بقيام الطرق عليها ، فتكون دعوى انطباق الأحكام الواقعية المعلومة إجمالا على تلك المؤديات في محلها. وأما بناء على اعتبارها بنحو الطريقية بمعنى ترتيب ما للطرق المعتبرة عليها من الآثار العقلية من التنجيز والتعذير في صورتي الإصابة والخطأ ـ كما هو المذهب المنصور في باب جعل

٣٩٠

المعلوم بالإجمال ذلك (١) إذا كان قضية (*) قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته (٢) فعلا.

______________________________________________________

الطرق ـ فلا يتم الانحلال أصلا ، لعدم العلم التفصيليّ بالتكاليف في مؤدياتها حينئذ حتى ينطبق المعلوم الإجمالي عليها ، لاحتمال خطأها ، ومع احتمال خطأها واقعا لا يقطع في مواردها بأحكام حتى ينطبق المعلوم بالإجمال عليها ، إذ لا مجال لدعوى الانطباق مع كون التكليف الّذي نهض عليه الطريق محتملا غير مقطوع به. وعليه فلا مجال للانحلال ولا بد من الاحتياط في المشتبهات.

(١) أي : الانحلال ، وهو مفعول لـ «يوجب».

(٢) هذا الضمير وضمير «له» راجعان إلى التكليف.

__________________

(*) لا يخفى اختلال العبارة ، والصواب اما حذف «قضية» بأن يقال : «إذا كان قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته» واما حذف «موجبا» بأن يقال : «إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف ثبوته فعلا» والأمر سهل بعد وضوح المطلب. ثم ان ظاهر العبارة تسليم المستشكل الانحلال بناء على كون مؤديات الطرق أحكاما واقعية فعلية كما هو مقتضى حجيتها بنحو السببية ، وأن إشكال الانحلال مبني على حجيتها على نحو الطريقية. مع أنه ليس كذلك ، لورود إشكال الانحلال على كلا المبنيين في حجية الطرق ، ضرورة أنه يمكن مغايرة الأحكام المجعولة بسبب قيام الأمارات للتكاليف الواقعية المعلومة أوّلا بالعلم الإجمالي ، ومع إمكان المغايرة لا يحصل العلم الانطباق الّذي هو مناط الانحلال ، بل لا بد في إسقاط العلم الإجمالي الأوّلي عن الحجية ـ من دعوى بدلية مؤديات الطرق عن الأحكام الأوّلية ، وتسمية البدل انحلالا مسامحة ، فحجية الطرق تجعل مؤدياتها أبدالا عن الأحكام المعلومة إجمالا في مقام الفراغ ، فتدبر.

٣٩١

وأما (١) بناء على أن قضية حجيته واعتباره شرعا ليس (٢) إلّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا ـ وهو (٣) تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه ـ فلا (٤) انحلال لما علم بالإجمال أوّلا ، كما لا يخفى.

قلت (٥) : قضية الاعتبار على اختلاف ألسنة

______________________________________________________

(١) عدل لقوله : «إذا كان» وضميرا «حجيته ، اعتباره» راجعان إلى الطريق.

(٢) خبر «أن قضيته» يعني : بناء على أن مقتضى حجية الأمارة هو ترتيب الآثار العقلية المترتبة على القطع ـ من التنجيز والتعذير واستحقاق الثواب على الانقياد والعقاب على التجري ـ على الطريق غير العلمي لا يكون مفاد دليل الاعتبار جعل الحكم الظاهري على طبق المؤدى حتى يوجب الانحلال ، لعدم إمكان وجود حكمين فعليين لموضوع واحد ، أحدهما بمقتضى العلم الإجمالي والآخر بقيام الطريق.

(٣) الضمير راجع إلى الموصول في «ما للطريق» المراد به الآثار العقلية الثابتة للقطع المذكورة آنفا.

(٤) جواب «وأما بناء» ووجه عدم الانحلال ما عرفت من عدم حصول العلم ـ بناء على الطريقية ـ بأن مؤديات الطرق هي الأحكام الواقعية ، لاحتمال عدم اصابتها للواقع ، فالتكليف حينئذ محتمل لا معلوم ، والتكليف المحتمل غير موجب للانحلال.

(٥) هذا جواب الإشكال ، ومحصله : تسليم عدم تحقق الانحلال الحقيقي وادعاء الانحلال الحكمي ، وسيتضح الفرق بينهما ، توضيحه : أن مقتضى أدلة اعتبار الأمارات وان كان هو الطريقية بمعنى ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا وهو العلم ـ من التنجيز والتعذير ـ عليها ، دون الموضوعية أعني ثبوت التكليف الفعلي ،

٣٩٢

أدلته (١) وان كانت [كان]

______________________________________________________

ضرورة أن مفاد «صدق العادل» ونحوه هو البناء على أن ما أخبر به العادل هو الواقع وعدم الاعتناء باحتمال خلافه ، وليس مقتضاه حدوث مصلحة في المؤدى بسبب قيام الطريق عليه ، توجب جعل حكم على طبقها حتى يتحقق الانحلال الحقيقي الّذي هو زوال الصورة العلمية الإجمالية ، ضرورة بقاء العلم الإجمالي بعد قيام الأمارة أيضا على حاله ، لكنّا ندّعي في المقام تحقق الانحلال الحكمي بمعنى اقتضاء الأمارة غير العلمية انصراف التكليف المنجز بالعلم الإجمالي إلى خصوص الطرف الّذي قامت عليه الأمارة ، فتجري البراءة في غيره من أطراف الشبهة.

وبعبارة أخرى : لمّا كان مقتضى تنزيل الأمارة غير العلمية منزلة العلم هو ترتيب أثر العلم ـ من التنجيز والتعذير ـ عليها ، فتكون الأمارة بمنزلة العلم في الآثار التي منها الانحلال ، فكما أن العلم التفصيليّ بوجود التكليف في طرف معين يوجب انحلال ، فكما أن العلم التفصيليّ بوجود التكليف في طرف معين يوجب انحلال العلم الإجمالي ، فكذلك قيام الأمارة على وجوده في أحد الأطراف بعينه يوجب انحلاله ، غاية الأمر أن الانحلال في العلم حقيقي ، لتبدل الصورة الإجمالية بالصورة التفصيلية والشك البدوي ، وفي الأمارة حكمي بمعنى ارتفاع حكم العلم الإجمالي ـ وهو وجوب الاحتياط ومراعاة جانب التكليف في الأطراف ـ بقيام الأمارة على التكليف في طرف معين وان كانت الصورة العلمية الإجمالية باقية على حالها ، لعدم اقتضاء الأمارة غير العلمية لارتفاع التردد والإجمال من البين. فالتكليف الفعلي هو مؤدى الأمارة فقط ، وبعد انحصار الأحكام المنجزة بدائرة الطرق والأمارات فلا مانع من جريان البراءة في سائر الأطراف المشتبهة.

(١) من وجوب العمل تعبدا كما عليه الشيخ (قده) أو تتميم الكشف كما

٣٩٣

ذلك (١) على ما قويناه في البحث (٢) ، إلّا أن (٣) نهوض الحجة على ما ينطبق (*) عليه المعلوم بالإجمال في (٤) بعض الأطراف يكون عقلا

______________________________________________________

عليه بعض المحققين أو تنزيل المؤدى منزلة الواقع كما بنى عليه المصنف في بعض تنبيهات القطع وفي حاشية الرسائل.

(١) أي : مجرد ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا وهو العلم من التنجيز والتعذير على الطرق غير العلمية. وهو غير موجب لانحلال العلم الإجمالي ، وقد تقدم توضيحه.

(٢) وفي المتن في أوائل مباحث الظن ، حيث قال : «لأن التعبد بطريق غير علمي انما هو بجعل حجيته ، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق ، بل انما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب ، وصحة الاعتذار به إذا أخطأ .... كما هو شأن الحجة غير المجعولة» ومنه يظهر عدوله عما ذكره في مباحث القطع من كون مفاد دليل اعتبار الأمارة تنزيلها منزلة القطع. ويحتمل بعيدا أن يريد بقوله : «في البحث» بحث الظن والأمر سهل.

(٣) استدراك على قوله : «وان كان ذلك» وقد عرفت توضيحه.

(٤) متعلق بـ «نهوض» وضمير «عليه» راجع إلى الموصول المراد به التكليف ، يعني : أن قيام الحجة في بعض الأطراف على التكليف الّذي ينطبق عليه المعلوم بالإجمال يكون عقلا بحكم الانحلال.

__________________

(*) الأولى أن يقال : «على ما يمكن أن ينطبق عليه المعلوم بالإجمال» حيث ان ظاهر قوله : «ينطبق» هو تسلم الانطباق ، فالانحلال حينئذ يصير حقيقيا لا حكميا ، وهو ينافي قوله : «يكون عقلا بحكم الانحلال».

إلّا أن يقال : ان مراده (قده) هو إمكان الانطباق بقرينة قوله بعد ذلك :

٣٩٤

بحكم الانحلال ، وصرف (١) تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف ،

______________________________________________________

(١) معطوف على «حكم الانحلال» وتفسير له ، وضمير «تنجزه» راجع إلى «المعلوم بالإجمال» والمراد بحكم الانحلال هو صرف تنجز المعلوم بالإجمال إلى ما قامت عليه الحجة ، يعني : أن قيام الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال يكون عقلا صارفا لتنجز المعلوم بالإجمال إلى ما قامت عليه من الأطراف فيما إذا صادف الواقع ، بأن كان ما قامت عليه الحجة هو المكلف به واقعا ، وموجبا للعذر ـ فيما إذا أخطأ ـ بأن كان المعلوم بالإجمال في غير ما قامت عليه الحجة ، مثلا إذا علم إجمالا بخمرية أحد الإناءين ، ثم شهدت البينة بخمرية الإناء الأبيض مثلا ، فان مقتضى دليل اعتبار البينة هو وجوب الاجتناب عن خصوص الإناء الأبيض ، والبناء على حصر الخمر الواقعي فيما قامت البينة على خمريته ، وانتقال المعلوم بالإجمال إليه ، فإذا ارتكبه وصادف كونه خمرا استحق العقوبة على مخالفة التكليف المنجز ، وإذا ارتكب الإناء الآخر وتبين أنه الخمر المعلوم بالإجمال كان معذورا في ارتكابه ، لعدم تنجز التكليف

__________________

«هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة ...» حيث ان هذه العبارة كالصريح في أن مفروض البحث هو عدم العلم بانطباق المعلوم بالإجمال على مؤديات الأمارات ، لعدم العلم بكون التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال في موارد الطرق المثبتة للأحكام.

أو يقال ـ وان كان بعيدا ـ ان مراده بقوله : «أن ينطبق» هو الانطباق من حيث العدد ، فالانحلال الحكمي يناط بأمرين : أحدهما : توافق المعلوم إجمالا مع موارد الطرق عددا ، والآخر إمكان انطباقه عليها ، لاحتمال كون مواردها أحكاما واقعية ، إذ مع العلم بكونها أحكاما كذلك يكون الانحلال حقيقيا لا حكميا كما لا يخفى.

٣٩٥

والعذر (١) عما إذا كان في سائر الأطراف ، مثلا (٢) إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الإناءين ، وقامت البينة على أن هذا إناؤه (*) فلا ينبغي الشك في أنه (٣) كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلّا عن خصوصه دون الآخر ، ولو لا ذلك (٤) لما كان

______________________________________________________

بالاجتناب عن الخمر بالنسبة إلى هذا الطرف ، واختصاصه بالطرف الّذي قامت عليه البينة.

(١) معطوف على «صرف» وهو أثر آخر من آثار الحجة.

(٢) الغرض من هذا المثال تنظير المقام به من جهة صرف التنجز إلى ما قامت عليه الحجة.

(٣) هذا الضمير راجع إلى قيام البينة ، وقوله : «كما إذا علم ... إلخ» خبر «أن» وضمير «أنه» الثاني راجع إلى الإناء الّذي قامت البينة على أنه إناء زيد ، وضمير «إناؤه» في الموضعين راجع إلى «زيد» وضمير «خصوصه» إلى «إناء زيد» يعني : لا شك في أن قيام البينة على أن هذا الإناء المعين هو إناء زيد كالعلم بأنه إناء زيد في لزوم الاجتناب عنه بخصوصه.

(٤) يعني : لو لا ما ذكرناه من أن قيام الأمارات والطرق بناء على اعتبارها

__________________

(*) ولا يخفى مغايرة المثال للممثل له ، ضرورة أن الطرق والأصول المثبتة لا تتعرض للمعلوم بالإجمال أصلا ، ولا تعينه في مؤدياتها ومواردها ، وانما تثبت الواقع من غير نظر إلى انطباق المعلوم بالإجمال عليها وعدم انطباقه ـ كما في مثالنا المتقدم ـ حيث لم تشهد البينة بأن الإناء المعلوم إجمالا خمريته هو هذا الأبيض ، وانما شهدت بأن هذا الإناء الأبيض خمر. وهذا بخلاف مثال المتن ، فانه فرض فيه تعيين البينة الشاهدة للمعلوم بالإجمال ، وأن إناء زيد المعلوم حرمته إجمالا هو هذا الإناء المعين. إلّا أن يقال بانطباق المعلوم بالإجمال على مؤديات الطرق انطباقا قهريا ، إذ لا ميز له في نظر العالم إلّا كونه واقعيا.

٣٩٦

يجدي القول بأن قضية اعتبار الأمارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية ، ضرورة (١) أنها تكون كذلك بسبب حادث وهو كونها

______________________________________________________

بنحو الطريقية يكون بحكم الانحلال لم يكن قيامها ـ بناء على اعتبارها بنحو السببية ـ مجديا في تحقق الانحلال الحقيقي ، فكأنه (قده) قال : «لو لم يثبت الانحلال الحكمي بناء على الطريقية لم يثبت الانحلال الحقيقي بناء على السببية أيضا» وغرضه من هذا الكلام أنه لا بد عند قيام الأمارات والطرق على بعض الأطراف ـ بناء على الطريقية في اعتبارها ـ من الالتزام بالانحلال الحكمي ، وبصرف التنجز إلى ما قام الطريق التعبدي عليه ، إذ لو لم نلتزم بذلك ـ بناء على اعتبارها بنحو الطريقية ـ لم يكن قيامها على بعض الأطراف بناء على اعتبارها بنحو السببية أيضا مجديا في تحقق الانحلال الحقيقي الّذي اعترف المستشكل بتحققه على هذا المبنى أي السببية. فالنتيجة : أنه لو لا الانحلال الحكمي ـ عند قيام الأمارة بنحو الطريقية ـ لم يتحقق الانحلال عند قيامها أصلا سواء قلنا باعتبارها بنحو السببية أم بنحو الطريقية. أما على الطريقية فواضح ، لاحتمال خطأ الأمارة ، فلا يتحقق الانحلال. وأما على السببية ، فلان مقتضاها حينئذ وان كان جعل مؤدياتها أحكاما فعلية ، إلّا أن صيرورتها كذلك انما هي بسبب حادث وهو قيام الطريق الموجب لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى توجب تشريع حكم على طبقها ، وهذا السبب ـ لمكان تأخره زمانا عن العلم الإجمالي ـ لا يقتضي انحلاله لا حقيقة ولا حكما ، لأنه حادث آخر غير المعلوم بالإجمال ، فاللازم على هذا رعاية الاحتياط في جميع الأطراف كما بنى عليه المحدثون. وقد تقدم في «ان قلت» الأول ما يوضح وجه عدم الانحلال بأكثر من هذا.

(١) تعليل لقوله : «لما كان يجدي» وضمير «أنها» راجع إلى «المؤديات» وقوله : «كذلك» يعني : أحكاما شرعية فعلية ، وقد عرفت وجه عدم الإجداء

٣٩٧

مؤديات الأمارات الشرعية (١).

هذا (٢) إذا لم يعلم ثبوت [بثبوت] التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار (٣) المعلوم بالإجمال ،

______________________________________________________

في الانحلال بقولنا : «وأما على السببية فلان مقتضاها حينئذ وان كان ... إلخ».

(١) يعني : فكيف يصير هذا الحادث المتأخر موجبا لانحلال العلم الإجمالي المتقدم عليه المغاير له.

(٢) يعني : أن ما ذكرناه من الانحلال الحكمي انما يكون في صورة عدم العلم بإصابة الطرق للواقع ، واحتمال كل من الإصابة والخطأ فيها ، وإلّا فمع العلم بإصابة مقدار من الأمارات مساو للمعلوم بالإجمال يكون الانحلال حقيقيا بلا إشكال. وعليه فملاك هذا الجواب دعوى انحصار التكاليف المعلومة إجمالا في موارد الأصول المثبتة ومؤديات الأمارات المعتبرة ، وهذا يوجب زوال العلم الإجمالي بتلك التكاليف ، فإذا علمنا إجمالا بوجود ألف حكم إلزاميّ مثلا في الشريعة المقدسة ، وظفرنا على هذا المقدار في الأمارات والأصول المثبتة كفى في الانحلال ، والكاشف عنه أن إخراج ما يساوي مقدار المعلوم بالإجمال ـ الّذي ظفرنا به في الطرق المعتبرة ـ عن المحتملات ، يوجب زوال العلم الإجمالي حقيقة وصيرورة غيره مجرى للأصل النافي السليم عن المعارض.

وقد تحصل من كلمات المصنف في جواب المحدثين : أن العلم الإجمالي ـ الّذي استدلوا به على وجوب الاحتياط في الشبهات ـ منحل إمّا حقيقة بناء على كون مؤديات الطرق بمقدار المعلوم بالإجمال أوّلا ، والعلم بمطابقتها للواقع ثانيا. وإمّا حكما بناء على عدم العلم بإصابتها للواقع وان كانت بمقدار المعلوم بالإجمال.

(٣) متعلق بـ «ثبوت».

٣٩٨

وإلّا (١) فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه (٢) بموارد تلك الطرق بلا إشكال كما لا يخفى.

وربما استدل بما قيل : من استقلال (٣) العقل بالحظر في الأفعال

______________________________________________________

(١) أي : وإذا علم ثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق بمقدار المعلوم بالإجمال فلا إشكال في حصول الانحلال الحقيقي.

(٢) الضمير راجع إلى العلم الإجمالي ، وقوله : «بلا إشكال» خبر «فالانحلال» وقوله : «وانحصار» معطوف على «فالانحلال» ومفسر له ، إذ انحصار أطراف العلم الإجمالي بموارد الطرق لازم الانحلال.

(٣) يفترق هذا التقرير لدلالة العقل عن التقرير المتقدم من وجهين : أحدهما : أن حكمه بوجوب الاحتياط على التقرير الأول كان بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل مع ملاحظة العلم الإجمالي بالتكاليف ، بخلاف حكمه به على هذا التقرير ، فانه يكون اما بملاك قبح التصرف في مال الغير بدون اذنه ـ بناء على الحظر ـ أو بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل بناء على الوقف ، وسيأتي بيانهما ، وعلى أي تقدير لا يكون حكمه به بلحاظ العلم الإجمالي بالتكاليف.

الثاني : أن التقرير المتقدم جار في كل شبهة بمقتضى تعميم متعلق العلم الإجمالي للشبهة الوجوبية والتحريمية ، بخلاف هذا التقرير ، فانه مختص بالشبهة التحريمية.

وقبل توضيح الاستدلال بحكمه على هذا التقرير لا بأس بالإشارة إلى نزاع الحظر والإباحة في الأشياء ، فنقول : لا إشكال في أن العقل ـ بناء على القول بالتحسين والتقبيح العقليين وأن للافعال آثارا ذاتية يدركها العقل مع قطع النّظر عن الشرع كما هو مذهب العدلية ـ قد يدرك حسن الفعل إمّا على وجه

٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

العلية التامة بحيث لا يرضى بتركه أصلا كالعدل وشكر المنعم اللذين هما علتان تامتان للحسن ، وإمّا على وجه الاقتضاء كالصدق ، حيث انه مقتض للحسن ، ولا يرضى العقل بتركه إلّا إذا ترتب عليه مفسدة كتلف نفس محترمة. وقد يدرك قبح الفعل كذلك يعني على وجه العلية التامة كالظلم ، أو على وجه الاقتضاء كالكذب ، فانه مقتض للقبح ومؤثر فيه لو لا المانع كما إذا ترتب على الكذب مصلحة كنجاة مؤمن ونحوها من المصالح. وقد اتفقت العدلية على حكم العقل بحسن الفعل وعدم الرضا بتركه تنجيزا في صورة عليته للحسن ، وتعليقا في صورة اقتضائه له ، وكذا على حكمه بقبح الفعل والمنع عنه تنجيزا وتعليقا في صورتي العلية والاقتضاء ، وعلى حكمه أيضا بعدم المنع عن الأفعال الضرورية المقومة للحياة كالأكل والشرب واستنشاق الهواء.

ولكنهم اختلفوا في حكم العقل بالجواز وعدمه فيما لا يستقل بحسنه وقبحه من الأفعال غير الضرورية على أقوال ثلاثة :

الأول : أن الأصل في الأشياء التي لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها ولا هي مضطر إليها الحظر أي المنع ، وأن العقل يحكم بعدم جوازها ما لم يرد رخصة من الشارع فيها ، ويعبر عنه بأصالة الحظر ، ذهب إليه كثير من البغداديين ـ كما في عدة الأصول ـ وطائفة من الإمامية ، ووافقهم عليه جماعة من الفقهاء ، ونظرهم في ذلك إلى أن الأشياء كلها مملوكة لله تعالى ، فلا يجوز التصرف فيها بدون اذنه ، لعدم جواز التصرف في ملك الغير إلّا بإذنه.

الثاني : أن الأصل فيها الإباحة ، وأن العقل يحكم بجوازها ما لم يصل من الشارع منع عنها ، ويعبر عنه بأصالة الإباحة ، ذهب إليه كثير من متكلمي البصريين وكثير من الفقهاء ، واختاره السيد مرتضى (قده) ونظرهم في ذلك

٤٠٠