بها النّاصح فيقصد النّفعين جميعا ، وربّما يقع تفاوت بين النّفعين فيكون ترجيح نفع النّاصح تقصيرا أو إجحافا بنفع المنصوح.
وفي الإتيان بالمضارع دلالة على تجديد النّصح لهم ، وإنّه غير تاركه من أجل كراهيتهم أو بذاءتهم.
وعقب ذلك بقوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) جمعا لمعان كثيرة ممّا تتضمّنه الرّسالة وتأييدا لثباته على دوام التّبليغ والنّصح لهم ، والاستخفاف بكراهيتهم وأذاهم ، لأنّه يعلم ما لا يعلمونه ممّا يحمله على الاسترسال في عمله ذلك ، فجاء بهذا الكلام الجامع ، ويتضمّن هذا الإجمال البديع تهديدا لهم بحلول عذاب بهم في العاجل والآجل ، وتنبيها للتّأمّل فيما أتاهم به ، وفتحا لبصائرهم أن تتطلب العلم بما لم يكونوا يعلمونه ، وكل ذلك شأنه أن يبعثهم على تصديقه وقبول ما جاءهم به.
و (مِنَ) ابتدائية أي : صار لي علم وارد من الله تعالى ، وهذه المعاني التي تضمّنها هذا الاستدراك هي ما يسلّم كلّ عاقل أنّها من الهدى والصّلاح ، وتلك هي أحواله ، وهم وصفوا حاله بأنّه في ضلال مبين ، ففي هذا الاستدراك نعي على كمال سفاهة عقولهم.
وانتقل إلى كشف الخطأ في شبهتهم فعطف على كلامه قوله : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) مفتتحا الجملة بالاستفهام الإنكاري بعد واو العطف ، وهذا مشعر بأنّهم أحالوا أن يكون رسولا ، مستدلّين بأنّه بشر مثلهم ، كما وقعت حكايته في آية أخرى (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) [المؤمنون : ٢٤].
واختير الاستفهام دون أن يقول : لا عجب ، إشارة إلى أنّ احتمال وقوع ذلك منهم ممّا يتردّد فيه ظن العاقل بالعقلاء. فقوله : (أَوَعَجِبْتُمْ) بمنزلة المنع لقضية قولهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأعراف : ٦٠] لأنّ قولهم ذلك بمنزلة مقدمة دليل على بطلان ما يدعوهم إليه.
وحقيقة العجب أنّه انفعال نفساني يحصل عند إدراك شيء غير مألوف ، وقد يكون العجب مشوبا بإنكار الشّيء المتعجب منه واستبعاده واحالته ، كما في قوله تعالى : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق : ٢ ، ٣] وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) [الرعد : ٥] والذي في هذه الآية كناية