عندهم في أن يقال تال أو متكلم. قالوا : والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٢٥٢] وبقوله تعالى : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) [القصص : ٣]. قالوا : فسمّى نفسه تاليا كما سمّى نفسه متكلما وقائلا ، والجواب عن هذا وما جرى مجراه من وجهين :
أحدهما : أنا نقول ما أنكرتم أن ما ذكرتم هو حجة عليكم ، وأن هاتين الآيتين قد دلتا على الفرق بين التلاوة والمتلو ، وأن التلاوة غير المتلو وذلك أنه قال : (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٢٥٢] والحق هاهنا هو كلامه القديم الموجود بوجوده القديم بقدمه ، والتلاوة لم تكن موجودة ثم أوجدها ؛ والدليل على أن الحق هو كلامه القديم الموجود بوجوده قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)) [السّجدة : ٣] وأيضا قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) [سبإ : ٢٣] فدلّ على أن الحق هو المتلو القديم ، وأن التلاوة صفة لا فعل ذات. والذي يحقق ذلك قوله تعالى ، قال : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) [العنكبوت : ٤٨] فنفى قبل أن يكون تاليا ، ثم أحدث له تلاوة ولم تكن ثم كانت ، فالحق الذي هو المتلو موجود ثابت لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان.
والجواب الثاني : أن قوله «نتلو» يريد به بأمر من يتلو عليك ، وهو جبريل عليهالسلام. إلا أن التلاوة لما كانت بأمره أضافها إلى نفسه ، وهذا صحيح ، يدل عليه الكتاب والمعنى الصحيح. فأما الكتاب ، فالدليل عليه قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) [آل عمران : ١٠١] وقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)) [الشّعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥] وصار هذا كقوله في قوم نوح : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١)) [الحاقّة : ١١] يعني السفينة ، فأضاف الحمل في السفينة إلى نفسه ، والحامل فيها نوح عليهالسلام ، إلا أنه لما كان بأمره أضاف الحمل إليه ، والدليل على الحامل أنه كان نوحا عليهالسلام ، قوله تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠] وهذا أيضا كقوله تعالى في قصة مريم عليهاالسلام : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١] والنافخ كان جبريل عليهالسلام إلا أنه لما كان نفخه بأمره أضاف ذلك إلى نفسه فلذلك أضاف التلاوة إلى نفسه لما فعلت بأمره. وكذلك قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) [النّحل : ٢٦] وجبريل عليهالسلام الذي كان أتى البنيان ، لكن لما كان بأمره أضافه إلى نفسه