والحدث ، ولا نريد بقولنا كهو أنها خالقة رازقة. فافهم هذا التحقيق ، لأن المعتزلة تشنع وتقول : إذا كان الباري عالما بعلم ومتكلما بكلام والكل قديم (١) يجب أن يكون معه قدماء كثيرة في الأزل ، وإذا كانت كهو فيجب أن تكون خالقة رازقة آلهة كهو ، وهذا تمويه منهم على عقول العوام ، حتى ينفروهم عن أهل التحقيق والسنة والجماعة ، ويميلوا إلى باطلهم من نفي صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم حتى يوافقوهم في القول بخلق القرآن معنى ، وإن لم ينطقوا به ، وكذلك أن المعتزلة أكثر حجتهم على أن كلام الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن أنه بزعمهم حروف وأصوات فرضوا من هؤلاء العوام أن يصرحوا في كلام الله تعالى بما يوجب كونه مخلوقا ضرورة ، وإن لم يقولوا إنه مخلوق نطقا. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومما يدل على أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة والأثر وكلام العرب ؛ ما نذكر (٢) فمن ذلك قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)) [المنافقون : ١] ونحن نعلم وكل عاقل أنه تعالى ما كذب المنافقين في ألفاظهم ، إنما كذبهم فيما تكنه ضمائرهم وتكنه سرائرهم. وأيضا قوله تعالى مخبرا عن الكفار : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) [المجادلة : ٨] فأخبر تعالى : أن القول بالنفس قائم وإن لم ينطق به اللسان ، والقول هو الكلام ، والكلام هو القول. وأيضا قوله تعالى : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] قيل ما حدث به المرء نفسه مما يضمر فيها من قول أو فعل. وأيضا قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة : ٢٣٥] وأيضا قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النّحل : ١٠٦] فأسقط تعالى تلفظ المنافقين بالشهادة لرسوله ، وجعل حكم الكذب للقول الذي في النفس والكلام الذي في النفس دون نطق اللسان ، وأسقط حكم الكفر عن المكره على كلمة الكفر وجعل الحكم لصدق الكلام القائم في القلب ؛ فدلّ بهذه الآيات وما جرى
__________________
(١) وقول القاضي عضد الدين في الواقف : (لا ثبت في غير الإضافة) حاسم للنزاع بين الفريقين عند من أحاط خبرا بما يقوله ، وراجع حاشية الخيالي وعبد الحكيم على النسفية (ز).
(٢) لقد أحسن المصنف كل الإحسان في التدليل على الكلام النفسي بتوسع لا تجده في غير هذا الكتاب ؛ والنزاع بين الفريقين في إثبات ذلك ونفيه كما سبق (ز).