مدة الثلاثين بدونها غير بالغة أقصى الكمال ، وأن الله قدر المناجاة أربعين ليلة ، ولكنه أبرز الأمر لموسى مفرقا وتيسيرا عليه ، ليكون إقباله على إتمام الأربعين باشتياق وقوة.
وانتصب (أَرْبَعِينَ) على الحال بتأويل : بالغا أربعين.
والميقات قيل : مرادف للوقت ، وقيل هو وقت قدّر فيه عمل ما ، وقد تقدم في قوله تعالى : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) في سورة البقرة [١٨٩].
وإضافته إلى (رَبِّهِ) للتشريف ، وللتعريض بتحميق بعض قومه حين تأخر مغيب موسى عنهم في المناجاة بعد الثلاثين ، فزعموا أن موسى هلك في الجبل كما رواه ابن جريج ، ويشهد لبعضه كلام التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج.
(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).
أي : قال موسى لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة فإنه صعد وحده ومعه غلامه يوشع بن نون.
ومعنى (اخْلُفْنِي) كن خلفا عني وخليفة ، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلف ، فالخلافة وكالة ، وفعل خلف مشتق من الخلف ـ بسكون اللام ـ وهو ضد الإمام ، لأن الخليفة يقوم بعمل من خلفه عند مغيبه ، والغائب يجعل مكانه وراءه.
وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله : (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فإن سياسة الأمة تدور حول محور الإصلاح ، وهو جعل الشيء صالحا ، فجميع تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة ، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره ، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحا ، ولا تلبث أن تؤول فسادا على من لاحت عنده صلاحا ، ثم إذا تردد فعل بين كونه خيرا من جهة وشرا من جهة أخرى وجب اعتبار أقوى حالتيه فاعتبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفر صلاحا ، وإن استوى جهتاه ألغي إن أمكن إلغاؤه وإلّا تخيّر ، وهذا أمر لهارون جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة.
وقوله : (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) تحذير من الفساد بأبلغ صيغة لأنها جامعة بين نهي ـ والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه ـ وبين تعليق النهي