السيد الذي لا يشبهه شيء من المصنوعات والمخلوقات ، الغني عن الأغيار ، تبارك وتعالى عن أن تحويه الجهات ، الفرد الذي لا نظير له ، المنفرد بصفات الكمال والقدرة ، ومن بعض مقدوراته الكرسي والعرش والأرضون والسماوات ، شهد لنفسه بالوحدانية ونزهها بالآيات البينات فصفاته لا يوصف بها غيره ، ومن تعرض لذلك فقد طعن في كلامه ، وضاهى أهل العناد فاستوجب اللعن وأشد العقوبات.
قال البغداديون في قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)) [البقرة : ١١٧] كل صنع صنعه ولا علة لصنعته ليس لذاته مكان لأنه قبل الكون والمكان ، وأوجد الأكوان بقوله كن أزال العلل عن ذاته بالدرك (١) وبالعبارة عنه وبالإشارة فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو ، حي قيوم لا أول لحياته ، ولا أمد لبقائه ، احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الأبصار فعجز العقل عن الدرك ، والدرك عن الاستنباط ، وانتهى المخلوق إلى مثله ، وأسنده الطلب إلى شكله اه.
وقولهم : كل صنع ، عبّروا بالمصدر عن اسم المفعول كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١] ومن الجهل البين أن يطلب العبد المقهور بكن درك ما لا يدرك ، كيف وقد تنزّه عن أن يدرك بالحواس أو يتصور بالعقل الحادث والقياس من لا يدركه العقل من جهة التمثيل ، ويدركه من جهة الدليل ، فكل ما يتوهمه العقل لنفسه فهو جسم وله نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة من الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان ، وهو الأول قبل سوابق العدم ، الأبدي بعد لواحق القدم ، ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات. جلّت ذاته القديمة التي لم تسبق بعدم أن يكون لها صفة حادثة كما يستحيل أن يكون للذات الحادثة صفة قديمة ، قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧)) [مريم : ٦٧].
وسأل بعض المخبثين (٢) الطوية للإمام العالم العلامة الجامع بين العلوم السنية ،
__________________
(١) قوله : بالدرك متعلق بمحذوف فيما يظهر تقديره وأعجز الخلق عن أن يحيطوا به بالدرك ، الخ ، والدرك الإدراك ، اه مصححه.
(٢) لعله خبيثي الخ ، وقوله للإمام : لعل اللام الأولى من تصرفات النسّاخ وهذا ظننا في كل ما تقدم أو يجيء في هذا الكتاب من الألفاظ التي تخالف اللغة ، لأن الإمام الحصني أجل من أن يخفى عليه مثل ذلك ، اه مصححه.