نعم. فقد أقروا بصريح الكفر للتشبيه ، وإن قالوا : يرى وليس بجسم ، ولا جوهر ولا عرض ولا يشبه شيئا من المرئيات. قلنا : فكذلك كلامه قديم ليس بمخلوق ومسموع على الحقيقة ، وليس بحروف ولا أصوات ، ولا يشبه بشيء من المسموعات ، فكما أنه يرى على الحقيقة ولا تكييف لكلماته. فاتقوا الله وقفوا عند حدوده ، ولا تكونوا ممن قال فيهم : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٢٩]. وتمسكوا بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].
ثم نقول لهم : أليس الله تعالى قد سمّى نفسه بانيا ، وهو بان على الحقيقة ، لأنه قال : (أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨)) [النّازعات : ٢٧ ، ٢٨] ولم نر بانيا على الحقيقة ، إلا بآلة من عدة وآجر ، وحجر وخشب وغير ذلك : أفتقولون إنه مفتقر في بناء السماء إلى ذلك ، حتى يكون قد بنى على الحقيقة. فإن قالوا : نعم ، كفروا لا محالة ، وإن قالوا : هو بناء منه على الحقيقة ولا يفتقر فيه إلى آلة وعدة. قلنا : وكذلك كلامه مسموع منه على الحقيقة بواسطة وغير واسطة ، ولا يفتقر في إسماعه إيانا إلى آلة من حروف وأصوات وغير ذلك.
* * *
فصل
فإن احتجوا بجهلهم أن الصفة القديمة تحل في الظروف والأوعية كحلول الشيء المخلوق في الشيء المخلوق. فتفسير هذا القول منهم ـ لو عقلوا ـ كان إقرارا منهم بخلق الله تعالى ، لأن القديم لا يتصور عليه النقلة ، والتحويل ، وتفريغ مكان ، وإشغال مكان ، وأمكنة ، وحصر ، وعد ، وإفساح ، وفراغ ، فإن أصروا على الجهل والضلال واستدلوا على حلول كلام الله القديم في المخلوقين بما يظنون حجة لهم ، وهو جرأة ، وحجة عليهم ، أقروا بقول إخوانهم من النصارى ، بل زادوا عليهم في سوء الاعتقاد ، وخبث المذاهب والمقال على ما سنبينه في ثاني الحال ، إن شاء الله.
فإن احتجوا بما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو» قالوا : فصحّ أن الكلام القديم يصح عليه الحلول والنقلة والتحول ، فالجواب من وجوه عدة :
أحدها : أنه صلىاللهعليهوسلم أراد بذلك المصحف ، لأنه قد بيّن ذلك فقال «مخافة أن تناله أيديهم» ولم يرد أن كلام الله القديم انتقل ولا تحول من بلاد الإسلام إلى بلاد العدو ،