من جنّات الأرض فالأمر ظاهر ، وتقدّم ذلك في سورة البقرة.
وهذا الكلام يدلّ على أنّ إبليس علم أنّ الله خلق البشر للصّلاح والنّفع ، وأنّه أودع فيهم معرفة الكمال ، وأعانهم على بلوغه بالإرشاد ، فلذلك سمّيت أعمال الخير ، في حكاية كلام إبليس ، صراطا مستقيما ، وأضافه إلى ضمير الجلالة ، لأنّ الله دعا إليه وارد من النّاس سلوكه ، ولذلك أيضا ألزم (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ثم لآتيناهم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ).
وبهذا الاعتبار كان إبليس عدوا لبني آدم ، لأنّه يطلب منهم ما لم يخلقوا لأجله وما هو مناف للفطرة التي فطر الله عليها البشر ، فالعداوة متأصّلة وجبليّة بين طبع الشّيطان وفطرة الإنسان السّالمة من التّغيير ، وذلك ما أفصح عنه الجعل الإلهي المشار إليه بقوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦] ، وبه سيتّضح كيف انقلبت العداوة ولاية بين الشّياطين وبين البشر الذين استحبّوا الضّلال والكفر على الإيمان والصّلاح.
وجملة : ثم لآتيناهم (ثمّ) فيها للتّرتيب الرّتبي ، وهو التّدرّج في الأخبار إلى خبر أهم لأنّ مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها ، لأنّ الجملة الأولى أفادت التّرصد للبشر بالإغواء ، والجملة المعطوفة أفادت التّهجّم عليهم بشتّى الوسائل.
وكما ضرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق ، كذلك مثلت هيئة التّوسل إلى الإغواء بكلّ وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدوّ إذ يأتيه من كلّ جهة حتّى يصادف الجهة التي يتمكّن فيها من أخذه ، فهو يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتّى تخور قوّة مدافعته ، فالكلام تمثيل ، وليس للشّيطان مسلك للإنسان إلّا من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه ، وليست الجهات الأربع المذكورة في الآية بحقيقة ، ولكنّها مجاز تمثيلي بما هو متعارف في محاولة النّاس ومخاتلتهم ، ولذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم ومن تحتهم إذ ليس ذلك من شأن النّاس في المخاتلة وإلّا المهاجمة.
وعلّق (بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) و (خَلْفِهِمْ) بحرف (من) وعلّق (أَيْمانِهِمْ) وشمالهم بحرف عن جريا على ما هو شائع في «لسان العرب» في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات ، وأصل (عن) في قولهم : عن يمينه وعن شماله المجاوزة : أي من جهة يمينه مجاوزا له ومجافيا له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت (عن) بمعنى على ، فكما يقولون : جلس على يمينه