قال ابن عباس : سبحانه وتعالى بخلقه يؤمنون به مجملا ويكفرون به مفصلا حملهم على ذلك زخرف العدو وإغواؤه رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)) [يوسف : ١٠٦] هم الذين شبّهوا الله بدسيسة عدم علمهم بغوائل النفس الأمّارة بالسوء وعدم تأملهم قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [الكهف : ٥١] وفي ذلك إشارة إلى عجز الخليقة أن تدرك بعض صفات ذواتها في ذاتها أو تدري كيف كنهها في أنفسها بعدم شهودهم خلق السماوات والأرض وخلق أنفسها فلم تملك أن تحتوي علم أنفسها في أنفسها فكيف تدري أو تدرك شيئا من صفات موجدها من العدم وبارئها ومالكها.
وقال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذّاريات : ٤٩](سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [يس : ٣٦] وفي ذلك إشارة ظاهرة إلى عجزك عن إدراك كنه بعض المخلوقات على اختلاف ذواتها وصفاتها وفي بعضها ما لا يخطر على قلب بشر فكيف بالخالق الذي نزّه نفسه بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وهو سبحانه وتعالى مباين لخلقه من كل وجه لا يسعه غيره ولا يحجبه سواه تقدّس أن يدركه حادث أو يتخيله وهم أو يتصوره خيال. كل ذلك محال. فهو الملك القدوس المنزّه في ذاته و
صفاته عن مشابهة مخلوقاته وأنت من مخلوقاته ، ركبك على منوال عجيب ، وجعلك في أحسن صورة وأعجب ترتيب ، مع تنقل تارات من ماء مهين فقال عزوجل : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤] الإنسان هنا هو آدم عليهالسلام وسلالته لأنه سلة من كل تربة وكان عليهالسلام يتكلم بسبعمائة ألف لغة وقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي الإنسان (نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي حرز منيع وهو الرحم (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي دما (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي قدر ما يمضغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) وبين كل خلقتين أربعون يوما (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) وهو نفخ الروح فيه. قاله ابن عباس ومجاهد والشعبي وغيرهم. وقيل : نبات الأسنان والشعر قاله قتادة. وقيل ذكرا أو أنثى قاله الحسن. وقيل غير ذلك (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي المصورين والمقدرين تنزّه سبحانه وتعالى بعد ذكر هذه الأطوار. المعنى أن من هذه من بعض مقدوراته يستحق التعظيم والتنزيه لأن هذه التارات والتنقلات إنشاء بعد إنشاء في غاية الدلالة على كمال القدرة ووصف الألوهية ثم الإنشاء الآخر أن شق الشقوق وخرق الخروق وأخرج