خلق أباكم آدم من تراب وأنتم نسله وإليه تنتمون (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم أنشأ من ذلك الأصل الذي خلقه من تراب النطفة وهي ماء الرجل والمرأة (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وهي قطعة من الدم (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) المعنى : ثم يقلبكم أطوارا إلى أن يخرجكم من أرحام الأمهات أطفالا صغارا (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) وهو حال استكمال القوة (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) بعد ذلك (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن يصير شيخا ، ومن قبل أن يبلغ اشدّه (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) أي ويبلغ كل واحد منكم ما سمي له من الأجل الذي يموت عنده (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي خلقكم لهذه الأغراض التي ذكرها ، ولكي تتفكّروا في ذلك فتعقلوا ما أنعم الله به عليكم من أنواع النعم ، وأراده منكم من اخلاص العبادة. ثم قال (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي من خلقكم من تراب على هذه الأوصاف التي ذكرها هو الذي يحييكم ، وهو الذي يميتكم ، فأوّلكم من تراب ، وآخركم إلى تراب (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ومعناه : انه يفعل ذلك من غير أن يتعذر ويمتنع عليه ، فهو بمنزلة ما يقال له : (كُنْ فَيَكُونُ) ، لأنه سبحانه يخاطب المعدوم بالتكون (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) يعني المشركين الذين يخاصمون في إبطال حجج الله ودفعها (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي كيف ومن أين يقلبون عن الطريق المستقيم إلى الضلال ، ولو كانوا يخلصون في آيات الله بالنظر في صحتها ، والفكر فيها لما ذمّهم الله تعالى. ثم وصفهم سبحانه فقال (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) أي بالقرآن وجحدوه (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) أي وكذّبوا بما أرسلنا من الكتب والشرائع رسلنا قبلك (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم إذا حلّ بهم وبال ما جحدوه ، ونزل بهم عقاب ما ارتكبوه ، فيعرفون أن ما دعوتهم إليه حق ، وما ارتكبوه ضلال وفساد.
٧١ ـ ٧٥ ـ ثم قال سبحانه (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي يعلمون وبال أمرهم في حال تكون الأغلال في أعناقهم (وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) أي يجرّون في الماء الحار الذي قد انتهت حرارته (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي ثم يقذفون في النار ويلقون فيها ، معناه : ثم يصيرون وقود النار ، عن مجاهد ، والمعنى : توقد بهم النار (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار إذا دخلوا النار على وجه التوبيخ (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أين ما كنتم تزعمون أنها تنفع وتضر من أصنامكم التي عبدتموها (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي ضاعوا عنّا وهلكوا فلا نراهم ولا نقدر عليهم ، ثم يستدركون فيقولون (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) والمعنى : لم نكن ندعو شيئا يستحق العبادة ، ولا ما ننتفع بعبادته ، عن الجبائي ، وقيل : بل لم نكن ندعو شيئا ينفع ويضر ، ويسمع ويبصر. قال أبو مسلم : وهذا كما يقال لكل ما لا يغني شيئا : هذا ليس بشيء ، لأن قولهم : ضلوا عنا اعتراف بعبادتهم ، ولأن الآخرة دار الجاء فهم ملجأون إلى ترك القبيح ، وقيل معناه : ضاعت عباداتنا لهم فلم نكن نصنع شيئا إذا عبدناها كما يقول المتحسّر : ما فعلت شيئا (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) معناه : كما أضلّ الله أعمال هؤلاء وأبطل ما كانوا يؤمّلونه كذلك يفعل بجميع من يتديّن بالكفر ، فلا ينتفعون بشيء من أعمالهم وقيل : يضلّ الله أعمالهم أي يبطلها عن الحسن وقيل : يضل الكافرين عن طرق الجنة والثواب كما أضلّهم عمّا اتّخذوه إلها بأن صرفهم عن الطمع في نيل منفعة من جهتها عن الجبائي (ذلِكُمْ) العذاب الذي نزل بكم (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) قيد الفرح وأطلق المرح ، لأن الفرح قد يكون بحق فيحمد عليه ، وقد يكون بالباطل فيذمّ عليه ، والمرح لا يكون إلّا باطلا ومعناه : ان ما فعل بكم جزاء بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق ، أي بما كان يصيب أنبياء الله تعالى