واستأنف مرتقيا في الجواب ، فبيّن استحالة عودهم إلى ملّة الكفر بأن العود إليها يستلزم كذبه فيما بلّغه عن الله تعالى من إرساله إليهم بالتوحيد فذلك كذب على الله عن عمد ، لأن الذي يرسله الله لا يرجع إلى الكفر ، ويستلزم كذب الذين آمنوا به على الله حيث أيقنوا بأن شعيبا مبعوث من الله بما دلهم على ذلك من الدلائل ، ولذلك جاء بضمير المتكلّم المشارك في كل من قوله : (افْتَرَيْنا) و (عُدْنا) و (نَجَّانَا) و (نَعُودَ) و (رَبُّنا) و (تَوَكَّلْنا).
والربط بين الشرط وجوابه ربط التّبيّن والانكشاف. لأنه لا يصح تعليق حصول الافتراء بالعود في ملة قومه ، فإن الافتراء المفروض بهذا المعنى سابق متحقق وإنّما يكشفه رجوعهم إلى ملّة قومهم ، أي إن يقع عودنا في ملتكم فقد تبين أننا افترينا على الله كذبا ، فالماضي في قوله : (افْتَرَيْنا) ماض حقيقي كما يقتضيه دخول (قَدِ) عليه ، وتقديمه على الشرط لأنه في الحالتين لا تقلبه (إن) للاستقبال ، أما الماضي الواقع شرطا ل (إن) في قوله : (إِنْ عُدْنا) فهو بمعنى المستقبل لأن (إن) تقلب الماضي للمستقبل عكس (لم).
وقوله : (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) على هذا الوجه ، معناه : بعد إذ هدانا الله للدين الحق الذي اتبعناه بالوحي فنجانا من الكفر ، فذكر الإنجاء لدلالته على الإهداء والإعلان بأن مفارقة الكفر نجاة ، فيكون في الكلام إيجاز حذف أو كناية.
وهذه البعدية ليست قيدا ل (افْتَرَيْنا) ولا هي موجب كون العود في ملّتهم دالا على كذبه في الرسالة ، بل هذه البعدية متعلقة ب (عُدْنا) يقصد منها تفظيع هذا العود وتأييس الكافرين من عود شعيب وأتباعه إلى ملّة الكفر ، بخلاف حالهم الأولى قبل الإيمان فإنهم يوصفون بالكفر لا بالافتراء إذ لم يظهر لهم وجه الحق ، ولذلك عقبه بقوله : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) أي لأن ذلك لا يقصده العاقل فيلقي نفسه في الضلال والتعرض للعذاب.
وانتصاب (كَذِباً) على المفعولية المطلقة تأكيدا ل (افْتَرَيْنا) بنا هو ما سوله أو أعم منه ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة المائدة [١٠٣].
وقد رتّب على مقدمة لزوم الافتراء نتيجة تأييس قومه من أن يعود المؤمنون إلى ملّة الكفر بقوله : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) فنفي العود نفيا مؤكدا بلام الجحود وقد تقدم بيان تأكيد النفي بلام الجحود في قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) إلخ