وبما جاء من عنده بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل فمن هاهنا زعمنا أن إيماننا مثل إيمان الملائكة لأننا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته الملائكة من عجائب آيات الله ولم نعاينه نحن.
قال المتعلم : جعلك الله من الفائزين ما أحسن ما وصفت وقد عرفت الآن أن إيماننا مثل إيمان الملائكة وتصديقنا مثل تصديقهم ويقيننا مثل يقينهم ولكن أخبرني من أين هم أشد خوفا وأطوع لله منا؟ ومن أين قالت الجهال إذا رأوا من إنسان زلة أو جزعا عند مصيبة أو جبنا من عدو أو حرصا على الهوى هذا من ضعف اليقين.
قال العالم رحمهالله : أما قول الجهّال هذا من ضعف اليقين فإنما قالوا ذلك لجهالتهم بتفسير اليقين. واليقين بالشيء هو العلم بالشيء حتى لا يشك فيه فليس أحد من أهل الشهادة يشك في الله وكتبه ورسله ، وإن ركب ما ركب وإنما نقيس أمر الناس بأمر أنفسنا. لأنه ربما كانت منا الزلة أو الجزع عند المصيبة أوجبن من عدو فلا يدخل علينا شك في الله ولا في شيء مما جاء من عند الله فغيرنا عندنا بمنزلة أنفسنا. وأما قولك من أين هم أشد خوفا أو أطوع لله منا فذلك لخصال فواحدة منها أنهم كما فضلوا بالنبوة والرسالة فضلوا كذلك بالخوف والرعبة وجميع مكارم الأخلاق على من سواهم ، والخصلة الأخرى أنهم عاينوا من الملائكة والعجائب ما لم نعاين ، والخصلة الثالثة أنهم كانوا لا يجزعون عند المصيبة ، والرابعة أنهم كانوا يعاينون ما ينزل بغيرهم من العقوبة على المعصية وكان ذلك أيضا مما يحجزهم عن المعاصي.
قال المتعلم : لقد وقفت على ما وصفت فلم تزل تصف عدلا وتقول عرفا ولكن أحب أن تأتيني بقياس فيما وصفت من يقيننا ويقينهم وخوفنا وخوفهم وجرأتنا وجرأتهم كيف ذلك؟ فإن الجاهل إذا كان مهتما بأمر عاقبته ويريد أن يتعلم ووصفت له أمرا لم يفطن له فأثبته لقياس كان أجدر أن يفطن له.
قال العالم رحمهالله : نعم ما رأيت في طلب القياس ، وهكذا يصنع من أراد أن ينتفع بالمذاكرة فيما بينه وبين صاحبه إذا لم يعرف ما قيل له التمس القياس ، واعلم أن القياس الصواب يحقق لطالب الحق حقه ، ومثل القياس مثل الشهوة العدول لصاحب الحق على ما يدعي من الحق ولو لا إنكار الجهال للحق لم يتكلف العلماء القياس والمقايسة. فأما ما طلبت من القياس في أن يقيننا ويقين الملائكة واحد وخوفهم أشد من خوفنا بأنه كيف يكون ذلك؟ فأخبرك أن القياس في ذلك كرجلين عالمين بالسباحة لا يفوق أحدهما صاحبه في شيء من الأمور فانتهيا إلى نهر كثير