يتدرج ، أي صاعدا أو نازلا ، والكلام تمثيل لحال القاصد إبدال حال أحد إلى غيرها بدون إشعاره ، بحال من يطلب من غيره أن ينزل من درجة إلى أخرى بحيث ينتهي إلى المكان الذي لا يستطيع الوصول إليه بدون ذلك ، وهو تمثيل بديع يشتمل على تشبيهات كثيرة ، فإنه مبني على تشبيه حسن الحال برفعة المكان وضده بسفالة المكان ، والقرينة تعيّن المقصود من انتقال إلى حال أحسن أو أسوا.
ومما يشير إلى مراعاة هذا التمثيل في الآية قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ولما تضمن الاستدراج معنى الإيصال إلى المقصود علق بفعله مجرور بمن الابتدائية أي مبتدئا استدراجهم من مكان لا يعلمون أنه مفض بهم إلى المبلغ الضار ، ف (حَيْثُ) هنا للمكان على أصلها ، أي من مكان لا يعلمون ما يفضي إليه ، وحذف مفعول يعلمون لدلالة الاستدراج عليه ، والتقدير : لا يعلمون تدرجه ، وهذا مؤذن بأنه استدراج عظيم لا يظن بالمفعول به أن يتفطن له.
والإملاء إفعال وهو الإمهال ، وهمزة هذا المصدر منقلبة عن واو ، مشتق من الملاوة مثلثة الميم ، وهي مدة الحياة يقال أملاه وملاه إذا أمهله وأخّره ، كلاهما بالألف دون همز فهو قريب من معنى عمره ، ولذلك يقال في الدعاء بالحياة ملاك الله.
واللام في قوله : (لَهُمْ) هي اللام التي تسمى : لام التبيين ، ولها استعمالات كثيرة فيها خفاء ومرجعها : إلى أنها يقصد منها تبيين اتصال مدخولها بعامله لخفاء في ذلك الاتصال ، فإن اشتقاق أملى من الملو اشتقاق غير مكين ، لأن المشتق منه ليس فيه معنى الحدث ، فلم يجيء منه فعل مجرد ، فاحتيج إلى اللام ، لتبيين تعلق المفعول بفعله.
وأما قولهم : أملى للبعير بمعنى أطال له في طوله في المرعى ، فهو جاء من هذا المعنى بضرب من المجاز أو الاستعارة.
فجملة : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) في موضع العلة للجملتين قبلها ، فإن الاستدراج والإملاء ضرب من الكيد ، وكيد الله متين أي قوي لا انفلات منه للمكيد.
وموقع (إن) هنا موقع التفريع والتعليل ، كما قال عبد القاهر : إنها تغني في مثل هذا الموقع غناء الفاء ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) في سورة آل عمران [٩٦] ، أي : يكون ذلك الاستدراج وذلك الاملاء بالغين ما أردناه بهم لأن كيدي قوي.