ثم قال البزدوي : «ومن الناس من أنكر العلم بطريق الخبر أصلا ، وهذا رجل سفيه لم يعرف نفسه ، ولا دينه ، ولا دنياه ، ولا أمّه ، ولا أباه». فيعلم من ذلك مبلغ إبعاد الكاتب في النّجعة حيث يقول : «وهكذا تجد نصوص العلماء من متكلّمين وأصوليين مجتمعة على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين ، فلا تثبت به العقيدة» ، ونجد المحقّقين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضروريّ ، لا يصحّ أن ينازع أحد في شيء منه ، ويحملون قول من قال (كابن حزم في حسبان الكاتب) : «إنّ خبر الواحد يفيد العلم» على أن مراده العلم بمعنى الظن ، كما ورد ، أو العلم بوجوب العمل».
وأين اجتماع نصوص العلماء مع قول أمثال أبي حامد الأسفراييني ، وأبي إسحاق الأسفراييني ، والقاضي أبي الطيّب ، وأبي إسحاق الشيرازي ، وشمس الأئمة السّرخسي ، والقاضي عبد الوهاب ، ورواية ابن خويزمنداد عن مالك ، وقول أبي يعلى ، وأبي الخطّاب ، وابن الزاغوني ، وابن فورك ، وغيرهم فيما اتّفق عليه البخاريّ ومسلم ، وفي الخبر المحتفّ بالقرائن ، أو خبر الآحاد مطلقا كما سبق.
والواقع أنّ فريقا قال : إنّ خبر الآحاد إنما يفيد العمل. وهو مذهب الجمهور ، لكن من جملة العمل اعتقاد القلب ، وفريقا قال : إنه يفيد العلم والعمل من غير شرط ، كابن حزم ، وفريقا قال : إنه يفيدهما جميعا عند احتفافه بالقرائن ، وليس قول فريق منهم في صالح كاتب المقال لو تدبّر ، لأنهم متفقون على أنه يفيد العمل القلبيّ ـ وهو الاعتقاد ـ وإفادته العمل مقطوع بها ، والكاتب ينكر هذه الإفادة القطعية.
ثم إنّ المكلّف إذا جزم بخبر آحاد يسمعه في أمر اعتقادي ، فقد تمّ إيمانه المنجي في الآخرة ، لأن المطلوب منه هو الاعتقاد الجازم كائنا ما كان طريق حصول ذلك له ، ولا يستوجب ذلك أن لا يكون في ذلك الأمر أدلّة سواه ، ولا هو بملزم أن يكون هو القائم بالحجّة في عصره ، وإن كان لكلّ مسألة اعتقادية حجج قطعية ، وقد قال عبد العزيز البخاري في «شرح أصول البزدوي» : ذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحّتها توجب علم اليقين ، بطريق الضرورة ، وهو مذهب أحمد بن حنبل» ا ه.
وقول الإمام الشافعي رضي الله عنه : «أتراني خرجت من الكنيسة أو ترى عليّ زنّارا؟!!» لمن سأله أتأخذ بهذا الحديث؟ ـ في حديث من أخبار الآحاد ـ يدلّ على مبلغ تشدّده فيمن يعرض عن الحديث ، كما صحّ ذلك عنه بأسانيد في كثير من الكتب.