كانوا لا يخشون الإسلام ويستطيعون التعبير عن كلّ شيء بدون حذر. ولا حاجة إلى التخفّي أو اللجوء إلى النفاق في وقوفهم بوجه الإسلام.
لكن عند ما استحكم الإسلام واتّسع في المدينة ، وأصبح أعداؤه من الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم ، بل قد يتعذّر ذلك عليهم في بعض الأحيان ، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر ، وانخرطوا ظاهرا في صفوف المسلمين ، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم.
وهكذا تكون غالبا طبيعة أعداء كلّ ثورة ودعوة بعد اشتداد عودها وقوّة ساعدها ، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنّهم أصدقاء.
ومن هنا نستطيع أن نفهم لما ذا نزلت كلّ تلك الآيات التي تصف المنافقين وتشرح حالهم ، في المدينة ولم تنزل في مكّة.
وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ هذه المسألة ـ أي مسألة النفاق ـ غير محصورة بعصر الرّسول ، بل إنّ جميع المجتمعات ـ وخاصّة الثورية منها ـ تكون عرضة للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة ، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية ، لا من خلال اعتبارها مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع. وبهذا يمكن استلهام الدروس والحكم لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر.
كذلك لا بدّ من معرفة صفاتهم التي ذكرها القرآن بشكل تفصيلي ، ليتمّ التعرّف عليهم من خلالها استكناه خطوطهم ومؤامراتهم.
وممّا تجدر الإشارة إليه أيضا أنّ خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء ، لخفائهم وعدم القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة ، ولكونهم أعداء يعيشون في داخل الجسم الإسلامي وربّما ينفذون إلى قلبه نفوذا يصعب معه فرزهم وتحديدهم من جهة اخرى.