أي يحسب انه كريم على ربه حيث وسع الدنيا عليه (إِذا مَا ابْتَلاهُ) وجعله على قدر البلغة (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي فيظن ان ذلك هوان من الله ويقول : ربي أذلّني بالفقر ، ثم قال (كَلَّا) أي ليس كما ظن ، فإني لا أغني المرء لكرامته عليّ ولا افقره لمهانته عندي ، ولكني اوسع على من أشاء ، وأضيق على ما أشاء بحسب ما توجبه الحكمة ، ويقتضيه الصلاح ، ابتلاء بالشكر والصبر ، وإنما الإكرام على الحقيقة يكون بالطاعة ، والإهانة تكون بالمعصية. ثم بيّن سبحانه ما يستحق به الهوان فقال : بل إنما أهنت من أهنت لأنهم عصوني ، ثم فصّل العصيان فقال (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) وهو الطفل الذي لا أب له ، أي لا تعطونهم مما أعطاكم الله حتى تغنوهم عن ذلّ السؤال ؛ وخصّ اليتيم لأنهم لا كافل لهم يقوم بأمرهم وقد قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : انا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، وأشار بالسبابة والوسطى (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا تحثّون على اطعامه ، ولا تأمرون بالتصدق عليه (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) أي الميراث ، قال الحسن : يأكل نصيبه ونصيب اليتيم وذلك انهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ، ويأكلون أموالهم (أَكْلاً لَمًّا) شديدا تلمون جميعه في الأكل (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي كثيرا شديدا والمعنى : تحبّون جمع المال وتولعون به فلا تنفقونه في خير. ثم قال سبحانه (كَلَّا) وقيل : كلّا زجر تقديره : لا تفعلوا هكذا ، ثم خوّفهم فقال (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي كسر كل شيء على ظهرها من جبل أو بناء أو شجر حتى زلزلت فلم يبق عليها شيء والمعنى : استوت في انفراشها ، وذهب دورها وقصورها وسائر أبنيتها حتى تصير كالصحراء الملساء (وَجاءَ رَبُّكَ) أي أمر ربك وقضاؤه ومحاسبته (وَالْمَلَكُ) أي وتجيء الملائكة (صَفًّا صَفًّا) يريد صفوف الملائكة ، وأهل كل سماء صفّ على حدة. وقال الضحاك : أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفا محيطين بالأرض وبمن فيها فيكون سبع صفوف ، فذلك قوله (صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي واحضرت في ذلك اليوم جهنم ليعاقب بها المستحقون لها ، ويرى أهل الموقف هولها وعظم منظرها. ثم قال سبحانه (يَوْمَئِذٍ) يعني يوما يجاء بجهنم (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي يتّعظ ويتوب الكافر (وَأَنَّى لَهُ) (الذِّكْرى) أي ومن أين له التوبة أثبت ، له التذكر ثم نفاه بمعنى : انه لا ينتفع به ، فكأنّه لم يكن ، وكان ينبغي له أن يتذكر في وقت ينفعه ذلك فيه. ثم حكى سبحانه ما يقول الكافر والمفرط الجاني على نفسه ويتمنّاه بقوله (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي يتمنى أن يكون قد كان عمل الطاعات والحسنات لحياته بعد موته. ثم قال سبحانه (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي وثاق الله أحد من الخلق فالمعنى : لا يعذب أحد في الدنيا مثل عذاب الله الكافر يومئذ ، ولا يوثق أحد في الدنيا بمثل وثاق الله الكافر يومئذ (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) بالإيمان ، المؤمنة الموقنة المصدقة بالثواب والبعث ، والمطمئنة : الآمنة بالبشارة بالجنة عند الموت ويوم البعث (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي يقال لها عند الموت : ارجعي إلى ثواب ربك وما أعدّه لك من النعيم (راضِيَةً) بثواب الله (مَرْضِيَّةً) أعمالها التي عملتها (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي في زمرة عبادي الصالحين المصطفين الذين رضيت عنهم ؛ وهذه نسبة تشريف وتعظيم (وَادْخُلِي جَنَّتِي) التي وعدتكم بها ، وأعددت نعيمكم فيها.
سورة البلد
مكية وآياتها عشرون آية
١ ـ ٢٠ ـ (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) أجمع المفسرون على ان