العصب وجعل العروق كالأنهار الجارية وركّبها على منوال غريب مع كونه خلقا سويا فأظهر يد القدرة والآيات الظاهرة وكمال الصنع والحكمة الباهرة وأودع فيه الروح والحركة والسكون والإدراك والتمييز ولغات الكلام والعلم والمعرفة والفهم والفطنة والفراسة وغير ذلك مما يليق بهذا النوع الإنساني الحيواني إلى غير ذلك مما يطول عده ويعسر تقديره وحده (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).
ولو قيل لك أخبرني عن قدر عروقك رقة وثخانة وطولا وقصرا أو عن حقيقة بعض ما في باطنك من أي نوع كان لعجزت عن بيان ذلك ولخرست ، وأنت وجميع هذا النوع الإنساني نتفة تراب جعله بشرا منتشرا فتعالى الله وتبارك أن يخوض في ذاته وصفاته إلا من عدم الرشاد ، وسلك سبيل الفساد والعناد ، وصيّر نفسه أخس العباد ، فمن حقق نظره واستعمل فكره وجد نفسه أجهل الجاهلين بعظمة هذا العظيم فلا يقدره أحد قدره ولا يعرفه سواه وإن قربه وأدناه ، فسبحانه ما أثنى عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه ، عجز الأنبياء والمرسلون عن ذلك.
قال أجلهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطي من جوامع الكلم : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ومن تأمل كلام الله عزوجل وجده محشوا بتنزيهه تارة بالتصريح وتارة بالتلويح وتارة بالإشارات وتارة بما تقصر عنه العبارات وهؤلاء (١) العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين قربوا من درجة النبوة لأنهم دلوا الناس على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ويرجح مدادهم على دم الشهداء ويستغفر لهم من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء وهم أمناء الله عزوجل في أرضه وأحدهم على الشيطان أشد من ألف عابد وقد قيل في قوله تعالى : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] أي زدني علما بالقرآن ومعانيه وهؤلاء لهم علم لدني يرد على قلوبهم من غيب الهدى لها جولان في الملكوت فترجع إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يلقي إليها عالم علمه ومن ثمرة ذلك حصول الخشية وتزايد الخوف والعمل بالإخلاص والصدق والزهد وصون النفس عن مواطن الهلكة وإلا هلك وأهلك غيره ، ومثل العالم كمثل السفينة إذا انخرقت غرقت وغرق أهلها ، فواجب على العالم أن يحترز لئلا يهلك ويهلك غيره فيلقي الله بذنوبه وذنوب غيره فيضاعف عليه العذاب.
__________________
(١) معطوف على الأنبياء أي عجزوا كما عجز الأنبياء عن وصف ربنا عزوجل كما ينبغي له ويليق به ولو لا ما علمهم الله تعالى في دينه ما عرفوا ما عرفوا من وحيه وإنما قلنا بذلك العطف لأنه لم يجيء بعدهم حديث عنهم فليعلم ، اه مصححه.