دليل آخر من جهة العقل : وهو أنك تقول : حقيقة الخلق والإحداث هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، وإذا كان الواحد منا على زعمكم يقدر أن يخلق حركة معدومة حتى يخرجها من العدم إلى الوجود ، وأن يخلق شيئا زائدا فيخرجه من العدم إلى الوجود ، وأن يخلق له لونا غير لونه فيخرجه من العدم إلى الوجود ، وفي هذا القول الخبيث التسوية بين قدرة الله تعالى وقدرة العباد ، وأنهم يقدرون على ما يقدر عليه. تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا.
* * *
فصل
نذكر فيها شبها يزعمون أن لهم فيها حجة ، وليس لهم حجة بحمد الله تعالى كما قال : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشّورى : ١٦] فإن احتجوا بقوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السّجدة : ١٧] قالوا : فأثبت لنا العمل ، والعمل هو الفعل ، والفعل هو الخلق ، فالجواب : أنه تعالى أراد هاهنا بالعمل الكسب ، والعبد مكتسب على ما بيّنّا. يدل على ذلك : أنه قال في موضع آخر : (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [التّوبة : ٨٢] نحن لا نمنع أن يكون سمى كسب العبد عملا له ، إنما نمنع أن يكون العبد خالقا مخترعا لفعله مخرجا له من العدم إلى الوجود ، وقد بيّنّا أن الخلق والاختراع والخروج من العدم إلى الوجود لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فلم يكن لهم في الآية حجة.
فإن احتجوا بقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] وبقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السّجدة : ٧] وبقوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) [المائدة : ١١٠] فالجواب من أوجه :
أحدها : أنه يعني بقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] يعني أحسن المقدرين ، فعيسى عليهالسلام يقدر الطين صورة ، والخلق يقدرون الصورة صورة ، لا أنهم يخرجون الصورة من العدم إلى الوجود ، فقال تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] أي المقدرين. فاعلم ذلك.
جواب آخر : وذلك أن الله تعالى هو الخالق لا خالق سواه ، لكن لما ذكر معه غيره قال : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] وإن كان هو الخالق على الحقيقة دون غيره ، كما يقال : عدل العمرين ، وإنما هو أبو بكر وعمر ، لكن لما جمع بينهما سماهما باسم واحد ، وكذلك قول الفرزدق :
أخذنا بأكناف السماء عليكم |
|
لنا قمراها والنجوم الطوالع |