فصل
قال بعض الحكماء : الآلام والأسقام الحاصلة في جسمه إنما حصلت بفعل الشيطان ، وقيل : إنما حصلت بفعل الله تعالى. والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة أما تقرير القول الأول فهو ما روي أنّ إبليس سأل فيه ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله تعالى : نعم عبدي أيوب فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ولا يلتفت إليه فقال : رب إنه قد امتنع عليّ فسلّطني على ماله فكان يجيئه ويقول له : هلك من مالك كذا وكذا فيقول : الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله تعالى فقال : يا رب إنّ أيوب لا يبالي بماله فسلّطني على ولده فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلّطني على جسده فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب فحدث أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه فمكث في ذلك البلاء سنين حتى استقذره (١) أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته ، وقال : إنّ زوجك إن استغاث إليّ خلّصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها فحلف بالله لئن عافاه الله ليجلدها (٢) مائة جلدة وعند هذه الواقعة قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) فأجاب الله دعاءه وأوحى إليه أن : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) وأظهر الله تعالى من تحت رجله عينا باردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه ، ورد عليه أهله وماله. وأما القول الثاني أن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ويدل عليه وجوه :
الأول : أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان ولعل ما عندنا من الخيرات والسعادات قد حصل (٣) بفعل الشيطان وحينئذ لا سبيل (لنا) (٤) إلى معرفة معطي الحياة والموت والصحة والسقم هو الله تعالى أم الشيطان.
الثاني : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء ، ولم (لا) (٥) يخرب دورهم ولم لا يقتل أولادهم.
الثالث : أن الله حكى عن الشيطان أنه قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] فصرح بأنه لا قدرة له في حقّ البشر ، إلا إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة فدل ذلك على فساد القول بأن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض.
__________________
(١) في ب : استقذروه أهل بلده ، ويشبه هذا : أكلوني البراغيث.
(٢) في ب والرازي : ليجلدنها.
(٣) في ب : يحصل.
(٤) ساقطة في ب.
(٥) كلمة «لا» ساقطة أيضا من ب. وانظر : تفسير الرازي ٢٦ / ٢١٢ ، ٢١٣.