والذي يدل على تمدحه شيئان :
أحدهما ، إجماع الاَمة فإنه لا خلاف بينهم في أنه تعالى تمدح بهذه الآية ، فقولنا تمدح بنفي الاِدراك عن نفسه لاستحالته عليه ، وقال المخالف تمدح لاَنه قادر على منع الاَبصار من رؤيته. فالاِجماع حاصل على أن فيها مدحة.
والثاني ، أن جميع الاَوصاف التي وصف بها نفسه قبل هذه الآية وبعدها مدحة ، فلا يجوز أن يتخلل ذلك ما ليس بمدحة. والذي يدل على أن الاِدراك يفيد الرؤية أن أهل اللغة لا يفرقون بين قولهم : أدركت ببصري شخصاً ، وآنست ، وأحسست ببصري. وأنه يراد بذلك أجمع الرؤية. فلو جاز الخلاف في الاِدراك لجاز الخلاف فيما عداه من الاَقسام.
فأما الاِدراك في اللغة ، فقد يكون بمعنى اللحوق كقولهم : أدرك قتادة الحسن. ويكون بمعنى النضج ، كقولهم أدركت الثمرة ، وأدركت القدر ، وإدرك الغلام إذا بلغ حال الرجال.
وأيضاً فإن الاِدراك إذا أضيف إلى واحد من الحواس أفاد ما تلك الحاسة آلة فيه. ألا ترى أنهم يقولون : أدركته بأذني يريدون سمعته ، وأدركته بأنفي يريدون شممته ، وأدركته بفمي يريدون ذقته. وكذلك إذا قالوا : أدركته ببصري يريدون رأيته. وأما قولهم أدركت حرارة الميل ببصري فغير معروف ولا مسموع ، ومع هذا ليس بمطلق بل هو مقيد ، لاَن قولهم حرارة الميل تقييد لاَن الحرارة تدرك بكل محل فيه حياة ، ولو قال أدركت الميل ببصري لما استفيد به إلا الرؤية.
وقولهم إن الاِدراك هو الاِحاطة باطل ، لاَنه لو كان كذلك لقالوا : أدرك الجراب بالدقيق وأدرك الحب بالماء وأدرك السور بالمدينة لاِحاطة جميع ذلك بما فيه ، والاَمر بخلاف ذلك. وقوله : حتى إذا أدركه الغرق ، فليس المراد به الاِحاطة بل المعنى حتى إذا لحقه الغرق ، كما يقولون أدركت فلاناً إذا لحقته ، ومثله : فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، أي لملحوقون.