السبق الى اعتقاد فاسد لشبهة ، فيمنع ذلك من توليد النظر للعلم. ثم نبههم سبحانه فقال (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بأن يمروا في جنباتها (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددا (وَأَشَدَّ قُوَّةً) أي وأعظم قوة (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) بالأبنية العظيمة التي بنوها ، والقصور المشيدة التي شيّدوها ، وقيل : بمشيهم على أرجلهم على عظم خلقهم ، عن مجاهد ، فلما عصوا الله سبحانه ، وكفروا به ، وكذّبوا رسله ، أهلكهم الله واستأصلهم بالعذاب (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي لم يغن عنهم ما كسبوه من البنيان والأموال شيئا من عذاب الله. وقيل : إن ما في قوله : (فَما أَغْنى) بمعنى أي فالمعنى : فأي شيء أغنى عنهم كسبهم ، فيكون موضع ما الأولى نصبا ، وموضع ما الثانية رفعا ، ثم قال سبحانه (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي فلما أتى هؤلاء الكفار رسلهم الذين دعوهم إلى توحيد الله ، وإخلاص العبادة له ، بالحجج والآيات. وفي الكلام حذف تقديره : لما جاءتهم رسلهم بالبينات فجحدوها ، ووعد الله الرسل بإهلاك أممهم ، ونجاة قومهم (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي فرح الرسل بما عندهم من العلم بذلك عن الجبائي ، وقيل معناه : فرح الكفار بما عندهم من العلم ، أي بما كان عندهم أنه علم وهو جهل على الحقيقة لأنهم قالوا : نحن أعلم منهم لا نبعث ولا نعذّب ، واعتقدوا انه علم فأطلق عليه لفظ العلم على اعتقادهم كما قال : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) ، أي عند نفسك أو عند قومك ، عن الحسن ومجاهد ، وقيل معناه : فرحوا بالشرك الذي كانوا عليه وأعجبوا به ، وظنوا أنه علم وهو جهل وكفر ، عن الضحاك وقال : والمراد بالفرح شدة الإعجاب (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي حلّ بهم ، ونزل بهم جزاء استهزائهم برسلهم من العذاب والهلاك (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عذابنا النازل بهم (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي كفرنا بالأصنام والأوثان (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عند رؤيتهم بأس الله وعذابه لأنهم يصيرون عند ذلك ملجأين ، وفعل الملجأ لا يستحق به المدح (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) معناه : سنّ الله هذه السنة في الأمم الماضية كلها إذ لا ينفعهم إيمانهم إذا رأوا العذاب ، والمراد بالسنة هنا الطريقة المستمرة من فعله بأعدائه الجاحدين (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) بدخول النار ، وفوت الثواب والجنة.
سورة فصّلت مكية
وآياتها أربع وخمسون
١ ـ ٥ ـ ((حم)) قد تقدّم القول فيه وقيل في وجه الاشتراك في افتتاح هذه السور السبع ب (حم) : انّه للمشاكلة التي بينها بما يختصّ به وليس لغيرها ، وذلك أنّ كل واحدة منها استفتحت بصفة الكتاب مع تقاربها في الطول ، ومع شدّة تشاكل الكلام في النظم (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نزل به جبرائيل على محمد (ص) (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) وصف الكتاب بالتفصيل دون الإجمال ، لأنّ التفصيل يأتي على وجوه البيان ، أي الذي بيّنت آياته بيانا تاما ، والتبيين فيه على وجوه ، منها : تبيين مما ليس بواجب ، وتبيين الأولى في الحكمة مما ليس بأولى ، وتبيين الجائز مما ليس بجائز ، وتبيين الحق من الباطل ، وتبيين الدليل على الحق ، وتبيين ما يرغب فيه مما لا يرغب فيه ، الى غير ذلك من الوجوه ، وقيل فصّلت آياته بالأمر والنهي والوعد والوعيد والترغيب والترهيب والحلال والحرام والمواعظ والأمثال (قُرْآناً عَرَبِيًّا) وصفه بأنه قرآن لأنه جمع بعضه إلى بعض ، وبأنه عربيّ لأنه يخالف جميع اللغات التي ليست بعربية (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اللسان العربي ويعجزون عن مثله فيعرفون إعجازه (بَشِيراً وَنَذِيراً) يبشّر المؤمن بما فيه من