منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٧

وأما ما قام (١) الدليل على المنع عنه كذلك (٢) كالقياس ، فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح فيما لا يكون لغيره أيضا ، وكذا فيما

______________________________________________________

(الجبر والوهن والترجيح بمثل القياس)

(١) هذا هو المقام الثاني أعني به : الظن غير المعتبر الّذي ثبت عدم اعتباره بدليل خاص كالقياس ، ونخبة الكلام فيه : أنه لا يوجب انجبار ضعف ولا وهنا ولا ترجيحا ، لأن الدليل المانع عنه بالخصوص يوجب سقوطه عن الاعتبار أصلا ، فلا يصلح لشيء مما ذكر ، لأن هذه الأمور نحو استعمال للقياس في الشرعيات ، والمفروض المنع عنه. قال شيخنا الأعظم (قده) فيما يرجع إلى الجبر بالظن غير المعتبر بدليل خاص ما لفظه : «أما الأول فلا ينبغي التأمل في عدم كونه مفيدا للجبر ، لعموم ما دل على عدم جواز الاعتناء به واستعماله في الدين» وقال فيما يرجع إلى الوهن : «مع استمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد من الموارد الفقهية وعدم الاعتناء به في الكتب الأصولية ، فلو كان له أثر شرعي ولو في الوهن لوجب التعرض لأحكامه في الأصول والبحث والتفتيش عن وجوده في كل مورد من موارد الفروع ، لأن الفحص عن الموهن كالفحص عن المعارض واجب ، وقد تركه أصحابنا في الأصول والفروع ... إلخ» وقال في المقام الثالث : «فالظاهر من أصحابنا عدم الترجيح به ... إلى أن قال : لأن دفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ، فانه لو لا القياس كان العمل به جائزا ، والمقصود تحريم العمل به لأجل القياس ، وأي عمل أعظم من هذا ... إلخ»

(٢) يعني : بخصوصه ، و «يكون» في المواضع الثلاثة تامة بمعنى «يحصل» وفاعل «يكون» الأولى هو قوله : «جبر» وفاعل الثانية ضمير مستتر فيها

١٤١

يكون به أحدهما [أحدها] (١)

______________________________________________________

راجع إلى «جبر» وفاعل الثالثة هو قوله : «أحدها» وضميرا «به جبر ، لغيره» راجعان إلى الموصول في قوله : «ما قام» المراد به الظن الّذي قام الدليل على المنع عنه بخصوصه كالقياس. وغرضه أنه لا يحصل الجبر وأخواه بالظن الّذي قام الدليل الخاصّ على المنع عنه ، وأن وجوده كعدمه في عدم ترتب شيء من الجبر وأخويه عليه ، وأن ترتب جميع هذه الأمور الثلاثة أو بعضها على بعض الظنون غير المعتبرة بنحو العموم كالشهرة الفتوائية بناء على بقائها تحت أصالة عدم حجية الأمارات غير العلمية وعدم شمول دليل الانسداد لها ، حيث انها حينئذ ظن ممنوع عنه بنحو العموم ، فلو حصل لها في مورد جبر أو أحد أخويه لم يحصل شيء منها للقياس.

(١) الضمير راجع إلى «جبر أو وهن أو ترجيح» ومعنى العبارة : أنه لا يكاد يحصل بالظن ـ الّذي قام دليل خاص على عدم اعتباره ـ جبر أو وهن أو ترجيح في مورد لا يحصل الجبر أو أخواه لغير هذا الظن أيضا من الظنون غير المعتبرة لأجل عدم نهوض دليل على اعتبارها وبقائها تحت أصالة عدم الحجية ، وكذا في مورد يحصل الجبر أو أخواه بالظن الّذي لم يقم على اعتباره دليل. وببيان أوضح : لا يحصل شيء من الجبر وأخويه للقياس مطلقا سواء حصل الجبر وأخواه أو بعضها لغيره من الظنون غير المعتبرة لأصالة عدم الحجية ، أم لم يحصل شيء منها له.

وبالجملة : لا حظّ لمثل القياس من الظنون الممنوعة بدليل خاص من الجبر وأخويه ، ففرق بينه وبين الظن غير المعتبر بالعموم. وهذا خلافا لجماعة كالمحقق وصاحب الضوابط تبعا لشيخه شريف العلماء كما حكاه شيخنا الأعظم بقوله : «نعم يظهر من المعارج وجود القول به بين أصحابنا ، حيث قال

١٤٢

لوضوح (١) أن الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه (٢) لكان حجة بعد المنع عنه لا يوجب (٣) خروجه عن تحت دليل الحجية ،

______________________________________________________

في باب القياس : ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر. ويمكن أن يحتج لذلك بأن الحق في أحد الخبرين فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعين العمل بأحدهما. وإذا كان التقدير تقدير التعارض فلا بد للعمل بأحدهما من مرجح ، والقياس يصلح أن يكون مرجحا لحصول الظن به ، فتعين العمل بما طابقه ... إلى أن قال : ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين بعض الميل ، والحق خلافه ...».

(١) علة لعدم الجبر والوهن والترجيح بالظن غير المعتبر بالخصوص ، وحاصله : أن مناط هذه الأمور مفقود هنا ، إذ المعيار فيها كون الظن سببا للدخول تحت أدلة الحجية أو الخروج عنها ، وبعد فرض النهي الخاصّ عن ظن مخصوص لا يصلح ذلك الظن للدخول تحتها.

(٢) الضمير راجع إلى الموصول المراد به الظن المعتبر قبل المنع عن الظن القياسي ، واسم «كان» ضمير راجع إلى الموصول المراد به الحجة المعتبرة ، فإذا دلّ الخبر المعتبر على حكم مخالف للقياس أخذ به ولا يعتنى بالقياس أصلا لعدم اعتباره ، هذا في عدم وهن الحجة بمخالفة القياس ، وضمير ، «عنه» راجع إلى الظن القياسي.

(٣) خبر «أن الظن» وضمير «خروجه» راجع إلى الموصول المراد به الحجة المعتبرة ، يعني : لا يوجب الظن القياسي بعد المنع عنه خروج الظن المعتبر عن الحجية ، غرضه : أن مخالفة القياس قبل المنع عنه كما لا توهِن الظن المعتبر ولا تخرجه عن الحجية ، كذلك بعد النهي عنه ، فقوله : «بعد المنع» متعلق

١٤٣

وإذا كان (١) على وفق ما لولاه لما كان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية. وهكذا (٢) لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين ، وذلك (٣) لدلالة دليل المنع على إلغائه (٤) الشارع

______________________________________________________

ب «لا يوجب» ، فكأنه قال : ان الظن القياسي إذا كان على خلاف الظن الّذي لو لا القياس لكان حجة لا يوجب هذا الظن القياسي بعد المنع عنه خروج الظن المعتبر عن موضوع دليل الحجية.

(١) عطف على «إذا كان» والضمير المستتر فيه والبارز في «لولاه» راجعان إلى الظن القياسي ، والمراد بالموصول ما لا يكون بنفسه حجة ، وقوله : «لا يوجب» خبر «ان الظن القياسي» وفاعله ضمير مستتر فيه راجع إلى «كون الظن القياسي على وفق ما ليس بنفسه حجة» المستفاد من سياق العبارة ، وضمير «دخوله» راجع إلى الموصول في «ما لولاه» المراد به ما ليس بنفسه حجة ، يعني : أن موافقة الظن القياسي لما ليس بنفسه حجة لا توجب دخول هذا الشيء الّذي وافقه الظن القياسي تحت دليل الاعتبار ... إلخ.

(٢) يعني : أن الظن القياسي كما لا يكون جابرا وموهنا كذلك لا يكون مرجحا.

(٣) تعليل لعدم الترجيح والوهن والجبر بالقياس ، وحاصله كما تقدم في كلام الشيخ : أن دليل المنع يدل على إلغاء الشارع للظن القياسي رأسا ، وعدم جواز استعماله في الشرعيات ، ومن المعلوم أن الجبر أو الوهن أو الترجيح مما يصدق عليه الاستعمال ، فلا يجوز.

(٤) الضمير المضاف إليه راجع إلى الظن القياسي ، وهو مفعول المصدر المضاف ، و «الشارع» فاعله ، وهذه الجملة مثل قول الشاعر : «ألا ان ظلم نفسه المرء بين» برفع «المرء» على أنه فاعل الظلم ، والأولى سوق العبارة هكذا

١٤٤

رأسا ، وعدم (١) جواز استعماله في الشرعيات قطعا ، ودخلُه (٢) في واحد منها نحو استعمال له فيها كما لا يخفى ، فتأمل جيدا (٣).

______________________________________________________

«على إلغاء الشارع إياه» وذلك لأن إضافة المصدر إلى مفعوله وتكميل عمله بالمرفوع ـ كما في المتن ـ قليل ، بل ربما قيل باختصاصه بالشعر كالمصرع المذكور.

(١) معطوف على «إلغائه» ومفسر له.

(٢) مبتدأ خبره «نحو استعمال» وضميرا «دخله ، له» راجعان إلى الظن القياسي ، وضميرا «منها ، فيها» راجعان إلى الجبر والوهن والترجيح.

(٣) كي تعلم أن الاعتناء بالظن القياسي ممنوع شرعا مطلقا كما تقدم في عبارة شيخنا الأعظم (قده) من استقرار سيرة الإمامية على هجره حتى في باب الترجيح ، فليس القياس غير المعتبر بدليل خاص كالظن غير المعتبر بدليل عام ، إذ يمكن الجبر أو أحد أخويه به في بعض الموارد ، بخلاف القياس ، فانه لا يمكن فيه شيء من ذلك أصلا كما تقدم تفصيله.

١٤٥

المقصد السابع في الأصول العملية (١)

وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد

______________________________________________________

(الأصول العملية)

(١) الأصل العملي في مصطلح الأصولي ـ وهو الجاري في الشبهات الحكمية مطلقا يعني : سواء كانت وجوبية أم تحريمية ، وسواء نشأت الشبهة من فقد النص أم إجماله أم تعارض النصين ، أو الجاري في خصوص ما لم يكن الشك ناشئا من تعارض الدليلين ـ عبارة عن حكم مجعول للشك بحيث لوحظ الشك موضوعا له ، ويقابله الدليل ، فانه حكم مجعول للواقع في مورد الشك ، فلم يؤخذ عدم العلم ـ في موارد الأدلة ـ موضوعا للحكم الواقعي ، وانما هو ظرف لجعل الحجية للأمارات غير العلمية من جهة أنه لا معنى للتعبد بالواقع حال العلم به.

وان شئت فقل : المجعول في الأصول العملية حكم على الشك ، وفي الأدلة حكم على الواقع حال سترته مع جعل الأمارة دليلا عليه.

١٤٦

الفحص (١) (*) واليأس عن الظفر بدليل

______________________________________________________

(١) يعني : أن رتبة الأصل العملي متأخرة عن الدليل ، فلا تصل النوبة إليه إلّا بعد اليأس عنه ، لتوقف وجود موضوع الأصل العملي ـ وهو الشك في الواقع ـ على عدم الدليل عليه ، فمعه لا موضوع للأصل ولو تعبدا.

ثم ان توصيف الأصول العملية بما أفاده انما هو لإدراجها في المسائل الأصولية وإخراج القواعد الفقهية كقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» عنها.

أما الأول ، فلان الأصول العملية لا تقع في طريق الاستنباط ، لعدم انطباق ضابط المسألة الأصولية عليها حتى تكون من المسائل الأصولية التي هي كبريات القياسات المنتجة ـ بعد ضمّ صغريات إليها ـ لأحكام كلية فرعية ، إذ ليست الأصول العملية إلّا وظائف للجاهل بالحكم الشرعي الواقعي بعد اليأس عن الظفر بدليل عليه من دون أن تقع في طريق الاستنباط ليستنتج منها حكم كلي فرعي ، فلا بد من تعميم القواعد الأصولية لما ينتهي إليه المجتهد بعد الفحص عن الدليل على الحكم وعدم الظفر به حتى تندرج الأصول العملية في المسائل الأصولية.

__________________

(*) فيترتب على هذه الأصول العلم بالحكم الظاهري عند القائل به ، وعلى القواعد الممهدة للاستنباط العلم بالحكم الواقعي أو ما هو بمنزلته على اختلاف الأقوال في حجية الأمارات ، ولا يلزم إشكال تعدد علم الأصول من ترتب هذين الغرضين على مسائله ، وذلك لوحدة الغرض المترتب على جميعها حيث انه ليس إلّا المنجزية أو المعذرية عقلا أو شرعا الموجبة للأمن من العقوبة الّذي يهتم لتحصيله العقل ، فلا ينثلم ما قيل من : أن تمايز العلوم تمايز الأغراض باختلاف ما يترتب على القواعد الممهدة وعلى الأصول العملية.

١٤٧

مما (١) دل [ما دل] عليه حكم العقل أو عموم النقل ، والمهم منها أربعة (٢) ، فان مثل (٣) قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة

______________________________________________________

وأما الثاني ، فلأنه لا ينتهي الفقيه بعد الفحص عن الدليل على الحكم إلى القواعد الفقهية ، لعدم ترتبها على مشكوك الحكم كما هو شأن الأصول العملية بل هي أحكام كلية يرجع إليها المجتهد ابتداء.

(١) بيان لقوله : «التي ينتهي إليها ... إلخ» والمراد بالموصول الوظائف المدلول عليها بسوق الكلام ، يعني : من الوظائف التي دلّ عليها حكم العقل كالبراءة العقلية المستندة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو دلّ عليها عموم النقل كالبراءة الشرعية المستندة إلى مثل حديث الرفع.

والأولى سوق العبارة هكذا : «وهي التي ينتهي إليها ... عن الظفر بدليل من الوظائف التي يدل عليها حكم العقل أو عموم النقل» لئلا يتوهم أنه بيان لقوله : «بدليل».

وكيف كان فغرضه (قده) من قوله : «حكم العقل أو عموم النقل» الإشارة إلى انقسام الأصول إلى العقلية والشرعية.

(٢) وهي الاستصحاب والتخيير والبراءة والاشتغال ، وقد عبّر عنه المصنف كغيره بالاحتياط كما سيأتي تسمية للملزوم باسم لازمه ، والمقصود واحد. وأما غيرها من «أصالة العدم» و «أصالة عدم الدليل دليل العدم» «وأصالة الحلية» و «أصالة الحظر» فقد قيل باندراج الأولى في الاستصحاب ، والثالثة في البراءة ، والأُخريين في الأمارات. لكنه لا يخلو من إشكال ، والتفصيل لا يسعه المقام.

(٣) غرضه الاعتذار عن عدم تعرضهم لقاعدة الطهارة مع أنها في الشبهات الحكمية من الأصول العملية ، وحاصل ما أفاده في الاعتذار يرجع إلى وجهين :

الأول : أن حجيتها لا تحتاج إلى النقض والإبرام ، بل هي ثابتة عند الكل

١٤٨

الحكمية (١) وان كان مما ينتهي (٢) إليها فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته ، إلّا أن البحث (٣) عنها ليس بمهم ، حيث انها (*) ثابتة بلا كلام من دون حاجة إلى

______________________________________________________

من دون خلاف فيها ولا كلام ، فلا حاجة إلى البحث عنها ، بخلاف الأربعة المزبورة ، فانها محل البحث وتحتاج إلى النقض والإبرام.

الثاني : أن قاعدة الطهارة مختصة ببعض أبواب الفقه ـ أعني باب الطهارة والنجاسة ـ بخلاف غيرها من الأصول الأربعة ، فانها عامة لجميع أبواب الفقه.

(١) وأما أصالة الطهارة الجارية في الشبهات الموضوعية ، فهي مما لا ينتهي إليها المجتهد ، للعلم بالحكم الكلي ، فيجوز للمقلد إجراؤها أيضا ، كالشك في طهارة الماء الموجود في هذا الإناء مع عدم العلم بحالته السابقة ، فانه يحكم المقلد بطهارته أيضا ، ويرتب آثارها عليه.

(٢) يعني : المجتهد ، وضمير «إليها» راجع إلى الموصول في «مما» المراد به الأصول والقواعد.

(٣) هذا أول الوجهين المتقدم بقولنا : الأول : أنه لا إشكال ... إلخ.

__________________

(*) أو أنها قاعدة في الشبهات الموضوعية ، حيث ان الطهارة والنجاسة ليستا من الأحكام الشرعية ، وانما هما من الموضوعات الخارجية التي كشف عنها الشارع ، وعليه فلا تجري في الشبهات الحكمية حتى يبحث عنها في علم الأصول. لكن فيه ما أفاده المصنف (قده) في تعليقته على المتن ، فلاحظ.

أو أنها ترجع إلى أصالة البراءة كما عن شيخنا الأعظم (قده). لكن أورد عليه بأنها تجري لإحراز الشرط. مثل طهارة ماء الوضوء وطهارة لباس المصلي.

وحاصل هذا الإشكال : أن البراءة أصل ناف لا مثبت ، والشرط أمر وجودي فلا يحرز بهذا الأصل النافي ، فجريانه لإحراز الشرط كاشف عن مغايرته لقاعدة

١٤٩

نقض وإبرام ، بخلاف الأربعة وهي البراءة والاحتياط والتخيير

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الطهارة ، وعدم رجوع هذه القاعدة إلى البراءة حتى يجوز إهمالها اعتمادا عليها.

أقول : لعل نظر من قال بذلك إلى كون الطهارة جواز تكليفيا أو منتزعة عنه ، فطهارة الماء مثلا هي جواز استعماله ، ونجاسته عدم جوازه ، فان كان الأمر كذلك ، فلما حكي عن الشيخ وجه. لكن فيه : ـ مع أنه خلاف مختاره (قده) في تشريع الطهارة ـ عدم كفاية مجرد جواز الاستعمال فيما أخذت الطهارة شرطا لصحته كطهارة ماء الوضوء وبدن المصلي ولباسه ، إذ لا إشكال في جواز استعمال الماء المتنجس في نفسه تكليفا مع عدم حصول الغرض وهو ارتفاع الحدث والخبث به ، فرجوع قاعدة الطهارة إلى أصالة البراءة غير ظاهر.

فلعل وجه إهمالهم لقاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية في علم الأصول هو : أن النجاسات معدودة محصورة ، فالشك في نجاسة غيرها ان كان في نجاسته الذاتيّة أمكن إثبات طهارته بالإطلاق ولو مقاميا ، حيث ان حصر النجاسات الذاتيّة في عدد معين وعدم بيان غيره دليل على انحصار النجاسات فيه ، وطهارة غيره. وان كان الشك في نجاسته العرضية كالشك في انفعال الماء القليل بملاقاته للنجس ، أو نجاسة العصير العنبي المغلي ، أو نحو ذلك ، فالمرجع فيها مع عدم الدليل هو استصحاب الطهارة لا قاعدتها.

وبالجملة : فقاعدة الطهارة لا تجري في الشبهة الحكمية مطلقا سواء كان الشك في النجاسة الذاتيّة أم العرضية ، فلا وجه لذكرها في علم الأصول.

نعم بناء على عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية تجري قاعدة الطهارة في الموارد المذكورة وغيرها ، فتدبر.

١٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ثم ان المصنف (قده) لم يتعرض في المتن لضبط مجاري الأصول الأربعة وتنقيحها. وقد ضبطها في حاشية الرسائل ، ورأينا أن إهماله في هذا الشرح غير مناسب ، فقد تعرضنا هنا لما اختاره في الحاشية ، وحيث انه (قده) ذكره هناك في ذيل شرح عبارات الشيخ الأعظم (قده) فلا بد أوّلا من نقل عبارات الرسائل ثم التعرض لكلمات المصنف ، وللشيخ في ضبط مجاري الأصول عبارات ثلاث : أما العبارة الأولى فهي : «لأن الشك اما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا ، وعلى الثاني فاما أن يمكن الاحتياط أم لا ، وعلى الأول فاما أن يكون الشك في التكليف أو في المكلف به ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني مجري التخيير والثالث مجرى أصالة البراءة ، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط».

والمستفاد منه : أن مجرى التخيير هو الشك الّذي لا يمكن فيه الاحتياط سواء كان الشك في التكليف أم المكلف به ، لأن قوله : «أم لا» بعد قوله : «فاما أن يمكن فيه الاحتياط» يكون ظاهرا في أن الشك غير الملحوظ معه الحالة السابقة ان لم يمكن فيه الاحتياط مجرى التخيير ، سواء كان الشك في التكليف أم المكلف به ، بل وان كان التكليف معلوما ، لأن انقسام الشك إلى كونه في التكليف والمكلف به انما هو بعد بيان مجرى التخيير ، فلا يلاحظ في مجرى التخيير اعتبار كون الشك في التكليف أو المكلف به ، فتجري قاعدة التخيير فيما لا يمكن فيه الاحتياط مطلقا سواء كان الشك في نفس التكليف كما إذا دار حكم شيء بين الوجوب الحرمة والإباحة ، أم في المكلف به مع العلم بالتكليف ، كدوران الأمر بين المحذورين ، فضابط قاعدة التخيير هو عدم إمكان الاحتياط من دون لحاظ كون الشك في التكليف أو المكلف به ، فلا يعتبر فيه إلّا قيد

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

واحد وهو عدم إمكان الاحتياط.

وأما مجرى أصالة البراءة فهو الشك في التكليف مع إمكان الاحتياط فيه ، فيعتبر في مجرى البراءة قيدان أحدهما إمكان الاحتياط ، والآخر كون الشك في نفس التكليف.

وأما مجرى قاعدة الاحتياط فيعتبر فيه أيضا قيدان : أحدهما إمكان الاحتياط والآخر كون الشك في المكلف به ، كدوران متعلق الوجوب مثلا بين صلاتي الظهر والجمعة ، أو دوران الحكم الإلزامي بين وجوب شيء كالدعاء عند رؤية الهلال وبين حرمة غيره كشرب التتن ، فان الاحتياط في هاتين الصورتين ممكن فيجب.

وأما العبارة الثانية المذكورة في حاشية الصفحة الأولى من مباحث القطع فهي هذه : «وبعبارة أخرى : الشك اما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أولا ، فالأوّل مجرى الاستصحاب ، والثاني اما أن يكون الشك فيه في التكليف أولا ، فالأوّل مجرى أصالة البراءة ، والثاني اما أن يمكن الاحتياط فيه أو لا ، فالأوّل مجرى قاعدة الاحتياط ، والثاني مجرى قاعدة التخيير» والمستفاد من هذه العبارة التي نسبها غير واحد إلى بعض أعاظم تلامذة الشيخ (قدهما) هو : أنه لا يعتبر في مجرى البراءة الا كون الشك في نفس التكليف ، وأما إمكان الاحتياط فلم يثبت اعتباره فيه ، فالمعتبر في مجرى البراءة على ما يظهر من هذه العبارة قيد واحد وهو الشك في التكليف ، بخلاف العبارة الأولى ، لظهورها في اعتبار قيدين في مجرى البراءة أحدهما كون الشك في التكليف ، والآخر إمكان الاحتياط فيه.

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فعلى هذا يكون دوران حكم شيء بين الوجوب والحرمة والإباحة مجرى البراءة ، لكون الشك فيه في نفس التكليف مع عدم إمكان الاحتياط فيه ، ومجرى قاعدة التخيير أيضا بناء على ظاهر العبارة الأولى من كون مجراها عدم إمكان الاحتياط فيه سواء كان الشك في نفس التكليف كهذا المثال أم في المكلف به كدوران الأمر بين المحذورين.

وأما مجرى قاعدة الاحتياط فهو أن لا يكون الشك في التكليف وأن يمكن فيه الاحتياط ، فيعتبر فيه قيدان : أحدهما عدمي وهو عدم كون الشك في التكليف ، والآخر وجودي وهو إمكان الاحتياط ، كالعلم بوجوب أحد شيئين كصلاتي الظهر والجمعة ، لإمكان الاحتياط بفعل كلتيهما ، وعدم كون الشك في نفس التكليف.

وأما مجرى قاعدة التخيير ، فهو : أن لا يكون الشك في التكليف وأن لا يمكن فيه الاحتياط ، فالشك في وجوب شيء أو حرمته أو إباحته مجرى قاعدة التخيير بناء على العبارة الأولى ، لعدم إمكان الاحتياط فيه ، إذ لم يعتبر في مجراها الا عدم إمكان الاحتياط ، ولم يعتبر فيه الشك في التكليف ، ومجرى أصالة البراءة بناء على هذه العبارة ، لكون الشك فيه في التكليف ، ولم يعتبر في مجراها الا هذا.

وأما العبارة الثالثة المذكورة في أوائل البراءة فهي : «والثاني ـ أي الشك غير الملحوظ معه الحالة السابقة ـ اما أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا ، والثاني هو مورد التخيير ، والأول اما أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول ، واما أن لا يدل ، والأول مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة» وظاهره : أن مجرى قاعدة التخيير هو عدم إمكان الاحتياط سواء كان الشك في التكليف أم المكلف به ، فالمعتبر فيه قيد واحد وهو عدم

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إمكان الاحتياط ، فدوران حكم شيء بين الوجوب والحرمة والإباحة ، وكذا دورانه بين الوجوب والحرمة مجرى قاعدة التخيير بناء على هذه العبارة والعبارة الأولى المذكورة في المتن ، ويكون المثال الأول من مجاري البراءة بناء على العبارة الثانية المذكورة في الهامش ، لكونه شكا في نفس التكليف ، إذ المفروض دورانه بين الوجوب والحرمة والإباحة.

هذا توضيح العبارات الثلاث المذكورة في الرسائل لضبط مجاري الأصول وقد أورد المصنف (قده) على جميعها في حاشية الرسائل بوجوه بعضها مشترك بين العبارتين الأوليين المذكورتين في أول الكتاب ، وبعضها مشترك بين العبارة الأولى وما ذكره في أول البراءة ، وبعضها مختص بالعبارة الأخرى المذكورة في أول القطع.

أما المشترك بين العبارتين الأوليين فهو النقض بما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة آخر كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شرب التتن ، حيث ان مقتضى هاتين العبارتين أن يكون مثل هذا المثال مجرى البراءة ، لكونه شكا في التكليف وهو النوع ، إذ لو أريد بالتكليف أعم منه ومن الجنس لم يكن من الشك في التكليف ، فورود هذا النقض مبني على إرادة النوع من التكليف مع إمكان الاحتياط ، إلّا أن مختاره فيه الاحتياط.

وأما المشترك بين العبارة الأولى وبين ما ذكره في أول البراءة فهو انتقاض مجرى كل من التخيير والبراءة بالآخر في دوران حكم شيء بين الوجوب والحرمة والإباحة ، إذ لا يمكن فيه الاحتياط ، فمقتضى هاتين العبارتين هو التخيير ، مع أنه (قده) اختار فيه البراءة.

١٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأما المختص بالعبارة الأخرى المذكورة في أول القطع فهو انتقاض مجرى البراءة والتخيير بالآخر في صورة دوران حكم شيء بين الوجوب والحرمة ، حيث ان مقتضى إطلاق تلك العبارة جريان البراءة في هذه الصورة لكونها من موارد الشك في الحكم ، والمفروض عدم تقيد مجرى البراءة في العبارة الأخرى بإمكان الاحتياط فيه ، فلا بد من جريان البراءة في هذه الصورة مع أنه (قده) اختار فيها التخيير وجعلها مجرى لهذا الأصل.

أقول : تنقيح المقام منوط ببيان أمور : الأول : أن المراد بالتكليف الّذي ذكره الشيخ في مجاري الأصول هل هو خصوص النوع أم أعم منه ومن الجنس؟

الإنصاف أن كلماته (قده) في ذلك مضطربة ، ففي مباحث العلم الإجمالي من رسالة القطع اختار الأعمية ، حيث قال : «وان كانت المخالفة مخالفة لخطاب مردد بين خطابين ... في المخالفة القطعية حينئذ وجوه ... الثاني عدم الجواز مطلقا ... الرابع الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع كوجوب أحد الشيئين وبين اختلافه كوجوب الشيء وحرمة آخر ... والأقوى من هذه الوجوه هو الوجه الثاني» وفي مبحث البراءة اختار كون التكليف خصوص الوجوب أو الحرمة ، حيث قال في مقام تقسيم الشك إلى ما يلاحظ فيه الحالة السابقة وما لا تلاحظ فيه : «لأن الشك اما في نفس التكليف وهو النوع الخاصّ من الإلزام وان علم جنسه كالتكليف المردد بين الوجوب والتحريم» وقال في أول الاشتغال : «الموضع الثاني في الشك في المكلف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب» وقال في المسألة الأولى من مسائل المطلب الثالث الّذي عقده لمباحث ما دار أمره

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بين الوجوب والحرمة : «وليس العلم بجنس التكليف المردد بين نوعي الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف المتعلق بأمر مردد حتى يقال ان التكليف في المقام معلوم إجمالا».

لكن هذا الكلام لا ينافي ما أفاده من منجزية العلم بالجنس كالعلم بوجوب شيء أو حرمة غيره في مباحث العلم الإجمالي ، لأن مقصوده هنا نفي تنجيز العلم بالجنس في دوران الأمر بين المحذورين ، لعدم القدرة على الاحتياط ولذا قال : «حتى يقال ان التكليف في المقام معلوم» أي فيما دار أمره بين المحذورين ، بخلاف العلم بالجنس في مباحث العلم الإجمالي ، ضرورة إمكان الاحتياط بترك شرب التتن وقراءة الدعاء عند رؤية الهلال إذا علم بوجوبه أو حرمة شرب التتن. إلّا أن المنافاة بين سائر عباراته باقية على حالها ، ضرورة أنه (قده) صرح في أول البراءة والاشتغال بأن المراد بالتكليف هو النوع الخاصّ من الإلزام وان علم جنسه ، وفي مباحث العلم الإجمالي صرح بعدم الفرق بين كون الحكم المشتبه وفي مباحث العلم الإجمالي صرح بعدم الفرغ بين كون الحكم المشتبه واحدا بالنوع وبين كونه مختلفا كذلك كوجوب شيء وحرمة آخر ، وليس الجامع بين النوعين إلّا الجنس وهو الإلزام ، فأطلق الحكم على الجنس.

وجه المنافاة : أن الجنس ان لم يكن تكليفا فكيف يكون العلم به منجزا ولو مع إمكان الاحتياط كوجوب شيء وحرمة شيء آخر ، ضرورة أن مجرد إمكانه لا يوجب صيرورة غير الحكم حكما حتى يتنجز بالعلم ويحكم العقل بعدم قبح المؤاخذة على مخالفته كما لا يخفى.

الأمر الثاني : أن النقوض التي أوردها المصنف على التحديدات الثلاثة

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لمجاري الأصول في كلمات الشيخ مبتنية على اختصاص التكليف بالنوع الخاصّ من الإلزام وعدم شموله للجنس كما صرح به المصنف (قده) في آخر كلامه.

نعم لا يبتني على هذا الاختصاص اشكاله على العبارة الأولى من مباحث القطع وعبارته في أول البراءة بانتقاض كل من مجرى البراءة والتخيير بالآخر بما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته وإباحته ، فان مقتضى هاتين العبارتين جريان التخيير فيه ، مع أن مختار الشيخ فيه البراءة.

وجه عدم الابتناء : أنه في كلتا العبارتين جعل ضابط جريان التخيير عدم إمكان الاحتياط سواء علم بجنس التكليف ونوعه أم لا ، فالحكم مطلقا مجهول في هذا المثال ولا يمكن فيه الاحتياط ، فلا بدّ أن تجري فيه قاعدة التخيير مع أنه (قده) اختار فيه البراءة.

وبالجملة : فالإشكالات التي أوردها المصنف في حاشية الرسائل على مجاري الأصول الثلاثة مبتنية على كون التكليف النوع الخاصّ من الإلزام إلّا اشكاله على العبارة الأولى من عبارتي الشيخ في مباحث القطع ، فانه لا يبتني على ذلك فتدبر.

الأمر الثالث : لا يخفى أن الأحكام التكليفية منحصرة في خمسة : الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة ، وقد اختلفوا في بساطتها وتركبها ، وعلى التقديرين لا قائل بكونها أكثر من خمسة ، فلم نعثر على من يقول بأن نفس الإلزام أيضا حكم شرعي مجعول في قبال الأحكام الخمسة.

ان قلت : ان التزامهم بوجوب الاحتياط في مثل العلم إجمالا بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شرب التتن يكشف عن كون الإلزام تكليفا ،

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإلّا لم يكن العلم به منجزا له وموجبا للاحتياط.

قلت : لزوم الاحتياط في مثل ذلك لا يكشف إلّا عن منجزية العلم الإجمالي بالإلزام الخاصّ الّذي هو التكليف ، لا مطلق الإلزام المشترك بين الوجوب والحرمة. وبعبارة أخرى : الحكم الخاصّ المعلوم إجمالا مردد بين حكمين كالموضوع المشتبه بين شيئين. ففي المثال المزبور يكون تنجيز العلم بالإلزام المتعلق بالدعاء أو شرب التتن لأجل العلم الإجمالي بنوع مردد بين نوعين ، لا لأجل العلم بالجنس ، بل العلم به ملزوم للعلم الإجمالي بالنوع الّذي هو المنجز.

والحاصل : أن الإلزام بنفسه لا يكون من الأحكام الخمسة أصلا. وعليه فالحق في ضبط مجاري الأصول أن يقال : «الشك ان لوحظ فيه الحالة السابقة فهو مجرى الاستصحاب ، وإلّا فان كان الشك في نفس التكليف فهو مجرى البراءة وان كان الشك في متعلقه مع العلم ولو إجمالا بنفس التكليف فهو مجرى البراءة وان كان الشك في متعلقه مع العلم ولو إجمالا بنفس التكليف فان أمكن فيه الاحتياط فهو مجرى قاعدة الاحتياط ، وان لم يمكن فيه ذلك فهو مجرى قاعدة التخيير» وعليه فالملحوظ في أصالة البراءة أمر واحد وهو الشك في التكليف ، ولا ينتقض بعض المجاري بالآخر ، ففي دوران الأمر بين وجوب شيء وحرمته وإباحته يجري البراءة ، لكون الشك فيه في نفس الحكم ، وفي دورانه بين وجوب شيء وحرمة آخر يجري الاحتياط ، لكون الشك في المكلف به مع العلم الإجمالي بنوع التكليف وإمكان الاحتياط فيه. وكذا في العلم الإجمالي بوجوب أحد شيئين كصلاتي الجمعة والظهر ، للعلم بالتكليف ، ودوران المكلف به بين شيئين. وفي دورانه بين وجوب شيء وحرمته يجري التخيير ، لعدم إمكان الاحتياط فيه مع العلم الإجمالي بنوع التكليف.

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ثم ان المقصود من تحديد المجاري بما ذكرناه انما هو بيان حكم الشك في نفسه وبعنوانه ، فالبراءة حكم للشك في التكليف مع الغض عن قيام حجة على الاحتياط مثلا كما هو مختار المحدثين في بعض الشبهات ، فلا حاجة إلى تقييد مجرى البراءة بما إذا لم تنهض حجة على المؤاخذة على التكليف المجهول ، بل قد تقدم في الجزء السابق من هذا الشرح قرب دعوى كون أدلة البراءة النقليّة إرشادا إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وأدلة الاحتياط على فرض تماميتها بيان ، ومعه لا يبقى موضوع لأصل البراءة ، فاعتبار عدم نهوض حجة على الاحتياط يكون من قبيل الشرط المحقق للموضوع ، إذ مع نهوضها عليه ينتفي الشك الّذي هو موضوع البراءة ، فتدبر.

وكيف كان فقد ضبط المصنف (قده) مجاري الأصول في حاشيته على الرسائل بما لفظه : «ان الشك اما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا ، والأول مجرى الاستصحاب ، وعلى الثاني اما أنه مما يمكن فيه الاحتياط وان لم يكن الشك في أصل الإلزام ، بل كان الإلزام في الجملة معلوما ، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، أو دار الوجوب أو الحرمة بين شيئين ، حيث انه يمكن الاحتياط فيهما ، أو كان الشك فيه وان لم يمكن فيه الاحتياط أم لا ، الثاني مجري التخيير ، وعلى الأول اما أن يكون في البين حجة ناهضة على التكليف عقلا أو نقلا أم لا ، الأول مجرى الاحتياط والثاني مجرى البراءة» ومقتضاه كون ما لا يمكن فيه الاحتياط مطلقا سواء علم التكليف أم لا مجرى التخيير ، مع أن الشك في التكليف ليس إلّا مجرى البراءة ، والتخيير والبراءة وان لم يتميزا عملا ، إلّا أنهما متميزان ملاكا ، إذ ملاك التخيير كما صرح به المصنف (قده) هو قبح الترجيح بلا مرجح ، وملاك البراءة قبح العقاب بلا بيان.

١٥٩

والاستصحاب ، فانها محل الخلاف (*) بين الأصحاب ، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومئونة حجة وبرهان ، هذا. مع جريانها (١) في كل الأبواب ، واختصاص تلك القاعدة ببعضها ، فافهم (٢).

______________________________________________________

(١) أي : الأصول الأربعة ، وهذا هو الوجه الثاني ، وقد عرفت توضيحه.

(٢) لعله إشارة إلى عدم صلاحية الوجه الثاني للاعتذار ، لأن الاختصاص ببعض الأبواب لا يسوِّغ الإهمال ، وإلّا لزم خروج جملة من المسائل الأصولية عن علم الأصول ، لعدم اطرادها في جميع أبواب الفقه. كالبحث عن دلالة النهي عن العبادة على الفساد ، حيث انه يختص بالعبادات ولا يجري في سائر أبواب الفقه ، هذا.

بل الوجه الأول أيضا لا يصلح للاعتذار ، لأن مجرد اتفاقية مسألة من مسائل علم بل ضروريتها لا يسوِّغ إهمالها وعدم ذكرها في مسائل ذلك العلم ، بل لا بد من بيان جميع مسائله الخلافية والوفاقية ، ألا ترى أن الفلاسفة تعرضوا لكثير من المسائل البديهية كبطلان الدور واستحالة اجتماع النقيضين ونحوهما ، وكذا بعض مسائل جملة من العلوم فلاحظ.

__________________

(*) لا يقال : ان قاعدة الطهارة مطلقا تكون قاعدة في الشبهة الموضوعية فان الطهارة والنجاسة من الموضوعات الخارجية التي يكشف عنها الشرع. فانه يقال : أوّلا نمنع ذلك ، بل انهما من الأحكام الوضعيّة الشرعية ، ولذا اختلفا في الشرع بحسب المصالح الموجبة لشرعهما ، كما لا يخفى. وثانيا : انهما لو كانتا كذلك فالشبهة فيهما فيما كان الاشتباه لعدم الدليل على إحداهما كانت حكمية ، فانه لا مرجع لرفعها إلّا الشارع ، وما كانت كذلك ليست إلّا حكمية.

١٦٠