منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

مطابقته (١) مع ما هو واقعه إلّا بالاحتياط ، والمفروض (٢) عدم وجوبه شرعا أو عدم جوازه عقلا ، ولا أقرب من العمل على وفق الظن (٣).

وبالجملة : لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب الأعمال الجوانحية (٤) على الظن فيها مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها ، فلا يتحمل (٥) إلّا لما هو الواقع ولا ينقاد إلّا له ، لا لما هو مظنونه ، وهذا بخلاف العمليات (٦) فانه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد.

______________________________________________________

إلى الموصول في «بما هو».

(١) أي : مطابقة العمل حال الانسداد كما هو مفروض البحث ، وضمير «فانه» للشأن ، وضمير «واقعه» راجع إلى العمل بالجوارح.

(٢) الواو للحال ، أي : والحال أن الاحتياط غير واجب شرعا أو غير جائز عقلا كما تقدم في مقدمات الانسداد.

(٣) يعني : وليس شيء أقرب إلى الواقع من العمل بالظن ، فلو لم يعمل به بل عمل بما دونه لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وقد عرفت قبحه في مقدمات الانسداد.

(٤) من الانقياد والاعتقاد المقابل للجحود والإنكار ، وضمير «فيها» في الموضعين راجع إلى الاعتقاديات ، والأولى التعبير بـ «الجانحية».

(٥) هذا نتيجة لقوله : «لا موجب مع انسداد ... مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع».

(٦) وهي الفروع التي يكون المطلوب فيها العمل الجارحي. هذا تمام الكلام في القسم الأول من الأصول الاعتقادية.

١٠١

نعم (١) يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن من

______________________________________________________

(١) هذا شروع في بيان القسم الثاني من الأمور الاعتقادية وهو ما يكون متعلق الوجوب فيه معرفته والعلم به ليكون الاعتقاد به عن علم ، وتوضيح ما أفاده : أن تحصيل المعرفة بالله سبحانه وتعالى واجب نفسي عقلي عند العدلية ، وشرعي عند الأشاعرة ، لإنكارهم التحسين والتقبيح العقليين ، والوجه في وجوبه عقلا هو وجوب شكر المنعم ، والمعرفة تكون أداء له ، فتجب ، فنفس المعرفة شكر للمنعم ، وهذا المناط يوجد في معرفة الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام. فيجب معرفتهم من باب شكر المنعم ، لأنهم وسائط نعمه وفيضه جلّ وعلا. ولا دليل على وجوب المعرفة بأمر آخر غير ما ذكر إلّا أن ينهض من الشرع ما يدل عليه.

وزاد شيخنا الأعظم عليها وجوب تحصيل المعرفة بالمعاد الجسماني ، قال (قده) : «وبالجملة فالقول بأنه يكفي في الإيمان الاعتقاد بوجود الواجب الجامع للكمالات المنزه عن النقائص وبنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبإمامة الأئمة والبراءة من أعدائهم والاعتقاد بالمعاد الجسماني الّذي لا ينفك غالبا عن الاعتقادات السابقة غير بعيد بالنظر إلى الاخبار والسيرة المستمرة ... إلخ» ومراده بالاعتقادات السابقة تفاصيل المعاد من الحساب والصراط والميزان وغيرها. لكنه لم يستند في وجوب المعرفة إلى شكر المنعم ، ونقل وجوب ذلك أيضا بالإجماع عن العلامة في الباب الحادي عشر ، وأنه لا بد من تحصيل المعرفة ولا تكفي المعرفة التقليدية ، حيث قال : «أجمع العلماء على وجوب معرفة الله وصفاته الثبوتية وما يصح عليه وما يمتنع عنه والنبوة والإمامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد».

هذا فيما يجب تحصيل المعرفة به. وأما جواز قيام الظن مقامها فسيأتي الكلام عنه عند تعرض المصنف له.

١٠٢

باب وجوب المعرفة لنفسها (١) كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداء (٢) لشكر بعض نعمائه ، ومعرفة (٣) أنبيائه ، فانهم وسائط نعمه وآلائه (*)

______________________________________________________

(١) صريح العبارة أن وجوب المعرفة نفسي لا غيري ، والوجه فيه كونه تبارك وتعالى مستجمعا لجميع صفات الكمال فيستحق أن يعرف.

(٢) ظاهره أن وجوب المعرفة غيري مقدمة لشكر المنعم الواجب ، وهو ينافي وجوبها نفسيّا كما أفاده. إلّا أن يقال : ان المراد من وجوب المعرفة نفسيا ان وجوبها ليس كالوجوبات المقدمية الناشئة من وجوب الغير ، فلا ينافى كونه لأجل الغير وهو أداء الشكر. أو يقال : مقصوده (قده) أن نفس المعرفة بما هي شكر ، بل هي أعلى مراتب الشكر من العلم والحال والعمل ، والمراد بالأولى معرفة المنعم ، وبالثانية التخضع والتخشع له قلبا ، وبالثالثة صرف البصر والسمع واللسان وغيرها من الجوارح فيما خلقت لأجله بأداء ما هو وظيفته. وعليه فمعرفة المنعم بنفسها من أفضل مراتب الشكر ، فيجب نفسيا.

(٣) معطوف على «معرفة الواجب».

__________________

(*) ان كان غرضه (قده) توقف شكر المنعم على معرفتهم عليهم‌السلام ، ففيه عدم التوقف عقلا ، لإمكان تحققه بدونها وعدم نهوض برهان عليه أيضا. وان كان غرضه لزوم معرفتهم عليهم‌السلام ، لأنهم وسائط فيضه جل وعلا ، ووسائل وصول النعم إلى الخلق بحيث يكون لهم دخل في فعله جل وعلا ، فهو ينافى التوحيد الفعلي ، ويكون الشكر لهم على حدّ شكر المنعم الحقيقي شركا بالمنعم بما هو منعم.

والحاصل : أن دخلهم عليهم‌السلام في النعم ليس كدخله تبارك وتعالى فطريا حتى يوجب شكرهم المقتضي لوجوب معرفتهم ، فلا ينبغي جعل وجوب معرفتهم في عرض وجوب معرفته جل وعلا ، ومن باب وجوب شكره عظم شأنه ، بل

١٠٣

بل وكذا معرفة الإمام عليه‌السلام على وجه صحيح (١) (*) فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك (٢) ، ولاحتمال الضرر (٣) في تركه (٤).

______________________________________________________

(١) وهو كون الإمامة كالنبوة من المناصب الإلهية ، فالإمام كالنبي منصوب من قبله سبحانه وتعالى ومن وسائط نعمه وآلائه ، فتجب معرفته عليه‌السلام كمعرفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) أي : لأداء شكر المنعم.

(٣) هذا وجه ثان لوجوب تحصيل المعرفة به تعالى وبنبيه ووصيه ، يعني : أن وجوب معرفة الباري عزوجل والنبي والوصي يكون لأداء الشكر ولاحتمال الضرر في ترك المعرفة. هذا لكن التعليل باحتمال الضرر ينافي نفسية وجوب المعرفة ويجعله غيريا. إلّا أن يوجه بما تقدم من أن المراد بنفسية الوجوب عدم كونه ناشئا عن وجوب الغير ، فلا ينافي كونه لأجل الغير وهو الضرر.

(٤) الأولى أن يقال : «في تركها» لرجوع الضمير إلى المعرفة.

__________________

(*) وهو كون الإمامة كالنبوة منصبا إلهيا يحتاج إلى تعيينه تعالى ونصبه ، لا أنها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين وهو الوجه الآخر.

لا بد من استناد وجوب معرفتهم إلى وجه آخر ، وهو : أن الشكر المناسب لمقام المنعم الحقيقي والمعين من ناحيته لا يعلم إلّا من قبل أوليائه عليهم الصلاة والسلام لأنهم وسائط التشريع ، لقصور النفوس البشرية عن تلقي الوحي الإلهي بلا وساطة تلك الذوات المقدسة.

وبالجملة : فالشكر على الوجه المطلوب له سبحانه وتعالى أوجب معرفتهم ، فلا يكون وجوب معرفتهم في عرض وجوب معرفته عزّ اسمه. وهذا وجه وجيه لا يعتريه ريب.

١٠٤

ولا يجب (١) عقلا (*) معرفة غير ما ذكر إلّا ما وجب شرعا معرفته كمعرفة الإمام عليه‌السلام على وجه آخر (٢) غير صحيح ، أو أمر (٣) آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته

______________________________________________________

(١) يعني : أن الأمور الاعتقادية التي يجب عقلا تحصيل المعرفة بها ثم عقد القلب عليها ـ الّذي هو المطلوب في جميع الأمور الاعتقادية على ما تقدم في صدر البحث ـ منحصرة في الأمور الثلاثة المذكورة أعني ذات الباري تعالى والنبي والإمام صلى الله عليهما ، ولا دليل عقلا على وجوب المعرفة في غيرهم من الاعتقاديات.

(٢) وهو عدم كون الإمامة من المناصب الإلهية كما يقوله غيرنا ، ووجوب معرفته حينئذ لا يكون عقليا ، لأنه على هذا المبنى الباطل ليس من وسائط نعمه جل وعلا ، فلو وجب معرفته لكان شرعيا كما ادعي دلالة الروايات المدعى تواترها مثل «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية» على ذلك.

(٣) عطف على «الإمام» وذلك كالمعاد الجسماني ، فانه مما استقل العقل بوجوب وجوده ، لكن لم يحكم بوجوب معرفته ، لعدم وجود مناط الحكم العقلي ـ وهو شكر المنعم ـ فيه حتى يجب تحصيل العلم به ، بل ولا يتم الحكم بوجوب العلم به بمناط دفع الضرر المحتمل أيضا. نعم مقتضى كون المعاد من ضروريات الدين هو وجوب العلم به شرعا.

__________________

(*) هذا عدول عما أفاده في تعليقته على الرسائل من انقسام ما يجب معرفته إلى أقسام ثلاثة بقوله : «أحدها ما يجب معرفته عقلا بما هو هو. ثانيها ما يجب معرفته كذلك ، لكونه مما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبر به ، وإلّا لم يعرف له خصوصية موجبة للزوم معرفته من بين الأشياء. ثالثها ما يجب معرفته شرعا» وجعل من القسم الأول معرفة الله ومعرفة أنبيائه وأوصيائهم عليهم

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

السلام على وجه صحيح ، وهو كون الولاية كالنبوة منصبا إلهيّا. وجعل من القسم الثاني ما علم ثبوته من الدين ومما جاء به سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : لعل وجه العدول ما نبّه عليه بعض محققي المحشين (قده) من أنه إذا كان اللازم في الأمور الاعتقادية مجرد الالتزام النفسانيّ وعقد القلب ، واختص وجوب تحصيل العلم والمعرفة ببعضها كما هو صريح كلامه ، فلا وجه لعدّ القسم الثاني مما يجب معرفته ، لعدم دليل على وجوبه لا عقلا ولا نقلا ، ومع نهوضه على وجوب تحصيل العلم بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعم كلّا من الأمور الاعتقادية والأحكام الفرعية ، إذ الموجب لتحصيل العلم وهو عنوان مجيئه صلى‌الله‌عليه‌وآله به مشترك بين الكل ، فلا وجه لتخصيص الوجوب بالبعض ، ومن المعلوم أن نفي هذا الوجوب لا ينافي وجوب الالتزام بجميع ما جاء صلى‌الله‌عليه‌وآله به ، لعدم التلازم بينهما ، ضرورة إمكان الالتزام بشيء على ما هو عليه مع عدم العلم به تفصيلا ، بل ولا إجمالا ، كخصوصيات البرزخ والبعث وغيرهما. وأما وجوب الالتزام بذلك مع عدم العلم به ، فلان مرجع عدمه إلى عدم الإقرار برسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أرسل به ، وهو ينافي الإيمان.

وكيف كان ، فتحقيق المقام يتوقف على التعرض إجمالا لأمور :

الأول : ما مرت الإشارة إليه من أنه لا تلازم بين وجوب الاعتقاد بشيء ووجوب معرفته ، بداهة إمكان الالتزام النفسانيّ بذلك على ما هو عليه في الواقع من دون توقفه على العلم به مطلقا حتى إجمالا ، كما أنه يمكن العلم بشيء مع عدم الاعتقاد به ، بل مع جحده والاعتقاد بخلافه ، بشهادة قوله تعالى : «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم» كما أنه يمكن اجتماعهما ، فالنسبة بينهما عموم من وجه.

١٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثاني : أنه إذا شك في وجوب المعرفة أو الاعتقاد أو أحدهما أو في وجوب المعرفة التفصيلية بعد نهوض الدليل على وجوبها في الجملة ، فأصل البراءة ينفى وجوب الجميع ، لما فيه من الكلفة والمشقة.

الثالث : أنه نُفي الريب والإشكال في كلمات جملة من الاعلام عن وجوب معرفة الله عزوجل وصفاته ومعرفة وسائط نعمه وآلائه من الأنبياء وأوصيائهم عليهم‌السلام ، بل ادعي الإجماع عليه ، لكنه غير ظاهر بعد استدلال غير واحد على وجوب المعرفة بأنه عقلي بمناط شكر المنعم ، أو فطري بمناط دفع الضرر المحتمل.

وكيف كان ، فلا ينبغي الارتياب في وجوب هذه المعارف بحيث لا مسرح لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيه ، لأن موردها عدم اهتمام الشارع بالتكليف في ظرف الجهل به ، وأما معه بحيث يحكم العقل بمنجزية الاحتمال كحكمه بها في الشبهات البدوية قبل الفحص ، فلا تجري فيه قاعدة القبح ، والمقام مثله ، لوجود هذا الحكم العقلي أو الفطري فيه. كما لا ينبغي الإشكال في عدم صحة الاستدلال على وجوب هذه المعارف بالأدلة السمعية كتابا وسنة ، لتوقف صحته على حجيتهما عند الجاهل بهذه المعارف ، وهي غير ثابتة ، فينحصر دليل هذا الوجوب بالعقل أو الفطرة ، فعلى القول بالتحسين والتقبيح العقليين كما عليه العدلية قد يقال بكون الوجوب عقليا ، لأن شكر المنعم ودفع الضرر المحتمل عن النّفس واجبان عقلا ، وهما منوطان بالمعرفة ، ومقدمة الواجب واجبة ، فوجوب المعرفة حينئذ غيري عقلي.

وعلى القول بعدم التحسين والتقبيح العقليين يكون وجوب المعرفة غيريا فطريا. هذا كله بناء على عدم كون المعرفة بنفسها شكرا.

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأما بناء على ذلك كما هو ظاهر قول المصنف (قده) تعليلا لوجوب المعرفة «أداء لشكر بعض نعمائه» فيكون وجوبها نفسيا عقليا ، لا غيريا بناء على قاعدة التحسين والتقبيح.

وبالجملة : فوجوب المعرفة نفسيا عقليا موقوف على كونها بنفسها شكرا ، وعلى كون الشكر واجبا ، وعلى قاعدة التحسين. والكل مخدوش ، لعدم كون مجرد المعرفة بنفسها شكرا للمنعم ، لأن الشكر لغة هو الاعتراف بالنعمة وفعل الطاعة وترك المعصية ، قال في مجمع البحرين : «وشكرت الله اعترفت بنعمته وفعلت ما يجب من فعل الطاعة وترك المعصية» وإليه يرجع ما في الشوارق من «أن الشكر اللغوي هو الثناء على الإحسان» وعرفا كما في الشوارق أيضا «هو الفعل المنبئ عن تعظيم المنعم» فالمعرفة بنفسها ليست شكرا لا لغة ولا عرفا. وبعد تسليم كونها شكرا لا يستلزم حسنها وجوبها. وقاعدة التحسين والتقبيح وان كانت مسلمة عند العدلية ، لكن المقام ليس من صغرياتها ، لأن وجوب دفع الضرر ليس من الأحكام العقلية ، بل هو من الفطريات المجبولة عليها النفوس من دون توقفه على حكم العقل بحسنه ، بداهة أن كل ذي شعور والتفات وان لم يكن من ذوي العقول يفر من الشيء المضر ، كما هو المشاهد في الحيوانات ، كما أنه يسعى إلى الشيء النافع ويميل إليه ويرجِّح فعله على تركه ، فان الفرار من الضرر والسعي إلى النّفع لا يتوقفان على حكم العقل بحسنه أو قبحه ، وإلّا لاختصا بذوي العقول ، بل هما من الأمور الفطرية لكل ذي شعور وان كان حيوانا ، ولا ربط لهما بالتحسين والتقبيح العقليين.

فالحق أن يقال : ان وجوب المعرفة فطري غيري لا شرعي ولا نفسي عقلي.

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أما فطريته ، فلما عرفت من كون دفع الضرر وجلب النّفع جبليا لكل ذي شعور ، وأما غيريته ، فلمقدمية المعرفة لدفع الضرر. ومنه يظهر عدم وجوبها النفسيّ بعد وضوح مقدميته لدفع الضرر ، وانتفاء ملاك النفسيّة فيه ، واحتمال وجوبها كذلك لكونها بنفسها شكرا ضعيف ، لما مر أوّلا من عدم انطباق حد الشكر عليها ، وثانيا بعد تسليمه من عدم دلالة حسن الشكر على وجوبه ، إذ ليس لازما مساويا للوجوب.

واما عدم شرعيته ، فلأنه لا يصح الاستدلال عليه بالأدلة النقليّة كما مر آنفا.

الرابع : أنه يجب الاعتقاد والالتزام النفسانيّ بما حصل له من المعرفة بالله تعالى وأنبيائه وأوصيائهم عليهم الصلاة والسلام ، لدخل عقد القلب على ذلك قطعا أو احتمالا في أداء الشكر الواجب ، بحيث لا يحصل القطع بأدائه الا بالاعتقاد المزبور ، فالإخلال به مظنة للضرر الّذي يلزم عقلا أو فطرة دفعه ، وهذا الوجوب ثابت ولو مع عدم التمكن من المعرفة ، لما تقدم من إمكان الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه وعدم توقفه على المعرفة.

الخامس : إذا لم يتمكن من تحصيل المعرفة في الأصول الاعتقادية ، فهل يقوم الظن مقامها أم لا؟ فيه تفصيل ، وهو : أنه ان كان المطلوب فيها عقد القلب والانقياد لها كخصوصيات عالم البرزخ والبعث والجنة والنار لا المعرفة بذلك ، فالظن الخاصّ حجة فيها ، ولا مانع من عقد القلب على مضمونه ، وأما الظن المطلق فليس حجة فيها ، لعدم جريان دليل الانسداد هنا ، إذ من مقدماته عدم وجوب الاحتياط أو عدم جوازه للعسر أو اختلال النظام ، ومن المعلوم إمكان

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الاحتياط في هذا القسم من الأمور الاعتقادية بالالتزام بما هو الواقع على إجماله ، وعدم لزوم شيء من العسر والاختلال منه.

وان كان المطلوب فيها المعرفة عقلا أو شرعا كمعرفة الله عزوجل وأنبيائه وأوصيائهم عليهم‌السلام والمعاد الجسماني ، فلا يقوم الظن مطلقا ـ وان كان خاصا ـ مقام المعرفة ، لعدم كون الظن معرفة مع بقاء ظلمة الجهل معه ، ولأن العلم مأخوذ في هذه الأمور الاعتقادية على وجه الصفتية ، وقد ثبت في محله عدم قيام الأمارات غير العلمية مقامه. وعليه فيسقط وجوب المعرفة ، لكونه تكليفا بغير مقدور.

وأما ما عدا وجوب المعرفة مما يتعلق بالجاهل القاصر فيذكر في ضمن جهات :

الأولى : في وجوده في الخارج ، الحق أنه بالنسبة إلى معرفة الله سبحانه وتعالى ولو من ناحية الآثار التي تتدين بها العجائز معدوم أو نادر جدا ، إذ من له أدنى شعور والتفات إلى وجود نفسه وحدوثه بعد عدمه يحصل له العلم بوجود الصانع ، بل هو كذلك بالنسبة إلى النبوة والإمامة العامتين أيضا. نعم الجاهل القاصر بالإضافة إلى النبوة والإمامة الخاصتين لغموض المطلب أو قلة الاستعداد أو الغفلة في غاية الكثرة.

الثانية : أنه لا يستحق العقاب على جهله ، إذ المفروض قصوره ، والعقل مستقل بقبح المؤاخذة على أمر غير مقدور لكونها ظلما.

وبالجملة : فالجاهل القاصر معذور ، ولذا لا يعاقب بشرط عدم معاندة الحق وإنكاره ، وهذا واضح لا غبار عليه ، ولكن مع ذلك التزم المصنف (قده)

١١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في تعليقته على المتن وفي مبحثي القطع والطلب والإرادة باستحقاقه للعقاب بناء منه على أنه من تبعات البعد عن المولى الناشئ عن الخباثة المنتهية إلى أمر ذاتي ، والذاتي لا يعلل. وقد عرفت في مباحث القطع ضعفه. نعم لا إشكال في عدم قبح مؤاخذة الجاهل المقصر ، لعدم كونها عقابا على أمر غير مقدور مع تمكنه من تحصيل المعرفة بالحق ، هذا كله في الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل المعرفة بها.

وأما ما لا يجب فيها إلّا عقد القلب والالتزام ، فالبحث عن وجوب المعرفة فيها ساقط ، إذ الواجب هو الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه ، لا الاعتقاد عن معرفة حتى يجب تحصيلها ويبحث عن حكم الجاهل بها.

الثالثة : الظاهر أن أحكام الكفر من النجاسة وعدم التوارث وعدم جواز المناكحة وغيرها تترتب على الجاهل بالأصول الاعتقادية التي تجب المعرفة بها عقلا أو شرعا كمعرفة الباري جلّ وعلا والنبي والوصي عليه الصلاة والسلام والمعاد ، ضرورة أن أحكام الإسلام أنيطت بمعرفة هذه الأمور ، فانتفاؤها يوجب الكفر ، ومقتضى إطلاق أدلة تلك الأحكام عدم ترتبها على غير العارف المعترف بتلك الأمور الاعتقادية سواء أكان عارفا جاحدا أم جاهلا مقصرا أم قاصرا بسيطا ومركبا ، لصدق عدم العارف المعترف على الجميع. قال المحقق الطوسي والعلامة (قدس‌سرهما) في التجريد وشرحه : «والكفر عدم الإيمان ، اما مع الضد بأن يعتقد فساد ما هو شرط في الإيمان ، أو بدون الضد كالشاك الخالي من الاعتقاد الصحيح».

والحاصل : أن الجاهل القاصر وان لم يكن جاحدا محكوم بالكفر.

وفي المقام أبحاث كثيرة نافعة لكن التعرض لها ينافي وضع التعاليق.

١١١

وما لا دلالة (١) على وجوب معرفته بالخصوص لا من العقل ولا من النقل

______________________________________________________

(١) غرضه من هذا الكلام تمهيد قاعدة في موارد الشك في وجوب المعرفة فيما لم يثبت وجوب معرفته عقلا ولا شرعا ، وأن أصالة البراءة محكمة فيها ، فينفي وجوبها ، لأنها المرجع فيها ، وفيه تعريض بما أفاده شيخنا الأعظم تأييدا لما أفاده العلامة في الباب الحادي عشر ، ولا بأس بنقل كلام الشيخ الأعظم ثم مناقشة المصنف فيه ، قال (قده) بعد تقسيم الأمور الاعتقادية إلى قسمين ـ كما تقدمت عبارته ـ : «ثم ان الفرق بين القسمين المذكورين وتميز ما يجب تحصيل العلم به عما لا يجب في غاية الإشكال ، وقد ذكر العلامة (قده) في الباب الحادي عشر فيما يجب معرفته على كل مكلف من تفاصيل التوحيد والنبوة والإمامة أمورا لا دليل على وجوبها كذلك ... إلى أن قال : نعم يمكن أن يقال : ان مقتضى عموم وجوب المعرفة مثل قوله تعالى : وما خلقت الجن والأنس الا ليعبدون أي ليعرفون ، وقوله صلوات الله عليه وآله : ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة الخمس ، بناء على أن الأفضلية من الواجب خصوصا مثل الصلاة تستلزم الوجوب ، وكذا عمومات وجوب التفقه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد الإمام عليه‌السلام بها لوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق عليه‌السلام وعمومات طلب العلم هو وجوب معرفة الله جل ذكره ومعرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعرفة الإمام ومعرفة ما جاء به النبي على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم فيجب الفحص حتى يحصل اليأس ... إلخ» ومع هذه الأدلة الاجتهادية لا يبقى مجال للتمسك بأصالة البراءة في موارد الشك في وجوب تحصيل المعرفة بأصول الدين وتفاصيلها. وسيأتي مناقشة المصنف فيها.

١١٢

كان (١) أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة ، ولا دلالة لمثل قوله تعالى (٢) : «وما خلقت الجن والأنس» الآية ، ولا (٣) لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس» (*) ولا (٤) لما دل على وجوب

______________________________________________________

(١) خبر الموصول في «وما لا دلالة» المراد به الأصل الاعتقادي الّذي لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص ، وضمير «معرفته» راجع إلى هذا الموصول أيضا.

(٢) تقريب الاستدلال بالآية الشريفة بعد البناء على تفسير «يعبدون» بـ «يعرفون» ـ كما حكي اتفاق المفسرين عليه ـ : أن الغاية المطلوبة من الخلقة هي المعرفة وهي مطلقة ، ومقتضى إطلاقها عدم اختصاص وجوب المعرفة بذاته تبارك وتعالى وبصفاته وبالنبي والإمام عليهما‌السلام كما تقدم ، ففي كل مورد شك في وجوب تحصيل المعرفة فيه يتمسك بالإطلاق المزبور.

(٣) عطف على «لمثل» وتقريب الاستدلال به : أن الصلوات الخمس الواجبة جعلت متأخرة عن المعرفة ، فيعلم من وجوبها وجوب المعرفة ، ولمّا كان وجوبها مطلقا فمقتضى إطلاقه جواز التمسك به في موارد الشك في وجوب المعرفة.

(٤) معطوف على «لقوله» وتقريب الاستدلال بآية النفر : أن الآية الشريفة ـ لمكان قوله تعالى : ليتفقهوا ـ تدل على وجوب التفقه والتعلم ، ومقتضى إطلاقه عدم اختصاصه بمورد دون آخر. وكذا ما ورد من الروايات في الحث على

__________________

(*) الّذي عثرنا عليه بهذا المضمون روايتان مرويتان عن أبي عبد الله عليه‌السلام إحداهما في الكافي ج ٣ ص ٢٦٤ ، والأخرى في التهذيب ج ٢ ص ٢٣٦ ، وروى إحداهما في الوسائل ج ٣ ص ٢٥.

١١٣

التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب (١) معرفته بالعموم ، ضرورة (٢) أن المراد من «ليعبدون» هو خصوص عبادة الله ومعرفته. والنبوي انما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات ، لا بيان حكم المعرفة ، فلا إطلاق فيه أصلا. ومثل آية النفر انما هو بصدد بيان

______________________________________________________

طلب العلم ، فان إطلاق الأمر بتحصيله يشمل الأصول الاعتقادية وتفاصيلها.

(١) متعلق بـ «لا دلالة» وضمير «معرفته» راجع إلى الموصول في قوله : «وما لا دلالة على ... إلخ» المراد به الأصل الاعتقادي الّذي لا دليل على وجوب معرفته بالخصوص ، وقوله : «بالعموم» متعلق بـ «دل» فكان الأولى جعله عقيبه ، يعني : أن الأدلة العامة الآمرة بوجوب التفقه قاصرة عن إثبات وجوب معرفة ذلك الأصل الاعتقادي مثل خصوصيات البرزخ ، لما سيأتي.

(٢) تعليل لقوله : «ولا دلالة» وشروع في مناقشة كلام الشيخ الأعظم ، وتوضيحه : أن الأدلة المتقدمة لا تنهض لإثبات وجوب تحصيل المعرفة مطلقا حتى يندرج المقام فيه ، وذلك أما الآية الشريفة الأولى فلان المعرفة تختص به سبحانه وتعالى ولا تعمّ غيره ، لأن النون في «ليعبدون» للوقاية ، وقد حذف ياء المتكلم ، ، ومعه فلا إطلاق فيه حتى يستدل به على وجوب المعرفة بتفاصيل الأمور الاعتقادية.

وأما النبوي ، فلأنه ليس بصدد بيان حكم المعرفة حتى يكون له إطلاق يؤخذ به في مورد الشك في وجوب المعرفة ، بل انما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات الخمس ، وأنها أفضل من سائر الواجبات بعد المعرفة ، وربما يكون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أفضل» قرينة على ذلك ، فتدبر.

وأما آية النفر فلأنها ليست بصدد بيان موضوع التعلم حتى يكون إطلاقه قاضيا بعدم الاختصاص ببعض الموارد ، بل انما هي بصدد بيان ما يجعل وسيلة

١١٤

المتوسل به إلى التفقه الواجب ، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته (١) كما لا يخفى. وكذا ما دل على وجوب طلب العلم انما هو بصدد الحث على طلبه لا بصدد بيان ما يجب العلم به (٢).

ثم انه (٣) لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا

______________________________________________________

إلى التفقه الواجب ، وطريقا يسهل معه التعلم الواجب ، وأنه يحصل بأن ينفر من كل فرقة طائفة للتفقه ، ولا يجب نفر الجميع ، وعليه فلا إطلاق فيه من حيث المورد.

وأما الروايات ، فلأنها في مقام وجوب طلب العلم من دون نظر إلى ما يجب العلم به ، فلا إطلاق فيها.

وبالجملة : فلا دليل على وجوب المعرفة مطلقا حتى يصح التمسك به في موارد الشك في وجوبها. فما أفاده شيخنا الأعظم تأييدا لكلام العلامة لا يخلو عن الغموض وان ناقش هو (قده) فيه بوجه آخر ، ومحصله تعذر العلم بتفاصيل الاعتقاديات لغير المجتهد ، فراجع الرسائل.

(١) حتى يكون له إطلاق يشمل الأمور الاعتقادية كما هو مورد البحث.

(٢) والإطلاق فرع كونها في مقام بيان ما يجب العلم به.

(٣) الضمير للشأن ، غرضه بيان قيام الظن مقام العلم بعد الفراغ مما يجب تحصيل المعرفة به عقلا أو شرعا وعدم قيامه مقامه ، ومرجعية البراءة في موارد الشك.

وتوضيح ما أفاده : أنه قد استدل على كفاية الظن في أصول الدين بوجوه :

الأول : أن الظن معرفة مطلقا سواء في حال الانفتاح أم الانسداد بحيث تصدق المعرفة عليه كصدقها على العلم ، فيكتفي بالظن في الأصول حتى في حال انفتاح باب العلم بها. وفيه ما أشار إليه المصنف بقوله : «حيث انه ليس» وحاصله : أن الظن ليس مصداقا للمعرفة الواجبة في بعض الأصول الاعتقادية ، إذ المعرفة

١١٥

حيث انه ليس بمعرفة قطعا ، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن ، ومع العجز عنه كان معذورا ان كان (١) عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلة الاستعداد كما هو (٢) المشاهد في كثير من النساء بل

______________________________________________________

عرفا هي العلم ولا تصدق على غيره ، فمع التمكن من تحصيل العلم يجب تحصيله ولا يجوز الاكتفاء بالظن. ومع عدم التمكن منه يكون معذورا ان كان العجز عن تحصيل العلم مستندا إلى القصور الناشئ عن عدم المقتضي كقلة الاستعداد وغموض المطلب ، أو وجود المانع كغفلته وعدم التفاته. وان كان العجز عنه مستندا إلى التقصير في الاجتهاد ولو لأجل حبّ طريقة الآباء ، فان هذا الحب ربما يوهم كون تلك الطريقة حقا فيورث الخطاء في الاجتهاد ، فهو غير معذور ، بل مقصّر لأجل الحب المزبور الملقي له في الخطاء ، قال شيخنا الأعظم في بيان الحكم التكليفي للقادر على تحصيل العلم بما يجب تحصيله فيه ما لفظه : «أما حكمه التكليفي فلا ينبغي التأمل في عدم جواز اقتصاره على العمل بالظن ، فمن ظنّ بنبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو بإمامة أحد من الأئمة صلوات الله عليهم ، فلا يجوز له الاقتصار ، فيجب عليه مع التفطن لهذه المسألة زيادة النّظر ... إلخ» ولكنه استند في عدم الاكتفاء بالظن إلى ما أفاده بقوله : «والدليل على ما ذكرنا جميع الآيات والاخبار الدالة على وجوب الإيمان والعلم والتفقه والمعرفة والتصديق والإقرار والتدين وعدم الرخصة في الجهل والشك ومتابعة الظن وهي أكثر من أن تحصى» وهذا بخلاف ما تقدم من المصنف من أن المعرفة الواجبة بحكم العقل لا تصدق على الظن.

(١) أي : ان كان عجزه عن تحصيل العلم عن قصور ... إلخ.

(٢) إشارة إلى دفع ما قيل : من عدم وجود القاصر استنادا إلى حصر المكلف في المؤمن والكافر ، وخلود الكافر في النار ، وإلى قوله تعالى : «لئلا يكون

١١٦

الرّجال ، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد ولو لأجل (١) حُبّ طريقة الآباء والأجداد واتباع سيرة السلف ، فانه كالجبلي للخلف ، وقلّما عنه (٢) تخلف [يتخلف]. والمراد من المجاهدة (٣)

______________________________________________________

للناس على الله حجة بعد الرسل» وإلى قوله سبحانه وتعالى : «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا» قال شيخنا الأعظم : «المقام الثاني في غير المتمكن من العلم ، والكلام فيه تارة في تحقق موضوعه في الخارج ، وأخرى في أنه يجب مع اليأس من العلم تحصيل الظن أم لا .... أما الأول فقد يقال بعدم وجود العاجز نظرا إلى العمومات الدالة على حصر الناس في المؤمن والكافر مع ما دل على خلود الكافرين بأجمعهم في النار بضميمة حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر فينتج ذلك عن تقصير كل غير مؤمن ، وأن من نراه قاصرا عاجزا عن العلم قد يمكن عليه تحصيل العلم بالحق ولو في زمان ما ، وان صار عاجزا قبل ذلك أو بعده ، والعقل لا يقبح عقاب مثل هذا الشخص ... إلخ». وحاصل جواب المصنف عن ذلك ـ وفاقا للشيخ ـ هو : وجود القاصر في أصول الدين كما هو المشاهد والمحسوس. قال الشيخ : «ولكن الّذي يقتضيه الإنصاف شهادة الوجدان بقصور بعض المكلفين ، وقد تقدم عن الكليني ما يشير إلى ذلك .... مع ورود الاخبار المستفيضة بثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر ...».

(١) قيد للتقصير.

(٢) أي : عن الحب ، وضمير «أنه» راجع إلى الاتّباع ، والمستتر في «تخلف» إلى الخَلَف.

(٣) هذا جواب عن الاستدلال بالآية المزبورة على عدم وجود القاصر ، تقريب الاستدلال ـ كما قيل ـ : ان الآية الشريفة تدل على أن من جاهد في سبيله تعالى

١١٧

في قوله تعالى : «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا» هو المجاهدة مع النّفس بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ، وهي التي كانت أكبر من الجهاد ، لا (١) النّظر والاجتهاد ، وإلّا (٢) لأدّى إلى الهداية ، مع أنه يؤدي إلى الجهالة والضلالة إلّا إذا كانت هناك منه تعالى

______________________________________________________

بتحصيل المعرفة به وبأنبيائه وأوليائه عليهم‌السلام فقد هداه الله تعالى وجعل له مخرجا ، فالمكلف امّا عالم مؤمن وهو المجاهد في سبيل ربه لتحصيل المعرفة ، واما جاهل مقصر كافر وهو التارك للمجاهدة بتحصيل المعرفة ، فلا وجود للقاصر.

وحاصل جواب المصنف عنه : أن المراد بالمجاهدة هو جهاد النّفس الموصوف في الاخبار بالجهاد الأكبر بتخلية النّفس عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ، ومن المعلوم أنه تعالى وعده بهدايته لسبيله ، لأنه قد سلك إليه ، ولا خلف لوعده تعالى. وليس المراد من المجاهدة في الآية الشريفة الاجتهاد والنّظر في المطلب العلمية التي منها أصول الدين حتى تكون المجاهدة مؤدية إلى الواقع ولا يقع فيها الخطأ أصلا ، إذ لو كان المقصود من المجاهدة النّظر في المطالب العلمية لزم ـ بمقتضى قوله تعالى : «لنهدينهم سبلنا» ـ إصابة الاجتهاد بالواقع دائما ، مع وضوح التخلف في كثير من الاجتهادات ، وهذا التخلف شاهد على أن المقصود من الآية المباركة هو الحث على مجاهدة النّفس بترك العمل بمشتهياتها ، لا الترغيب على خصوص تحصيل العلم.

(١) معطوف على «المجاهدة» أي : ليس المراد من المجاهدة النّظر والاجتهاد.

(٢) أي : ولو كان المراد بالمجاهدة الاجتهاد والنّظر لزم اصابته دائما ، مع أنه يخطئ كثيرا بشهادة الوجدان ، فضمير «أنه» راجع إلى النّظر والاجتهاد.

١١٨

عناية ، فانه (١) (*) غالبا بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق لا بصدد الحق ، فيكون مقصرا مع اجتهاده ومؤاخذا (٢) إذا أخطأ على قطعه واعتقاده.

ثم لا استقلال للعقل (٣) (**) [لا يخفى عدم استقلال العقل] بوجوب

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «يؤدي» والضمير راجع إلى المجتهد والناظر ، يعني : أن أداء الاجتهاد إلى الضلالة انما هو لأجل كونه بصدد تطبيق الحق على طريقة الآباء لا بصدد تحقيق الحق.

(٢) أي : فيكون الناظر والمجتهد مؤاخذا على عدم إصابة الواقع ، لتقصيره بعدم طلبه للحق ، وقوله : «على قطعه» متعلق بـ «مؤاخذا».

(٣) هذا أحد الوجوه التي استدل بها على وجوب تحصيل الظن في أصول

__________________

(*) لا يخفى أن هذا التعليل أجنبي عن ظاهر الآية بل صريحها ، فان قوله تعالى : «والذين جاهدوا فينا» بقرينة الظرف صريح في كون المجاهدة للوصول إلى الحق والفوز بمعرفته ، لأنها مجاهدة في الله ، وعليه فينحصر إثبات إرادة خصوص جهاد النّفس من الآية الشريفة في قوله تعالى : «لنهدينهم» لكونه قرينة ظاهرة في عدم تخلف المجاهدة عن الواقع في شيء من الموارد ، وأن المجاهدة موصلة إلى المطلوب دائما ان لم يكن المراد بالهداية إراءة الطريق.

(**) هذا مبني على عدم كون الظن من مراتب العلم ، وإلّا ـ كما لا يبعد ذلك ولو حين عدم التمكن من تحصيل العلم ـ فيستقل العقل بلزوم تحصيل الظن حينئذ بمناط وجوب شكر المنعم أو غيره ، ووجوب الاعتقاد به من دون لزوم التشريع كما قيل ، إذ المفروض كون الظن حال انسداد باب العلم من مراتب العلم بحكم العقل الّذي هو حجة ، فتدبر.

١١٩

تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم فيما (١) يجب تحصيله عقلا لو أمكن (٢) لو لم نقل (٣) باستقلاله بعدم وجوبه ، بل (٤) بعدم جوازه ،

______________________________________________________

الدين عند تعذر العلم ، وحاصله : دعوى استقلال العقل بلزوم تحصيل الظن عند انسداد باب العلم في أصول العقائد ، لأن الظن من مراتب العلم ، فيكون كالعلم شكرا للمنعم. وملخص ما أجاب به المصنف عنه هو : منع الاستقلال المزبور ، لعدم الحاجة إلى الظن بعد عدم توقف امتثال التكليف ـ أعني وجوب الاعتقاد ـ على الظن. قال شيخنا الأعظم ـ بعد إثبات وجود القاصر خارجا ـ ما لفظه : «والمقصود فيما نحن فيه الاعتقاد ، فإذا عجز عنه فلا دليل على وجوب تحصيل الظن الّذي لا يغني من الحق شيئا ، فيندرج في عموم قولهم عليهم‌السلام : إذا جاء كم ما لا تعلمون فها».

(١) متعلق بـ «تحصيل الظن» والمراد بالموصول في «فيما» الموارد التي يجب تحصيل العلم فيها ، وضمير «تحصيله» راجع إلى العلم ، يعني : لا يستقل العقل بوجوب تحصيل الظن بهذه الموارد عند اليأس عن تحصيل العلم بها وهي المعرفة بالصانع عزوجل وبالنبي والأئمة عليهم‌السلام.

(٢) قيد لـ «يجب» والضمير المستتر فيه راجع إلى تحصيل العلم.

(٣) قيد لـ «لا استقلال» وهو اضراب عن عدم استقلال العقل بالوجوب إلى استقلاله بعدم الوجوب ، وحاصله : أن العقل لا يحكم بلزوم تحصيل الظن عند تعذر العلم ، بل يحكم بعدم لزومه ، لما عرفت من عدم الحاجة إلى الظن في عقد القلب الّذي هو المطلوب في الأصول الاعتقادية.

(٤) متعلق بـ «لو لم نقل» واضراب عن استقلال العقل بعدم الوجوب إلى استقلاله بعدم جواز تحصيل الظن ، لأن عقد القلب على المظنون تشريع محرّم.

١٢٠