فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال ، والاهتداء بما يحتوي عليه القرآن من الدلالة على صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم المقضي إلى الإيمان به ، ولما جاء به من إصلاح النفوس ، فالأمر بالاستماع مقصود به التبليغ واستدعاء النظر والعمل بما فيه ، فالاستماع والإنصات مراتب بحسب مراتب المستمعين.
فهذه الآية مجملة في معنى الاستماع والإنصات وفي مقتضى الأمر من قوله : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) ، يبين بعض إجمالها سياق الكلام والحمل على ما يفسر سببها من قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] ، ويحال بيان مجملها فيما زاد على ذلك على أدلة أخرى. وقد اتفق علماء الأمة على أن ظاهر الآية بمجرده في صور كثيرة مؤول ، فلا يقول أحد منهم بأنه يجب على كل مسلم إذا سمع أحدا يقرأ القرآن أن يشتغل بالاستماع وينصت ، إذ قد يكون القارئ يقرأ بمحضر صانع في صنعته فلو وجب عليه الاستماع لأمر بترك عمله ، ولكنهم اختلفوا في محمل تأويلها : فمنهم من خصها بسبب رأوا أنه سبب نزولها ، فرووا عن أبي هريرة أنها نزلت في قراءة الإمام في الجهر ، وروى بعضهم أن رجلا من الأنصار صلى وراء النبي صلىاللهعليهوسلم صلاة جهرية فكان يقرأ في الصلاة والنبي صلىاللهعليهوسلم يقرأ فنزلت هذه الآية في أمر الناس بالاستماع لقراءة الإمام. وهؤلاء قصروا أمر الاستماع على قراءة خاصة دل عليها سبب النزول عندهم على نحو يقرب من تخصيص العام بخصوص سببه ، عند من يخصص به ، وهذا تأويل ضعيف ، لأن نزول الآية على هذا السبب لم يصح ، ولا هو مما يساعد عليه نظم الآية التي معها ، وما قالوه في ذلك إنما هو تفسير وتأويل وليس فيه شيء مأثور عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
ومنهم من أبقى أمر الاستماع على إطلاقه القريب من العموم ، ولكنهم تأولوه على أمر الندب ، وهذا الذي يؤخذ من كلام فقهاء المالكية ، ولو قالوا المراد من قوله قرئ قراءة خاصة ، وهي أن يقرأه الرسول عليه الصلاة والسلام على الناس لعلم ما فيه والعمل به للكافر والمسلم ، لكان أحسن تأويلا.
وفي «تفسير القرطبي» عن سعيد (بن المسيب) : كان المشركون يأتون رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إذا صلى فيقول بعضهم لبعض لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله تعالى جوابا لهم (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).
على أن ما تقدم من الاخبار في محمل سبب نزول هذه الآية لا يستقيم لأن الآية مكية وتلك الحوادث حدثت في المدينة. أما استدلال أصحاب أبي حنيفة على ترك قراءة